ولهذي البلاد كتابة سمِّيت بالكتابة القيروانيَّة، ومن رسمَ الحروف دانت له الثَّقافاتُ والأمم، فانظر كيف استتبَّ الحرف ههنا وتمهَّد، وتثبَّت سلطانُهُ وتوطَّد. ولو لم تكن القيروان إلَّا كما كان غيرها، لما كان منها أن تدفع النَّاس لقراءة خطوطها، فيتعرَّفون فيها علىها بقصرها وطولِها، ويتكَّئون على العلوم بفضلِها.
طَرَقْتُ على بَابِ الولايَةِ باحِثًا
عن الوَجْدِ والأسْرَارِ والحُبِّ والحُسْنَى
وجُبْتُ دُرُوبَ القَيْرَوانِ مُحَدِّثًا
رُسُومًا وأطْلَالًا ونَقْضًا عَلَى مَبْنَى
وَصَوْمَعَةً ظَلَّتْ بِحَالٍ مِنَ المُنَى
وَزَاوِيَةً أَلْقَتْ مَفَاتِيحَهَا وَهْنَا
فَألْفَيْتُ نفْسِي كَالكِتَابِ عَلَى دُرْجٍ
أُقَلِّبُ حرْفًا دونَ حَرْفٍ بلا مَعْنَى
أَيَقرَأُ منْ لا يَعْرِفُ العِشْقُ قَلْبَهُ
ويكْتُبُ مَنْ لمْ يَنْكَشِفْ قوْسُهُ الأدْنَى
وَيَعْقِلُ مَنْ كَانَتْ يَدَاهُ بِجَيْبِهِ
فَلَاحَتْ، فَلَمْ يَسْحَرْ بِبَيْضَائِهَا عَيْنَا
أشَاهِدُ في صُنْعِ الزَّرابِي حَقائِقًا
وأعْقِدُ في سَجَّادِهَا الرَّايَةَ الأقْنَى
وأُتْلِفُ في خيطِ النَّسِيجِ مُسَمَّطًا
تُشَدُّ بهِ الأطْرافُ في الفَرْدِ والمَثْنَى
وَلَوْ كَانَ سِرُّ العاكِفِينَ على الجَوَى
مُبَاحًا، فلا تَبقى عُراهُم ولا تفنَى
لَكُنْتُ على ذِكْرِ الأحبَّة قائِمًا
أكَرِّرُ أسْماءَ الهوَى ما جَرَتْ مِنَّا
وأُلْقِي عَلَى سَمْعِ النَّدَامَى قَصِيدةً
تَسُومُ كُؤوسُ الخَلْقِ فِي لَفْظِهَا شَأْنَا
فَتَطْرَبَ بَاحَاتُ الجَوَامِعِ لَيْلَةً
يُظَنُّ لَهَا بالقَلْبِ في كَوْكَبٍ أسْنَى
وَتُوقَظُ أرْوَاحٌ بِكَفِّ مُلَهْلِهٍ،
وَيَهْتَزُّ مِحْرَابٌ كَأَنَّ بِهِ جِنَّا
وَتُرْفَعُ أحْجَارٌ وَقَدْ كَانَ وَزْنُهَا
إذَا وُضِعَتْ لا يُسْتَطَاعُ لَهَا رَكْنَا
وَتَغْدُو النُّجومُ الغَائِرَاتُ مَعَازِفًا
تُزَوِّجُ بالجَوْزَاءِ مَنْ تَاقَ لِلْمَغْنَى
فَهَذَا الَّذي تُهْنَا بِهِ فِـي كُلِّ حَضْرَةٍ
وَهَذَا الَّذي يُشْفِي الوَرَى إنْ بِهِ بُحْنَا
وإذ أنا على ذلك، حتَّى اِلتقَينَا ونحنُ نفلجُ من الباب الخلفي للجامع، رجُلاً في مُستَرْسَلِ نفْسِه جالسًا بمفرده وساكنا، كان يقبع تلك الرَّبعة الفارغة ظهرَ الصَّومعة، يتمتمُ وعيناه تراقبان ظلالَنا، لا تبدو عليه أثرَةٌ من الشَّمس اللَّافِحة ولا غَبَرةٌ مما تتركُه وطأة النَّهار أمام الرِّيح التي تثيرها أقدامُ المتبرِّكين. شزَرَ إلينا بعناءِ، فوقع من عينيهِ في قلبي سرٌّ ألفيت به نفسِي قارئا عليه السَّلام، ثمَّ تنحَّيتُ جانبا إلى أن نزلتُ إليه، كأنَّني على عتبة الرُّوح وقد قضيتُ في مشيِي فرسخًا، على قدرِ ما مَدَّ البَصَرُ من مَنَارِ المسافرين برزخا، فأسرَّ إليَّ بالغاشية، ودنت من كلامه معانٍ دانية، فقال؛ هل فهمت، فقلت له: كأنِّي، فأتبع نفسَهُ نفسي دون تأنِّي، حتَّى دنوتْ.
