إذاً الحدث الدائم هو الكلام، الذي تحول في الأداء التمثيلي إلى أسلوب بناء، حتى الصوت القادم من خارج الخشبة، الذي يأمر الممثلة بالتحرك، ويقيم حركتها ومدى دقتها، يحاول فرض سلطته على الجسد، بل يحاول أيضاً اختراق هذه السلطة ليحولها إلى أسلوب تفاعل مع المساحة الذي تملكه بطلة العرض.
ما هو البعد الشخصي الآخر الذي يشكل الحكاية الفلسطينية بعيداً عن التذكر والبطولة ؟ لربما الخروج من القوالب الثابتة التي صنعها الزمن، ومحو علاقتنا الذاتية مع البراءة كونها وسيلة لتبرير الهزيمة، لنكتشف بعداً فلسطينياً لا يرى الذات كإجابة جاهزة وممكنة لكل الأسئلة.
لم يكن كتاب "الطلبية C345" الصادر عن دار المتوسط، للكاتبة الفلسطينية شيخة حليوي، تبريراً ولا حتى إجابة، إنه وسيلة لتفكيك الرؤية الاجتماعية والشخصية بعلاقتنا مع العالم، بأحلام مركبة، ولغة سردية لا تبحث الكمال أو الافتعال. عبرت المجموعة القصصية عن احتمالات أكثر تشعباً، لعلاقة الحلم مع الواقع، والمتخيل مع المفاهيم الكبيرة لحياتنا، مثل الحب، الوطن، الحرب، وما نملكه من عادات وتقاليد، تجعل سياقاتنا الاجتماعية المتوارثة، مادة للتبسيط واكتشاف المشترك، في حياة لطالما شكلتها الفوضى ومحاولات التجاوز.
في قصة "حياة من خشب" التي حولتها مايا امية قيش وسوار عواد إلى عرض مسرحي تجريبي، من إنتاج "مسرح السرايا العربي - يافا" والذي بدأ عرضه في اليوم الأول من الشهر الثالث لهذا العام في مسرح السرايا العربي يافا لينتقل بعدها إلى عرضين في حيفا عرض في رام الله عرض في القدس، لينتقل حتى اليوم إلى عروض ضمن الشهر التاسع في الجولان المحتل. أننا نكتشف في المسرحية مساحة أوسع للاشتباك مع السياق الاجتماعي، وعلاقة الفرد مع نفسه ومع الآخر، لا ضمن الخيارات الشخصية فقط، بل ضمن حريته الشخصية أيضاً، بل وتستخدم الزمن كونه وسيلة للتخلي، يمكننا من خلاله إعادة بناء العلاقات التي لم تكتمل مع أنفسنا، لإمرأة تزوجت مقابل خزانة من خشب، لا تعرف أي شيء عنها، سوى أنها قديمة وعملاقة، كانت سبباً أيضاً في ثلاث زيجات قبلها، على الرغم من أن الزمن يتقدم دائماً بخط مستقيم، إلا أننا نرى فكرة الخزانة التي تعتني بها الزوجة، والتي كانت سبباً لزواجها، وكأنها حدث دائري، لطالما وصل للنهاية، ولكن ها هو يعود نحو البداية، وكأن الزمن ليس تراكماً فقط، بل وسيلة لتبرير الوهم، وبناء الحكاية دون أي انتصار، حتى عندما يكون الرضى مبرراً، نراه وسيلة لغياب الأعذار، لربما هذا ما يجعل تحويل قصة "حياة من خشب" إلى مسرحية مدهشاً، لأن القصة تحتمل هذا التأويل، الذي قد يضع مسألة الذات ليس كإطار لمحاكمتها فقط، بل وسيلة لإيجاد المعنى أيضاً.
على الرغم من جسارة التخيل، ومدى قدرة شيخة حليوي على طرح الأسئلة على النفس، خاصة في حياة امرأة تزوجت بطريقة تقليدية مقابل خزانة خشبية، إلا أن القصة لم تخلُ من إسقاطات جماعية، جعلت من ما هو شخصي، يعني النساء جميعاً، حتى في التذكر، هناك ما قد تجاوز الذات، عن طريق تداخل الأزمنة المتعاقبة، في زمن واحد، هو زمن يستعيد سياقة من إعادة بناء الأسئلة التي تطرحها الزوجة على نفسها، وما تتوقعه دائماً من أمان في علاقتها مع الرضا، حتى لو كان ذلك مفتعلاً، في حياة معلقة في صورة زوجية، وخزانة تنظفها بعناية.
