عبدالله البياري - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/15rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Wed, 06 Nov 2024 17:40:56 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png عبدالله البياري - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/15rommanmag-com 32 32 أن نكتب لفلسطين https://rommanmag.com/archives/33564 Tue, 05 Nov 2024 11:12:46 +0000 https://rommanmag.com/?p=33564 في هذه اللحظة من تاريخ فلسطين والعالم، حيث كل صوت وحرف كُتب وقيل عن فلسطين مهدد وموسوم بالإرهاب ومعاداة السامية، تختار “رمان” لنفسها مقولة انطلاقتها الجديدة: “نكتب لفلسطين”. وهذه المداخلة هي محاولة لتأمل تراكبية هذه المقولة وراهنيتها، لا من حيث الإبادة والاحتلال بما هما منظومات مفاهيمية تمتد على/إلى الجسد والمكان والفكرة، إنما بكونهما باتا شكلًا […]

The post أن نكتب لفلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في هذه اللحظة من تاريخ فلسطين والعالم، حيث كل صوت وحرف كُتب وقيل عن فلسطين مهدد وموسوم بالإرهاب ومعاداة السامية، تختار “رمان” لنفسها مقولة انطلاقتها الجديدة: “نكتب لفلسطين”. وهذه المداخلة هي محاولة لتأمل تراكبية هذه المقولة وراهنيتها، لا من حيث الإبادة والاحتلال بما هما منظومات مفاهيمية تمتد على/إلى الجسد والمكان والفكرة، إنما بكونهما باتا شكلًا من أشكال الخطاب والاستعارات التي أثقلت لغاتنا وخيالاتنا، وأوغلت في امتحانها، واستثمرت أكثر وأكثر في مساحات الصمت وإمكانات المحو.

في حرب الإبادة هذه، لم تعد “الكتابة” (فعلًا ومفهومًا) مدركةً ضمنًا كفعل إنساني متجاوز للمادي (الجسدي) بالمادي (الحرف ومرسوماته البصرية)، وهي التي صاحبت الوجود البشري وتاريخه وأثرت فيه وتأثرت به، وشكّلت العالم حوله(1). ولا “فلسطين” كمعنى محصورة في حدود الجغرافيا والمقولة الاستعمارية والنضالية والسياسية، والشعرية والثقافية، فقط. ولم تعد اللغة بكل تكثّف الإبادات الحادثة فيها، قادرة على مواكبة ما يحدث للفلسطينيين والفلسطينيات.

نعتقد أن الأزمة التي أصابت لغاتنا الحديثة وقدرتها على التعبير عن اليومي المعيش في هذا الجزء من العالم، وفي لحظة الإبادة الكثيفة التي نشهدها (ونحن جزء منها)، لم تتوقف عند حدود اللغة بما هي أداة تواصل وتعبير، إنما امتدت إلى مساحات التنظيم والاتفاق والتفاوض على المعاني والرموز بما هي وجه من أوجه مأسسة اللغة بين الجسدي والرمزي، وصولًا إلى مشترك ما جسدي ومادي ورمزي. وعليه، فإننا هنا نشير إلى اللغة بما هي اللّبِنة الأساسية لكل أشكال التنظيم الاجتماعي، وصولًا إلى الدولة الحديثة بما هي مؤسسة لغوية، في أساسها. وعليه، ثانيةً، فإن الأزمة في اللغة لا بد لها أن تنعكس على التنظيم والتفاوض والأفكار المتعلقة بمفهوم الاجتماع والدولة، وانتقالاته بين الشعوب في بوتقة الحداثة، بما هي معانٍ تداولية(2).

وهنا، أصبح الفلسطينيون في مواجهة لا مفر منها مع محوٍ لا يختلف عن المحو الإبادي الحادث في غزة الآن، إذ لم تقم اللغة بالانفتاح والتحديق في مساحات الهدم والمحو والغياب، ومحاولة تفكيكها وإعادة موضعة المحو والهدم والغياب وتركيبها، بما هم أدوات إنتاج وكتابة للذات والعالم فلسطينيًا. لذا نرى أن (الـ)جبهة الأهم لمواجهة إسرائيل كمنظومة استعمارية استيطانية إحلالية، هي الجبهة الإبستيمية (الجامعات والأبحاث وإنتاج المعرفة) والفنية والثقافية (إنتاج الاستعارات والرموز).

إن سؤال “الصحافة الثقافية الفلسطينية”، التي تُكتب بنون الجماعة في هذه اللحظة من الإبادة، هو سؤال مركب، وله راهنية التي لا تنطلق من كثافة الإبادة والحاجة إلى ترك علامة وأثر لحيوات وأجساد ومدن -كانت وبقيت- فحسب، إنما من التساؤل الأساسي بشأن ما هي فلسطين المكتوبة، وما هي الكتابة فلسطينيًا في لحظة فارقة من تاريخ عالمنا. ولعل هذا التحوير في السؤال يدفع به إلى مساحات أكبر من مفهوم الصحافة الثقافية وبنيتها، في لحظة تحدد نفسها بـ: “نكتب لفلسطين”!

ولو انطلقنا من عموم التساؤل: “ما هي الصحافة الثقافية؟”، يمكن القول إن الصحافة الثقافية هي شكل من الإنتاج والعمل الصحافي، يركز على تغطية الأخبار والمواضيع التي تتعلق بالفنون والثقافة والأدب والموسيقى والسينما والعروض المسرحية والكتب، وغيرها. وهي جنس من الكتابة الصحافية، لا تنحصر من حيث التقانة بالصحافة والصحافيين، بل إن أغلب من يحملون أحبار هذه الكتابة، لا يصنّفون أنفسهم صحافيين بالمعنى الدارج للصحافة، الذي بدأ يترسّخ في مخيالاتنا منذ أواسط القرن التاسع عشر.

حين سُئل محرر “رمّان” عن قدرة السينما في وقت الحرب، أجاب: “لا شيء، لا السينما ولا الفنون في عمومها؛ فمن منا يقدر على حمل كتاب ليقرأه أو انتقاء فيلم ليشاهده؟ كلنا مسمّرون أمام شاشات الأخبار”(3). وأكمل: “إن عمل الفنون تراكمي، وليس فوريًا. لها أهمية كبرى، لكن في مرحلة ’الما بعد‘ وليس في زمن الإبادة”(4).

فما الحاجة إذن إلى صحافة ثقافية تدخلنا إلى الـ”مابعد”، ما لم تواجه الآن والهنا؟ لعل هذا هو جوهر راهنية الفاعلية في الصحافة الثقافية، وبالذات في زمن الإبادة: أن تكون حَديةً وحدودية، هي المراكمة للـ “ما بعد”، أي أنها قائمة على قطيعة (ما) بين الآن-هنا بما هي علاقات قوى في منظومة استعمارية ورأسمالية، ساهمت في بناء الحالة الراهنة، والـ “ما بعد (ية)” بما هي خروج عن تلك العلاقة الخاضعة. بكلمات أخرى: الصحافة الثقافية التي لا تشتبك، لا يعوّل عليها، وتلك التي لا تكتب عن فلسطين بما هي قضية عادلة قادرة في هذه اللحظة على إنتاج عالم ما بعد عالمنا الذي نعرفه، فلا معنى لها.

ولفهم دور الصحافة الثقافية الفلسطينية في هذه اللحظة، لا بد لنا أن نؤسس مقاربة ما نظرية لتحوّلات الذات الفلسطينية التي نكتب لها، ومظاهر تآكل ملامحها العامة الجامعة، وما شكل العلاقات التي تنتجها تلك الوضعية بالدرجة الأولى. ولعلنا هنا نستضيء ببعض ما يطرحه عالم الاجتماع الأمريكي مارك غرانوفيتر، في بحثه المعنون: “قوة العلاقات الضعيفة”(5).

إن وضعية الجماعة الفلسطينية على هوامش المجتمع الاحتلالي في فلسطين المحتلة، وأطراف المجتمعات المضيفة في المنافي، إنما يقدم لنا شكل علاقات اجتماعية تتقوى بموقعها الضعيف. وهو ما يشير إليه غرانوفيتر في بحثه المشار إليه، من حيث أن الروابط الضعيفة ليست مهددة بالتفكيك، بقدر ما هو الحال في المجتمعات القوية والتقليدية، حيث الروابط الاجتماعية قوية، وهو ما يمنحها فرادة تتخطى السياسي بشكله النمطي، إلى الثقافي بشكله المفتوح. يمكننا رؤية ذلك في السينما والأدب والنقد الذي أنتجه المثقفون والفنانون الفلسطينيون والفلسطينيات حول العالم. تعمل هذه الروابط الضعيفة على ربط الفلسطينيين حول العالم، من غير الحاجة إلى عصبية حديثة مثّلتها الدولة. وبالتالي، فهي تقوم -على ضعفها- بدور جسور للمعارف والمعلومات والخطابات وأشكال الأداء، التي تتكثف جميعها في الإنتاج الثقافي لتلك الجماعات أينما كانت.

إلّا أن ثمة مشكلة في هذا الشكل من الاجتماع وموقعيته، بالمقارنة بين الجغرافي والتاريخي. طرح بندكت آندرسن مقاربته بشأن دور الصحافة والجرائد والطباعة في ترسيم حدود الجماعة المتخيلة، عبر تشاركية لحظة قراءة الجريدة أو الورق المطبوع، بصريًا، والخبر المشترك في تداوله من حيث هو تمثلات للعالم تتبدى أمام أفراد جماعة ما في لحظة ما مشتركة. إلّا أن تكنولوجيا التواصل الحديث في هذه اللحظة، وسرعة تناقلاها وتشكيلها لحدود الآن والهنا، وإنْ كانت قد قربت بين المجتمعات الفلسطينية في الشتات، وفتحت حدودهم على غيرهم، إلّا أنها قد أنتجت شكلًا من أشكال الاغتراب ما بعد الحداثي، بما هو سمة للحداثة المتأخرة، ساهمت، كما يرى هارتموند روزا، في “تدمير الإيقاع الاجتماعي”(3). وهو ما يعني تغيّرات في الخطاب والأداء وتشكيلات المعرفة والسلطة والمحاكاة وتمثيلات الواقع، ما أدى إلى خضوع الاجتماعي للافتراضي، وهو ما يطمس المشترك ويحصره في ظاهر الافتراضي، ويعزله عن التفاعل الاجتماعي.

ومن هنا تأتي أهمية الاشتباك النقدي مع الثقافة، والكتابة لفلسطين.

أن تكتب لفلسطين هو أن تنظر إلى العالم من فلسطين، وأن ترى فيه شيئًا ما فلسطينيًا.

قد نبالغ في تحميل “رمّان” ما لا تحتمل في مسألة الكتابة لفلسطين، إذ نقول إنها العلاج لواقع اجتماعي متذرر ومدمّر، إلا أنها شكل من أشكال مواجهته والتحديق في فلسطينيته بالكتابة، كما يجب أن تكون الكتابة عن فلسطين. فما تحاول المجلة أن تكونه باختيارها الواضح في هذه اللحظة بالكتابة عن فلسطين، أن تكون هي تحديقنا الفلسطيني في العالم، وتحديق العالم في فلسطينيتنا. ما تحاول “رمّان” قوله: إن الفلسطينيين ليسوا وسائط لتحقق مقولات إعادة التاريخ، وإنهم بجماعيتهم واجتماعياتهم الزمكانية بجغرافيتها وتواريخها  قادرون على تغيير تاريخ العالم، وكسر مركزية السياسي الحداثية الدولانية فيه. فليس من المصادفة في شيء أن يكون الفيلم أو القصة أو الرواية أو الفن التشكيلي أو البحث الأكاديمي، أهم من المنشور السياسي، لأنّ التناقضات تُحرِّك الناس، وتُنتِج سردية مغايرة، ومركبة بشكل يفتح إمكانات النقد والمعارف على تفكيك بنى الهيمنة والسلطة فيها، وبالذات في لحظة تاريخية لا مفر أمام الفلسطينيين فيها من الارتقاء لمسؤوليتهم التاريخية تجاه الهدم والمحو والإبادة، باعتبارهم أدوات تاريخية استعمارية، بدأت مع نكبة مستمرة لم تنته حتى هذه اللحظة، وراكمت كل شيء على عاتقها سببًا فنتيجة.

وعليه، فأن تكتب لفلسطين يعني أن نكون نحن الفلسطينيين واعين لما يعنيه القول أن الصراع/ النزاع مع الاحتلال يساهم في تشكيلنا، وأن هذا التشكيل هو مجال صراع/ نزاع آخر، قد كُتب علينا. فلسطين الفكرة، كما تراها “رمّان”، هي سعي للتماهي مع الحياة والجمال، وبالتالي لا يمكن إلا أن تكون على الطّرف النّقيض تمامًا من الطّغيان والقمع والعسف بكل أشكاله، ومسبباته واستعاراته.

هوامش

١- والتر أونغ، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن عز الدين. سلسلة عالم المعرفة، العدد 182. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1972.  

٢- يظهر ذلك جليًا في الحالة الفلسطينية في الدعاوى لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، بالذات إذا نظرنا إلى موقعها باعتبارها استعارة سردية نضالية في تاريخ النضال الفلسطيني من ناحية، والذي كان يتحرك نضاليًا/ مواجهاتيًا خارج استعارة الدولة (بشكل معلن على الأقل)، وأقرب إلى استعارة المجتمع التحرري، وسرعان ما تمت معيرته Standardization نموذجًا مصغرًا للغة فصائلية أفضت إلى حركة فتح، ومن بعدها إلى لغة مدولنة أفضت إلى سلطة فلسطينية شبيهة بدولة من حيث الجسد واللغة. فلا بقيت الاستعارات السردية النضالية قادرة على خلق لحظة جمعية ومجتمعية تراحمية مشتركة تقوم على استعارات النضال والتحرر، ولا تحولت إلى دولة قادرة على التعايش مع المعيش اليومي للفلسطينيين ولغتهم في مواجهة الاستعمار الاستيطاني وسياساته وإجراءاته، بل أصبحت تفقدها بكل تقارب أو تماهي استعاري بين المنظمة ومنظومة الدولة الحديثة أو الفصائلية، من ناحية. ومن أخرى فقدت تلك اللغة الجمعية للمشترك الفلسطيني إن حاولت العودة لخطاب نضالي. وهو ما يضمن هدمًا آنيًا مشتركًا لقدرة المنظمة اللغوية والخطابية والإجرائية النظرية السياسية.   

