أزرق:

ما الذي يحاول "مهرجان نيويورك العربي" قوله؟

2022-05-06 07:00:00

ما الذي يحاول
من بروشور المهرجان

لم تكن الحجج التي قوبل بها القائمون على هذا المهرجان أكثر من حجج من منطق الدولة (شبيهة بتلك المهيمنة في عالمنا العربي بشأن مشروعات فنية وثقافية مغايرة)، تقوم على هيمنة الثقافة الرسمية البيضاء، كقلة الموارد، أو الادعاء بغياب العرب عن الحالة الثقافية، أو قلة الموارد المخصصة للفنون العربية، أو عدم وجود فنانين، أو غيره. 

في أواخر العام 2021 قبل بحثي في مؤتمر علمي تقيمه إحدى الجامعات الأمريكية (جامعة أوستن)، ومصادفة أتتني دعوة أخرى من جامعة أخرى (أوستن) لتقديم محاضرة. فأرسلت كلتا الجامعتين دعوتين رسميتين لي، للبدء في إجراءات الـ"فيزا" للسفر. لكنني حين ذهبت إلى السفارة الأمريكية للتقديم أبلغني حارس الأمن، وإحدى قريباتي في السفارة، أن باب تقديم طلبات السفر إلى الولايات المتحدة مغلق كجزء من إجراءات مواجهة فيروس كورونا، فأبلغت الجامعتين ذلك الأمر، لأفاجأ بأنهما أرسلتا رسالتين إلكترونيتين إلى السفارة في محاولة للحصول على استثناء، ومع ذلك فشل الأمر، حتى أن السفارة لا ترد على البريد الالكتروني المستفسر عن هذا الأمر، حتى لو وضعت كلمة Urgent في عنوان الرسالة، كما هو عرف مخاطبة السفارات (أمر تعلمته بعد عدة تجارب للحصول على الفيزا).

منذ أسبوع أو يزيد قليلًا، كانت مشاركتي كمتحدث على طاولة مستديرة تناولت "الفن والمدينة العربية"، من تنسيق الفنان والباحث آدم كحارسكي، في مهرجان نيويورك العربي، من خلال تطبيق الزووم طبعًا. الثيمة الأساسية للمهرجان كانت العرب في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالذات أن شهر نيسان هو شهر الجالية العربية هناك. 
 

من البروشور


في الجلسات التحضيرية، مع أدهم حافظ وفريقه، وهو صاحب الفكرة والقيّم على المهرجان وفعالياته الحية والالكترونية (الافتراضية)، كانت الإشارة إلى المهرجان باعتباره النافذة الوحيدة التي يمكن للعرب في أمريكا أن يفرضوا أنفسهم من خلالها، ليس فقط باعتبارهم جزءًا من النسيج الأمريكي الثقافي، ولكن لأنهم أيضًأ ضحايا هذا النسيج. والأمر يختلف عما هو عليه بشأن جاليات أخرى كاللاتينو أو الهيسبانو (فناني أمريكا اللاتينية)، أو الأفارقة أو الآسيويين، أو غيرهم في أمريكا.

لو كان لنا أن نفترض أن المدينة، أي مدينة، هي عبارة عن نسيج من التعدد والتنويع قائم على الحرية والقدرة على التعبير عن الذات، لفهمنا أهمية وجود مساحات فنية مختلفة ومتنوعة، تربط بين المدينة كنص حي، وسكان تلك المدينة باعتبارهم كتبة لهذا النص، بشكلٍ ما أو بآخر. إلا أن هذا التحليل الأفقي لتلك العلاقة، يتجاهل البنية الرأسية فيه. فمثلًا نجد في باريس مساحات للفنون العربية، فنجد ملاهٍ ومسارح تقدم فقط الفنون العربية على تنوعها، وكذلك تقدم القنوات الفرنسية مساحات مختلفة لفنون عربية شكل ما أو بآخر، وهو ما لا نجده في الحالة الأمريكية، في مقابل باريس أو لندن مثلًا. لنا هنا أن نشير إلى تاريخ العلاقة الكولونيالية بين فرنسا (أو إنجلترا) والعرب لفهم هذا التشابك، وبالذات في استدعاءات كولونيالية فرنسية متأخرة (كما سماها الراحل سمير أمين). 

ماذا عن الحالة الأمريكية، والتي أسماها إدوارد سعيد "الاستمرارية الكولونيالية"، حتى أنه اختارها عنوانًا لاحدى محاضراته. إذ أن التاريخ بين أمريكا والعرب لا يزال ينضح دمًا، وعنفًا واحتلالات، ودعم لأنظمة قمعية. ليس هذا هو الشكل الوحيد للعلاقة مع الولايات المتحدة إذ ثمة صداقات استراتيجية تجمعها بدول عربية كثيرة، حتى أن أول دولة اعترفت بإعلان الاستقلال الأمريكي كانت المغرب. 

