المقالة رحلة في مختارات من عوالم الكاتب خالد خليفة الروائية، فنعيش أطوار المدن المخادعة، نشوات جسد الكراهية، صراعات موسيقى الفنون وموسيقى الإيديولوجيات، وعوالم الجثث المتفسخة. مع مختارات من شذرات كتبها الأديب الراحل في موضوعات الكتابة، وفن الرواية.
"ما أنا إلا حارس الخديعة وملك أثوابها المثقوبة، أدخل متاهة صمتي الغارق في سكون الأشياء، حولي القبور المبعثرة، الأبواب المفتوحة على غرف دون أنفاس من دون ستائر، النوافذ المخلوعة، الدروب المقفرة والذكريات البعيدة".
"حارس الخديعة"
المقالة رحلة في مختارات من عوالم الكاتب خالد خليفة الروائية، فنعيش أطوار المدن المخادعة، نشوات جسد الكراهية، صراعات موسيقى الفنون وموسيقى الإيديولوجيات، وعوالم الجثث المتفسخة. مع مختارات من شذرات كتبها الأديب الراحل في موضوعات الكتابة، وفن الرواية.
أطوار المدن المخادعة
"سأجرب السير في طرق السرد التي توصلني دوماً إلى طرق مجهولة أخرى، لقد اعتدت عيش هذه الحياة/المتاهة بعد ربع قرن من جلوسي اليومي إلى الطاولة لمدة ست ساعات يومياً، واللعب مع طرائق السرد اللامتناهية والمنفتحة على مغاور ظلام النفس الإنسانية. كل نص جديد يعلمني أنني مازلت في أول الطريق، هناك وعد دائم بملذات كثيرة يجب اكتشافها، ما دمت قادراً على السير بتؤدة، والنظر إلى العالم ببرود وهدوء."
"طرائق السرد اللامتناهية"
في كلا الشهادتين اللتان كتبهما خالد خليفة عن أعماله الأدبية "طرائق السرد اللامتناهية"، 2019، و"نسر على الطاولة المجاورة"، 2022 اعتبر أن روايته الأولى "حارس الخديعة"، 1993، أقرب إلى العمل الشعري منه إلى الروائي، ويصف بالنص الشعري الطويل والمركب بأكثر من عمله نصاً روائياً. لكن هذه الرواية تحمل فرادة بين أعمال خالد خليفة في لغتها السردية. تتداخل فيها الفانتازيا الشعرية للأنا الساردة بالأحداث التاريخية، وبالتحولات التي تعيشها المدن المذكورة في الرواية. فالخديعة في الرواية هي تلك العلاقة مع المدن. ومن هنا تظهر بوادر تجربة المؤلف المستقبلية بتخصيص رواية لكل مدينة سورية. المدينة في الرواية الأولى هي الخديعة، لكنها المحور الأساسي في تكوين العالم: " أفتح الباب ورائي، أخلع من قدمي أخطاء الحذائين، وأدخل خديعة المدينة. المدينة التي جثمت على بواباتها سبعة قرون وفي يدي صورة الملكة، غطاني الغبار، داستني حوافر آخر رسل الخلفاء العباسيين، ومن ثم العثمانيين، سرقوا ردائي، عصوبا عيني، وقالوا انتظر سبعة قرون أخرى. مرت جحافل الترك ثم الفرنسيين ثم لست أدري، تأكدوا جميعاً من إغماض عيني ومن عريي وفمي الطافح بالنمل وأذيال أثوابي المهترئة".
تحضر في الرواية ثلاثة مدن مركزية، الأولى هي دمشق وتظهر باستعارات شعرية تذكر بحضورها المتماثل في قصائد محمد الماغوط، فهي المدينة التي تدق أبوابها الصلدة عبر الزمن غير آبهة بمحاولات الذوات للاندماج. هي مدينة غواية كما في أشعار نزار القباني، لكنها في قحط الخراب: "دمشق تنام لتنهض في اكتناز امرأة وعناق الصفر، أقرأ الأسئلة المخاتلة وأتهجى مع أبي زنى النساء، خوف الرجال، هدوء السماء، قحط الحديقة، هزيمة الحجر الأصفر. دمشق امرأة تمارس الغواية مع الجسور والفضاءات المغلقة، أمضي مع الذاهبين، أصل إلى باب البيت وحيداً، قبل أن أدخل أخلع حذائي وأنسى وصايا الأموات". وتبدو وكأن دمشق هي مدينة الخديعة الأولى والمركزية في الرواية: "سبعة قرون عمر الخديعة، أتيت مصحوباً بجوقة هزائم وخواء سبعة قرون، العتبة الحجرية تراءت لي حلماً ما زال يلازمني وأنا أمام بواب دمشق أشتهي الاغتسال في بردى والتمدد تحت جسر فكتوريا". تحضر في الرواية أيضاً فقرات شعرية عن مدينة عفرين، مدينة الأصل والطفولة: " الجهات واحدة في عفرين، عفرين اللمسة الأولى، بكارة الاخضرار، ما ضيعت من طفوليت وما لملمت من دروب لأصل إلى قبر أبي". أما حلب فهي مدينة العدم والخرائب: "حلب نائمة، حلب فسحة الخرائب المنعدة لنزيفي، لتوحدي، لقتلي وصهيل أحصنة مترمالة متروكة لجر العربات وأخطاء الحذائين".