فقلتُ له: وما الذي بين القيروان وما أوحى لي به الآن إسرارك؟ فقال لي: اُنظر، فدارُ فناءٍ فيها مع البقاء لقاءُ، والقيروان لها مع السَّماءِ نداءُ، ورأيت في الغبطة المتَّصلَّة أنَّها لديك الممشى الهادي من غرناطة والسُّرى، وقد سمعتُ في نفسِكَ شعرًا أنَّها عندك أمُّ القرى.
فقلتُ له: إنَّما استنبطتُ ذلك من شبيهِ بنائها بمكَّة، ولكنَّني قرأت لها عند السَّابقة من العرب قولا، فالقَيْرَوان عندهم الكثرة من النَّاس ومعظم الأَمر، وقيل: هو موضع الكَتيبة، وهو معرَّب أَصلُه كاروان، بالفارسية، ولقد وجدتني أقول إنَّ معنى الكارافان بالفرنسية القافلة وقد اشتُقَّت من ذلك، وقد يكون هذا صحيحًا، لكنَّ للقيروان عند العرب من الشُّعراء سالفَ ذكر، ولقد قال ابن دريد: القَيْرَوان، بفتح الرَّاء هو الجيش، وبضمِّها هي القافلة. فأمَّا التي في معنى الجيش فلقول امرئ القيس: [وغارة ذات قَيْرَوانٍ ٭ كأنَّ أَسْرابها الرِّعالُ]، وأمَّا القَيْرَوان الَّتي بمعنى الغبار فلقول النَّابغة الجعدي: [وعادِيةٍ سَوْم الجَرادِ شَهِدْتها ٭ لهَا قَيْرَوانٌ خَلْفَها مُتَنَكِّبُ].
فقال لي: دعك من هذا ولا تعقل لنفسك ما لا يسدي لك بشيئ في ما قاله النَّاس الدُّهريُّون، ولا تنظر بعين من نظر قديما في القول، ولا تصغِ بسمْعِ من سمعَ شيئا ودار عليه الحول، فالتُّراث لا معنى له إذا لم يُجدِ بكَ في أمرٍ من الفهم، إنَّما يجوز لك الرَّأي بما أنت عليه من الواقع والأحداث والتَّجارب، وهذا هو الذي يفيدُ به النَّاس من حولك، ويُجير المستجيرين برأيك، فيصير لمستقبلك تراثَا ولخلفِكَ من النَّاس انبعاثا.
فلم ألبث أتعجَّبُ من قولِ الرَّجل، وأؤجِّل في التَّأويل وأتعجَّل، حتَّى أردف فقال: وأنتم مشعر النَّاس تكتبون اليوم كتبًا تدَّعون فيها العلمَ، لكنني لا أجدكم إلا تجترُّون فيها أقوالا ليست بأقوالكم وأحداثا لا تعني من واقعكم شيئا، وما أغفلكم عن الجواهر المدفونة وأنآكم عن الحقائق المكنونة، ولو كنتم إلى التَّجربة اقترابا وللعقل والنَّظر اصطحابًا، لما ظلَّت بكم العوالم وضاعت فيكم المعالم. ولكنَّ لكم كبراء خرَّبوا تعليمَكُم، ودمَّروا منهجَ تكوينِكُم، وجعلوكم كدوابَّ تدبُّ همَّالة العيون، فانفُضْ غبارَهم الذي جثا كحشرات السُّوسِ على صرر البُرِّ المطحون.