وبما أن التاريخ فضّاح، ألم يكن العرب جنودًا في الحرب الأهلية الأمريكية، وحرب الاستقلال، حتى أنهم بعد إعلان الاستقلال الأمريكي حرموا من الحصول على الجنسية الأمريكية؟  

ثمة نظريات في علم الاجتماع عن تكون المجتمع الأمريكي وتطوره الكولونيالي، إحداها تصور ذلك المجتمع باعتباره "صحن سلطة" (كمرحلة تالية على مرحلة "بوتقة الصهر" Boiling Pot أو ما عرف في بعد الحرب العالمية الثانية بـ"الحلم الأمريكي"، الذي يحتوي الجميع)، يتميز بطعم خاص ومستقل، طالما أن مكوناته لم تختلط، وحافظت على استقلاليتها، فالأفريقي يظل أفريقيًا له حيّه، والصيني له استقلاليته وحيه الصيني، واللاتينو كذلك، ماذا عن العرب؟ 
 

من البروشور


لا تستطيع نظريات كتلك تشريح مباني القوى الثقافية المهيمنة على المدينة والدولة، والأهم الثقافة الرسمية، وتكون المجتمع وجماعاته وأفراده، حتى لو احتفلنا بأعضاء كونغرس من أصول عربية (ما أكثر احتفالياتنا كفلسطينيين بهم!).

يتضح ذلك جليًا بالنظر إلى الطبقة المهيمنة على المشهد الثقافي في الولايات المتحدة، فهم إما بيض بالأغلبية، وإما أبناء الجيل الثالث من المهاجرين، ومنهم عرب، ولعل هؤلاء تحديدًا يحملون العديد من عقد النقص والدونية والاستشراق الذاتي، أمام الرجل الذكر الألفا الأبيض، وإلا لما كان من المستحيل (تقريبًا) إقامة أي مساحة فنية عربية. أو بصياغة أخرى:

كان الهدف الأساسي من المهرجان هو انتزاع مساحة فنية عربية (في البث والمسرح) غاضبة، تقوم على تقديم ثيمتي الهجرة Immigration والمنفى Exile الداخلي العربي، في الثقافة الأمريكية والمساحات المدينية النصية، في مواجهة سياسات التهميش والطمس والآخرية Othering. 

(حتى أن تلك الثيمات هي التي تحرك وتغذي عقد النقص الاستشراقية لدى بعض أبناء الجيل الثالث من الأمريكيين من أصول عربية، الفاعلين في الحقل الثقافي)

لكن هل نجح المهرجان في ذلك؟

لم تكن الحجج التي قوبل بها القائمون على هذا المهرجان أكثر من حجج من منطق الدولة (شبيهة بتلك المهيمنة في عالمنا العربي بشأن مشروعات فنية وثقافية مغايرة)، تقوم على هيمنة الثقافة الرسمية البيضاء، كقلة الموارد، أو الادعاء بغياب العرب عن الحالة الثقافية، أو قلة الموارد المخصصة للفنون العربية، أو عدم وجود فنانين، أو غيره. 
 

من البروشور


نشير بغير تفصيل كثير إلى أن فعاليات المهرجان قُدمت على بعض المسارح الفنية الشهيرة في مدينة نيويورك، وأن قاعات بعض تلك الحفلات قد نفدت تذاكرها واضطر المنظمون إلى طباعة تذاكر أخرى، وأن بعض الفعاليات فاق الحضور لبثها الحي على الإنترنت عشرات الآلاف (بعضها تخطى حاجز ال100 ألف، ليست بالطبع الطاولة المستديرة التي كنت متحدثًا عليها!).

ليس هذا فحسب، فإذا كانت "الهوية في عصر ما بعد الحداثة تتشكل في جزء منها بواسطة الإعلام، حتى أن بعض مستهلكي الإعلام الالكتروني قد يتأثرون بمجتمع لم يشاهدوه قط، وبتقاليد ناس لا يمتلكون معهم أي اتصال سابق. حتى أنه قادر على طبع علاقاتنا بثقافات أخرى أو جعلها غريبة عنا"، كما تقول إيلا شوحاط، فإن  المهرجان استطاع تقديم أشكال ثقافية ومخيالية عربية -عربية وليست فقط عربية- أمريكية، فككت الشكل النمطي للعلاقة العربية مع الفنون.

(الرقص الشرقي نموذجًا، والذي له تاريخ بأشكال مقاومة القوى الكولنيالية مثله مثل الفنون الافريقية المحلية مثلًأ، إلا أنه سيق بعين استشراقية للخروج عن هذا التاريخ والانفصال عنه. والنموذج الثاني هو فنون الرقص المعاصر والذي تفترض البرجوازية الرأسمالية الحداثية بارثها الكولونيالي غياب العرب عنها).   

الأمر ليس كما تسميه شوحاط، في كتابها الفذ، مع روبرت ستام: “Unthinking Eurocentrism: Multiculturalism and Media” (2014) بالتفاوض على الفرجة، إنما هو انتزاع الحق في الذاتية والوجود، وليس الفرجة بما هي شكل استهلاكي، لا ينفصل عن الحداثة وأنماط الهيمنة المعرفية والمخيالية.

أعود لأتذكر هنا أن رفض الفيزا، لم يكن فقط لأسباب تتعلق بالكورونا!

 

من البروشور