وبما أن دوام الحال من المحال بخلو البيت الكبير المزدحم من الأبناء والبنات بالزواج. ولم يبق إلا أصغرهم، وكان مرحاً وكريماً ومغامراً ومبذراً في نفس الوقت، مما تسبب في تبذير أغلب ما كان تملكه عائلة جدي من أغنام وأراضٍ ولم يبق إلا القليل.
فاطِم وليسَ فاطمة، لا أذكر بكلِّ الديرة من مجايلات حبّابة فاطِم من تحمل اسم فاطمة، كلهن فاطِم وفطُومة.. حبّابة فاطِم ثالث زوجات جدي، وأَصغرهنَّ، قصيرة القامة، لها وجه مستطيل مليء بالوشوم،هلالي وسط الجبين، ووشام يغطي كامل الشفة السفلى ورثاميات أسفلها، وغمازة على طرف كل عين، ولها أنف أقنى يعطي لوجهها الصرامة..كانت، دائماً، تلبس ثياباً أطول من قامتها، ربما لقصرٍ في قامتها ولا تجد من لديها قناعةً بخياطةِ ثيابٍ لامرأة لديها من الأولاد والأحفاد ما يفوق دزينتين بخياطةِ أثواب لامرأةٍ بحجم بنتٍ صغيرة، أوهي تقصّدَت خياطة أثوابٍ طويلةً لتبدو كالملكات اللواتي يجرجرن أذيال أثوابهنَّ على الأرض. لكن أذيالاً ملكية في قرية كلّ ما فيها ترابٌ بتراب، هو أمرٌ مشين، حيث الهواء محمّل بالتراب وقلما يصفو، والدور مبنية باللُّبن "طين مجفف وتبن" لتتحول إلى ترابٍ بمجرد الاحتكاك بها، والتراب في ظل الدور وفوقه يحلو الجلوس في الضحى وعند العصر بعد رشه بالماء، ومن هنا، من أذيال أثوابها التي تجرجرها على الأرض، نالت لقب "سحسولة" كمعايرةٍ لها من ضُرَّتِها زوجة جدّي الثانية.
لا أكاد أذّكر حبّابة فاطم بدون سيجارتها، سيجارة غازي رفيعة كذيلِ فأر؛ فمنذ الفجر، وقبل أن تخبِز الخُبزَ وتَخضَّ الخاثر، تحمل إبريق الشاي، إبريق شينكو أزرق له سلسلة ذهبية تربط الغطاء عبر مفصل مع حامل الإبريق الذي له شكل قوس. إبريق حبّابة فاطِم هذا رافقها في طيلة جلساتها الصباحيِّة لسنواتٍ وسنوات، ولمّا تآكل طِلائه وأصبح عبارة عن إبريقٍ من التنك ينزُّ من قاعه ويشرشر من بلبولته، حلّ محله إبريقاً من الستالنس، ومع أول رشفة شاي من إبريقها الجديد تبدأ بالشكوى من طعم الشاي الذي تغير ولم يعد كالسابق .
وما أن تجلس إلى إبريقها حتى تبدأ بلف السجاير، وتدخينها، وتنضديها في صفطٍ فضي سميك أكل الصدأ بعضَ أطرافه.. تدخين حبّابة فاطِم ليس إدمان فقط، بل هو متعةٌ وعشق، وهو أقرب لطقسِ عبادةٍ يتكرَّر أداءه كل يوم من أيام عمرها، بنفس الطريقة بذات الوقت دون أي تغيير. طقسٌ يبدأ بفضِّ السِّجل الورقي الأزرق والأبيض لباكيت الغازي، وبإصبعي يديّها الإبهام والشاهد تضغط على السجل المنفرد حتى يستقيم، ثمّ تفرد محتواه وتفليه، تنقي الأعواد الخشنة بصبرٍ وأناة، تنثر عليه رذاذ الماء بطرف إصبعها الشاهد، وبيدها الأخرى تقلِّبه، تَنْثر وتقلِّب، وبين نثرٍ وتقليب تتلمس كومة التُتِن حتى تأخذ كفايتها، ثمّ تصر الكومة بمنديلٍ تخرجه من جيب صايتها(1) بحرصٍ شديد كأنها تلف كنزاً، تدس صَرّة التُتن تحت فخذها أو تحت قاعدة الصوبيا في الشتاء، كي يسهم الدفء بتغلغل الرطوبة بشعيرات التبغ. تنتظر دقائق قبل فتح صرتها، تتلمس التتن وتشمه، وتشمه ثانيةً وثالثةً بعمق، تتنهد ويعلو وجهها علامة الرضا، وتدحو التتن في الصَّفط .. وبالإضافة لمتعة وعشق حبابة فاطم لسيجارة الغازي، هي حربها التي خاضتها ضد جدي، وكسبتها، وكسرت بها صورة جدي الذي لا يستطيع أحداً التدخين بحضوره، حتى من قبل بعض مجايليه، ليس فقط لقدرته على إقناعهم باعتبار التدخين مكروه من منطلقٍ ديني، وهو مقدّرٌ له من قبلهم في هذا الجانب، وإنما لصلافته وجبروته إضافةً. أمّا الجيل الأصغر، جيل أبي والأعمام، المدخنون منهم، كانوا يسارعون بإخفاء علب التتن بدسها تحت الوسائد أو برميها أمام الأكبر سناً أثناء حضوره الخاطف إلى الأُوضة.