٣- لقاء موقع “فارقة معاي”، مع سليم البيك، محرر “رمّان”، بتاريخ 1/2/2024:
https://faraamaai.org/articles/belkhat-alareed/alshaf-althkafy-ozmn-alabad-fy-tgrb-rman-althkafy 

٤- المصدر نفسه.

٥- Mark Granovetter, “The Strength of Weak Ties,” American Journal of Sociology, vol. 78, no. 6 (1973), p. 1366. 

٦- Hartmund Rosa, Social Acceleration: A New Theory of Modernity, Johnathan Trejo-Mathys (trans.) (New York: Columbia University Press, 2015).

The post أن نكتب لفلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: في الموت والتشفي https://rommanmag.com/archives/21661 Thu, 03 Oct 2024 05:20:41 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b4%d9%81%d9%8a/ يأتي الموت بفجاعته مباغتًا، مهما تحضّرنا له في اللاوعي واختبرنا حيواتنا كل يوم بما هي فقط اقتراب للموت، ولا شيء غير ذلك. يأتي خبر استشهاد نصر الله فاجعًا لنا جميعًا، وهو – نصر الله – الذي لطالما قدّم لنا نفسه شهيدًا ينتظر دوره، واردًا لما سبقه إليه ابنه، هادي، والمئات من شباب المجاهدين في الحزب […]

The post تأملات على هامش الحرب: في الموت والتشفي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يأتي الموت بفجاعته مباغتًا، مهما تحضّرنا له في اللاوعي واختبرنا حيواتنا كل يوم بما هي فقط اقتراب للموت، ولا شيء غير ذلك. يأتي خبر استشهاد نصر الله فاجعًا لنا جميعًا، وهو – نصر الله – الذي لطالما قدّم لنا نفسه شهيدًا ينتظر دوره، واردًا لما سبقه إليه ابنه، هادي، والمئات من شباب المجاهدين في الحزب معه.

لم تكن حياة الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بسيطة أو مفهومة ضمنًا، لنتمكن من فهم موته -الآن- بيد إسرائيل، الدولة المذعورة والمهووسة بالحرب والقتل والحصار، وكأنه حدث حربي/ مواجهاتي فحسب. وليس ذلك لأن الموت والحياة بؤرٌ لمعنى الوجود الإنساني ككل فحسب، إنما لأن مسار وجود نصر الله ومسيرته بين هاتين البؤرتين كان انعكاسًا لتحوّلات هذه المنطقة من العالم وسكانها ومنظوماتهم القيمية، في هذا الزمان/ التاريخ والمكان/ الجغرافيا، الفارقين.

كيف نحدّق بالموت الفادح حولنا، وكل موت في هذه الحرب؟ سؤال لا يقلّ وطأة عن سؤال التحديقة بفداحة الإصرار على الحياة، وكل حياة في هذه الحرب! ولعلّ التحديقتين هما بالشيء نفسه، وخاصة إذا ما انطلقت التحديقة من غزة، التي أعادت تعريف جغرافيّاتنا وأشكال وجودنا جميعًا. ولو كان لنا أن نستفيض أكثر، لقلنا أن ما يمرّ به العالم الآن، وانطلاقًا من هذه الجغرافيّة، لهو مرحلة فاصلة في تكوين معارفنا وخبراتنا وتواريخنا وذواتنا، وأوّلها أشكال الوجود بين الحياة والموت.

ولنبدأ تمريننا في التحديقة بالموت، موت نصر الله، باعتباره موتًا لشيءٍ ما فينا جميعًا، ولتكن المقاربة جغرافيّة في بدايتها. 

يأتي اغتيال نصر الله في لحظة فارقة من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة -منذ النكبة وما قبلها- تجاه كل ما هو فلسطيني، وتحديدًا في غزة؛ فهو قائد جبهة الإسناد الشمالية للمقاومة الغزية، تلك الجبهة التي نجحت في إخلاء مستوطنات الشمال الفلسطيني المحتل من المستوطنين مدة 11 شهرًا حتى الآن، وهو ما لم تفعله جيوش العرب مجتمعة. وهو الأمر الذي عُدّ ضغطًا استراتيجيًا وحربيًا وسياسيًا قويًا على حكومة الاحتلال الإسرائيلي وجيشها، والأهم بنيتها التحتية وشبكة العلاقات الاجتماعية في المنظومة الاستعمارية. 

وإذا ما وسّعنا العدسة الجغرافيّة قليلًا، لوجدنا أن موقع حزب الله الجغرافي في المواجهة على الحدود الشمالية يعمل بشكل تركيبي مع جبهة المقاومة العراقية، إلى الشرق، ما يعني مدًّا لخطوط المواجهة من الشمال إلى الشمال الشرقي، وإلى جهة الشرق، في جبهة تعيد لتعبير “دول الطوق” جزءًا من فاعليته النضالية (بعد ما أخرسته كامب ديفيد وأخواتها). وهو ما عدّته مراكز دراسات استراتيجية امتحانًا أساسيًا للبنية الدفاعية الإسرائيلية. إضافة إلى الأمر الأهم، وهو أنه يكشف شبكة التعاونات التطبيعية اللوجيستية في منطقة طبريا، وتحديدًا المجال الجوي. 

يأتي هذا التعاضد بين الجبهة العراقية واللبنانية في لحظة استعمارية (وليست ما بعد استعمارية، كما قد يخالها البعض!) حداثية فارقة بشأن تكوينات حداثية أساسية ورثتها المنطقة ودولها من الدول الاستعمارية، من غير أن تمرّ بعملية نزع للكولونيالية كما يُفترض، ولا انتقال إلى “ما بعد”ها. لنجد مؤسسات الحداثة الدولانية الأساسية، مثل الجيوش القومية التي خلّفتها الدول الاستعمارية بعد تأسيس بنيتها، تؤدي دورًا استعماريًا متواطئ ضدّ شعوبها، لإدامة وضعها في شرط استعماري جديد (كما هو الحال في مصر)، أو لتمرّر تنازلات عن أجزاء من الإقليم القومي (كما هو الحال مع جزيرتي تيران وصنافير المصريتين)، أو أن تقتل شعبها بوسائل ذات تاريخ استعماري (كما هو الحال مع الجيش السوري)، أو أن تقوم بحروب بالوكالة، كما هو الحال في التدخلات في اليمن وليبيا والسودان. تلك كلها شواهد استعمارٍ لم يتوقّف يومًا.

هذا الموقع المقاوم لحزب الله على الجبهة الشمالية، الذي نجح في إخلاء مستوطنات الشمال في فلسطين المحتلة أشهرًا طويلة، وساهم في مراكمة الضغط على حكومة الاحتلال وقياداته الحربية، إسنادًا لغزة، إنما هو أمر ممتد من/ في النسيج الاجتماعي الأهلي المجتمعي اللبناني، إذ بدأ الحزب من خلال خدمات الطبابة والتعليم وحلقات التعلّم الديني وغيرها، بما لا ينفي عن تلك البنية الخدمية كونها جزءًا من مشروع إيراني يمتد في المنطقة، لنا أن نعارضه أو أن نتفق معه، لكن لا معنى لمواقفنا منه ومن غيره ما لم يكن لدينا، نحن العرب، مشروع خاص بنا، يبدأ بدوره من الاجتماعي والأهلي، أو اليومي المعيش. ولعلّ أولى عتبات تلك البداية هو المواطنة والديمقراطية، وهو ما يقود إلى مقاربتنا الثانية.

الجغرافيا الاجتماعية المتحركة

ارتفعت أصوات التشفّي من البعض تجاه اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إلّا أن ذلك التشفّي هو تمثيل جليّ لبنية العلاقات والمواقع الاجتماعية وأزماتها، حتى مع كونه نابع من ألم الفقد والقتل والخيانة، ولتلك النوابع التقدير والاحترام. وخاصة أن دعم الحزب في مواجهة الاحتلال في هذه الحرب وما سبقها، لا علاقة له باختلاف سياسي وقيمي واضح في مواقف الحزب ونصر الله شخصيًا من الداخل اللبناني والأحداث في سورية، إذ اختار أن يصطفّ إلى جانب الدكتاتور وبراميله وجيشه! إلّا أن اختيار التشفّي والفرح باغتياله لا ينفصل عن مديح القاتل والقبول بإضعاف جبهة إسناد لغزة، ما يعني القبول بمزيد من الإيغال الإسرائيلي والأميركي والغربي في الدم الغزيّ، مقابل عاطفة تؤكّد موقعنا في منظومة القوى.

التشفّي هو سلوك دونيّ (بالمعنى الموقعي وليس الأخلاقي)، يصدر في الأغلب الأعمّ من الطرف الأضعف، أو الطرف المستثنى منزوع الفاعلية والمستَلَب من عمليات القوى والتغيير والتأثير في المجتمع. وهو الأمر المفهوم ضمنًا في حالة شعب يرزح تحت أعنف الأنظمة العربية وأكثرها توحّشًا ودموية؛ نظام بشار الأسد. والتشفّي، على العكس من السخرية التي تملك طاقة استعارية وخطابية قادرة على إنتاج فضاء أو ممارسة هيتروتوبية تخلخل المسافة بين يوتوبيا الأنظمة الدعائية، وديستوبيا الواقع الدوني المهزوم. 

غير أن للتشفّي وجه آخر، لا يظهر إلّا إذا نظرنا بعدسة الثورات وقيمها إليه؛ فالتشفّي في موت الخصم، وبالذات بيد إسرائيل في حرب الإبادة هذه، هو ممارسة مضادة لكل قيمة سعت إليها الثورة السورية من انتصار على ادّعاء الممانعة والمقاومة، واشتباك واندغام مع راهن الشعوب العربية لحظة 2011؛ تلك الشعوب الواعية للترابط بين الأنظمة القمعية والشرط الاستعماري الإسرائيلي. وهي لحظة 2011 التي يقول عنها نتنياهو إنها كانت من الأخطر على دولته (من منّا ينسى تنادي جماهير الشباب الثوريّ  للتوجّه إلى حدود دولة الاحتلال في عام 2012، من دول الطوق كلها: الأردن، وسورية، ولبنان، ومصر؟).

يتضادّ التشفّي مع قِيَم المواطنة وحرية التعبير والحقوق المواطنية الدولانية الديمقراطية التي طالبت بها شعوبنا العربية منذ عام 2011، وقوبلت بكل قباحات الدنيا. فالمتشفّي يقرّ بأن موت غريمه هو اقتصاص رمزي له هو، وعدالة تأتي من السماء، حين فشلت عدالات الأرض التي قد تأتي بها مؤسسات اجتماعية ومواطنية سعى إليها ذات يوم، وبذل في ذلك الغالي والنفيس.

التشفّي في موت نصر الله، لا ينفصل عن تراث طويل ممتد في الذاكرة العربية لخطابات الساداتية المصرية بشأن جدوى المقاومة، وكون “أوراق اللعبة كلها في يد أميركا”، كما كان يتخيّل السادات. التشفّي في موت نصر الله لا ينفصل عن تراث من الطائفية وخطابها السام الذي أسست له دول بعينها منذ سبعينيات القرن الماضي، مع طفرة البترول فيها، إذ حاربت فينا كل جميل قد يحويه الدين، وحوّلت الدين إلى قيود ومهاترات طقوسية لا معنى لها سوى إغلاق جميع النوافذ على الحياة ومعانيها.

كما أن التشفّي في موت نصر لله بيد إسرائيل لدى بعض متثاقفي اليمين القُطري والليبرالي في بعض الدول، مثل الأردن ومصر والسعودية (ليست مصادفة أن يكون لتلك الدول دور واضح تجاه أي خطاب مقاوم!)، إنما هو ممارسة مجبولة بإعادة إنتاج الخطاب الطائفي والاستعماري والطبقي والجندري، في أكثر استعاراته فجاجة. فنجد خطابًا يتغنّى بسجون الأمير الشاب، ويهاجم فلسطينيي الداخل متّهمًا إياهم بالخيانة (تلك إحدى أقدم أدبيات النظام الساداتي)، أو أن يستبطن خطابًا غزا الأكاديميا العربية الحكومية في العلوم السياسية بعد كامب ديفيد ووادي عربة، مفاده أن الفلسطينيين أينما حلّوا، إنما سعوا إلى القلائل والحروب في مجتمعاتهم المضيفة. كما نرى مجموعات وصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي (تنشأ في يوم وليلة بآلاف الأعضاء الوهميين)، تنادي باعتقال من يهتف لحزب الله أو لجبهة المقاومة في غزة ولبنان، باعتبار أنها تناصر من يسبّ الرسول وصحابته، وأنها استدعاء لحزب الله جديد في الأردن أو غيره، أو أنهم -الآن فقط- أصبحوا غيارى على حرمات السوريين وآلامهم، وهم نفسهم من نادى بإغلاق الحدود في وجه اللاجئين منذ سنوات، وما فتئوا يهاجمون اللجوء السوري في بلدانهم!

ولو وسّعنا الخريطة قليلًا، لنتأمل جغرافيا الحركة السورية في اللجوء، لوجدنا أن اللجوء السوري كان أحد أهم أسباب فضح خطاب الغرب وتعريته في مجال الحريات والحقوق والقيم والأخلاق، حتى قبل السابع من أكتوبر؛ فالدول التي تهاجم اللاجئين في عرض البحر لإغراقهم قبل احتجازهم في مراكز التحقيق، والدول التي تبرر لنفسها فصل الطفل عن والديه بحجة حمايته ممن عبروا به بحارًا ومحيطات ليحموه من المقتلة وبراميل الدكتاتور، ليسوا أهلًا للحديث عن الحرية والفضيلة والتقدّم، مهما كانت منابرهم مرتفعة! 

لذا، فإن التغنّي والتبريك بعدالة الجيش الإسرائيلي في القصاص لضحايا نصر الله في سورية، إنما هو خيانة لقيم الثورة السورية كلها، تلك القيم التي فضحت تواطؤ العالم كله. وبالحديث عن العدالة والقصاص، فإن هذا التشفّي والفرح إنما يعكس جهالة تاريخية للبعض بالمنطقة وتاريخها، حتى على المدى القريب؛ إذ شتان بين العدالة والقصاص، فحينما أعدم الاحتلال الأميركي صدام حسين، لم يحقق ذلك العدالة لضحاياه الذين استُكمل تجويعهم وقتلهم وإبادتهم وإفقارهم ونهب مواردهم. 

