أما الشكل الآخَر للحياة من خلال الموت كان الاستشهادي، فقد وصفه الكاتب بخروجه من جسد جماعته, حرفيًّا ومجازًا, المرشح دائما للخروج المطلق القسري, ليدخل في الجسد الاستعماري, ليقوم بإخراج جسده والجسد البيولوجي الاستعماري بشكل مطلق وإرادي (من جانبه), وقسري للنظام من مسرح الفعل التاريخي.
يتطرق الباحث إسماعيل ناشف في كتابه "صور موت الفلسطيني"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2015، لتاريخ الموت الفلسطيني في ظل النظام الاستعماري الصهيوني، الذي استطاع أن يحتكر ممارسة موت الفلسطيني وشؤونه، فأصبح هذا الملف الأساس في الإجراء النظامي الصهيوني, وحيث أن نكبة 1948 لحظة مفصلية في تاريخ إدارة شؤون الموت الفلسطينية، على الرغم من الفهم الأساس أن النكبة كانت تتويجًا لعمليات اجتماعية تاريخية, لا حدثًا منفصلًا, ومصادفة, أو ما شابه ذلك، فممارسة موت الفلسطيني لم تبقَ حرفيًّا ومجازًا في اللحظة التاريخية عام 1948، إلا أن قتلته ماديًّا بمستوى الجسد الانتاجي, واجتماعيًّا بتفكيك لحمة زمانه ومكانه, وعلى المستوى البنيوي, فأسست هذه اللحظة, في شقها الفلسطيني, بوصفها فقدانًا مولدًا, أي أن وجود النظام الاستعماري يحتم موت الجماعية الفلسطينية.
ومن هذا المنظور, فإن العودة هي تلك التشكيلة من الولادات التاريخية المختلفة التي يمارسها الفلسطينيون منذ أن جرى تقعيد بنية الفقدان المولد. وكونها كذلك, فالعودة تحمل إجرائيًّا خط الصراع على تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الصهيونية الحديدية لها. والسؤال الذي يبرز هنا هو كيفية عمل العودة, أي تشكيلة الولادات, في المستوى التاريخي العيني لها.
يرى الكاتب المقاومة المسلحة آلية عينية في إنتاج الفلسطيني لذاته الجماعية, وهي تنبع من البنية العنيفة للحظة النكبة, أي أن هناك في حدث النكبة, كما في البنية التي تعقدت في أعقابه, منطق عنف تشكيلي في مبنى إدارة النظام الصهيوني لشؤون الموت الفلسطينية، كما أن حتمية المقاومة المسلحة تنبثق من عملية العودة إلى تقويض إدارة شؤون الموت الفلسطيني على يد النظام القائم على منطق العنف التشكيلي.
سلط الكاتب الضوء على فترة ما بعد نكبة 1948 فأوضح أن المدونة التاريخية والمعرفية في عقد الخمسينيات من القرن العشرين تبدو هزيلة جدًا, كأن الفلسطينيين لم يسكنوه حقًا. ومن هذا السياق أوضح الكاتب صور لقتل الفلسطيني, إذ نرى أن القتل الفلسطيني المنظم استمر على طريقة المجزرة، فرافق هذا النمط من المجازر محاولات حثيثة لتشكيل هوية جماعية خاضعة لأطر تذويب فلسطينيّة الجماعة, ومن ناحية أخرى تم استهداف النخب الطلائعية والقيادية من أدباء ومفكرين وسياسيين وعسكريين ومقاومين بشتى الوسائل والتقنيات, من اغتيال وتصفيات جسدية منوعة، إلى جانب الاعتقال السياسي بما هو موت اجتماعي للفرد وجماعته, ولعل من أهم الإجراءات التي تشكلت بها صور الموت الفلسطيني: الإقامة الجبرية ومنع التجول والحاجز والتفتيش الجسدي والاعتداء العلني على الأجساد بشكل مشهدي وتكسير العظام ومصادرة البيوت وهدمها, علاوة على اعتقال مئات آلاف الفلسطينيين, وما هي إلا الشبكة الممارسة لفك هذه اللحمة بين أقطاب الكيانية الاجتماعية الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع.