فأخذتُ برأيه ومقاله دون تردُّدٍ، وعزفتُ كعادتي عن الكُبراء بعزفٍ متجدّدٍ، وخمَّنتُ وفكَّرتُ، فقلتُ: واللَّه إنَّ الرجلَ على حقٍ، فلقد انقطَعَ السبيلُ إلى العلم منذ انقطَعت الطريق إلى العقل، فقلتُ له، فأتني بما يشهدُ على رأيك فيما تقول، فقال :
أفلم تُسْقَ ببئر روطة اليومَ من عينٍ جارية؟ فقلتُ له: بلى، فأردف فقال: أولمْ تجلسْ في دار العلَّاني على سريرٍ مرفوع، ثمَّ أوتيَ لك بكوبٍ من شايٍ مودوع، فقلت: بلى، فهل رأيتَ كيفَ صُفَّت على الأطراف النَّمارق، وبُثَّت الزَّرابيّ أمامكَ ومدَّت الأبارق، فقلتُ بلى، فقال: فلمَ لم تر نفسكَ حتَّى الآن بالجنَّة العاليَة، تلك التي لا تسمعُ فيها صخَبًا ولا لاغية، ألم تنظرْ وأنت قادمٌ بالطَّريق إلى تلك الجمال التي تتحصَّنُ في طرفك حتَّى قبل أن يرتدَّ إليك، ألم تر نجمَ اللَّيلِ كأنه صمغٌ من شجرِ السَّماءِ المرفوعة يسيلُ على يديك، ألم تر إلى الجبال كيفَ نُصبَتْ عليها وِسلاتُ حتَّى التأمَت فيها ضواحي الزَّمان، وطال عليها من خطِّ الغرب والشَّرق حبلُ الأمان، وكيفَ قبلَها سُطِحَتِ الأرض فاستوت كأنَّها مربطُ النَّاسِ إلى يقظَةٍ من نومِهِم القصير ومحشرِ يومهم الأخير.
أفلا ترى أنَّ هذه المدينة لم تُصنَعْ إلَّا على صورة القرآن، بعد أن كانت قفرًا موحوشةً من الانسان، فكأنَّها تصغيرٌ للقروِ الذي يفيد المقصدَ والاتِّباع، فحلُّوا محلَّ الألف الممدودة من القرآن واوًا للاجتماع، فتشابهت المفدرتان وانطبقتَا على قروٍ واحد، بلا حرفٍ ناقصٍ ولا زائد.
فانظُر إذًا: هل جيئ في نظرِكَ بالأسماءِ على عبثٍ، دون معنى يدلُّ على حدثٍ؟ إنَّما كل اسمٍ في القيروان دليلُ علمٍ إلهيٍّ ممدود، في سرٍّ تراكمت عليهِ قرونٌ من الجهلِ المقصود.
فقلتُ له: فما مثالكَ ودليلُك؟ فقال:
ألم أحدِّثك بدار العلَّاني، فقلت له: بلى، فقال: فما معناها، فقلت : الله بها أعلم ، فقال، لو كانت في غير بلد القيروان لسمِّيت بدار الفولاني، وإنَّما استوى اسمُها على العلَّاني، فقلت له وما الفرق؟ فقال: وأمَّا فلانٌ فقد أطْلِقت على المبهمِ الذي لا يُعرَفُ له اسمٌ، وإنما يُعرفُ فعْلُهُ، فنقول كتب فلانٌ فلا نعرف من كتب ولكنَّنا نعرف الفعل الذي وقع منه، ولقد استنبَطها النَّاسُ من فَلَنْ، وهي من حرفين، فالفاء لما قبلها، ولن للنَّفي، وأمَّا علَّانٌ فهي من العلنِ، ويُقصدُ بها العلمُ والأعلامُ، وإنَّما قال النَّاسُ فلانٌ وعلَّانٌ لقصدهم في ذلك المجهول منهم والمعلوم.
وَعَلَمُ دار العلًّاني من علَمِ القيروان، و إنَّما هي تحفةٌ حضرانيَّةٌ معلومةٌ لا قبيل بها لغيرها، تدخل إليها وقد تاقت عيناك لشهباءِ جبل ثور، وما مُدَّ من أقاصيه طورًا بعد طور، كأنَّك تلجُ جنَّةً أضاعت ألوانها بين الطَّريق والطَّوارق، ترامت برياضاتها الأربعِ في بديعِ الزَّوايا وما آتاها صاحبُها من الطَّنافِسِ والنَّمارِق، فترى البُسُطَ الملمومةَ قد تراخت همَّتها في سكونها المتَّكئِ على الجدران، وهُدْب القطيفة ذو الخملِ يفضُلُ ما كان منه بالإمكان، حتَّى تبدو على ظَهْرِها كأنَّها خيوطُ سرَّةٍ مقطوعة، فُصِلَتْ بيدِ القابلاتِ عن صوفها فإذا هي مطروحة بالأرضِ ومصروعة، تدورُ عليك كدراويش من ولدانِ أتراكٍ مخلَّدين، لا نافرين عنك ولا مسلَّمين، وقدِ ازْرَبَّتِ الأسقفُ حولكَ وتعبقرَتْ، وتهادت بها العيونُ حتَّى استكانت وقرَّت، فمتى وضعت رأسكَ، وجدتَ إيناسَ تجري على أطرافها كملائكةٍ حسان سائحة، تتذلَّلُ تحت أقدامِها الزَّائراتِ مجازاتُ الجنان الواضحة.