التداخل بين وعينا بالواقع، ومدى قدرتنا على استيعابه ضمن الإطار الاجتماعي، اختلف قليلاً بين القصة والمسرحية، ولكن هذا الاختلاف جوهري، لأنه سمح للمسرحية بالإشارة للأشياء التي لم ننتبه لها. الديكور بسيط جداً، لدرجة أن لا تنتبه لوجوده، والحاضر دائماً هو مايا أمية القيش وهي تحاول استعادة ذاتها باستمرار من خلال الكلام، ضمن نطاق ضيق جداً يحكم الجميع خصوصاً المرأة، خاصة في قصة "حياة من خشب" التي لا تخرج طوال القصة من الخزانة والصورة والابن، وعندما تذكر الآخرين، فلا تتوقع منهم إلا التقييم المباشر وآراءهم بها، وهذا مشهد كبير، لحياة اجتماعية لا خيارات فيها، إلا باستعادة الممكن من خلال المتخيل، وإعطاء القيمة للتفاصيل الصغيرة. لذلك القصة لا تعطي للمعاناة صوتاً، ولا تصورها كتجربة، بل كمصير محكوم بالمباشرة، الذي يخلقه المجتمع من خلال العادات والتقاليد.
معالجة قصص الكاتبة شيخة حليوي من قبل سوار عواد ومايا امية القيش، لتحويلها لعرض مسرحي، انطلقت من البطولة التي لم تتحرر من عالمها الخارجي، ولم تتوقف عن مساءلة الاحتمالات، ومواجهة الأسئلة، لذلك أداء مايا امية القيش، ينطلق من الاستنباط المباشر للمونودراما المسرحية، التي تجعل من الحوار والحركة على الخشبة عنصراً لا ينفصل عن الكلام، كانت تدور حول نفسها، وتتحرك في جميع الاتجاهات السياسية والاجتماعية والذاتية، تنزلق أحياناً في الغضب، وكثيراً في ربط النهاية مع البداية للحكايات التي تمثل حياةً ثانوية وغير ضرورية في نظر الجميع.
إذاً الحدث الدائم هو الكلام، الذي تحول في الأداء التمثيلي إلى أسلوب بناء، حتى الصوت القادم من خارج الخشبة، الذي يأمر الممثلة بالتحرك، ويقيم حركتها ومدى دقتها، يحاول فرض سلطته على الجسد، بل يحاول أيضاً اختراق هذه السلطة ليحولها إلى أسلوب تفاعل مع المساحة الذي تملكه بطلة العرض.
حتى أمام المرآة هناك ما يثير الشك، المشهد الذي تجلس به الممثلة على كرسي قبل أن تفك شعرها وتبدأ بالرقص، يجعل من أداء مايا أمية القيش إشارة إلى أن هناك جيلاً جاهزاً للانخراط في سبل التغيير، لأن القصص المختارة في المسرحية، ومنها قصص من كتاب "أمهليني صيفاً آخر" الصادرة عن دار "أثر" للنشر والتوزيع، تؤكد أن البحث مستمر عن التأويل الذي قد يجعل من المسرح وسيلة، لربط السياسي بالاجتماعي، واستعادة الذاكرة الجماعية من خلال مساءلة النفس، ومعالجة القصص وتفكيك الشخصيات وملاحقة ظروفها واختياراتها، وكأنها مثال مفتوح لجميع الذين لم يكملوا خياراتهم الشخصية يوماً، أو لم يكتشفوها بدون وهم مختلق يجعل من الاستمرار في الحياة ممكناً.
الخروج من الدراما إلى السخرية، ومن السخرية إلى السرد والإلقاء، ضمن خيارات فنية إخراجية، اعتمدت بشكل أساسي على مزج الحالات، جعل من الممثلة أكثر تحرراً، وجنبها الذهاب العميق نحو المباشرة، لا يوجد شيء ثابت تماماً طوال العرض، بل تنطلق بطريقة شبة عفوية من شخصية إلى أخرى، وبافتعال يكاد يكون حاسماً، يقطع زمنين وحكايتين، ما جعل البطل الوحيد في العرض هو المشهد ذاته، لأن المسألة تكمن في سرد الواقع، ومحاكمته أحياناً، حتى عندما يكون الواقع مبهماً وغير واضح، يسعى العرض للتبسيط، من خلال تقنيات تمثيلية، قدمتها مايا امية القيش، لتستعيد دورها كونها مؤدية تستطيع استعادة القصص التي قرأتها وحفظتها، والتفاعل معها، وكأن المسرحية هي نتاج داخلي للعلاقات المتداخلة، بين ما تحاول تقوله الممثلة، وما يفكر به الجمهور.
ربما هنا تكمن متعة العرض، بالإسقاط المباشر بين الشخصي والعام، ما هو مشترك من قضايا، ومفصلي من خيارات شخصية. الذروة تكمن بعدم التنصل من المواجهة المباشرة مع ما نملكه من تجارب، دفعتنا بكثير من السخرية، نحو احتمالات تكاد تكون مستحيلة، لذلك هذا الاشتباك ينبع من العلاقات الداخلية، التي شكلتها الكاتبة الفلسطينية شيخة حليوي، التي جعلت من المحور الأساسي لقصصها هو الجسد الذي يمتزج بالكلام، وغالباً ما يحدث عميقاً في الزمن دون انقطاعها عن لحظة الحاضر المستمرة.