لا عدالة ولا قصاص يأتي من الغرب، أو كما أشار علينا مالك بن نبي: الغرب لا يحمل قيمه معه إلينا! يومًا ما سنقتصّ منهم جميعًا، حينها نكون نحن من وجب أن نكون.

The post تأملات على هامش الحرب: في الموت والتشفي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: خطاب نتنياهو منذ القرن السابع عشر https://rommanmag.com/archives/21621 Mon, 12 Aug 2024 05:17:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%ae%d8%b7%d8%a7%d8%a8-%d9%86%d8%aa%d9%86%d9%8a%d8%a7%d9%87%d9%88-%d9%85%d9%86%d8%b0/ في تصريح تناقلته إحدى منصات التواصل الاجتماعي، منسوب لألكسندريا أوكاسيو – كورتيز، عضو الكونغرس الأمريكي، والتي اشتهرت بهجومها الحاد على ترامب وسياساته في فترة رئاسته، جاء فيه: “لكي نكون واضحين، لقد خسر نتنياهو الكثير من الأشخاص لدرجة أنه يخاطب جزءًا صغيرًا فقط من الكونغرس. وعندما يحدث ذلك فإنهم يملؤون المقاعد بغير الأعضاء، كما يفعلون في […]

The post تأملات على هامش الحرب: خطاب نتنياهو منذ القرن السابع عشر appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في تصريح تناقلته إحدى منصات التواصل الاجتماعي، منسوب لألكسندريا أوكاسيو – كورتيز، عضو الكونغرس الأمريكي، والتي اشتهرت بهجومها الحاد على ترامب وسياساته في فترة رئاسته، جاء فيه: “لكي نكون واضحين، لقد خسر نتنياهو الكثير من الأشخاص لدرجة أنه يخاطب جزءًا صغيرًا فقط من الكونغرس. وعندما يحدث ذلك فإنهم يملؤون المقاعد بغير الأعضاء، كما يفعلون في حفلات توزيع الجوائز، من أجل إظهار مظهر الحضور الكامل والدعم”.، لكن هل هذا كافٍ لفهم مشهد التصفيق الحار الذي تخلل خطاب مجرم الإبادة الجماعية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، بل وسياقه. ولنبدأ بتاريخية مؤسسة الكونغرس الأمريكي، وموقفها من مفهوم الإبادة الجماعية، سواء في تطبيقها أو برقرطتها، أي جعلها جزءًا من السياسة الدولانية البيروقراطية للدولة. 

يرى إدموند مورغن في كتابه American Slavery – American Freedom: Ordeal of Colonial Virginia أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اعتمدت، وبشكل رسمي معلن، سياسات إبادة السكان الأصليين بشكل رسمي في وسط القرن السابع عشر، وكان تدشين مستعمرة جيمستاون، باعتبارها أول مستعمرة انجليزية دائمة في شمال أميركا هي أحد نتائج تلك السياسات، التي تعبر عن الحق في “أن نجتاح البلاد وندمر أهلها … حيثما تحلو لنا مواطنهم الخصبة … وأراضيهم التي سنستوطنها بعد تطهيرها من سكانها”. 

إلا أن تلك السياسات الرسمية البيروقراطية، التي سعت إلى التوسع والاستحواذ على الموارد، تضمنت أيضًا الحق في اتفاقيات هدنة وسلام مع السكان الأصلانيين. يقول إدموند في كتابه أن مجلس دولة فيرجينيا يصرح أن الاتفاقيات مع السكان الأصلانيين هي وسيلة حرب، “فحين يطمئن الهنود إلى أن الاتفاقية قد كفتهم شر القتال وهم الحذر والحراسة، عندها يتوجب علينا أن نغتنم الفرصة لنفاجئهم ونتلف محاصيلهم ونحرق حقولهم”.

يخطيء من يظن أن إشارة وزير الحرب الإسرائيلي يو آف غالانت للفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية (2023)، في بدايات الحرب، هو تصريح لا تاريخي، أو أنه مقيد فقط بالتبرير للإبادة، كما وظفته مرافعة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية. تقول عالمة الإنسانيات مارغريت هدجن في كتابها Early Anthropology in the Sixteenth and the Seventeenth Centuries أن أول كتاب انجليزي عن الهنود نُشر في عام 1511، “وصفهم بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها البعض، بل إنهم يأكلون أبناؤهم وزوجاتهم”. وقد صرح روجر ويليامز مؤسس مستعمرة رودآيلاند أنهم (الهنود) “ربما كانوا مخلوقات ممسوخة من نسل آدم”. ويقول جون سميث مؤسس مستعمرة جيمس تاون اعن الهنود أنهم “بهائم غير طبيعية، يظهرون كالهوام والحشرات الطفيلية وأسراب الذباب … مثل الجرذان والفئران وجحافل القمل”.

هل مؤسسة دولانية حدايثة كالكونغرس هي الوحيدة المتهمة في السياق الأمريكي بهذا الأمر؟

قبل مذبحة Wounded Knee الشهيرة، عام 1890، في داكوتا في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أبادت شعب اللاكوتا من الهنود السكان الأصلانيين ، صرح فرانك باوم في صحيفته The Aberdeen Saturday Pioneer، في عاموده قائلًا:

“إن أصحاب البشرة الحمراء قد أبيدوا، ولم يبق منهم إلا مجموعة صغيرة من كلاب هجينة تعض اليد التي تطعمها ولا تتوقف عن النباح. أما البيض فإنهم بحكم الغلبة وبقضاء الحضارة أسياد القارة الأمريكية، وإن أفضل أمن لمستوطنات الثغور يجب أن يتحقق بالإبادة الكاملة لهذه البقية الباقية من الهنود .. إن موت هؤلاء الأشقياء خير لهم من الحياة”.

المثير في هذه التاريخانية للتخيلات الاستعمارية بشأن السكان الأصلانيين، أن تقاطعات عدة هنا، بين المستعمرين في نظرتهم للسكان الأصلانيين، هي ظاهرة وفجة، تجعل من خطاب نتنياهو وتصريحات زمرته أمرًا له تاريخية ممتدة في هوية الأنا والآخر، لكن هناك أيضًا تاريخانية لموضعة الفلسطيني أو الكنعاني موضع السكان الأصلانيين المتوحشين، الواجب قتلهم.

يقول جيمس بولدين النائب في الكونغرس الأمريكي ما بين الأعوام 1834 و1839: “قدر الهندي الأحمر الذي يواجه الانغلوسكسوني مثل قدر الكنعاني الذي يواجه إسرائيل: إنه الموت”. حتى سياسات الإبادة الحربية من تتبع الأصلانيين، وقتلهم أين حلو في مسارات النزوح واللجوء، هي أمر له تاريخ مشترك في منظومتين استعماريتين كالأمريكية والإسرائيلية (والكندية والأسترالية والنيوزلندية والسيريلانكية وغيرها). فكما قتلت الإسرائيليين المدنيين في مسارات نزوحهم فعلت أمريكا الأمر نفسه مع السكان الأصلانيين. فبعد أيام قليلة من مذبحة Wounded Knee (أو “الركبة الجريحة”، كما كانت تسمى المنطقة التي وقعت فيها المذبحة) تعقب القتلة النازحين الهاربين وقتلوهم فردًا فردًا. يقول شاهد عيان وهو طبيب نصف هندي يدعى شارل ايستمان:

على بعد ثلاثة أميال من موقع المذبحة وجدنا جثة امرأة مدفونة تحت الثلج. وانطلاقًا من تلك النقطة تناثرت الجثث على طول الطريق وكأنها طوردت واصطيدت وذبحت بعزم وتصميم فيما كانت تحاول لأن تنجو بأرواحها. بعض من معنا اكتشف بعض أهله أو أصدقائه بين القتلى، وكان هناك ندب ونواح يملأ الأرض. وحين وصلنا إلى حيث كان المخيم الهندي وجدنا بين بقايا الخيام والأمتعة المحترقة جثثًا متجمدة تتلاصق هنا في صفوف أو تتراكم فوق بعضها البعض في أكوام”. ويضيف عالم الإنسانيات جيمس موني: “تحت ركام الثلج، كان هناك نساء على قيد الحياة، لكنهن تركن للموت البطيء، وكذلك حال الأطفال الرضع المقمطين والمرميين إلى جانب أمهاتهم … كانت جثث النساء متناثرة فوق محيط القرية. وتحت على الهدنة كانت هناك امرأة صريعة ومعها طفلها. لم يكن الطفل يعرف بعد أن أمه ميتة، ولهذا كان يرضع من ثديها. وبعد أن قتل معظم من في القرية أعلن الجنود أنهم يضمنون سلامة الجرحى أو كل من تبقى على قيد الحياة إذا ظهروا. فخرج بعض الأطفال من مخابئهم، لكن الجنود أحاطوا بهم وذبحوهم. لقد كان واضحًا أن تعمد قتل الأطفال والنساء هو لجعل مستقبل الهنود مستحيلاً”.

في اليوم الرابع للمذبحة كتب باوم في عامود جريدته:

“حسنًا فعلنا، يجب علينا أن نتابع المسيرة لحماية حضارتنا .. إن علينا أن نقطع دابر هذه المخلوقات الوحشية وأن نمحو ذكرهم من على وجه الأرض”،  بينما في اليوم الثلاثمائة للمذبحة يأتي نتنياهو ليقول للأمريكيين من كونغرس الإبادة: “لتتذكروا أمرًأ واحدًا فقط من خطابي هذا: عدونا هو عدوكم، ومعركتنا معركتكم، وانتصارنا انتصاركم”.

وكانت رشيدة طليب عضوة الكونغرس تقف وحيدة في حفل الدم والقتل الذهاني التاريخي ذاك، تحمل لافتة كتب عليها: “مجرم حرب، مدان بالإبادة الجماعية”، شاهدًا عن كل السكان الأصلانيين حول العالم .

The post تأملات على هامش الحرب: خطاب نتنياهو منذ القرن السابع عشر appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: غزة والبحر وآدم وبن غوريون https://rommanmag.com/archives/21602 Mon, 22 Jul 2024 19:38:11 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%b1-%d9%88%d8%a2%d8%af%d9%85-%d9%88/ 1 في معجم المعاني الجامع، تأتي كلمة “بحر” مرتبطة بأكثر من معنى؛ “بَحَر الأرض: شقها”، “رأى البحر ففرق ودهش”، و”التبحر في العلم التوسع فيه”. وفي القاموس المحيط “بحر: تحير من الخوف”، و”بحر: خاف ودهش لدى رؤيته البحر”. وفي المعجم الوسيط: استبحر المكان أي اتسع وانبسط. ما الذي يعنيه ارتباط معان البحر في مجملها بالقوة في […]

The post تأملات على هامش الحرب: غزة والبحر وآدم وبن غوريون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

1

في معجم المعاني الجامع، تأتي كلمة “بحر” مرتبطة بأكثر من معنى؛ “بَحَر الأرض: شقها”، “رأى البحر ففرق ودهش”، و”التبحر في العلم التوسع فيه”. وفي القاموس المحيط “بحر: تحير من الخوف”، و”بحر: خاف ودهش لدى رؤيته البحر”. وفي المعجم الوسيط: استبحر المكان أي اتسع وانبسط.

ما الذي يعنيه ارتباط معان البحر في مجملها بالقوة في إحداث الشق والفصل، والسطوة في إحداث الدهشة والتفرقة، والتوسع في العلم والمكان والمكانة؟ ما الذي يعنيه ارتباط البحر بالخوف والرهبة؟

من أين يبدأ أثر البحر في تاريخنا البشري؟ هل من اللغة؟ وهل لنا أن نسبق اللغة ومعاجمها وقواميسها في فهم البحر وماهيته وهويته؟ يجوز لنا أن نختار لحظة ما قبل اللغة، حين كانت الأسماء أسماءً حاضرة بماهيتها لا بلغويتها؛ حين قرر الإله أن آدم يستحق السجود، لمنحة الأسماء.

يحضر البحر في المخيال السردي التوحيدي في قصة الخلق، خلق آدم، من خلال حدثين متراكبين ومتداخلين أساسيين: الترويض والتسمية. إذ يُعلن الرب أن “الأرض حينها كانت فوضى وبورًا وظلامًا في الأعماق، وأنفاس الرب تحوم فوق المياه” (سفر التكوين)، فكان أول ما فعله الرب هو ترويض المياه الثائرة، لتظهر الأرض: “لتجتمع المياه أسفل السماوات في مكان واحد حتى تظهر الأرض الجافة، وهكذا كان. ودعا الرب اليابسة الجافة بالأرض، والمياه المجتمعة أسماها البحار، وارتأى الرب أنها جيدة” (سفر التكوين). 

ومع أن الجنة لا مجال فيها للترويض والتسمية، بما هي انفتاح لغوي على الخيال غير المروض للصالحين والأبرار، لا يوجد بحار. فالبحر لم يرد في قصص الجنة إلا بعد خروج آدم وحواء، إذ ظهر البحر لهما كبيئة غريبة، وبعد الخروج فقد آدم سلطته على “الأسماء كلها”، التي مُنحت له -دون استحقاق ولا جهد ولا تفكر- ليدخل الجنة هو وزوجه.

لا جنة تتسع لبحر!

هذا التحول، وهذه الاستعارة المركزية، ولو على مستوى اللاوعي، أسست لنظرة للبحر باعتباره كيانًا مصابًا بالنزق؛ نزق الخروج على التسمية والترويض. نزق، لا جنة تسمو لخياله وانفتاحاته وممكناته، نزق يتهدد فكرة الجنة في أساسها.

تتعزز هذه النظرة مع ترويض الجسد لحظة الخروج. فكان ابنا حواء وآدم، قابيل هو المزارع الأول، وهابيل هو الراعي الأول، والرعي والزراعة أفعال وعلاقات أرضية، دفعت بالبحر إلى مساحات المجهول والغرائبي، والخطير، وغير الإنتاجي ولا الاجتماعي (فلا أبوة أو أمومة أو أخوة في البحر). يقول عالم الأنثروبولوجيا هيو برودي: “سفر التكوين هو قصة الخلق التي يجري تفسير البيئة الزراعية العنيفة وغير المستقرة من خلالها، والتي قُدمت على أنها حتمية”(1)، ونضيف بأنها طمس للبحر.