فتعجَّبتُ من إجابته، وقلتُ له زدني، فقال:
وإنَّما الزَّربيَّة القيروانية نسيجٌ من الصُّوف الأخرش الخشن، تشوبُها حمرةُ الأحجار التَّليدة التي قضت في معابد عَدَنْ، تتلوَّنُ بكل أصنافِ النُّعوت والأوصاف، مزخرفةٌ بالأزهار والأشكال والنَّظائر والأنصاف، فتأخذَ تارةً لنفسها من رسم الكعبة شريطًا، حتَّى لكأنَّه فيها -وأنت ترمقُ إليها- جمالٌ حين تَريحُ، ومن ديار مكَّة بالشِّعابِ محيطًا، لمَّا تطيرُ بين يدي عارضِها وتسيحُ، وقد انقلبتْ الأعيان بها انقلابا، فصار الظلُّ بها نورا والنُّور حجابا، فكيف إذا كشفتهُ، في جلوةِ المَشَاهِدِ، كما يُكشَفُ وجهُ العروس، هل تخِرُّ المشاهداتُ الجليَّةُ على الرُّؤوس؟ إيْ وبَلَى، ما زلَّ وما علا، فهذا الصُّوف جُزَّ من غنمٍ نسمِّيه نحنُ مغاربيُّوا تونس بالعلُّوش، وعلُّوش مفردةٌ حميريَّةٌ تفيد الذِّئب، فانظر كيف تحوَّل الكلامُ في هذي البلاد من هذا إلى ذاك، وانظر، فإذا هي بهذا الصُّوف تذيقُ المؤمنين بساطَ الدِّفءِ والرَّحمات.
وإذا هو يلقي بسرِّه في قلبي، تأتَّتني ذكرى إقامتي بكوشاداسي المطلَّة على بحر إيجه مقابل جزيرة ساموس باليونان، لزمنٍ أوفى لي بالنَّظر فيما وقعت عليه عيني من زرابيِّ إزمير، وهي التي زرتُ فيها مصانع السَّجاد والحرير، من ورشة النِّساء النَّاسجات إلى صالة العروض النَّاجزات، فإذا ألقاها بائعها تحلِّق فتستدير، خفيفةً تكاد حين تمتطيها السَّماء تستقرُّ في الهواء كبساط علاء الدِّين.
ولقد كانت لأمِّي تغمَّدها اللَّه برحمته الواسعة، خالةٌ اِسمُها سلطانة، وكان زوجُها شعيب درَّازًا، يصنع من بقايا القماش والألبسة أغطيةً يتدثَّرُ بها النَّاسُ في ليالي شتاءاتهم الباردة، وكان يفتل منها لحافًا ثقيلًا نسمِّيه بالبورابَح، فيأتيه النَّاسُ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ أيَّامًا قبل بداية الَّربيع ببقايا ألبسة العام الممزَّقة، فتراه كلَّ صباحٍ وعصرٍ يدرزُها درزًا، حتَّى تُصنعَ كاملةً قبل مجيء الصَّيف بأعراسه، فتجهِّزُ بها العروس جهازها لأيَّام بيتِها قبل مجيء الشِّتاء بأضراسه. والدّْريزُ من درز، وهي عند البضرابينيِّين صناعة النَّسيج، ومنها اشتُقَّت مفردة الدَّرديزُ التي تفيد الجلبة التي نحسُ لها وقعًا مزلزلًا على الأرض.