نشوات جسد الكراهية
"لماذا لا أكتب كل ما أراه جديرًا بالكتابة فورًا، لماذا أتركه يتسرّب إلى الذاكرة كي أكتبه بعد عام أو عشرة أعوام. امتحان الكتابة أم امتحان الحواس؟ كل حياتي السابقة وقْع أقدام ثقيلة على بلاط بارد. كل حياتي السابقة للكتابة ضجيج، لا أجد مبررًا له الآن سوى بأنه كان يجب أن يعاش، يجب أن تسير هذه الأقدام بوقعها المزعج كي تصل إلى الصمت."
"نسر جالس على الطاولة المجاورة"
يحضر الجسد في الرواية الأولى وأحياناً بسردية أسطورية: "لست الملكة، الملكة فرجها أخضر، وأنت امرأة من الحاشية تشبهين أمي وخالتي وأختي وزوجتي التي غرقت في النهر". لكنه في رواية "مديح الكراهية|، 2006، سيشكل الموضوعة المحورية في السرد وفي الحكايات التي تشكل الرواية. فالشخصية الرئيسية تعيش علاقة كراهية مع جسدها، بسبب تأثرها بالقيود على العالم النسوي والتشدد الديني، فتفكر في كيفية قتل الجسد، اغتيال الرغبة، خوفاً من انفجاره بالشهوات، ورغبة في الوصول إلى الجسد-الجنة: "أدخل إلى غرفة مريم، أقف أمام المرآة أستعرض وجهي وتفاصيل جسدي النجس، كرهت نهدي المشرئبين كقرني غزال، تساءلت كيف يموت هذا الجسد؟ لا أعرف ما هو هذا الشيء الذي يجب أن يموت، إحساسي بالمكان وبالفضاء المترامي لغرفتي أم بجسدي الذي أخاف من انفجاره كلوح زجاج مهشم، أم رغبة مساماتي، نعم الرغبة يجب أن تموت.، الرغبة هذه الكلمة المحملة بآلاف المعاني يجب أن تموت". لكن العلاقة المميزة التي ترسمها الرواية هي بين السلطة والجسد، فتشعر الأجساد في الرواية بنشوة التحريم، ولذة التعذيب: " أنبش فتاوى ابن باز، أحس بنشوة التحريم، أنظر بشفقة إلى فتيات من حولي ليقيني أنهن سيدخلن النار، أتخيل كيف ستشوى فاطمة قبل أن تخر ساجدة وباكية". بينما تنتقم شخصية أخرى من تاريخ الطاعة بالتهتك: "في الأيام التالية بدأ عمر ينتقم من تاريخ الطاعة والحشمة والسمعة العطرة، بعد صمته وعزلته التي لم تكمل شهرها الأول، عاد إلى تهتكه الذي ازداد صخباً، باحثاً عن فضائح يقدم عليها بدم بارد وثقة متناهية".
وإن كانت الشخصية الرئيسية تعيش علاقة كراهية مع جسدها، فإنها تجعل من الكراهية معبراً ممتداً على كل فهمها للعالم، تعيش الكراهية التفوق، الكراهية المعنى، الكراهية الحيقية، ولكن أيضاً خواء الكراهية كتجربة وجودية: "في نهاية ذلك الصيف تملكتني الكراهية، تحمست لها، أحسست بأنها تنقذني، تمنحني شعوراً بالتفوق أبحث عنه. نحتاج إلى الكراهية كي نجعل لحياتنا معنى، فكرت وأنا احتفل وحيدة بعيد ميلادي السابع عشر. أحتاج إلى الكراهية كي أصل إلى الحب، تاركة وراءي كل الرماد وغبش الأشياء والوجوه. الكراهية التي دافعت عنها كحقيقة وحيدة تكسرت تماماً، أعادتني إلى الأسئلة الأولى حول حقيقة الانتماء ووجودي، ككائن مادي يسبح في فراغ من هلام، حياتي مجموعة استعارات من آخرين".