غفل هذا المخيال عن السواحل بما هي أحياز طرفية، أو فضاءات ثالثة بين اليابسة والبحر، فكانت السواحل بما هي أطراف البحر التي ظلت “حدًا مراوغًا وغائمًا”، بتعبير رايتشل كارسون في كتابها “The Sea Around Us”. تلك السواحل على تعدد أشكالها، تمامًا كما البشر؛ “كل إنسان يولد في هذا العالم له ساحل، له حافة، له حد، منطقة انتقالية بين نفسه والعالم”(2)، تساهم في شكل علاقتنا باليابسة والمدينة، والمعنى.

“المتوسط ليس جغرافيا”، وهو البحر الذي درجت تسميته “البحر العظيم”، هو مجموعة من الممارسات الاجتماعية والآراء الثقافية المرتبطة بالجسم المائي. لكن التاريخ بما هو ممارسة معرفية وسردية لطالما تعامل مع السواحل باعتبارها أماكن يبدأ عندها التاريخ وينتهي، لتنحصر أهميتها في كونها مساحات “عتبية/عتبات”؛ ليصيبنا التاريخ بفقدان ذاكرة جماعي بشأن سواحلنا، وبالذات في هذا الجزء من العالم حيث الذاكرة والتاريخ هي مساحات مستعمَرة. 

2

في اللحظة التي طرد فيها آدم، بدأت رحلة بشرية مركبة من النفي واللجوء في وعي الإنسان، استدعت أمرين اثنين:

أولًا: عقلنة “الأسماء كلها”، بما أنها ما حمله آدم كزاد ليبدأ معها رحلته في الأرض.

ثانيًا: علمنة الإله التوحيدي، واستبداله بما هو “المنظومة” (أو “المرجعية” كما يحب الأيديولوجيون تسميتها) التفسيرية.

هنا بدأت الحداثة بما هي لحظة وعي (وليست لحظة تاريخية، أي أنها لم تحدث لحظة الطرد الاعتبارية، إنما لحظة إدراكه)، هنا استوعبنا شرطية وجودنا كبشر خارج السياق الجناني (من جنة) والإلهي. هنا بدأ إدراكنا لوجودنا في آن/زمان/تاريخ ومكان/جغرافيا، غير مقدسين. فكان البحر هو مجال التجربة الأول لضبط هذا التشابك بين المكان والزمان، والمقابل لكل ما هو غير مقدس ودنيوي ومادي.

يقول جون غيليس في كتابه “الساحل البشري” أن “البحر غالبًا ما يكون موقعًا للموتى، أو للخالدين. كان ذلك حقيقيًا لكل من الصين وأوروبا الوثنية. لقد عرفت المسيحية البحر على أنه مملكة الشيطان”(3). حتى ضمن مخيال الحداثة، لم يقدم البحر باعتباره المقابل الموضوعي للمكان الحداثي كالمدينة. “فكانت البرية تجتذب تحديدًا سكان المدينة والذين كانوا يبحثون عن مصادر للإلهام الاجتماعي والشخصي، التي كانوا يشعرون بأنها تنسل من بين أيديهم في المجتمع الصناعي الرأسمالي”(4). فكان اقتراح العالم الإنجليزي هالفورد ماكيندر بشأن الفرق ما بين المجال البري والبحري، هو الأطروحة الأساسية للمقاربات الجيوسياسية المعاصرة (5). ومن بعده قام كارل شميت، بالتأسيس الفكري والثقافي والفلسفي لتلك الثنائية (6). 

هنا بدأت عملية عقلنة وعلمنة المجال البحري، دون الحاجة للولوج إليه، وكانت السواحل هي مفتاح هذه العلاقة. 

بحسب الأنثربولوجي الفرنسي مارك أوجيه في كتابه “اللاأمكنة”، الشاطئ أو الساحل هو “لا مكان”، شيء لنعبره لا لنسكن فيه. واللا-أمكنة حظيت بأقل اهتمام من الجغرافيين الحداثيين، فالقليل من الشواطئ لها مؤرخوها، حتى أن مرتادو الشواطئ لا علاقة لهم بسكانه السابقين. في الحداثة، تكون الشواطئ مساحات عبور، وليست مساحات استقرار، فقد روضت الحداثة مفهوم الساحل/الشاطئ، ومحت آثار الحيوات السابقة للشعوب الساحلية.

ولأن الحدود بين البر والبحر تبدو وكأنها ثابتة لا تتغير، فقد شكلت المجالات البحرية مساحات مطمئنة وخاملة، في ما يتعلق بسياسات الحدود بين البلدان، والسرديات الدولانية، في البر والبحر، بالنسبة للدولة الحديثة. أي أننا قلما ما نسائل البحار بما هي مساحات لتكوين سرديات الدولة، هي بدورها، إنما نعتبرها وكأنها أمر مسلم به، تابع للسياسية الدولانية البرية. وعليه فإن تاريخ البلدان الحديث (أو الحداثي) يتكون بالأساس بحسب العالم البري أكثر من البحري. (لا يمكننا أن نتخيل جماعات بدوية تعتاش مرتحلة على شطآن البحار، وتعتمد على صيد السمك، مثلًا! أو بدو رحل يعيشون في البحر، والصورة الأقرب لهذه الحالة كان القراصنة في القرنين الثامن والتاسع عشر، الذين كانوا مادة ثرية للشيطنة الخطابية الحداثية، قدمتهم باعتبارهم جماعة قذرة، ماديًا ورمزيًا، بلا أخلاق، وليسوا جماعات من الرحالة البحريين الثوريين. وحتى عندما نفكر في مساحات مائية أثرت على تاريخ الحضارة، يحضر في عقلنا الحداثي الأنهار والموانئ، لا البحار ولا المحيطات).

وأما آليات الإنتاج الاجتماعي الشاطئية أو الساحلية، فقد تمكنت، وترسملت وتسلعت، وما خرج عن هذه الأجهزة (الميكنة والرسلمة والتسلع) وهي أجهزة غير منفصلة عن بعضها، فقد ألقي به خارج منظومة الحداثة. واستلزم الأمر تعاضدًا بين الرأسمال والبيروقراطية الدولانية والعسكرية. ولعل ما يحدث في مصر في السنوات الأخيرة، وعلى امتداد شواطئها وسواحلها على البحرين الأحمر والأبيض، يمثل طورًا متأخرًا من هذا التعاضد. حيث بيعت كلها لحسابات رأسمالية وأصبحت أماكن استهلاك، على حساب المفهوم الوطني للإقليم والمجال الدولاني، وكذلك الجماعات الساكنة فيه (أهل الساحل).

ولو أمعنا النظر إلى هذا التعاضد، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة العضوية بين الحداثة والاستعمار، لوجدنا أن حماية ودعم وفتح الأقاليم والمساحات الجيو-استراتيجية أما إسرائيل، هو الهدف الأساسي من كل هذا التعاضد. بداية من بيع تيران وصنافير المصرية، إلى تملك رؤوس أموال خليجية ساحل مصر الشمالي، وهو أمر لا يختلف في البنية والتركيب عن تعامل الدولة المصرية مع أهالي سيناء بحسب اتفاقية كامب ديفيد، حيث طمس البنية المجتمعية والعلاقة مع الأرض والبحر لصالح شكل استهلاكي ومتواطئ مع البنية الاستعمارية الإسرائيلية وسيطرتها على المجال والموارد والأفراد والجماعات.(7)

صورة لأحد مشاريع تحويل غزة إلى جزيرة بحرية تحت السيطرة الإسرائيلية في حرب 2012.

 

3

في علوم الاتصال وإنتاج المجال السوسيو-جغرافي بين الشعوب، يقترح المؤرخ الفرنسي  ميشيل برونو نموذجًا بيانيًا للعالم العربي والإسلامي، نجد أن البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، يقعان في القلب منه (8). وهو الأمر الذي يتفق فيه برونو مع كريستيان غراتالو (9) أن إنتاج المجال العربي والإسلامي، عبر التاريخ، وأدى إلى انتظام مجتمعات تلك المنطقة في كيانات جغرافية وإقليمية، في قلب العالم القديم، في توزيع يرتكز بالأساس على عدة عوامل كالحركة والاقتصاد، وكذلك البحر المتوسط والمحيط الهندي. وبالتالي فإن ما يفعله اليمن السعيد في مضيق باب المندب، هو إعادة تشكيل لمجالات الاتصال الجماعاتية، ما قبل الدولة القومية الحديثة ذات الجذور الاستعمارية، بالاستناد إلى التاريخ البحري للعرب. ولو عدنا قليلًا إلى تاريخ البحر الأحمر، أو بحر الحميرين نسبة إلى الدولة الحميرية (115 قبل الميلاد – 525 ميلادية)، لوجدناه ضاجًا بالحياة في التاريخ العربي(10)، حتى أن ذكره يرد في كتابات عدد من الرحالة العرب والأجانب، مثل ناصر خسرو وإبن جبير وابن بطوطة وجون لويس بوركهارت، وسارل ديدييه.

إن العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بما هي علوم الحداثة وأدوات خطابها الاستعماري، ستقتصر الدور اليمني المساند، في شبكة العلاقات الجيوسياسية، وهو الأمر الذي نراه جليًا في الخطاب السياسي الغربي، لدى الإشارة إلى أن إسرائيل تحارب إيران في العراق واليمن ولبنان، وهو خطاب ينتزع عن العربي فاعليته في المواجهة الحربية والمقاومة. وتلك نظرة استعمارية استشراقية، تقوم على إنتاج تصور ما للذات والآخر، ضمن مخيال استعماري حربي. تمامًا كما صدرت لنا صورة الصوماليين باعتبارهم قراصنة يسعون للمكاسب، متعامية عن دور القراصنة في مقاومة الاحتلال الأمريكي خلال تسعينيات القرن الماضي. وعليه يمكننا القول أن الحد الجنوبي لفلسطين هو باب المندب، وأن هناك تدور رحى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأمريكية الغربية، على غزة واليمن معًا.

4

بن غوريون والبحر.

من غير المعروف لدى الكثير منا موقف محدد لبن غوريون من البحر الأبيض المتوسط، لكنه صرح في مقال له عام 1937 أن البحر “مساحة صحراء من ماء، وجب على الأمة اليهودية أن تستأثر بها” (11). كما قرر المؤتمر الصهيوني في لوسرن في سويسرا،  إنشاء إدارة بحرية في الحركة الصهيونية تعكس الموقف المتغير من البحر الأبيض المتوسط لأهداف استعمارية واستيطانية. أبدى بن غوريون أيضا دعمه للمسعى الصهيوني البحري الجديد وأثنى على نتائجه المحتملة وتأثيره على مستقبل الييشوف. فأعلن أن تدشين ميناء تل أبيب كان ”تحولا جديدا إلى برنامجنا السياسي وبرنامج إعادة التوطين اليهودي“ وأدى إلى ”الشكل والمعنى البحري الأوسع للمتوسط“ (12)  وأعلن أن على الحركة الصهيونية أن تعترف “برسالتها النبيلة الجديدة المتمثلة في غزو البحر بنفس القوة التي تجلت في الفوز بالإيميك” – وهي منطقة زراعية في شمال فلسطين المحتلة (13). وبهذه الكلمات، صرح بن غوريون إلى أن ما يسمى بغزو البحر كان لا بد من القيام به على نفس المنوال الذي تم به تطوير المستوطنات الزراعية. من هنا يمكننا فهم المحاولات الأمريكية لتطويع البحر لصالح إسرائيل من خلال اقتراحات ومشاريع هيمنة استعمارية كالميناء المؤقت، وغيره. يقول بن غوريون:

“لقد كان غزو سكان المدن للأراضي أول مغامرة عظيمة لحركتنا اليهودية، ولمسعانا في البلاد. وهناك مغامرة ثانية، عظيمة أيضا، وربما أصعب من الأولى، لا تزال تنتظرنا – غزو البحر. […] بدون البحر لا يوجد مدخل، ليس هناك فضاء […] إن البحر الأبيض المتوسط هو الجسر الطبيعي الذي يربط بلدنا الصغير بالعالم بأسره. والبحر جزء عضوي واقتصادي وسياسي من بلدنا. وهو لا يزال حرًا. القوة التي دفعتنا من المدينة إلى القرية تدفعنا الآن من الأرض إلى البحر […] إن الطريق إلى البحر طريق لتوسيع بلدنا، وزيادة قاعدتنا الاقتصادية، وتعزيز مشاعرنا الوطنية، وفرض موقفنا السياسي، والسيطرة على الاقليم. يَفْتحُ البحرُ أُفقاً غير مُحَدَّدة لنا. […] وينبغي لنا أن نتذكر دومًا أن بلدنا يجمع بين الأرض والمياه، وكلاهما لنا.(14) 

ولو استخدمنا نفس المنطق لفهم العلاقة الاستعمارية الإسرائيلية مع البحر الأحمر، لفهمنا منطق الدول العربية  وتحديدًأ الدور السعودي والمصري، وموقعه من مقولات الحرب، واصطفافاتها، والأهم منظومة الاستعمار الصهيوني، والدم والقتل الغزي (14).

 

هوامش وإحالات:

  1. Brody, Hugh, 1994. The Other Side of Eden, Farmers and the Shaping of the World, New York: Free Press, p 13 – 14.

  2. Carson, Rachel, 1951. The Sea Around Us, New York: Oxford University Press, p 15.

  3. غيليس، جون، 2015. “الساحل البشري”، ترجمة ابتهال الخطيب، الكويت: عالم المعرفة، العدد 430، ص 188.

  4. المصدر نفسه، 189.

  5. يُنظر:  Mackinder, Halford, 1904. The Geographical Pivot of History, The Geographical Journal , Apr., 1904, Vol. 23, No. 4, pp. 421-437 

  6. يُنظرSchmitt, Carl, 2006. The Concept of the Political, Chicago: Chicago University Press.

  7. يُنظر:
    https://www.un.org/unispal/document/auto-insert-189037/
    و
    http://muqtafi.birzeit.edu/InterDocs/images/284.pdf
    و https://www.peaceau.org/uploads/camp-david-accords-egypt-1978.pdf

  8. يُنظر:
    برونو، ميشيل، 2021. “أوراسيا: قارة، امبراطورية، أيديولوجيا أو مشروع”، ترجمة معاوية سعيدوني، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

  9. غراتالو، كريستيان، 2018. “هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى؟”، ترجمة الهادي التيمومي، المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار.

  10. يُنظر:
    زيدان، جرجي، (غير معروف التاريخ)، العرب قبل الإسلام، القاهرة: دار الهلال. 