فعدتُ بعد ذلك إليه، متقرِّرًا عليه، وطلبت منه أن يفيدني بما في القيروان من الأسماء التي تحوَّلت، والمشاهد التي تغيَّرت، فقال لي: كلٌّ من المؤمنين يشهد على نبيِّه بأنَّه أميٌّ غير قارئ، ولكن لا يشهدُ له على ما جئ إليه بما هو مكتوب وناشئْ، فأيُّ لوحٍ هذا الذي عُرضَت فيه عليه الحروف، وأي كتابٍ هذا الذي نقش عليه النَّصْبُ والجرُّ والعطوف. ولم تُمدَّ مكَّة بعد الكتابة إلا بالقرآن المقروء، ولم تمدَّ القيروان بعد القرآن إلَّا بالكتاب المجزوء. ففي هي البلاد صُنعت الحروف فاستقرَّت على الألواح، واتَّخذت ظلَّها فيما أرادت لها الأرواح، فالألف واللَّام وما علا أعمدةٌ مرفوعةٌ، والرَّاءُ والزَّاي وما تدلَّى أدراجٌ موضوعة، فكأنَّما كلُّ حرفٍ مرفوع إنَّما هو وتدٌ من جبلِ الطُّور ممدَّدٌ في أربعين ليلة، وكلُّ حرفٍ موضوعٍ إنَّما هو ما أخِذَت به الرُّؤوس تجرُّ إلى الغضبان الأسِف وليس له حيلة.
ولهذي البلاد كتابة سمِّيت بالكتابة القيروانيَّة، ومن رسمَ الحروف دانت له الثَّقافاتُ والأمم، فانظر كيف استتبَّ الحرف ههنا وتمهَّد، وتثبَّت سلطانُهُ وتوطَّد. ولو لم تكن القيروان إلَّا كما كان غيرها، لما كان منها أن تدفع النَّاس لقراءة خطوطها، فيتعرَّفون فيها علىها بقصرها وطولِها، ويتكَّئون على العلوم بفضلِها.
فعجبتُ والله من قولِهِ، واستذكرتُ لنفسي ذلك الحوار الذي أجريته مع سيلفيان فيون ﮔيتيراز، ونشرتهُ بمجلَّة نزوى شهر أكتوبر 2002، والذي تحدَّثت فيه معها عن الخطوط، فلقد كانت وهي ذات الجذور الاسبانيَّة مولهةً بالصَّحراء والخطِّ. ولقد صادفتُها عند دخولي بوردو أوَّل عهدي بها، امرأةً درست القانون، ثم سرعان ما تركت دراستها وعادت إلى ممارسة هوايتها. كانت تسكن أعالي التِّلال المطلَّة على بوردو في مكان اسمه بولياك (Bouliac)، في بيت يكاد يكون تائهًا في الغابات. ربطتنا صداقةٌ روحيَّة قويَّةٌ، لدرجة أنَّها كانت تحضِّرُ لي - أنا المسلمُ الغريب وهي التي دَأَبَتْ على ديانتها المسيحيَّة باستمرار- أطباقَ رمضان بنكهة مغربيَّة شهيَّة. في ذلك الحوار تقول: المشرق كثقافة ينطوي على محمولٍ رمزي ومتحرِّك عبر جميع المراحل الزَّمنيَّة، لقد عشت عطلي الصَّيفية في إسبانيا وهناك حيث الألوان الصَّافيَّة، بدأ إدراكي الفنِّي يمفهوم الصَّفاء والضَّوء، حيث تجلَّت أغلب الألوان أمامي، فلا شيء يغيب حين تحضر بقوَّتها تلك الشَّمس المضيئة، لقد أحسست أن لهذه الألوان محمولاتها وجيناتها أيضًا، وأنَّها ليست سوى رمزيات متنقلة من أماكن أخرى عن هذا العالم، لقد بدأت من وقتها أتقاسمُ متعة المكان وصفاء النَّهارات الصَّيفيَّة. عندما زرت المغرب، وبقيت فيه لشهر ونصف بأغورة، أتيحت لي زيارة المكتبات القرآنيَّة التي وجدتها جميلةً جدًّا، إنَّ هناك امتدادًا روحيًّا نابعًا من الألوان ذاتها، مثلما ينبع من الأرض، فلو تأمَّلنا قليلًا لوجدنا أنَّ الألوان التي نعرفها إنَّما هي الألوان التي وُلدت معنا من الطِّين، إنَّها ألوان الأرض، التُّراب والرَّمل، والنُّبل الذي به تُنعث الأرض، فالنَّعتُ واحدٌ والمنعوت متَّسَعٌ بين الجسد والرُّوح، بين التُّراب واللَّون.
فسمع منِّي شيئًا يذكِّرهُ بالأندلس، وما تشابه فيه النَّاسُ بالمناخ والأضواء، ثمَّ قام، يبسمِلُ ويُحوقِلُ، فاستمهلتُهُ قليلًا وطلبتُ منه أن يُفصِحَ عن اسمِهِ لي، فسمعته كأنَّه يقول: أنا عمر بن سالم عبادة، ثمَّ تركني في لمحِ بصرٍ خاطف. (يُتبَع)