صراعات موسيقى الفنون وموسيقى الأيديولوجيات
"حين يشرح الكتّاب مهنتهم يبدون كلاعبي أكروبات في سيرك، يستجدون تعاطفًا من جمهور لا يفقه شيئًا عن السيرك وقوانين التوازن، كما لا يفهم روعة القفز والسير على الحبال. كل ما يطلبه الجمهور من لاعب الأكروبات ممارسة بهلوانيته بتشكيلات جديدة، تمتّع ناظريه، ومتابعة السير على الحبل الرفيع دون أن يقع، كي تشهق القلوب معه. بينما الكتّاب يسعون بأقدامهم كي يقعوا في حفر عميقة، مظلمة، لا يُخرجهم منها أحد سوى وهج الكتابة."
"نسر جالس على الطاولة"
يحضر في رواية "مديح الكراهية" أثر الموسيقى على الجسد: "حين يبدأ المساء في ليالي الصيف وفي مجلس الحجة رضية، يتردد صوتها العذب على وقع الدفوف منشدة سيرة رابعة العدوية، يأخذنا ذلك الوجد العميق أنا وبقية النساء، تنهمر الدموع على خدودنا، نتمايل كأغصان حور رقيقة، ذاهبات في سفر بعيد تنفتح طرقاته على أنهار العسل واللبن ولذة اليقين". لكن روايته التالية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، 2013، هي التي ستحضر فيها الموسيقى كموضوعة تعبير أدبية أساسية. فبالإضافة إلى أن شخصيتان في الرواية من المجال الموسيقي، فإن الموسيقى أيضاً تشكل خياراً تعبيرياً رمزياً على طول الرواية. فالموسيقى في الرواية تترواح بين أغاني التمجيد الحزبية والمدائح الرئاسية التي تنشد يومياً، وبين الموسيقى الكلاسيكية ببمزياتها الفنية، وبين الأغاني الشعبية الرائجة في الثقافة: "استطاع خالي نزار جمع ستة موسيقين، ألف فرقة تعزف في النوادي الثقافية موسيقى كلاسيكية لمستمعين يعرفهم نزار واحداً واحداً، في الليل تعزف الفرقة نفسها في كباريه الكاسبا ألحان أغنيات صاخبة لمطربين شعبيين". وكما في أحكام الأنظمة الشمولية فإن التمرد على موسيقى الحزب الحاكم أو السلطة هو تمرد على الخيارات السياسية. فتحكي الرواية حادثة المرة الأولى التي رفض فيها (نزار) ترديد نشيد الحزب في الاجتماع الصباحي. ويبني نزار ذائقته الموسيقية في الإنصات والإطلاع: "لم يتمسك نزار بأي شيء سوى بالراديو الذي كان رفيق طفولته، يتجول بين محطاته باحثاً بشغف عن مقطوعات فيفالدي، موزارت، شوبرت. كانت الموسيقى تجري في دمه". بينما في الفضاء الخارجي في المدينة فإن الأغاني التمجيدية وحدها السائدة: " في الثمانينيات اشتهر نديم الأغواني بأغانيه التي تبهثا محطات الإذاعة والتلفزيون السوري بشكل دائم، تمجد الرئيس الاسوري الذي أمر بفتح أبواب التلفزيون والإذاعة لهذا المرتزق. وتعبر الموسيقى في الرواية عن المراحل الفكرية التي تمر بها الشخصيات الفنية، فيؤلف "رشيد" مقطوعة بعنوان "ظلال الندم" في مرحلة التقوقع والعزلة، ويؤلف أيضاً في مرحلة التفكير الديني والإلحاد مقطوعة بعنوان "الله المفقود".
لا تختلف مصائر الشخصيتان الموسيقيتان في الرواية عن باقي مصائر الشخصيات. فيقرأ الناقد أحمد زين الدين مصائر الشخصيات في الرواية باعتبارها عمليات نكوص إلى عالم داخلي باطني في ظل عالم خارجي يمارس القمع وتفتييت الحرية. فيكتب تحت عنوان "العيش في حياة موازية"، 2017: "عمقت خشبة الحياة العامة التي تتحكم فيها الضغائن المتبادلة والتوجس وعدم الثقة، لذة الفرار إلى الحياة الموازية، إلى الداخل، إلى النفس المنطوية على ذاتها التي تبني قصوراً في الرمال، أو تنفصل عن الواقع ومآسيه وكآبته، أو تلتفت إلى رغبات الجسد ونداءاته، وإلى تأجيج الغرائز وتفجرها. فكان أن غرق الخال نزار عازف الكمان بمعاشرة الرجال، بعد أن ظهرت بوادره المثلية من خلال ولعه بالثياب النسائية التي كان يختلسها من خزانة أخته. وقد أقر في رسائله بأنه يجب أنوثته. أما رشيد العازف الماهر، فظل يحتفظ في غرفته بزجاجة تضم رفات أخته سعاد الميتة منذ زمن، كأيقونة تذكره بنهايته. وبعد أن ازداد نفوذ الإسلاميين في شوارع حلب وأسواقها، انتسب إلى صفوفهم، وحارب معهم الأمريكيين في العراق، لكنه بعد عودته سالماً إلى مدينته حلب وضع حداً لحياته شنقاً، عندما اكتشف أنه أخطأ السبيل، وانقاد إلى غريزة القطيع، الذي كان يصفه سابقاً بأنه أعظم اختراع لتمرير الأفكار والفلسفات والأديان والفنون الساذجة".