تزامنًا مع صور الموت نرى أن هناك صورًا للولادة الفلسطينية، إذ تمكن جزء محدد من الفلسطينيين من تشكيل أطر عمل جماعي فلسطيني, أي تأسيس جسد إنتاجي يعمل في الأساس على إعادة إنتاج الجماعة الفلسطينية بذاتها ولذاتها, إن جاز التعبير.
أضف إلى ذلك النهضة الوطنية الفلسطينية الأولى بعد نكبة 1948 تمحورت في عملية تجميع وصقل مؤسساتي لما يمكن أن نسميه الشأن الفلسطيني الجماعي, ومن ثم تركيزها في منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية العقد السادس من القرن العشرين .
كما شملت صور الولادات الفلسطينية شتى المجالات، في المجال الأدبي نرى غسان كنفاني يحمل أدبه شتاتًا متفرقًا إلى شفى جماعية تنهض بفعلها في التاريخ, أما في الشعر فنرى محمود درويش عراب الثقافة الفلسطينية, وفي الفن التشكيلي يهندس سليمان منصور وآخرون صورًا لرجال يقفون ولنساء تلد ولقرية تحاك, أضف إلى ذلك البحوث التي كتبت عن الفلسطينيين في المناطق التي احتلت عام 1948.
وفي سياق الحديث عن حياة الفلسطيني من خلال الموت، أوضح الكاتب أنه يقيم في كل فلسطيني ثلاثة أشكال موت تعريفية متداخلة: الضحية, الشهيد, والاستشهادي. وكل شكل من هذه الأشكال هو هيئة حضور اجتماعية تاريخية فاعلة, إذ أن لكل هيئة طريقة محددة من الفعل ويأتي فعل الهيئة من أنها آليات عمل منتجة ماديًّا ودلاليًّا.
في موت الجماعة الفلسطينية أسس جهاز مادي- بيروقراطي متشعب، يقوم على صيانة هذا الموت كجزء من إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني. واللافت في هذا السياق أن أشكال العمل الجماعي الفلسطينية التي تطورت لاحقًا لم تعمل على نفي هذا الجهاز بحد ذاته, وإنما حاولت امتلاكه وإدارته بما يتلاءم مع إدراكها لذاتها الجماعية كضحية ذات سيادة على الشأن الفلسطيني. وبهذا تطورت الهيئة الإعلانية إلى جهاز يعمل على إعادة إنتاج الذات الجماعية كضحية سيادية, حيث لا تتمحور سيادتها في إيجاد آلية نقض علاقة الضحية بجانبيها, وإنما بـ (الارتقاء) بالضحية إلى ضحية تملك الجهاز المادي – البيروقراطي القيّم على صيانتها كضحية.
أحد وجوه الحياة من خلال الموت كما أوضح الكاتب أن تموت شهيًدا, يعني أنك تنتزع من النظام سيطرته على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني, وإن كان هذا الانتزاع رمزيًّا وجزئيًّا، فالشهيد ينتزع السيطرة على موته هو كفرد ليمثل إمكانية الانتزاع الجماعي من دون أن يتحقق الأخير بالضرورة سببيًّا في إثر الشهادة الفعلية .
أما الشكل الآخَر للحياة من خلال الموت كان الاستشهادي، فقد وصفه الكاتب بخروجه من جسد جماعته, حرفيًّا ومجازًا, المرشح دائما للخروج المطلق القسري, ليدخل في الجسد الاستعماري, ليقوم بإخراج جسده والجسد البيولوجي الاستعماري بشكل مطلق وإرادي (من جانبه), وقسري للنظام من مسرح الفعل التاريخي.
في الفصل الأخير ناقش الكاتب مسألة إعادة إنتاج الذات، فأساس العمل الجماعي الفلسطيني المنتج، بهيئاته الثلاث, يقوم على إعادة إنتاج الفلسطيني ذاته, ماديًّا وبيولوجيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا, ويرهن هذا الإنتاج في صراعه لاسترداد سيطرته على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني من يد النظام الاستعماري، وقد تأسست هيئة عمل جماعي تسعى إلى نفي ما نتج من النكبة والعودة بانتزاع السيطرة على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني من يد النظام الاستعماري على تجلياته المؤسساتية المختلفة.