  11.  Siegel, Bjorn, 2021, “Going Down to the Sea”: David Ben-Gurion’s Maritime Turn and Jewish Migrations to Mandatory Palestine, 1933-1948, Revista Crítica de Ciências Sociais, 125, p9. 

  12.  Kaplan, Eran & Penslar, Derek J. (editors), 2011. The Origins of Israel, 1882–1948: A Documentary History, Wisconsin: University of Wisconsin Press, p111. 

  13.  المصدر نفسه، ص 113.

  14.  Siegel, Bjorn, 2021, “Going Down to the Sea”: David Ben-Gurion’s Maritime Turn and Jewish Migrations to Mandatory Palestine, 1933-1948, Revista Crítica de Ciências Sociais, 125, p10.

  15.  يُنظر:
    https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/cairo-stuck-between-securing-red-sea-and-avoiding-perception-support-israel

https://www.reuters.com/business/red-sea-attack-fears-disrupt-global-trade-patterns-2024-01-16/

https://www.reuters.com/world/us-britain-carry-out-strikes-against-houthis-yemen-officials-2024-01-11/

The post تأملات على هامش الحرب: غزة والبحر وآدم وبن غوريون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الحركة: المدينة والدولة والتخطيط الحضري https://rommanmag.com/archives/21587 Tue, 25 Jun 2024 08:48:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ae%d8%b7%d9%8a%d8%b7-%d8%a7%d9%84/ تتحرك المقولة الأساسية لهذه المداخلة بين فكرتين اثنتين أساسيتين؛ الأولى، وهي للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا: “شيء ما ميت في كل هندسة”(1)، والثانية لفيلسوف فرنسي آخر، وهو بول ريكور، يقول فيها: “إننا حين ندرك الحركة فإننا ندرك الزمان، غير أن الزمان لا يُدرك كمختلف عن الحركة إلا إذا حددناه؛ أي إذا استطعنا تمييز لحظتين؛ الأولى كسابقة […]

The post في الحركة: المدينة والدولة والتخطيط الحضري appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

تتحرك المقولة الأساسية لهذه المداخلة بين فكرتين اثنتين أساسيتين؛ الأولى، وهي للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا: “شيء ما ميت في كل هندسة”(1)، والثانية لفيلسوف فرنسي آخر، وهو بول ريكور، يقول فيها: “إننا حين ندرك الحركة فإننا ندرك الزمان، غير أن الزمان لا يُدرك كمختلف عن الحركة إلا إذا حددناه؛ أي إذا استطعنا تمييز لحظتين؛ الأولى كسابقة والثانية كلاحقة، وعند هذه اللحظة يتقاطع تحليل الزمان مع تحليل الذاكرة”(2).

قد تبدو المقولتان ومضمونهما متضادين (بين موت وحركة) أو مختلفين، أو حتى لا علاقة بينهما في بادئ الأمر، لكن بقليل من التأمل (ولو تمرينًا أوليًا في الفاعلية Agency)، يمكننا أن نرسم العلاقة التالية منطلقًا لفهم الرابط بين الموت والحركة في المدينة، وسياسات الهيمنة:

الهندسة (باعتبارها علمًا يرتبط بالعلائقية ما بين الأشياء ومجالاتها، يستلزم مكانًا وأجسادًا وحركة، سواءً بتحقيقها أو منعها) – الموت

الحركة (بما هي فعل يُخاض/يتحقق من خلال المكان والجسد في الزمن) – الذاكرة والتاريخ

نجد أن ثمة علاقة (دائرية، لو شئنا الدقة) بين نقيضين أوليين: الموت والحركة. وعليه، نخلص إلى أن الهندسة بقدر ما هي مسؤولة عن الحركة والمجال، فهي أداة لتحقيق الموت والثبات للجسد والمكان. وأما الحركة بما هي فعل يتحقق بالجسد والمكان، فإنها بشكل ما أو بآخر أمر يرتبط بالموت وسياساته، فأن تقوم الهندسة بتحريك شيء ما، يقتضي تثبيت غيره، بمحو أو طمس، في صور الفهم الأولي المجرد للفرضية، ومن ثم التحكم في الحركة وشروطها، وهو ما يحوّل الحركة إلى حالة الموت/الثبات المؤجل. لعل النموذج الأقرب لفهم هذه الدينامية والعلاقة المشتبكة كان حظر التجول في فترة وباء كورونا، حين تجسدت سياسات الحركة – الحياة المكانية، بما هي سياسة ثبات – موت. 

لنا هنا أن نستعير من الفيلسوف الكاميروني أخيل مبيمبي: سياسات الحياة والموت(3)، بما هي سياسات ذاكرة ونسيان، لفهم مآلات ومواقع بعض السياسات العمرانية والتخطيطية الحالية، في البيئة العمرانية بالعموم، وفي مدينة القاهرة، بشكلٍ خاص (حتى لو أشار المتن إلى بعض المدن الأخرى)، بما هي شكل من أشكال الهيمنة على الحياة والموت والذاكرة والنسيان، وذلك لمركزية القاهرة بصفتها مدينة عربية، ومركزية الدولة المصرية في المنطقة، تاريخيًا وسياسيًا ومدينيًا.

الحركة تحدث في الزمن، أي أنه لا يمكن لحركة (ما) أن تتحقق إلا في الزمن، وعليه وبـ(ما) أن الحركة فعل زمني؛ فهي بالضرورة وحكمًا تاريخية، بمعنى أنها تتحقق في التاريخ؛ فتشكله ويشكلها، بما هو شبكة علاقات سببية وتبادلية في بعضها(4). إلا أن الحركة لا تختلط في/بـ المكان الذي اجتازته، هكذا يخبرنا فيلسوف فرنسي ثالث، وهو جيل دولوز (في لاحق هذا المتن لابد لنا من التخلص من كل هذه الفرنسية!)؛ فالمكان الذي تجتازه الحركة هو ماضٍ، بينما الحركة نفسها باعتبارها حاضرًا زمنيًا، لا تقبل أي انقسام، وإلا تغيرت طبيعتها (مجالها، مسارها، مقدارها، سببيتها، نتائجها، شكلها، تأثيرها، وغير ذلك). إلا أن الحركة بين مكانين تقتضي تغيرًا كيفيًا في هذا الكل (الأمكنة والحركة والمسافة المُجتازة، وبنية ومضمون ومحتوى وشكل النقاط التي يتم التحرك بينها).

نخلص من هذه المقاربة المدخلية إلى أن الحركة والتحكم الهندسي فيها، بما هو فعل تاريخي، إنما يهدف إلى تحقيق موتٍ ما في مكانٍ ما، من خلال شكل حركة/ثبات ما، كما يلي:

1. إحداث حركة لا تتداخل مع الأمكنة: مثل حالة الجسور و(الكباري) في القاهرة، وبالتالي فإن الأمكنة تتحول إلى بنية زمنية تاريخية ماضوية، على مستوى الرمز والمادة، تترسب على سطحها كل استعارات القدم والتخلف والأشكال، لصالح شكل من الحركة لا يقبل القسمة ولا يختلط ولا يتداخل مع الأمكنة، بل ويقدم نفسه باعتباره حلًا وتجاوزًا لذلك الموت والثبات. وفي هذا الشأن نقول إن حجم الجسور والكباري في القاهرة، وفي أحياء ما بعينها، حي “هليوبوليس” في المدينة نموذجًا، شكلت تجربة مكانية ومجالية منفصلة عن المدينة، فما عاد المرور من خلال المدينة أمرًا واقعًا، بل التعالي عليها والارتفاع فوقها في شكل يفصل تمامًا بين الحركة والمكان/المدينة والجسد والآلة. 

2.تغيير البنية النوعية والكيفية للكل المديني من خلال استحواذ وهندسة شكل حركة مرتبط بالسلطة، حيث يحدث فعل الحركة: حالة تسييل (من جعل الشيء سائلًا) للكل المديني باتجاه العاصمة الإدارة الجديدة في القاهرة، التي يبنيها النظام المصري، جاعلًا من القاهرة مدخلًا لمدينته أو عاصمته (هو/النظام) الجديدة، في امتداد خطابي ورمزي وأدائي للكل المديني القاهري الماضوي. تقول الباحثة المصرية داليا وهدان: “لاحظت أن الانسياب المروري غير متسق بين قطاعات المدينة، فالاختناقات المرورية وسط وغرب وجنوب القاهرة أطول وأكثر تكدسًا – مما كان من قبل إنشاء المحاور – عن مثيلاتها باتجاه القاهرة الجديدة  ومدينتي والعاصمة الإدارية الجديدة”(5). وبالتالي، فإن الحركة باتجاه الشرق في القاهرة لا تحدث على مستوى المكان فقط، إنما على/في الخطاب السلطوي.
 

الخريطة ١ : الطرق والجسور المُنشأة في الفترة بين 2020 و2021، المصدر: 10 طوبة للدراسات والتطبيقات العمرانية

يتضح الربط الهندسي والتخطيطي العمراني بين الموت والحركة، واستحواذ الدولة على سياسات الحياة والموت (النيكروبوليتكس)، من خلال الإحالة التالية:

تنقل إذاعة البي بي سي البريطانية عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء البيانات التالية، التي تشك الباحثة المصرية داليا وهدان في مصداقيتها(6):
“شهد العام 2021، 7101 حالة وفاة بارتفاع بلغ 15.2% مقارنة بالعام 2020، والذي شهد 6164 حالة وفاة على الطرق، بينما لقي 6722 شخص حتفهم في حوادث الطرق في العام 2019. وقد بلغت الإصابات في العام 2021 إلى 51511 إصابة، ربع هذا الرقم من المشاة”(7).

 

2

 

الحركة فعلًا تنبؤيًا

بالعودة إلى الحركة بما هي فعل يقع في الزمن، أي أنه تاريخي، فإن الحركة تخضع – بطبيعة الحال- إلى بنية القوى في التاريخ، ووسائل أو سياسات زمننة الوجود الإنساني في السياق الحداثي، وهنا يأتي دور الدولة القومية الحداثية ما بعد الاستعمارية. ولعل هذا ما يفسر الهوس التصميمي في القاهرة بمراقبة حركة الأجساد، وتحقيق شرطية مؤجلة للموت والحياة، في التصميم العمراني والتخطيط الحضري والبيئة المبنية في المدينة، وجعله أقرب ما يكون إلى تصميم حضري عسكري، بتعبير الكاتب المصري حسام الحملاوي، يهدف إلى إدامة تحديق الدولة في أجساد المواطنين وحركتهم(8).

هذا السلوك الدولاني ليس بالأمر المستحدث في سياق الدولة القومية الحديثة، وبالذات إذا عدنا لتاريخ العلاقة بين المدينة والدولة والحرب فيما يتعلق بسياسات الحركة. وهو أمر يرتبط بتاريخ الفكر العسكري من ناحية، والهندسة بما هي أداة سيطرة مكانية ومجالية. ولعل مبيمبي يلخصها في مفتتح كتابه الوحشية، حين قال: “أستعير مفهوم الوحشية من التفكير الهندسي”(9). 

لو بحثنا تاريخ الهيمنة في الهندسة لوجدناها تمتد منذ لحظة اكتشاف الخط المستقيم(10) ومتتالياته في إدراك المكان، كالمنظور الهندسي، تلك الأداة التي تُزرع في عقول دارسي العمارة والتخطيط والتصميم، لغايات السيطرة المكانية وترويض المكان، والإعلاء من حاسة العين الثقافية. يقول الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو: “إن النشاط العسكري الوحيد الذي تطلب مواظبة فكرية هو مشروع الخدمات اللوجستية للقلعة الحضرية. وإنه انطلاقًا من هذه المهمة اللوجستية الملتبسة نشأ الخلط بين تخطيط المعارك الحربية وتنظيم المجال الحضري. وقد عمدت الثورة البرجوازية هذا الخليط وسمته ’الدفاع الوطني‘”(11). وفي موضع آخر يؤكد: “الخلاصة أن سلطة الدولة السياسية باعتبارها ’سلطة طبقة تضطهد طبقة أخرى‘ ليست سوى سلطة ثانوية، فسلطة الدولة الفعلية هي مدينة Polis  وشرطة Police أي مركز للتحكم في المواصلات Voirie، وذلك بمقتضى أن الخطاب السياسي منذ فجر الثورة البرجوازية ليس سوى استعادة واعية إلى حد كبير لفكرة الحصار القديمة، وهو بذلك يخلط بين إدارة المجتمع ومراقبة حركة المرور (مرور الأشخاص والبضائع)”(12).

إن الحركة، مبدئيًا، هي ممارسة سياسية أيضًا بقدر ما هي تاريخية، فهي متعلقة بالظروف الاجتماعية للحركة وأنظمتها. ولعل هذا ما ميّز “الحراك” العربي في 2011، الذي يمكننا أن نستعير بشأنه وصف شكسبير القائل: “الموت الذي يقهر موته”.

يدعونا هذا الأمر إلى تأمل السياسات السلطوية تجاه أماكن مدينية ما بعينها، أريدَ لها أن تشهد شكلًا من أشكال الحركة. يحضرنا هنا التصميم الخاص بميادين مثل ميدان التحرير وميدان رابعة في القاهرة، اللذان تحولا إلى مساحات مرور، لا يمكن التوقف فيهما، ولكن لماذا؟

حين يتوقف الجسد/الجسم المتحرك عن الحركة، ولو للحظة، فإن المكان يخرج عن ماضويته التي أشرنا إليها سابقًا، ويُعاد استدخاله في بنية الحركة – ولو لحظيًا- وهو ما يخلخل سلطة السلطة على الحركة، وانفصالها عن المكان، وعدم قابليتها للتقسيم أو التجزئة.

ولتوضيح هذا الأمر يمكننا أن ننظر إلى سياسات لإعادة تشكيل التجربة والخبرة المكانية في المدينة لموقع ما شهد صدمة ما (Trauma)، مثل ميدان رابعة الذي شهد مذبحة رابعة عام 2013، وميدان التحرير الذي احتضن بشكل رئيس ثورة 2011، وأثر تلك السياسات على حركة الذوات المواطنية (المصرية) خلال هذه المساحات، بوصفها تجارب مكانية حركية.