حرب حبابة فاطم هذه مع جدي بدأت عندما شاهدها مع ضُرَّتها، زوجة جدي الثانية، اسمها فاطم أيضاً ، تدخنان معاً بالخفية، رغم المناقرة الدائمة بينهما، فهما قلما تجتمعان على أمر سويةً. تقدّم منهما بهدوءٍ وهما مشلولتان لظهوره المباغت أمامها، أخذ من الأولى سيجارتها ومعسها على بلجمها(2)، وتقدم من الثانية التي قالت فيما بعد أنها تبولت على نفسها ومعس سيجارتها على بلجمها أيضاً، وغادر دون أن يقول شيئاً .
مرت أيام، وربما أشهر حتى ظهر جدي مرة أخرى أمام زوجتيه وهما تدخنان، جمع زبل البغال ودحا فميهما به، وهددهما بالطلاق، إن لم تكفا عن "التجعيب" !
حَرِدت حبابة فاطم إلى بيت أهلها، وتكرَّر حَردها إثر كل مرة تعاقب فيها على التدخين.. لا أعرف كم مرة حَرِدت ؟ لكن في النهاية استسلم جدي بتواطىءٍ غير معلن. هي تدخن دون أن يراها، وهو يعلم ولا يعلم. أمّا ضُرتها التي تبولت على نفسها، تقرّبت من جدي بإطاعته خلال حَرَدِ حبابة فاطم وبعد عودتها. تركت "التجعيب" والتزمت الصلاة في وقتها، وخارج وقتها، ولمّا سُئِلت لماذا تقضين وقتاً طويلاً في الصلاة. تقول: أقضى ما فاتني من صلواتٍ، حتى أصبحت صلاتها مَضْرَب مثل من مجايلاتها بالقول لأحدهم/نّ "صلاتك صلاة فاطم الأحمد، صلاة لعبدالله الحاج صالح مو لله".
وحبّابة فاطم هي صَرّارَة الأحفاد؛ فجميعنا، الجيل الثالث من العائلة وُلِدنا على يدها، ويقال أنها كانت تَصُرَّ مولودها بنفسها. وعندما كبرنا وأصبحنا نخجل من الوقوف عُراةً بحضورها في عتبة الباب للغسيل كانت تعاير من يخجل منها ( خجلان مني ، ليش ما تدري إنو آني أول من شفت .. وضربتك على ..) .
إشرافها على كل ولادات نساء القرية وبعض الجوار، وولاداتها المتكررة. إرهاقها وأتعبها، مما جعلها تبدي رغبةً في التوقف عن الإنجاب، وأسَرّت بذلك لبعض النساء الولودات مثلها، وعرضت عليهن أن يتوقفن عن الإنجاب، ولها قول في هذا (الحَبَل غيلة(3)، هد حيلنا،احنا بساس/ قطط ولا بني آدمين؟) ومن أجل ذلك جرّبت وصفات لمنع الحَبَل حتى كادت إحدى وصفاتها تودي بحياتها عندما لاكت معدة خروف ولد ميتاً، ويقال أنها اكتشفت أنّ علك زهر القطن ومصّ رحيقه يوقف الحَبَل، فجمعت منه الكثير، جففته، وحلّ محل علك البطم .. لم تنجب بعدها! وعممت وصفتها على نساء القرية لمن تريد التوقف عن الولادة، لكن من غير المؤكد حقيقة توقفها عن الإنجاب، هل كان لوصفتها دور، أم لتجاوزها سن الإنجاب، أم الحُجب والتعاويذ التي كانت توصي عليها .
