الملصق الفلسطيني: توثيق الإبادة واستعادة الرموز

2024-05-06 01:00:00

الملصق الفلسطيني: توثيق الإبادة واستعادة الرموز

ضمن مرحلة تقود احتمالاتها الإبادة، يشكل الملصق الفلسطيني إطاراً فنياً سياسياً، سوف يدفعنا في المستقبل لطرح العديد من الأسئلة، بينما الارشفة والنشر تشكل أولى الخطوات لنظرة أعمق للواقع، ولإعادة تأملها من جديد في المستقبل، بينما النظرة الأولى للإنتاج والمضمون تدفعنا لإعادة النظر بالأدوات والرموز،

منذ ستينات القرن الماضي، حتى اليوم، عاش الملصق الفلسطيني بين ما هو سياسي واجتماعي وثقافي، وهذا التداخل بلور الهوية، بوجوه النساء والرجال المرسومة بخطوط دقيقة، الكوفيات الملفوفة على عجل حول الأكتاف، البرتقال والزيتون، وأخيراً الأيدي القابضة على لحظة البندقية، حتى صارت الملصقات مقياساً لعمق اللحظة التاريخية، وجزءاً جوهرياً من أشكال النضال، لندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن الملصق الفلسطيني مازال قادراً على قراءة المشهد، ومازال حاضراً بشكله المركب لاستيعاب باقي الفنون مثل الرسم والفوتوغراف، ليوظف كوسيلة إعلانية سياسية، مستعيداً للشعارات، قادراً على تدارك الحدث، وإعادة طرحه بإطاره الفني. 

ولا يبدو مستغرباً اليوم إعادة الحديث عن الملصق الفلسطيني، خاصة أن منذ عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب إبادة إسرائيلية/أميركية، بات جوهر التضامن يستمد من فعل المشاركة، وهي ردة فعل منطقية لسياسة الحجب والإلغاء والتضليل الإعلامي، ليكون الانتماء للهوية التي راكمتها الملصقات الفلسطينية ومشاركتها، يعني الاحتجاج الذي يتجاوز التعبير الشخصي، ليضم بطولة المشاركة الجماعية، بطولة تفتح آفاقاً جديدة كون الملصق ليس فعلاً فردياً، بل هو دليل تراكم وحشد لما ننتمي إليه، كون غالبية الملصقات كانت ومازلت  تهدف للإعلان لما هو سياسي. 

إن كل مرحلة من حياة الملصقات الفلسطينية، شهدت على تاريخ مركب بين الإطار المؤسساتي الذي يدعم الفنانين، والمرحلة التي ينتجون فيها أعمالهم، وتبدو المقارنة بين سياقات الإنتاج الفني لكل مرحلة مركبة، لأنها تختلف بسياقها، مثل الازدهار في منتصف الستينات، مرحلة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وانبثاق الهوية الفلسطينية من جديد، بوجود كيان مؤسساتي مثل منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، الأمر الذي أدى إلى تنوع بأصول الرؤيا لمعنى الملصق وأساليبه، باستقطاب العديد من الفنانين والكتاب والمثقفين، الذين استطاعوا بلورة مضمون القضية الفلسطينية فنياً، تضم قائمة الفنانين أسماء كثيرة مثل الفنان السويسري مارك رودن الذي عرف باسمه الحركي جهاد منصور، ومن العراق كاظم حيدر، وسوريا نذير نبعة، ومحمد شبعة من المغرب، بالإضافة كمال بلاطة، واسماعيل شموط وسليمان منصور من فلسطين، والعديد من الأسماء، حيث أصبحت الملصقات أكثر تماسكاً، قادرة على جمع الهوية مع الحلم دون نزع المخيلة من محيطها، في ملصق الفنان السوري برهان الدين كركوتلي، نرى في تكتل الأجساد المتماسك دون أي فواصل أو فراغات، ما يشبه الإجابة المفتوحة لسؤال الوطن، الفدائيون بالكوفيات والبنادق، والنساء في الأعلى يحتضنّ أولادهنّ، الجميع يلتفت، بينما المرأة في الوسط ترتدي ثوبها الفلسطيني وتنظر نحونا مباشرةً، كأن الجدارة تكمن بالانتماء لهذه التلة الصغيرة من العيون التي تحاول بدهشة. ملصق الفنان الفلسطيني سليمان منصور، المنشور عام 1979، تستعيد الأجساد وهي بألوان الفجر، العائلة تصطف، تحمل شتل الزيتون عالياً وتنظر نحوها بأمل، بينما المرأة في الوسط تقبض على بندقيتها، الرقاب ممتدة بشكل لافت، بينما الفدائي لا تظهر منه إلا كوفيته، ولا أظن أن هناك تجلياً للوطن المسلوب أكثر دقة من الأجساد المتقاربة وهي تحاول. 
 