لقد تحول ميدان رابعة – مع الاحتفاظ ببعض معالم الميدان الرئيسة التي كانت موجودة في وقت الحدث الصادم: المذبحة (التروما) – إلى مساحة مرور وعبور للمواطنين، وهو ما يؤكد تحويل المكان المادي (البيئة المبنية) إلى بنية ماضوية تتعزز بالحركة خلال المكان، عن طريق تحويله إلى ممر كبير، وبناء جسر (كوبري) فيه، بعد إزالة كل الرموز المرتبطة بالمكان، أيًا كانت، بهدف تحويل الحدث وكأنه كان أمرًا ضروريًا لاستمرار تاريخ الجماعة القومية. 
 

2: ميدان رابعة العدوية، القاهرة، المصدر Google Earth بتاريخ 18 حزيران يونيو 2024

 

وهذه التغيرات الحضرية المتعلقة بالحركة والمكان، يمكننا أن نصفها بكونها سياسات محكومة بتوجه براغماتي في تصميم المكان والتجربة الحركية فيه، يمكننا إجمالها في الجدول التالي:
 

في المقابل نجد أن ميدان التحرير في القاهرة، قد خضع إلى شكل آخر من السياسات التصميمية الحضرية المتعلقة بالحركة، فقد تحول هو بدوره إلى مساحة عبور حركي، لكنها مختلفة من حيث دينامية البناء وفراغات الحركة وممراتها. ففي ميدان التحرير تتكثف تكوينات معمارية مادية بغية فرض شكل أدائي وخطابي على المكان والحركة خلاله، مثل المسلة والتماثيل الفرعونية، مع وجود مساحات للجلوس حول الميدان وفيه، يحيط بها رجال الأمن المتخفين، ما يجعل أي محاولة للجلوس (توقف الحركة) تجربة أمنية ليست مرغوبة أبدًا، فضلًا عن وجود العشرات من كاميرات المراقبة (عدد كاميرات المراقبة في القاهرة وحدها بلغ 46562 كاميرا، بمعدل كاميرتين لكل 1000 فرد، و39 كاميرا لكل ميل مربع)(13).
 

3ميدان التحرير، القاهرة، المصدر Google Earth بتاريخ 18 حزيران يونيو 2024

لو أردنا تكثيف ذلك في جدول مشابه لما هو سابق، فسيتضمن ما يمكننا تسميته بالسياسات الرمزية للمكان والحركة (وهي معرفة في الجدول بالرقم 1) والسياسات السياقية (وهي معرفة في الجدول بالرقم 2)، كما يلي:

شكلت الأسهم الحمراء والخطوط البرتقالية المتقطعة والمتصلة، في حالة ميدان التحرير، أشكال ضغط وتأثير وتحويل ونفاذ بين شكلين من السياسات أعلاه: الرمزية والسياقية، اختلفت بنيويًا وعلائقيًا عما هي الحال في ميدان رابعة العدوية، من حيث علاقة الحركة الجسدية بالمكان. إذ أمكننا رصد استجابات مختلفة تتعلق بالحركة في الميدان وربط المكان والحركة بالظرف السياسي، وبالتحديد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث شهد ميدان التحرير مسيرات وتجمعات لمواطنين مصريين دعمًا للقطاع وأهله(14)، وهو ما حرك الذاكرة المكانية والسياسية والحركية للمصرين والعرب، وأقلق النظام في مصر.

كيف للحركة أن تكون فعلًا تنبؤيًا؟

في الوقت الذي يُنظِّر البعض، دون تفكير كافٍ، لفكرة التسكع في المدينة Flâneur التي طرحها الفيلسوف الفرنسي ميشال دو سارتو، باعتبارها معيارًا كليانيًا أو حتى جوهرانيًا (لبعض المغالين) للحق في المدينة، فإنهم بذلك لا يعون الفرق بين الحركة Mobility والتحرك Movement في المدينة. حيث أن معيار قابلية المدن للمشي لا يمكنه أن يعكس ممكنات فعل الحركة كفعل مواجهاتي مركب في المدينة. فالقاهرة مثلًا بحسب بعض المواقع من أكثر المدن قابلية للمشي(15)، وكذلك مدينة الرياض(16)، وغيرها، لكن هذا المشي لهدف، أو حتى التسكع، لا يمكنه أن يحمل ويعكس ويفعِّل الحركة بما هي فعل سياسي مركب، يبدأ من الجسد، ويصل إلى الطبقة الخارجية من الدولة القومية الحديثة، بل ويؤثر على مقولاتها التاريخية الأساسية. كما أن أحد الإشكاليات الأساسية في استدعاء تلك الأدوات الغربية لفهم سيرورة المدينة العربية، بل ومفهوم المكان والفضاء والجسد في هذا الجزء من العالم (وهو ما لم تنج منه هذه المداخلة بشكلٍ كامل) أن تلك الاستدعاءات لها تحيزاتها وصورها وتصاويرها الإدراكية الواردة إلينا من سياقات مختلفة، وأحيانًا متضاربة، إنما تلق على المكان وعلى أجسادنا نحن أيضًا بطبقة سردية ميتة، وإن خضعت للنقد، تبعده عن قدراتنا ومساحاتنا المعاشة في فهم وتفكيك مباني القوى والهيمنة المكانية التي نخضع إليها جميعًا في هذا الجزء من العالم، وما أحوجنا إلى مقاربات نازعة ومناهضة للكولونيالية في آن، لنتمكن من فهم كل هذه الطبقات والتحيزات والموت، والتي تبدأ من تصميم الخطوط المستقيمة في مدارس وكليات العمارة والتخطيط الحضري، وصولًا إلى الحرب والرواية والمدينة والتاريخ.

يذكرنا هذا الأمر بمباحث موضوعة الحركة في العصور الإسلامية، حيث كان الميل العام إلى التفرقة بين الحركة والكون في المؤلفات الإسلامية، حيث عُرِفت الحركة بأنها: الخروج من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج، حتى أن بعض المتكلمة – المعتزلة خاصة –  قد أثاروا نقاشات واسعة حول معضلات تلك المسألة. نذكر من أكثرهم إثارة للجدل كان أبو اسحق النظّام (إبراهيم بن سيار النظّام) شيخ المعتزلة البصري، وأقربهم إلى فهم الطبيعة فهمًا ماديًا (كما يصفه بذلك هادي العلوي) (17)، والذي قال بأن الأجسام كلها متحركة، وأن السكون هو شكل من أشكال الحركة. ويتساءل النظّام: لا أدري ما السكون إلا أن يكون يعني كان الشيء في المكان وقتين أي تحرك فيه وقتين أو مرتين (18). يذهب النظّام إلى القول بأن الأجسام متحركة في الحقيقة ساكنة في اللغة، ومرد الفرق بين الحركة والسكون عنده إلى الاصطلاح.

صحيح أن هذا المنظور يتفوق كثيرًا على منظورات كل الفرنسيين الذين أتينا على ذكرهم في هذه المداخلة المختزلة، على كثافتها، إلا أنه – هذا المنظور- قد يكون مدخلنا الأهم في مناهضة كولونيالية الدراسات المكانية والعمرانية والمعمارية ونزع كولونياليتها، بما يكفي حقًا لفهم حقنا الجسدي في حركتنا وأماكننا، ومدننا.

 

الهوامش:

كُتبت هذه المادة على هامش ورشة “أخلاقيات العمران: مقاربة نازعة للكولونيالية”، والتي أقامها معهد العمران للدراسات التطبيقية – أفريقيا والشرق الأوسط، قدمها المؤلف بالتعاون مع أكادميين وباحثين آخرين، في مايو أيار 2024، في القاهرة – مصر.

1. دريدا، جاك. 2023، “أن تفكر: أن تقول لا”، ترجمة جلال بدلة، بيروت: دار الساقي، ص 53.
2. ريكور، بول. 2009، “الذاكرة، التاريخ، النسيان”، ترجمة جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد، ص 48.
3.   يُنظر: Mbembe, Achilles. 2019, “Necropolitics”, Durham: Duke University Press.
4. يُنظر: فاين، بول، 2021، “كيف نكتب التاريخ”، ترجمة سعود المولى ويوسف عاصي، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
5. وهدان، داليا. 2024، “في عرض الطريق”: دراسات عن الحركة والتنقل في القاهرة”، تحرير داليا وهدان ولمياء بلبل، القاهرة: دار المرايا، ص18.
6. المصدر نفسه، ص 19.
7. المصدر نفسه، ص 19.
8.   يُنظر: https://rosaluxna.org/publications/cairos-panopticon-2-0-the-history-and-present-of-state-surveillance-in-egypt/
9. مبيمبي، أخيل (أشيل)، 2021. “الوحشية: فقدان الهوية الإنسانية”، ترجمة نادرة السنوسي، بيوت: دار الروافد الثقافية – ناشرون، ص 15.
10. يُنظر: بروزاتين، مانليو، 2018. “قصة الخطوط”، ترجمة السنوسي استيته، البحرين: هيئة البحرين للثقافة والفنون.
11. فيريليو، بول، 2017. “السرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة”، ترجمة: محمد الرحموني، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص 35.
12. المصدر نفسه، ص 32.
13. المصدر: 
https://www.comparitech.com/vpn-privacy/the-worlds-most-surveilled-cities/
14. يُنظر: https://www.alquds.co.uk/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%B4%D9%87%D8%AF-%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%A7%D8%B4%D8%AF%D8%A9-%D8%AF%D8%B9%D9%85%D8%A7-%D9%84%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A/
15. https://www.walkscore.com/score/cairo
16. https://www.walkscore.com/score/riyadh
17. العلوي، هادي، 1983. “نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي”، بيروت: دار الطبيعة.
18. الصدر نفسه، ص 13

The post في الحركة: المدينة والدولة والتخطيط الحضري appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: عن الأبوة في الحرب https://rommanmag.com/archives/21537 Thu, 09 May 2024 17:22:25 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%a8%d9%88%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1/ صدرت في الشهر الأول من عام الحرب هذا 2024، قصة للأطفال واليافعين، بعنوان Under the Rockets’ Glow : “تحت أضواء الصواريخ” (هذه ترجمة حرفية، كنت سأترجمها “تحت لهيب النيران”). قُدمت القصة باعتبارها محاولة المؤلف رومان ساندلر للإجابة على أسئلة ابنته الصغيرة بشأن ما حدث في السابع من أكتوبر من العام الماضي، وما تلا ذلك، وما […]

The post تأملات على هامش الحرب: عن الأبوة في الحرب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صدرت في الشهر الأول من عام الحرب هذا 2024، قصة للأطفال واليافعين، بعنوان Under the Rockets’ Glow : “تحت أضواء الصواريخ” (هذه ترجمة حرفية، كنت سأترجمها “تحت لهيب النيران”). قُدمت القصة باعتبارها محاولة المؤلف رومان ساندلر للإجابة على أسئلة ابنته الصغيرة بشأن ما حدث في السابع من أكتوبر من العام الماضي، وما تلا ذلك، وما معنى أن نكون يهودًا. 

لو قدر لنا أن نصف القصة، فهي ببساطة تبرير يقدم للأطفال عن قتل أطفال آخرين وذويهم، وأن هذه المذبحة هي فعل بطولة وقيمة أخلاقية عالية، يشهد لها التاريخ. الأمر يشبه كثيرًا قصة الأطفال النازية؛ “الفطر المسموم” (بالألمانية Der Giftpilz) (الصورة الأولى) التي كتبها إرنست هايمر ورسم مشاهدها فيليب روبريكت (المعروف بفليب)، في العام 1938، ودعا فيها إلى قتل اليهود كبارًا وصغارًا، حتى أن فيها مشهد لأم ألمانية بيضاء وأطفالها بصحبتها قرب صليب عليه جثة مصلوبة (صورة 2)، كتب تحت الصورة: “علينا أن نتذكر على الدوام ما فعله اليهود بسيدنا المسيح”(1)، كتبرير لقتل غيرهم وترويض للنفس أمام المقتلة.


ما معنى أن تكون أبًا في هذه الحرب؟ لتحمل عبء أشكال وأداءات من الأبوة، تراكمت -خلال المائة عام الماضية تقريبًا- دون فعل نقدي وقيمي وتأملي بشأن الحياة اليومية، وكل ذلك بتأثير من أشكال الإنتاج المتمركز حول ذاته أوروبيًا/غربيًا، في عصر الحداثة المتأخرة؟ هل يمكن أن نكون آباءً على صورة مغايرة لما ورثناه في تلك المائة عام (على الأقل) المنصرمة؟ 

في خضم هذه الحرب التي أعادت وتعيد ترتيب وتصنيف وتسمية هذا العالم الذي نحياه/نحيا فيه، وأشكال ومضامين ومحمولات وجودنا فيه، بشكل لا نملك رفاهية التأمل الصامت، لابد للأبوة أيضًا كمفهوم وأداء وعلاقة أن تتغير، شأنها في ذلك شأن كل المقولات التي درجنا على ظنها كبرى ومتجاوزة وممتدة وميتا تاريخية، إن شئنا للتسمية أن تكون؟

لعل الإجابة الفادحة والتي لها أن تنتفض على تأويلات الجغرافيا الثقافية والقيمية للبشر، في هذه اللحظة. أن الأبوة هنا والآن، أصبحت تلك المعرفة العميقة والأكيدة المتلبسة بلبوس الوجع والصدق في آن: 

أننا لن نستطيع حماية أبنائنا وبناتنا إلى الأبد ومن كل شيء!

لكن ما معنى ذلك؟ وكيف لنا أن نتأمل هذا الأمر، في هذه اللحظة التاريخية بالذات؟ ما الحماية التي نقصدها؟

في حديث لي مع ابنتي ذات السنوات الست، عن “الله”، ذلك الذي يشبه البشر في ظنها، لكنه ليس بشريًا، ويشبه الهواء من حيث وجوده حولنا في كل مكان، لكنه “هواء” يمكنه أن يوجد في الفضاء، دون أن يتقيد بترسيمات الكيمياء والبيولوجيا في منح الحياة وتراسيم الوجود. وهو أيضًا في داخلنا ينادينا ويهتف بنا، ونحاوره ويحاورنا، والأهم بقولها “نحميه ويحمينا”، في تعليقها على مقطع وصفته بأنه “جميل” بعد أن كان بادئ الأمر “بيخوّف”، من رباعيات الخيام، بصوت أم كلثوم ووائل الفشني، ونصّه:

سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر

نادى من الغيب غفاة البشر

هبوا املأوا كأس المنى

قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ الَقَدر.