مع توقف حبابة فاطم عن الإنجاب، تفرغ جَدّي كليةً إلى خلوته مع كتبه، وهي تسيَّدت شؤون العائلة. تذهب إلى المدينة لشراء الكسوة، وتَزْهِب(4) بناتها عند الزواج. هي من يقرِّر كم من الخراف تباع بعد فطامها نهاية فصل الربيع، وكم شوال قمح يبقى بذاراً للسنة القادمة ولمونة الطحين والبرغل، ولها الكلمة الفصل في تزويج أبنائها وبناتها، والأهم من كل هذا أنها تحرّرَت من الاتفاق المضمر مع جدّي بشأن التدخين، وأصبح تدخينها علناً،وأطلقت يدها في تأمين مونتها من دخان الغازي حيث كان هناك كروزات منه بين طيات المفارش وفي الخزن وحتى شِوَنِ الطحين والبرغل.
وبما أن دوام الحال من المحال بخلو البيت الكبير المزدحم من الأبناء والبنات بالزواج. ولم يبق إلا أصغرهم، وكان مرحاً وكريماً ومغامراً ومبذراً في نفس الوقت، مما تسبب في تبذير أغلب ما كان تملكه عائلة جدي من أغنام وأراضٍ ولم يبق إلا القليل. تمحورت حياة حبابة فاطم حول أمرين: رعاية وحماية حفيدةً لها من إحدى العمّات التي ترمّلت بعد زواج قصير، أقل من سنة، وتأمين حاجتها الدائمة إلى التُتن.
ومن أجل الحفيدة التي كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات عندما تزوجت أمها ثانية وابتعدت عنها إلى السعودية، خاضت حبابة فاطم حربها الثانية مع أعمام الحفيدة، الذين نالوا قراراً من المحكمة برعاية الحفيدة من قبل أهل الزوج بعد زواج الأم.
كنا شهوداً سلبيين على ما كانت تقوم به حبابة فاطم في حربها الثانية، مع توقع خسارتها لصالح أعمام الحفيدة. بينما هي كانت تعاند وتقول: لن أترك ابنتي تِتْربى يتيمة، وتعيش غريبة حتى في بيت عم من أعمامها،كي تخدم زوجته، وتقول : صحيح هم أعمامها لكنهم لا يعرفونها ولا تعرفهم.
بدايةً لم تترك جاهةً أو وساطة مع الأعمام إلا واستخدمتها، لكن بدون فائدة.. لم يقف أحد مع حبابة فاطم، والكل لامها على قاعدة أن البنت لأهلها، لأهل الأب، وسمعت من القريب والبعيد، كلام كثير عن العرف والقانون، وأنّ مكان البنت عند أهل الأب، وعليها التسليم بذلك، ومن المستحيل أن يترك أعمام الطفلة ،بعد زواج الأم، تتربى خارج الأسرة التي تنتسب إليها وإلا سيعتبرعار، والأفضل أن تتركها ولا تتعلق بها كثيراً.
لم تتراجع ولم تستسلم..ولم يتوقع أحداً أنها تستطيع كسرعرف سائد، وقرار قضائي باللجوء إلا سلطةٍ أقوى. بدايةً لم يكن واضح من دفعها لذلك، نصيحة من أحد أم حالة يأس وفرصة أخيرة، أم مثلما قالت: "من أجل هاليتيمة المسيكينة،الله فتح عليّ، ودلني على الطريق".
الطريق الذي قادها طيلة أسابيع للمرابطة أمام مكتب المحافظة.وعلى الدرج المؤدي إلى مكتب المحافظ وفي الممر الواصل لمكاتب موظفيه سمعت عشرات المرات وعوداً دون جدوى، وعود بوعود بوعود، تعالي بكرا، الأسبوع القادم المحافظ مشغول بالتدشين، في الأسبوع التالي نحجز لك موعد، لديه اجتماع، سافر إلى العاصمة، لو جئت قبل ساعة، تعالي نهاية الدوام ..