تأثرت الملصقات الفلسطينية بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1983 نحو تونس، ولكن الفصل الحقيقي في تجربة الفنانين حدثت فعلياً مع توقيع اتفاقية أوسلو، خرجت الملصقات من طابعها النضالي، لتأخذ شكلاً أكثر استهلاكية، الأمر الذي أرغم الفنانيين على العمل المستقل، والتذكير بضرورة وقف الاستيطان، التفاعل مع الأحداث الفلسطينية المستجدة، والاحتفاء بالشهداء والتذكير بمناسبات وطنية، ونقد السلطة الفلسطينية. 

لنشاهد مجدداً كيف يثير الملصق الفلسطيني النقمة في وجه الجريمة، ويكرس الرفض الدائم للإبادة الصهيونية، ليذكر تدريجياً بالهوية الفلسطينية، والسياق النضالي للشعب الفلسطيني، مستخدماً أمثلة من الصور الفوتوغرافية، واحتمالات الواقع الصعبة المفروضة على أهالي سكان قطاع غزة. لتكمن البطولة في قدرتنا على الرؤية وتذكير العالم بما نراه. واحدة من السمات الأساسية للملصقات اليوم، تكمن في التنوع، أنها أكثر مراحل الإنتاج المستقل للفنانين، من جميع أنحاء العالم، هذه العالمية في إنتاج الملصقات، لم تنتج معاني مغايرة للحقيقة، في مرحلة يتم فيها محو الجوهر الإنساني للفلسطيني بالأرقام، ليتم رفض استهلاك الواقع وحجبه، بل استخدمت الملصقات الهوية الفلسطينية كونها نقطة جامعة، وأن سياق الجريمة اليوم لا ينفصل عن التاريخ الطويل للجريمة للصهيونية، لتظهر الهوية الفلسطينية كنتاج تراكم، صاغ ويصيغ واقع القضية الفلسطينية اليوم، أنها تحرض من يراها للتذكر، إدراك السياق، أنها توفر معلومات أعمق بخطاب بصري، جعل من الرموز والشعارات كوسيلة أعمق لفهم السياق الفلسطيني. 

فداحة العدوان الذي راكم الأسئلة السياسية والاجتماعية والفنية، جعل البناء الفني لمسألة الفلسطيني وقضيته، يشرح نفسه بأدق تفصيلاته، لتشكل صورة الملثم نهجاً ثورياً في الملصق، نرى من خلاله القضية في أعمق معانيها، كونها قائمة على المواجهة كفعل مستمر ودائم، مقاومة الاحتلال، رفض سياساته وداعميه. على الرغم من محاولات حجب هذه الصورة مراراً منذ العدوان على غزة، كانت بدايتها بسحب لوحتين للفنان اللبناني أيمن بعلبكي من قبل إدارة كريستيز كان مقرر بيعهما في لندن، إلا أن الوجه الملثم بكوفيته، بينما خلفه وجه رجل أو إمرأة لا نرى إلا عينيه/ا، وجدت طريقها في الملصقات، على الرغم من محاولات محوها المستمر من الذاكرة الجماعية، لتكون مثالاً أكثر تقديساً للحظة، لتعني أكثر من أي وقت مضى، أن الفلسطيني يكمن في هذه اللحظة التي يواجه فيها العالم بعينيه. 
 


كما نرى في الملصقات الداعمة لفلسطين اليوم، الرؤية المفتتة للعائلات الفلسطينية، تعكس لحظة معاناة، وتظهر الريبة التي يتركها النقصان، حيث أغلب العائلات في الملصقات تظهر في لحظة فقد، لا تجرد السياق السياسي من معناه ولا تحاول تفكيكه، بل تعكسه بأقسى الاحتمالات، كونه مشهداً للفسطيني وهو يتجرد من إنسانيته، ليكون الوطن بأعمق تجلياته اليوم يعني العائلة المعافاة الآمنة، ولربما هذا ما عكسه العدوان الأخير على غزة، حيث ظهر الفلسطيني وهو وحده، في مرحلة تحاول غرف الأخبار إظهار العدوان كونه معركة متكافئة بين طرفين عسكريين، بينما التفصيل الأقسى لهذه المشهد، يلخص بمقاومة الاحتلال في الملصقات التي تظهر الفلسطيني وهو يواجه بينما يعاني من إبادة جماعية، مازال يختلف العالم حول مضمون تسميتها بينما الجوهر يكمن في إيقافها. 

ضمن مرحلة تقود احتمالاتها الإبادة، يشكل الملصق الفلسطيني إطاراً فنياً سياسياً، سوف يدفعنا في المستقبل لطرح العديد من الأسئلة، بينما الارشفة والنشر تشكل أولى الخطوات لنظرة أعمق للواقع، ولإعادة تأملها من جديد في المستقبل، بينما النظرة الأولى للإنتاج والمضمون تدفعنا لإعادة النظر بالأدوات والرموز، تطور الشعارات، ومدى تأثيرها، بينما يبدو من المركب حالياً الحديث عن المخيلة، ونحن نشهد واقعاً يفوق قدرتنا على التصور، أننا نشهد على وحشية، يحاول الفن توثيقها، إيضاح أدواتها، والأهم تفكيك خطاب معادي، يحاول تفكيك صوري الفلسطيني، وتبني نمطية لا إنسانية، تعتمد مبدأ إلغاء المشهد، ومحور الصورة.