عوالم الجثة المتفسخة
"كل يوم يموت كاتب في العالم كان من الممكن أن يكون ملهمًا، ولكن لا يولد كل يوم مثل هذا الكاتب الملهم في العالم. دومًا في جثث الأطفال الذين يموتون جوعًا أو غرقًا كما حدث لمئات الأطفال السوريين في السنوات الأخيرة، تستطيع إيجاد مستقبل العالم الذي يتم دفنه ببرود ودون أي شفقة."
"نسر جالس على الطاولة المجاورة"
في لقاء صحفي في العام 2013، قال الروائي خالد خليفة بأن الوطن جثة متفسخة، لينشر بعدها بثلاث سنوات روايته "الموت عمل شا"، 2016. وهي رحلة عائلة من 3 أخوة في مهمة دفن جثة الأب بين دمشق إلى مقبرة العنابية في مسقط رأسه في الشمال السوري. للوصول إلى العنابية، يجتازون معاً ميادين القتال وخطوط التماس ومدناً مدمرة، ويعبرون الحواجز التي تسيطر عليها الميليشيات والجيوش المختلفة. تستمر الرحلة عدة أيام وليال، يبدأ خلالها جسد عبد اللطيف السالم بالتفسخ شيئاً فشيئاً. لقد كان في البداية نضراً وموته طازجاً، وكان ما يزال محتفظاً بلون الحياة عندما أخرجوه من ثلاجة المستشفى المكتظة بالجثث. لكن لونه من ثم بدأ يميل إلى الأزرق والأخضر القريب من العفن، ليتفسخ الجسد بعدها فيصبح جيفة. تبعث هذه الأخيرة رائحة عفونة رهيبة تثير شهية الكلاب، وتنتفخ حتى توشك على الإنفجار، ثم تخترقها ثقوب عدة تنز قيحاً أصفر، لينتهي الأمر بخروج الديدان منها غازية المكان. يكتب الباحث عن الرواية تحت عنوان "العدمية الشمية": "يمكننا قراءة الرواية عبر لعبة المرايا بين الجثة والوطن، فمن خلال متابعة المراحل المتتالية لتحلل الجثة، تصوغ الرواية مشهد تحلل سوريا، بلد يكتشف عبر مضاعفات السرد على هيئة جثة بغيضة.
أما الباحث "حسان عباس"، فلا يتوقف عند الجسد الجثة في الرواية، وإنما يقرأ مصائر الشخصيات في الرواية في تعالقها مع الجسد، منطلقاً من مقولة بيير بورديو الذي يعتبر أن الجسد موجود في العالم الاجتماعي، لكن أيضاً العالم الاجتماعي موجود في الجسد. فيكتب د. عباس في كتابه "الجسد في رواية الحرب السورية": "في رواية الموت عمل شاق، لا يحقق بلبل رغبته في الزواج من فتاة أحلامه لميا، فاطمة لم يكتب لها الحفاظ على حياتها الزوجية فطلقها زوجها بعد أقل من سنة على الزواج وعادت إلى بيتها أبيها لتعيش بقية حياتها مخدوشة الكبرياء، حسين لم يكمل حياته الاجتماعية الرغيدة وانتهى إلى أن يصبح قواداً وسجينا بتهمة جحيازة المخدرات، وطرد من بيت العائلة. حتى في الرحلة لدفن جثة أبيهم يشعر الأخوة الثلاثة بأن قدرهم هو أن يوجدوا في هذه المهمة الشاثة التي يكرهون المشاركة فيها ولا يستطيعون رفضها. حتى الأب الميت الذي يبدو منتصراً في موته ينتهي مهزوماً بفعل الأقدار لأن الجثة، رغم وصولها إلى مقصدها، لا تنعم بتحقيق حلم الأب بأن يدفن إلى جانب زوجته".