من المُستبعد أن يأتي يومٌ نجد فيه مخطوطًا بهيًّا بذات الرسومات لكن مكتوبًا بالصينيّة مثلًا معروضًا في مكتبة مؤسّسةٍ فنيّة عربية؛ لا أحد سيكترث له.
كتابٌ مكتوبٌ وكامل، وكان الهدف من كِتابته أن يقرأه شخصٌ واحد فقط؛ المؤلّف. هذه الفكرة مثيرةٌ بحدّ ذاتها لدرجة أنَّها تؤثّر على مُماراسات القارئ إذا ما وجد كتابًا هدفه كان كذلك. مخطوط فوينتش، هو مخطوط مكتوب بلغة غريبة ملغزة ويحتوي على العديد من الرسومات التي تُبيّن ماذا تحاول الكتابة أن تقوم بشرحه، وجد هذا الكتاب جامع الكتب النادرة البولندي ويلفريد فوينتش في بدايات القرن العشرين في ديرٍ للرهبان في إيطاليا وقام بشرائه. انتهى الأمرُ بالمخطوط الآن أن يكون ضمن مجموعة مكتبة جامعة يال الأميركيـّة.
التحليل الكربونيّ للرقّ المصنوع منه يُعيد المخطوط لفترة النهضة الأوروبيّة وتحديدًا بين عاميّ 1404 و1438. أثار هذا المخطوط الكثير من المحترفين والهواة للقيام بدراسته فقام علماء المخطوطات (الكوديكولوجيا) ومفكّـكي الشيفرات، منهم من كان مفكّكًا للشيفرات في الحربين العالميتين، بالإضافة إلى اللّغويين بمحاولات عدّة لمعرفة أصل ومحتوى المخطوط.
يمكننا القول إنَّ بعضًا من النجاح أصابهم في تحديد أصله إلّا أنَّ كاتبه لا يزال مجهولًا. أمّا اللّغويين ومفكّـكي الشيفرات فإنّهم يتخبّطون بين حروفه المكتوبة من اليسار إلى اليمين على أمل ترجمة النّص.
إنَّ قوّة الجذب التي يمتلكها هذا المخطوط فريدة في نوعها. فمع أنَّ الرسومات توضّح أنَّ موضوعه كان معنيًّا ببعض الممارسات الطبيّة في عصر النّهضة الأوروبيّة والتي تشتمل في ذلك الوقت على علم النبات والعقاقير ومعرفة بالأبراج والتنبؤات الفلكيّة، لكن لم تتوقّف محاولة ترجمة نصّه اعتمادًا على ما يعرفه النّاس من اللّغات الساميّة واللاتينيّة واللّغة اليونانيّة. بل حتى أنَّ إحدى هذه المحاولات أتت من مهندسٍ تركي يُدعى أحمد آرديتش لديه إلمام باللّغة التركية وتراكيبها اللّغويّة حيث حوّل محاولات ترجمة المخطوط إلى مشروعٍ عائليّ يشاركه فيه ولداه اللذان أصبحا مهووسيّن في لغة هذا المخطوط.
أدركت جامعة يال هذه الجاذبيّة وقامت بتصويره فوتوغرافيًّا وطباعته بالحجم الطبيعي وإضافة ستة أبحاث عنه في الملحق. هذا الكتاب لم يعد يتناول موضوعًا إنّما أصبح هو نفسه الموضوع.
اللّغز المُصاحبُ لهذا المخطوط ألهم الفنّان الإيطاليّ لويجي سيرافيني باختراعِ موسوعة لعالم وهميّ قام برسم كائناته وأشيائه بنفسه وأضاف خربشات تبدو ككتابة تصف تلك الرسومات، وأسماها Codex Seraphinianus أو ما يُمكن ترجمته إلى كُـرّاس سيرافينيانوس أو مخطوط سيرافينيانوس. وقد استُقبل هذا العمل بالترحاب من قِبَل محبي الكتب والفنّانين وحتى المؤسسات الفنية. وبالطبع خضعت الكتابة لمحاولات عدّة لفكّ التشفير معتقدين أنَّ سيرافيني قام بتركيب لغّة جديدة لها مفرداتها وقواعدها كما فعل تولكين في ’سيّد الخواتم‘، لكن سيرافيني لم يستطع إلّا أن يُخيّب أمل المُعجبين بالعمل عندما أعلن أنَّ ما يظهر كأنّه كتابة ليس سوى خربشات لا معنى لها وأنّها جزءٌ من الإطار العام لمظهر العمل نفسه.
اقتناء هذه الكتب أو هذه المخطوطات ليس قائمًا على حُبّ امتلاك المعرفة التي فيه. صحيح أنَّ مخطوط فوينتش ثمين لكنَّ قيمته المالية أتت من المادّة التي صُنع منها ومن قيمته التُّراثيّة ممّا حوّله إلى كتابٍ تُحفة. ولا يمكن لهذا الأمر أن ينطبق على الكتاب المصوَّر فثمنه الغالي في عالم النّشر سببه غلاء طباعة الكتب الملوّنة بشكلٍ عام.
إنَّ الكتاب الذي يُطرح كلغزٍ له نكهة خاصة، ما كان ذلك المهندس التركي ليسعى جاهدًا لفكّ شيفرة كتابٍ آخر لو كان مصنوعًا بنفس الجودة لكن مكتوبًا بلغة يستطيع نظريًّا تعلّمها، سواء أكانت لغةً حيّةً صعبةً أم مندثرةً كالبابليةِ مثلًا. فكرة أنَّ هُناك مَن يستطيع قراءة المخطوط لوحدها تُبعد عنه الاهتمام وتصرفه إلى لُغزٍ آخر.
من المُستبعد أن يأتي يومٌ نجد فيه مخطوطًا بهيًّا بذات الرسومات لكن مكتوبًا بالصينيّة مثلًا معروضًا في مكتبة مؤسّسةٍ فنيّة عربية؛ لا أحد سيكترث له.
ما دفع جميع أولئك المُهتمين بالانغماس في ترجمة مخطوط فوينتش قد يكون الشهرة وتحصيل الثروة. من المستبعد أن يكون هُناك فائدة علميّة مباشرة يمكن الولوج إليها في ذلك الكتاب، باستثناء المؤرّخين الذين قد تفتح لهم وصفات المخطوط عالمًا جديدًا في تاريخ الطب في أوروبا القرن الخامس عشر. لكن رغم أنَّ الثروة والشهرة دافعان قويّان للمضي بمشروع فك شيفرة مخطوط فوينتش، إلّا أنّنا لا يمكننا أن نُهمل تأثير الرَّغبة التي تجتاحنا عند مواجهتنا للغزٍ لا نفهمه، لغزٍ كان يُمكنه أن يدفع أيّ شخص خلال مئات السنين التي خلت إلى إحراقه، لكنّه مع ذلك نجى وأصبح من أشهر وأثمن كتب العالم الآن. ولا أنفكُّ أتساءل؛ عندما تُفَكُّ شيفرته ويصبح له ترجمة معروفة، هل سيُحافظ على قيمته المعنوية؟ وهل سيكترثُ أحدٌ بتلك الترجمة؟ أفترض حينها أنَّ مصيره سيكون كجميع مخطوطات الرّق الأُخرى التي لا نقرؤها، تحفة أُخرى في متحف، أثناء ذلك سيبحث النّاس عن لغزٍ جديد، سواءٌ في كتابٍ غير مفهوم أو بين سطور كتابٍ مفهوم ومعروفٍ جدًّا.