يافا ابنتي لها ممارسة معرفية مع العالم تقوم على فكرة التخيل، هي تتخيل أن الله ينادينا من خلال تلك العبارات من مكان حدوده المادية غير مادية، ولكنها مدركة بماديتها بوجه ما. إن الخيال هو الأداة الأقدر على فهم هذه الحرب والطفولة والأبوة معًا، حتى وإن كانت الحرب تقوم بالأساس ضد التخيل، وتهدمه (بول فيريليو). هي أقرب ما تكون للنار، التي تلتهم كل ما هو حولها أيًا يكن شكله الفيزيائي (صلب، سال ، غاز) لتغذي خيالنا بشأنها كونها لا هي صلبة ولا سائلة ولا غازية. يتضح الأمر في أسئلة يافا بشأن الحرب:
لماذا، ما هي الحرب، ما الاضطرار لها، كيف نواجهها، ما تعريف الضحية

 (أتذكر أنها سألتني من هم ضحايا الحرب من الأطفال، هل هم فقط الغزيون؟ وهل لو قتلنا ابنة رومان ساندلر، هل نكون مثلهم قتلة ومجرمين؟ وكيف أنها اجترحت اجابتها بنفسها، حين قالت أن أطفال الإسرائيلين هم أيضًا ضحايا هذه الحرب، كيف يمكنهم رؤية طفل يموت دون أن يتوجعوا لموته، ولكنهم أيضًا قتلة لو سكتوا على تلك المقتلة ولم يلوموا أهلهم، ويرفضوا حكاياتهم وقصصهم عن الحرب)

***

لا تدعي هذه المداخلة، على هامش الحرب، أي فهم للأبوة في الحرب، ولا للحرب في الأبوة، وبالذات أنها لا تقوى على الحديث عن هذين الأمرين مجتمعين، أو حتى منفصلين، فلا أنا ممن خاضوا حربًا، ولا أجرؤ أن أمتحن أبوتي أمام أي أبٍ غزي في هذه الحرب التي جعلت ما يزيد عن ستة عشر ألف طفل غزي بلا أب أو أم أو أهل. هي كلمات برسم المونولوغ، تسجل رؤيتها لمكون إنساني اختطفته الحداثة من خلال سلاح الدولة القومية الحديثة، لتحمي آليات ترسيم حدودها معنا أجسادًا وكيانات.

أحاول من خلال هذه المداخلة أن أتأمل ذاتي أبًا في هذه الحرب، أب يقع على مسافة من الألم والفرح والوجع والخوف من هذه الحرب وقطاع غزة، فلا معنى لأي حديث بهذا الشأن ما لم تتوقف الحرب، ويزول الاحتلال عن كامل فلسطين التي ورثناها في الحكاية، وانتهشتها الجغرافيا، ولعل هذا هو معنى تجربة التحرر الأعمق، والتي وإن كان ظاهرها التخلص من القمع والعنف والاحتلال، أن فعل التحرر فيها يجب أن يمتد بشكل أعمق إلى كل ما هو إنساني وقيمي في وجودنا كبشر، وليس أن يبقى محصورًا في السؤال السياسي والاجتماعي والخطابي فقط. 

يدور ببالي التساؤل وأنا أفكر في شكل أبوتي لابنتيّ، يافا ووجد، أو أشكالها بالمعنى الأدق، وما هو أثر هذه الحرب عليها، وبالذات أنها، لكثافتها وثقلها، باتت جزءًا أساسيًا من حوار الأبوة والبنوة اليومي تقريبًا. سواءً في دواخلنا أو بيني وبين ابنتيّ.

بدايةً، في مرحلة الأبوة يتنبه المرء أكثر إلى طفولته ولعلاقتها ببناء أبوته ودورها فيه، ولطبيعة كون تلك الأبوة متوارثة ومتغلغلة دون تفكير ناقد متأمل له شجاعة التنازل والاكتساب معًا، بكل طفولتنا ورؤيتنا لآبائنا، وهو ما ندفعه من ثمن في علاقتنا بطفولة أبنائنا وبناتنا. ففي ثقافة مجدت الذكر، وموضعته في المقدمة بما هو نموذج الشكل الإلهي، لمحتجب يحيط نفسه بالذكور والفحول في اللغة، فيُراكم فوق هذا الذكر ذكورًا آخرين، تحولت الأبوة إلى ممارسة مقابلة ومضادة للأمومة، على مستوى الجسد المادي والجنسي والرمزي والاجتماعي وصولًا إلى السياسي الإجرائي (وليست موضوعة الجنسية والحق في التجنس سوا ممارسات ذكورية أبوية، تقوم على تصنيف الجسد جندريًا، وترتيبه من حيث محمولاته وإشاراته الخطابية، إلا شكلًا واحدًا)، ومن ناحية أخرى تحولت الأبوة إلى معبر لتمرير الأشكال الرأسمالية للحميمية  والعنصرية المبنية على الجندر والجنس، بشكل يمنعنا من تأمل تلك الطفولة مقدار ما تستحق من أبوتنا.

لعل لهذه الحرب أن تعلمنا كآباء أن نعي ونستوعب مسؤوليتنا تجاه العالم، وتجاه وجودنا فيه، وأن القول بخفة اللغة ونقائها وبساطة الظواهر الوجودية هو أمر يساهم في تحويل هذا العالم إلى مساحة أبشع وأقسى، وأننا نغفل في فعلنا ذلك ولو بطمأنينة الواثق للمسافة بين الطفولة والنضج في النظر إلى العالم، أننا نزيد من وطأة الأشياء على أطفالنا، وبالتالي علينا إذا استوعبنا العلاقة بين أبوتنا وطفولتنا.

ما أحاول قوله هنا، أننا كبالغين إذا لم نستوعب ما لمخيلة الأطفال من قدرات معرفية مشتبكة. وإذ منحت الحرب على غزة، لأشكال العصيان المعرفي موضعًا هامًا في فهم دور المعرفة في قمع الفلسطينيين وإنتاج منظومات العسف المعرفي التي تستند إليها المنظومات الكولونيالية والحداثية(2). فهي أيضًا نبهتنا إلى “سياسات الحياة اليومية”، و”مفهمة المقاومة في الحياة اليومية”، تلك الحياة اليومية التي نستثني منها أطفالنا، بحجة حمايتهم من عالم البالغين، والذي لو لم يكن محصورًا بالبالغين لكان في وضع أفضل مما هو الآن. إن جزءًا من تواطؤنا من خوفنا على أبنائنا وبناتنا وظننا أننا سنحميهم من كل شيء، هو تعقيم اللغة المستخدمة معهم، وتحييدها، وهو ما كبرنا نحن به (الجيل الثاني للنكبة)، فلم نحدق فيها كما يجب، لم نتوارث مشاهدها اللغوية كما يجب، كتبنا عنها، لكننا لم نكتبها. اختطفتنا سياسات الحداثة الدولانية وسياسات الذاكرة، فارتأينا أن نكون فصائل وسياسيين وفي مرحلة أخرى تطورنا إلى دولانيين أوسلويين، وأنتجت تلك الدولانية ثقافة ومثقفين كتبوا عن كل شيء لكن لم يكتبوا بلغة الأطفال عما يحدث وعما حدث. 

يتساءل الأطفال: أليست حربًا؟ هل الحرب فقط أن نشاهدها من التلفاز؟ أليست الحرب تقتضي الدفاع والمواجهة، هل نحن المستهدفون بها؟ لماذا لا نواجهها؟ 

شهدت بعضًا من إجابات الأطفال وأسئلتهم بشأن هذه الحرب، وتنبهت لإجابات الآباء بشأنها، والتي انطوت على سياسات للألم، تظن نفسها قادرة على حجب ما يحدث عن أبنائنا وبناتنا، وهو ما أظنه غير صحيح. بالنهاية تتساقط تلك اللغة وعوالمها أمام واقع يتجاوز كل لغة، ويصيبها بخرس تام، فتتهاوى قدرتها الاعتياديّة على القول وإنتاج المعنى، وحينئذ يحلّ الصمت بديلًا عن الكلام، وفي الصمت يعاد ترتيب العالم بطرق مختلفة، لا باعتباره عالمًا لغويًا فقط، لكنه عالم واقعي أيضًا.
إن فشل أبوتنا المعاصرة من فشل لغتنا، وفشل لغتنا هو فشل دولنا، فمثلما لا تعود الدولة هي الإجابة عن الهوية، لا تصبح اللغة إجابة عما يحدث. في هذه اللحظة تحديدًا وبخيال سجناه خارج لغة البالغين، يمكننا تحرير هذا العالم.

لغة البالغين هنا تلعب بشكل مثير للانبهار دور السجن، وللسجن في الحالة الفلسطينية خصوصية شديدة، فهو مجاز شارح لموقع الفلسطيني في هذا العالم ومنه. السجن أهم مساحات الضبط والمراقبة والمعاقبة والنفي الواقعة على الوجود الفلسطيني، ليس في فلسطين فحسب، إنما في داخل أي مونولوغ ذاتي فلسطيني. 

السجن هو مساحة الحضور والغياب، وثنائية الحضور والغياب هنا هي ثنائية ضبطية تنتج تعادلاً صفرياً يجعل الواقعين تحت سلطتها أصفاراً منضبطة، أي لا فاعلية لهم في العلاقة مع أي شكل آخر من الوجود / التداول، أو حتى التفاوض، خارج هذا السجن أو داخله.  فالنظام يقبل تداولهم باعتبارهم أصفاراً لا حقوق / وجود / خطاب لهم بشأن ما يحدث في عالمنا مما نعتبره شأنا “للبالغين” وبلغتهم فقط. 

إلا أن هذا النظام، مثلما يقول فوكو: “يعكس مبدأ الزنزانة [….] وظائفها الثلاث: الحبس والحرمان من الضوء والإخفاء – ولا يُحتفظ إلّا بالوظيفة الأولى وتُلغى الوظيفتان الأُخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسر أكثر ممّا يأسر الظل الذي يحمي في النهاية. إن الرؤية هي شرك”(3). ونحن المحبوسون فيه، دون لغة يمكنها أن تكسر تلك العقدة، بمخيال طفولي مغاير.

هنا تأتي ميلاد، ابنة الأسير الفلسطيني الشهيد وليد دقة وتحريرها لكامل الجسد الاجتماعي والرمزي والمادي الفلسطيني(4)، والتي تعري كامل منظومة الحداثة تلك، والتي أخرستنا جميعًا، برضانا وبتواطؤ منا. لكن ميلاد، وبفرادتها التي لا تبدأ فقط من الإسم، وخلافا لما قد نظنه جميعًا، لم تأتي إلى هذا العالم وكأنها الاستثناء، فلوالدها ووالدتها قصة، خيالية بقدر ما هي واقعية، هددت دولًا صُنفت عالمًا أولًا، فكان من المنطقي أن تتوج تلك القصة بميلاد وطفولتها.

إن منطق ميلاد في فهم الدولة الحديثة، والطفولة والأمومة والأبوة، وقيم مثل العدل والحرية والجمال والحق، لهو منطق قادر على تفكيك كل منظومات العنف والعسف الاستعماري والرأسمال والامبريالي والجندري واللغوي، لهو أقدر على بناء وطرح ودمقرطة مفهمة للمقاومة والتحرر بما هما حياة يومية طفولية، لكننا كبالغين لا نستطيع فهمها لأننا محبوسون في لغتنا الباغلة، عن عالم البالغين، الذي ندفع ثمنه كل يوم من أطفالنا وأجسادهم وأحلامهم وأشلائهم ولغتهم وأوجاعهم.

إن اللحظة التي أنظر فيها إلى ابنتي في ساحة مدرستها، لا يميزها صراخ  أو فرط حركة أو حتى حركة معينة، فهي هادئة لا تبرز من بين أقرانها في الساحة والقاعة الصفية، تظل هي وأقرانها أقدر مني على التصارح مع الأبوة والطفولة والحرب والعدل والحب والله، وكل قضايا البالغين التي أفسدناها.

فلنحدث أبنائنا وبناتنا عن هذه الحرب، ولنورثهم/ن غضبنا وعجزنا، ولندعهم يفتحون تلك السجون التي سجنّا أنفسنا فيها. 

علهم يصلحون ما قد أفسدناه، ويعلموننا أبوة مختلفة عن تلك التي أفسدناها!
ولتسامحونا يا أطفال غزة!
 

هوامش:

  1. ينظر:

https://echoesandreflections.org/wp-content/uploads/2021/02/02-02-08_Student-Handout_NaziPropaganda-Examples.pdf

 
  1. ينظر كتابات والتر مغنولو، ومنها:

The Darker Side of Western Modernity, Walter Mignolo, Duke University Press, 2011

  1. ميشيل فوكو، “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن”، ترجمة علي مقلد ومطاع صفدي (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990)، ص 210.

  2. ينظر مادة للكاتب ، بعنوان “ميلاد تعيد ترسيم حدود الجسد الفلسطيني”، نُشرت سابقًا:
    https://www.alaraby.co.uk/%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%AA%D8%B1%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A

The post تأملات على هامش الحرب: عن الأبوة في الحرب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جوديث بتلر: حيث يُمنع النقد (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/21524 Mon, 29 Apr 2024 06:00:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d9%88%d8%af%d9%8a%d8%ab-%d8%a8%d8%aa%d9%84%d8%b1-%d8%ad%d9%8a%d8%ab-%d9%8a%d9%8f%d9%85%d9%86%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%82%d8%af-%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85%d8%a9/ نُشر المقال قبل الحراكات التضامنية في الجامعات الأمريكية. في “منشورات فيرسو” في ١٦٤٢٠٢٤.   أشعلت هجمات السابع من أكتوبر نقاشًا عامًا عن طبيعة التضامن، وكيف يمكن له أن يدعم النضال لتحرير فلسطين. هنا تقدم جوديث باتلر، ردًا مقتضبًا على جودي دين ونقدها لداعمي فلسطين، إلى جانب إعادة نشر مقال “حيث يمنع النقد”.   في خضم […]

The post جوديث بتلر: حيث يُمنع النقد (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نُشر المقال قبل الحراكات التضامنية في الجامعات الأمريكية. في “منشورات فيرسو” في ١٦٤٢٠٢٤.
 

أشعلت هجمات السابع من أكتوبر نقاشًا عامًا عن طبيعة التضامن، وكيف يمكن له أن يدعم النضال لتحرير فلسطين. هنا تقدم جوديث باتلر، ردًا مقتضبًا على جودي دين ونقدها لداعمي فلسطين، إلى جانب إعادة نشر مقال “حيث يمنع النقد”.

