عبد الرازق ابن الستين عاماً أمضى نحو ثلث عمره بعيداً عن عائلتيه الصغرى والكبرى؛ فابنه باسل أنهى دراسة الدكتوراه في جنيف بسويسرا والتحق بجامعة بيرزيت للتدريس قبل أشهر، وابنه الآخر وديع أنهى تعليمه في اختصاص الهندسة والتحق بسوق العمل، ووالدهما كان بعيداً عنهما.
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لاحظ شقيقي عبد الرازق فراج، المعتقل في السجون الإسرائيلية، وجود تقرحات لونها أسود على أنفه من الجهة اليسرى، فأعلم طبيب السجن بها، وبعد الكشف عليها أمرت إدارة السجن بتحويله إلى مستشفى مدني إسرائيلي لإجراء مزيد من الفحوصات من أجل التشخيص، وجاءت النتيجة أن هذه البقعة السوداء عبارة عن سرطان جلد من النوع غير الحميد، وأنه بحاجة إلى إجراء عملية جراحية لاستئصالها.
ومع أنني لست طبيباً، إلاّ إن مقارنة بسيطة بين الصورة الأولى لهذه البقعة، والتي شاهدتها قبل نحو ثلاثة أشهر، وبين صورة أُخرى لها سمح القاضي للمحامي بأخذها عن قرب، وجدتُ أن الفرق شاسع بين الصورتين لناحية الحجم، إذ بدا أن البقعة تمددت في الجهة اليسرى من الأنف.
وقد أعلمني طبيب صديق رأى الصورة الأولى بأن الحالة ليست خطرة، وثمة حاجة إلى إجراء جراحة بسيطة لاستئصال الورم السطحي، الأمر الذي بعث فينا الطمأنينة إلى حد ما. لكن بعد أن شاهد هذا الطبيب الصورة الثانية للبقعة، في أوائل آذار/مارس الجاري، كان رأيه، وبعد التشاور مع زملاء له متخصصين بهذا المجال، أن شقيقي عبد الرازق يحتاج إلى إجراء عملية فوراً من أجل استئصالها، ذلك بأن تمددها بدأ يأخذ بعداً عمودياً وليس فقط أفقياً، وأن أي مماطلة أو تأخير في إجراء العملية من شأنهما أن يؤديا إلى انتشار البقعة وتمددها أكثر فأكثر، والحديث هنا يدور حول ورم سرطاني لا حول مرض بسيط يحتمل التأجيل. وقد اعتمد هؤلاء الأطباء في تشخيصهم على الصورة لا على تقارير طبية علمية، لأن إدارة سجن عوفر، حيث يقبع عبد الرازق، ماطلت في تسليم التقرير الطبي إلى المحامي أو إلى مندوب هيئة الأطباء لحقوق الإنسان، والتقرير الذي صدر لا يعدو كونه تقريراً إجرائياً بلا مضمون.
استغرب صديقي الجراح وزملاؤه الذين تشاور معهم بشأن حالة عبد في المملكة المتحدة المماطلة والتأجيل في هذه المسألة، إذ كان من الضروري إجراء الجراحة واستئصال البقعة منذ كانون الأول/ديسمبر 2022، أي منذ وضع التشخيص، فالتأجيل والمماطلة يشيران إلى نيات مسبقة ومبيته تنتهجها مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين لديها.
صديقي وشقيقي عبد الرازق يقبع في السجن منذ أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام، وكان تعرض في بداية اعتقاله الأخير هذا إلى تعذيب قاس جداً في أقبية المخابرات الإسرائيلية، ومازال حتى اليوم ينتظر المحاكمة.
