هدأت الأمور لبضعة أيام، ثم عادت بعدها المعاملة أكثر سوءاً، إذ صارت شتائمهم من "تحت الزنّار"، إضافة إلى توقّفهم عن إرسال الجريدة، ورفضهم تزويدنا بالكاز من أجل الطبَّاخ، فطرح بعض الرفاق مشروع إضراب ثالث.
مع انتهاء الأيام الستة على وعود مدير السجن، بدأت رحى الشكوك والهواجس تطحن رملها في دواخلنا.
لقد أكّد أكرم مراراً أن مدير السجن كان جاداً في ما وعَد، في حين أكَّد آخرون أن رجال السلطة يبصقون بسهولة، ويلحسون بصاقهم بسهولة أكبر. لحسن الحظ أن الرحى توقفت عن الطحن ضحى اليوم السابع.
لقد نقلونا بالفعل إلى باحة جديدة، وتوقف الضرب والشتائم، وبدأت "جريدة البعث وأحياناً الثورة أو تشرين" تصلنا، وسمحوا لنا باستعارة الكتب "الأدبية والتاريخية" من مكتبة السجن، ووافقوا لنا على شراء قاموس عربي وقاموس إنكليزي وطبَّاخ يعمل على الكاز.
صار اسمنا "مهجع صدر جديد".
هو في نهاية الباحة السادسة أو في صدر أحد أضلاعها.
كان واضحاً أن بناء المهجع من طراز مختلف وجديد نسبياً بالمقارنة مع بقية مهاجع السجن. تهويته ليست سيئة، ونوافذه المستطيلة الضيقة والقريبة من السقف تتيح دخول أشعة الشمس، وباحته مستقلة، غير أننا فوجئنا بأن المهجع كان مليئاً بحبال من الأشكال التزيينية، وعلى الجدران صور حافظ الأسد ولوحات تتضمَّن بعض أقواله.
من أغرب وأوقح العقوبات أن تصبح وتمسي وتنام وتستيقظ على صور الديكتاتور الذي أنت معتقل بسبب معارضتك له.
أمضينا الأيام الأولى اجتماعات ونقاشات، تفضي إلى اجتماعات ونقاشات.
هناك من يرى أن من البداهة نزع الصور، ومن يرى أنه لا بدّ من نزعها بما لا يستفزّ إدارة السجن، ومن يرى أن ننتظر ونناقش الأمر لاحقاً بهدوء، ومن يرى أن لا نقوم بأي شيء سوى تجاهل الصور، إذ لسنا من اختارها، بل هي مفروضة علينا كما هو الاعتقال مفروض، ومنع الزيارات مفروض، ووجودنا في سجن تدمر لاغيره مفروض، وربما التخوّف من إعادتنا إلى مرحلة ما قبل الإضراب كان حاضراً، وهناك من رأى أننا يمكن أن ننزع الصور بالتدريج واحدة بعد أخرى.
وهكذا اختفت إحدى الصور وإحدى اللوحات التي تتضمن كلماته "الخالدة".
بعد يوم أو اثنين اختفت صورة أو لوحة أخرى.
بعد فترة من الزمن لم يبق سوى الزينة وصورة كبيرة في صدر المهجع لا بد أن إزالتها تلفت الانتباه.
كنا نفترض أن الإدارة تراقب ردود فعلنا بشأن الصور والزينة، غير أن عدم مساءلتها لنا عن غياب كل الصور باستثناء الوحيدة المتبقية، جعلنا نفكر بطريقة تريحنا منها بدون أي اصطدام مباشر مع الإدارة، كأن نبلغهم بنيّتنا تنظيف المهجع بالماء والصابون، الأمر الذي يعني إنزال الصورة، فإن طالبت الإدارة بإعادتها فليس أمامنا سوى الرفض.
ما إن طلبنا إذناً بشطف كامل المهجع بسقفه وجدرانه وأرضه حتى قال مدير الانضباط:
- اشطفوا.. مين مانعكم.
أشرنا إلى الصورة الكبيرة في صدر المهجع فقال ببساطة:
- اي شيلوها.
وهكذا نزلت آخر الصور عن كواهل الجدران وكواهلنا.
* * *
في تلك الفترة، حزيران 1990، أُلحِقَ بنا فاروق العلي، ولأن فاروق مفصول من الحزب، فقد قرر الرفاق أن أكون صلة الوصل بينه وبين الهيئة مثلما كان الحال حين كنا في المزدوجة في فرع فلسطين.
في 22 تموز 1990، أُلحِقَ بنا عضو اللجنة المركزية عدنان محفوض، تلاه بعد شهرين أو ثلاثة عماد أبو الفخر رغم أنه الوحيد بيننا الذي اعتقلته شعبة الأمن السياسي، وقد يكون سبب تسليمه لشعبة المخابرات العسكرية أنه كان يعمل سابقاً في مكتب الأمن القومي، وربما لأنه كان أحد الفنيين العاملين في مطبعة الحزب، وكنت حينها أنا المكلف من القيادة بمتابعة شؤون المطبعة، وكانت علاقتي به حميمية إلى درجة أنه كان يسمّيني الخال.
بدا عماد الدمث اللبق البشوش على غير ما عهده الرفاق الذين يعرفونه من قبل. من الواضح أنه مشوش ويميل إلى العزلة، وقد صدر عنه أحياناً كلام غير مفهوم.