وهي لا المَسْكنة فتحت لها باب، ولا الرجاوي حننت قلب الموظفين أولاد الكلب عليّ ،كما تقول. وقالت :كلما حكيت لأحدهم قصتي،يدير وجهه ويضحك، يتشاور مع ربعه ويندارون إلي ويتغامزون (بسيطة ياحجة المحافظ بس يفضى يروح برجليه يجيبلك حفيدتك ويوصلها لعندك على البيت) وتضيف بشيء من الأسى، أعرف كانوا يتمطعزون عليَّ/ يسخرون مني، ويمكن يشوفون قصتي مع اليتيمة مالها طعمة؛ فهي عند أعمامها بالأخير، ويمكن كان يظنون أني مجنونة، ومايدرون إنها جمّار القلب بنت بنتي.
قالت وهي تشعر بزهو الانتصار: يوم ويومين وخمسة، وعشرة، وشهر.. وأنا أُصَبِحهم بوجهي، يطردوني من الممرات وأبواب المكاتب، وألجأ إلى الرصيف المقابل انتظر دخول المحافظ أو خروجه، أرابط على الرصيف، ومستعدة أبيت هناك مادام الصفط مليات تتن. يمكن بعد شهر قال لي ابن حلال من الحراس( يا حجة لاتتعبين حالك مافي فايدة، ونصيحة مالك إلا الذهاب إلى بيته، وأنتِ وشطارتك )..ذهبت، وتكرر نفس قصة الموظفين، هالمرة مع حرس البيت، على انقلعي من هين..روحي بعيد..لا تقعدي هنا..ممنوع.. كل يوم أطرد، وكل يوم أحكي مع حالي وأقول: سجن ما راح يسجنوني، وفلقه ما راح يضربوني، ولنشوف أنا ولا هم.
وبالأخير طفر مني أحد الحراس، وقال: هناك بعد طلوع الشمس، كل يوم، يقضي السيد المحافظ وقتاً في الحديقة.. هناك، فتحة بالسياج .. شايفتها؟ احكي معه من هناك، وأنتِ وحظك ،إمّا على السجن أنا وأنتِ أو يسْمع منك.
في اليوم التالي ومن الفتحة، صبّحت عليه، وقلت: طالبتك ! صفن قليلاً وكأنه متفاجئ أو لم يفهم عليّ . كررت عليه: طالبتك ياسيادة المحافظ وداخله على الله وعليك ؟ .. أشار أن أدخل من الباب، ودخلت، وحكيت له القصة من أولها إلى آخرها .. لم يعدني بشيء، فقط ، سال عن الأسماء والمكان، وبعد أسبوع أرجعها أحد أعمامها، وهو يعاتبني "نحن أهل ، لماذا شكيتينا إلى المحافظ!"
بقيت حفيدة حبابة فاطم بحضنها حتى زواجها.
تغيرت الدنيا كثيراً، وأيضاً تغيرت حبابة فاطم، وشاخت، لكنها بقيت محافظة على جلستها الصباحية مع إبريق الشاي وباكية الغازي.وأصبحت جلستها الصباحية بالمشراقة شتاءً وفي ظل إحدى الدور صيفاً تلم بعض الأحفاد المتواجدين، النميمة على الآباء والأمهات والأعمام والأخوال والخالات والعمات ملح الحديث المشترك، من خلال تلك الجلسات الصباحية مع حبابة فاطم وحول ابريق شاييها انكشف جزء من التاريخ السري المسكوت عنه في العائلة، الذي كان يشكل حرجاً من المعيب الحديث عنه، من حالات العشق والكره إلى الزلات والألقاب السرية،وحتى الضغائن والحرد والزعل والكونات العائلية أصبحت على بساط أحمدي كما يقال؛ فالأحفاد الذين تلقوا في طفولتهم من الحبابات قصص الجن والسعالي، واستمتعوا بها، يتلقون في كبرهم قصص أفراد العائلة حتى إذا كانت مخجلة، ويتعظون منها.
في تلك القعدات التي نلتمَّ بها حول ابريق شاي حبابة فاطم بقيت سيجارة الغازي رفيق لايفارق، ولم تفارقه حتى يوم وفاتها، وكنا نحاول اقناعها بتدخين ولو سيجارة واحدة مما ندخن وكان جوابها الدائم ( قدي ، ليش هذا الذي تشربونه تُتن؟ )
عندما توفيت حبابة فاطم -رحمها الله- كنت على بعد 3000 كم في الإمارات حيث أقيم، ومع تمنياتي لها بالرحمة تمنيت لو يدفن معها باكيت غازي رفيقها الدائم .