هذا الاعتقال ليس الأول لعبد الرازق الذي أمضى أكثر من عشرة أعوام متقطعة في الاعتقال الإداري، أي بدون محاكمة، بين الأعوام 1995 – 2018، وكان أمضى حكماً بالسجن لمدة ستة أعوام في الفترة 1985 – 1991، ومع اعتقاله الأخير، قبل ثلاثة أعوام ونصف العام، يكون قد أمضى نحو عقدين من عمره في سجون الاحتلال. واللافت أن المحاكم العسكرية الإسرائيلية ومنذ بداية الاعتقال تكرر التهمة نفسها مع إضافة جمل خادعة في لوائح الاتهام التي كانت تُقدم على شكل ملف سري، وخصوصاً في اعتقالاته الإدارية أو في لوائح الاتهام العلنية، وتتركز هذه التهم على تهديد أمن المنطقة والسكان وما إلى ذلك.
عبد الرازق ابن الستين عاماً أمضى نحو ثلث عمره بعيداً عن عائلتيه الصغرى والكبرى؛ فابنه باسل أنهى دراسة الدكتوراه في جنيف بسويسرا والتحق بجامعة بيرزيت للتدريس قبل أشهر، وابنه الآخر وديع أنهى تعليمه في اختصاص الهندسة والتحق بسوق العمل، ووالدهما كان بعيداً عنهما. أمّا شريكة حياته لميس فقد أمضت نصف فترة زواجها من عبد أو أكثر، وهي تتنقل بين السجون والمحاكم الإسرائيلية، في محاولة لإيجاد شيء من الاستقرار العائلي، حتى لو كان موقتاً
نعم لقد عوقب عبد (بالمعنى المجازي) أكثر من مرة وأمام أكثر من محكمة بالتهمة نفسها (أيضاً بالمعنى المجازي)؛ فعبد الرازق وخلال وجوده خارج السجن عمل لفترة طويلة في حقل الصحافة، كما عمل في التنمية الزراعية من خلال وظيفته في اتحاد لجان العمل الزراعي، وكرس جل وقته في الوظيفة الأولى لفضح جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين، وفي الوظيفة الثانية من أجل تمكين الفلاح الفلسطيني من الصمود في أرضه والحفاظ عليها وحمايتها من غول الاستيطان. وهذا لا ينفي أن عبد كرس جزءاً من وقته وطاقته من أجل الخلاص من الاحتلال، ومن أجل حرية شعبه، ومن أجل العدالة وحقوق الإنسان.
هذه المرة قلقي على شقيقي عبد ليس كقلقي عليه في المرات السابقة؛ فقد كان يُعتقل إدارياً في السابق، ومع قرب نهاية مدة الاعتقال، كنا ننتظر الإفراج عنه بفارغ الصبر، وهنا أقصد الوالدة رحمها الله والشقيقة والأشقاء وعائلته الصغرى، وغالباً ما كانت تخيب آمالنا بتمديد الاعتقال الإداري مرة ثانية وثالثة ورابعة، وحتى أكثر من عشر مرات.
هذه المرة الوضع مختلف؛ أولاً، عبد لم يعد شاباً صغيراً وقوياً، وثانياً المسألة هنا لها علاقة بصحته وبمرض آخذ في الانتشار، وثالثاً القلق بات كبيراً مع صعود اليمين وأقصى اليمين إلى السلطة في الكيان الإسرائيلي وتسلم المستوطن إيتمار بن غفير مسؤولية مصلحة السجون ضمن وزارة الأمن الوطني التي استُحدثت مؤخراً، ورابعاً باتت سياسة الإهمال الطبي بحق أسرانا رائجة، إذ يتم تركهم في مواجهة مصيرهم.
علاج الأسرى في السجون هو حق من أقدس حقوقهم.
وغني عن القول والتعريف أن لدولة الاحتلال تاريخاً طويلاً، بالشهود والأسماء، من الإهمال الطبي في حق الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية. ولا بد من تضافر جهود المؤسسات الحقوقية والطبية حول العالم والتنسيق فيما بينها من أجل الضغط على دولة الاحتلال لإرغامها على توفير العلاج اللازم لكل الأسرى المرضى؛ فهذه مسؤوليتها القانونية و"الأخلاقية" إن جاز التعبير.
وفي الختام، مطلبنا هو الحرية والحق في العلاج لعبد الرازق ورفاقه في سجون الاحتلال الإسرائيلي.