في إحدى زيارات مساعد انضباط السجن لمهجعنا، تحدث عماد معه طالباً نقله إلى دمشق، فردّ عليه المساعد باستهتار وهو يشير له بيده أن ينصرف، فابتعد عماد وهو يقول: أنت لا تعرف أنك تتكلم مع.. مع.. نبيّ على الأقل.
لم ينتبه المساعد إلى ما قاله عماد.
رغبة عماد بالعزلة لم تنعكس على حميمية علاقته بي وبمن يعرفهم من الرفاق، فقد بقيتُ الخال الذي يثق به ويطمئن إليه.
مع مرور الأيام صارحني أنه قطع علاقته بالحزب قبل اعتقاله بعدة شهور، وعاش متخفياً على مسؤوليته، وكان واثقاً أنهم لا يمكن أن يعتقلوه، وحين سألته عن سبب ثقته، ابتسم وهو يقول:
- لأني مكلَّف بما هو أكبر من كل ما يخطر في ذهنك، وأتمنى يا خال أن تأخذ كلامي على محمل الجد. لا تناقشني بالمنطق المادي الجدلي، فأنا فوقه، ولأني أحبك كما تعلم، فإني أدعوك إليّ.
- إذن لا بد أن تعرض عليّ برنامجاً سياسياً جديداً، لنتناقش على أساسه.
- قلت لك أني أكبر من ذلك.
- لا تقل لي أنك نبي في الحد الأدنى، كما قلت للمساعد!
- أعرف أنك تعتبر الأحاديث عن المهدي المنتظر مجرد خرافات، ولكني واثق أنك ستغيِّر قناعاتك حين نلتقي مستقبلاً.
- لماذا مستقبلاً وليس الآن؟
- الآن لا أفكّر في ما هو أكثر من انتقالي إلى دمشق.
- وإذا لم يوافقوا..
- لا يستطيعون إلا أن يوافقوا.
ليست هذه الحالة دائمة أو يومية عند عماد، فأحاديثنا غالباً ما كانت تستيقظ على الذكريات أو تزدلف بنا إليها، ولا سيما ذكريات بيت الآلة الكاتبة في ركن الدين بدمشق، لما لتلك الفترة من لطائف ومفارقات وقصص ومفاجآت تشبه مسلسلاً كوميدياً تسعدني فيه ضحكات عماد التي تشبه كركرة المياه.
* * *
عادت أمورنا تسوء بصورة تدريجية كما لو أنهم خطَّطوا لها. في البداية أصوات عالية مع بعض الكلمات ذات الصبغة العسكرية الآمرة والزجرية بحجة انهماكهم في إدخال الطعام لجميع المهاجع وما يقتضيه ذلك من سرعة وحزم، وكذلك الأمر عند أخذ التفقد في الصباح وفي المساء، ثم تصاعدت اللهجة يوماً بعد يوم إلى أن عادت الشتائم واضحة صريحة، فأوصلنا عبر أحد الرقباء احتجاجاً مبطَّناً للإدارة مفاده: نأمل أن لا تحيجونا للقيام بما لا نرغب فيه، وأنتم تعرفون أننا لا نستطيع تهديدكم، ولكننا نستطيع تهديد أنفسنا وتعريض صحتنا وحياتنا للخطر، وليس غيركم من يتحمل مسؤولية ذلك.
حضر مساعد الانضباط، وحاول أن يشرح حجم الأعباء على العساكر ونمط التعامل في السجن، الأمر الذي لا يمكِّن العساكر دائماً من تذكّر أن مدير السجن وعد بعدم إهانتكم.
جاءه الرد من أكثر من واحد منا أن العساكر كانوا منضبطين تماماً خلال الأسابيع الماضية، ومن يستطيع أن ينضبط أسابيع يستطيع أن ينضبط دائماً.
هدأت الأمور لبضعة أيام، ثم عادت بعدها المعاملة أكثر سوءاً، إذ صارت شتائمهم من "تحت الزنّار"، إضافة إلى توقّفهم عن إرسال الجريدة، ورفضهم تزويدنا بالكاز من أجل الطبَّاخ، فطرح بعض الرفاق مشروع إضراب ثالث.
قال بعضنا أن توقيت الإضراب خطير، إذ ليس هناك إجماع عليه كما في المرة السابقة، ونعلم مسبقاً أنّ أحد رفاقنا قد لا يسعفه وضعه الصحي على المضي في الإضراب إلى النهاية، وذلك إضافة إلى أننا نعرف من خلال الجريدة التي كانت تصلنا، أن صدام حسين اجتاح الكويت، وأن هناك توافقاً دولياً على إخراجه منها، ولا بد أن النظام السوري منشغل بذلك سلباً وإيجاباً، وقال بعض آخر أننا كمعتقلين سياسيين لن نقبل بهذا الإذلال حتى لو كانت تكلفته موت بعضنا، وقال بعض ثالث أن الإضراب قد يحرِّك وضعنا، أو ينبغي أن نستخدمه لتحريك وضعنا لدى السلطات من أجل نقلنا إلى دمشق، لنكون مع رفاقنا على الأقل.
فاروق العلي أعلن أنه خارج الإضراب، ولكنه لن يأكل لسبب إنساني فقط.
وعماد أبو الفخر أعلن أنه سيضرب معنا ولكنه سيبلغ إدارة السجن أنه مضرِب لأسبابه الخاصة المتعلقة بضرورة نقله إلى دمشق.
بعد نقاشات حامية على مدى أيام، قررت الأغلبية بدء الإضراب في 16/2/ 1991.