 

في خضم الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة، وبينما يُخرس أي نقاش في الجامعات بشأنها، بالكاد يبدو مهمًا أن أقول إنني ومعي آخرون، لم تعجبنا كل الحجج التي ساقتها بعض المجموعات الطلابية حول ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين أول. فعندما عرضت رأيي في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس(1) [ترجمتنا لها هنا]، حول اللغة التي استخدمتها لجنة دعم فلسطين في جامعة هارفارد، فإنني فعلت ذلك بروح الحوار، ودعمًا له، ولم أتوقع أن يتم إخراسهم بهذا الشكل، ولا حتى كم المضايقات واللمز اللذين تعرضوا لهما. ومع ذلك، لا تزال الفرصة سانحة للدفاع عن هؤلاء الطلاب -وكل الطلاب- وحقهم في التعبير عن وجهة نظرهم دون خوف من الانتقام أو التعرض للأذى.

إن أزمة الحرية الأكاديمية التي نواجهها حاليًا، ليست أقل وطأة مما كانت عليه في سنوات الماكارثية الأمريكية(2). فقد جُعلت تهمة معاداة السامية أداة لإخراس أي حديثٍ كان، وهو الأمر الذي ينبغي أن يشكل مصدر قلق شديد لكل من يهتم، ليس فقط بحرية التعبير في المجال العام، إنما أيضًا من يدافع عن الحرية الأكاديمية داخل أسوار الجامعة. فعندما تُعتبر الدعوات لوقف إطلاق النيران معاداة للسامية، فلن ينجو منها إلا أولئك الذي يدعمون حرب الإبادة الإسرائيلية الساعية للقضاء على كل الفلسطينيين في قطاع غزة. إن الخلط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، إنما يحقق أهداف الرقابة المتطرفة، التي تقيد من يعارض العنف الإسرائيلي المستمر، والذي قتل ما يزيد عن ثمانية عشر ألفًا(3) حتى الآن، ويدعو إلى التعبير عن الغضب الأخلاقي والسياسي والدفاع عن المبادئ الأساسية لحرية التعبير والعدالة السياسية. وإذا تجرأنا على وصف المقتلة بأنها إبادة، انطوت على نية الإبادة، أو حتى دونها، وهو ما أقره أكثر من 800 من الحقوقيين المختصين، فإننا نُتهم بمعاداة السامية. والسؤال؛ ما معنى أن يعلو صوتنا بالحديث ضد الإبادة الجماعية، في مواجهة كل هذا المنع وهذه الرقابة الشديدة؟ 

إن الحديث الذي يدافع عن الظلم هو الذي لا يجب الدفاع عنه.

عندما يزعم جنرالات الحرب الإسرائيليون، يدعمهم الرئيس هرتزوغ في ذلك، وعلانية، بأنه لا وجود لمدنيين في غزة (الأمر ليس بعيدًا عن عبارة غولدا مائير الشائنة بأنه “لا يوجد ما يسمى بشعب فلسطين”)، فإنهم -بذلك – يمهدون الطريق للتبرؤ التام من المسؤولية عن إبادة المدنيين في غزة. فإذا لم يكن هناك مدنيون، فلا يمكن، بحكم التعريف، أن تقع أي وفيات بين المدنيين، ولا يمكن ارتكاب جرائم حرب، وكل القتل حينئذ له ما يبرره. إن “نفي” هذا الادعاء؛ بأنه “لا قتل للمدنيين” إنما يقر ويثبت منطق الإبادة ذاته ويدل عليه، وبالتالي ينقض الادعاء -المقابل- بأن الإبادة تحدث ويمكن مقاومتها. ففعل المقتلة يتضمن -في جانب منه- الرقابة على أي خطاب من شأنه أن يمنحه تسمية إبادة جماعية أو حتى جريمة حرب، أو أن يدعو إلى إنهائه. فمن المنطقي، إذن، أن تتشكل المجموعات الطلابية الرافضة لهذا الأمر، وأن تنضم إلى مجموعات أخرى صغيرة أو حتى واسعة النطاق،  للاحتجاج على هذا المنطق المقيت وعلى المذبحة التي لا هوادة فيها، والتي يمررها ويشرعنها هذا المنطق الرقابي. وأولئك الذين يعارضون احتجاجاتهم -ونعني احتجاجات الطلاب- باعتبارها “معاداة للسامية”، يجعلون من تلك الوصمة رخيصة، ومضللة، في حين ينبغي لها أن تنحصر في الحالات الواضحة لمعاداة السامية، والتي تظهر في خطاب الصهيونية. وينبغي ذكر هذه الأسماء ومعارضتها لأن الوقوف ضد جميع أشكال العنصرية، أمر واجب. وكذلك ينبغي أيضا أن تكون معاداة السامية منفصلة عن معاداة القومية المسيحية التي تدعم الصهيونية، والتي يعطيها نتنياهو مبررًا. ولكن في هذه اللحظة بالذات، نحن مطالبون بأن نسأل كيف أن الرقابة والقمع والتسلط لا تقمع الحس العام بإدانة للجرائم ضد الإنسانية فحسب، بل تبرر القتل والاستمرار فيه.

ومن الغريب في هذا الشأن، أن أولئك الذين يعارضون الإبادة الجماعية، وفي إطار من التلاعب المدمر بالعقول، يُتهمون أحياناً بدعم الإبادة الجماعية (في نفس الوقت)، كما رأينا في حالة النائبة عن الحزب الجمهوري إليز ستيفانيك، في 7 ديسمبر/كانون الأول، في معرض استجوابها لرئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل ورئيسة هارفارد كلودين غاي، والذي تضمن عدداً من الأسئلة الافتراضية المشكوك في صحتها -باعتبار أن بعض العبارات الواردة في إشارات تلك الأسئلة تفترض قصدية الإبادة الجماعية- بدلاً من النظر إلى موقع تلك المعارضة الفعلي في حركات التحرر. أما “الانتفاضة”، التي تُترجم -عامةً- في اللغة العربية إلى “تمرد”(4)، تعني “أن يُنفض الشيء” أو “أن ينتفض بنفسه”. وهو مفهوم على أنه حركة ترفض أن تظل منقادة/مطواعة في مواجهة العنف الكولونيالي، بما هي محاولة لإزالة أغلال الحكم الكولونيالي، كما أنها دعوة إلى الوحدة فلسطينيًا. هل ينطوي ذلك بالضرورة على عنف إبادة جماعية؟، الإجابة في نظرنا: لا.

والآن، قد يتصور البعض أن المستعمَرين، بمجرد تحريرهم من أغلالهم، سينقلبون ضد المستعمِر بنيّة تنفيذ إبادة جماعية انتقامية. لكن التخيل ليس تنبؤاً في واقع الأمر. لن يحدث ذلك إذا تم نزع الاستعمار بشكل راديكالي وحاسم. ولكن إذا كان غضب الانتفاضة موجها ضد الحكم الاستعماري، فمن المرجح أن يؤدي نزع الاستعمار إلى شعور آخر: متعة التحرر، والشعور بالحرية، والانتهاء من القيود التي رزح تحتها الفلسطينيون والفلسطينيات لما يقارب -حتى اليوم- ستة وسبعين عامًا. ولا يحتاج المرء إلا إلى التساؤل عما إذا كان الفلسطينيون يفضلون أن تقتلهم جهات فاعلة غير يهودية للتأكد من أنهم يعارضون العنف الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية.

عندما سُئلت رئيسة جامعة هارفارد، عما إذا كانت جامعة هارفارد ستدين الدعوات إلى الإبادة الجماعية لليهود، ترددت قبل أن تجيب، ولها الحق في ذلك، لأن السؤال يفترض أن أي شخص يدعو إلى “الانتفاضة” أو يهتف لفلسطين حرة “من النهر إلى البحر”، يعبر عن نية الإبادة الجماعية أو أنه يشكل تهديداً ملموساً لطمس الحياة اليهودية الإسرائيلية، أو الوجود اليهودي بالمعنى الأعم. كان يجب أن يتوقف الاستجواب هناك ليكشف افتراضاته الهاربة ومع ذلك، فقد تم توحيدهما في لحظة الاستجواب: “الانتفاضة” و”من النهر إلى البحر”، دون توقف للتفكير، وجعل المصطلحين متطابقين مع الدعوة إلى الإبادة الجماعية ضد اليهود. حينها فهمت الدعوات إلى التحرير على أنها تهديدات بالعنف المعادي للسامية. عند استبعاد القدرة على التفكير في تلك الافتراضات المثيرة للريبة، يوضع الفخ. والنتيجة الرهيبة لذلك هي أنه لا يمكن أن يكون هناك نقد لآلة القتل الإسرائيلية، ولا خطاب معارض لها، إلا وفُسر على الفور على أنه دعوة إلى العنف إن لم يكن التهديد اللفظي بالعنف نفسه. وسيكون من حق أي رئيس لأي جامعة أن يتردد قبل الإجابة على مثل هذا السؤال، لأن المحقق عرض مجموعة من المواقع الزائفة والمفارقات الخداعة في الشكل الذي اتخذه ذلك السؤال، والأسئلة على شاكلته ومبناه. في أعقاب استقالة ماجيل، بات لدى الرئيسة غاي قرار أخلاقي وجب عليها اتخاذه: أن تواجه أشكالاً مختلفة من محاكم التفتيش التي تخلط بين مقاومة العنف الإسرائيلي وتبني نية الإبادة الجماعية، أو الدفاع عن حقوق الاحتجاج والاعتراض، أو أن تصبح  هي ذاتها أداة للرقابة والإنكار والتعامي. إن اعتذارها المعلن لا يبشر بالخير، على كل الأحوال. وأياً كان ما تقرره في النهاية فإنه سيشكل سابقة تبعية لكل من الحرية الأكاديمية وحرية التعبير.

وفي الجامعات، نتساءل عن المسألة من أجل مبانيها ومجالاتها. وإذا فقدنا تلك القدرة الحيوية من فصولنا الدراسية ومن الحياة العامة، فقد خسرنا مهمتنا، وخذلنا أنفسنا وأفشلنا طلابنا. إن المنطق الرقابي، عنيف في ذاته، ويترتب على ذلك أن نُلغى أو نتنازل عن مواقعنا، أو نتعرض للتشويه في وسائل الإعلام. ودون اقتناع، فإن الكثيرين منا يخضعون ببساطة للمطالبة بإعلان إدانتهم لحماس بطرق اعتبارية ليجدوا مهربًا من هذا الخوف الرمزي. لقد انعدم التفكير النقدي، وأصبحت المطالبة بإظهار الإدانة شكلا من أشكال الإرهاب الأخلاقي المفروض علينا جميعًا.

موقف غاي، ومنذ البداية، كان موقفًا معرضًا للخطر، منذ اللحظة الأولى التي سمحت فيها بتقليص مساحات الطلاب والامتناع عن دعم حقوقهم الأساسية في التجمع والتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وبطبيعة الحال، فقد انتقد الصهاينة ذلك، وسوف ينتقدونها الآن، لعدم تدخلها لإغلاق لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين بسرعة وبوحشية أكبر. وقد ساعد الجهد المبذول لقمع رسالة الطلاب على بدء موجة الرقابة على الحرم الجامعي التي نشهدها الآن، والتي تعمل بشكل رسمي وغير رسمي. وهذه الرقابة لا تغض الطرف عن استمرار حملة الذبح هذه ضد الفلسطينيين فحسب، بل هي بمثابة مرآة ومبرر لها في المساحات الأكاديمية والمعرفية، وبالتالي السياسية. فكما تغلق الدولة الإسرائيلية أبواب الحياة ، كذلك تفعل أشكال الرقابة تلك في ما يتعلق بأشكال التضامن مع الكفاح الفلسطيني (التي يُنظر إليها على أنها أكبر من فكرة التضامن مع حماس). فكلا الأمرين (حرب الدولة الإسرائيلية والرقابة على حركات التضامن) يتطلب الآخر، لأن الحرب على المدنيين لا يمكن كسبها إلا إذا: (أ) اقتنع المجتمع الدولي بأن المدنيين إما هم دروع بشرية أو أنهم جميعًا إرهابيين؛ (ب) قُمع النقد العلني الصريح لتلك الافتراضات، من بين أمور أخرى مروعة تحدث في هذه الحرب. وبعبارة أخرى، فإن القتل مع الإفلات من العقاب من هذا الحجم من القتل  يتطلب حملة رقابية تُنهي الخطاب الذي من شأنه أن يُطلق عليه اسماً صحيحاً ويعارضه ويعريه، فاضحًا تاريخ القتل، والعنف البنيوي للدولة نفسها.

لا يقتصر الأمر على طلاب هارفارد الذين يجدون خطابهم محصوراً في المجال العام بينما حيواتهم الخاصة تحاصرها الهجمات الإعلامية، والتربص، والمضايقة. في الواقع، يمكننا إن نقول أن جميع كلمات الطلاب التي تسعى إلى التصدي للخلط المتعمد بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، ليست وحدها المستهدفة، بل أي سعي إلى وصف القتل الإسرائيلي بأنه إبادة جماعية، هو هدف لهذه الحملات الرقابية. فالطلبة يتعرضون للمضايقات وتلغى عروض العمل المقدمة لهم، وتتهدم تطلعاتهم المهنية، كما أن قدرتهم على تحمل الاتهامات المروعة تؤدي إلى أشكال من الضرر النفسي لا يمكن لهم أن يتخلصوا منها ومن آثارها في فترة قصيرة.

ولو كانت هذه اللحظة التي نعيشها أقل خوفًا وكراهيةً مما هي عليه الآن، لأمكننا أن نتوقف لطرح بعض الأسئلة الهامة. هل حماس حركة إرهابية أو حركة مقاومة مسلحة؟ عندما يدافع الطلاب عن فلسطين، هل يطالبون بإنهاء الاستعمار، إنهاء عنف الدولة الإسرائيلية، أم أنهم يهتفون لموت الإسرائيليين؟ هل يجب أن نسألهم؟ هل علينا أن ننشغل لنكتشف ذلك، الآن؟ أم هل ينبغي لنا، كما يحصل معنا الآن، أن نقفز بسرعة إلى الاستنتاج بأن تحرير فلسطين يؤدي إلى موت الإسرائيليين بينما قد يؤدي، في الواقع، إلى إمكانية جديدة للتعايش، سواء في تجسد في حل دولة أو دولتين، أو في شكل آخر من أشكال الحكم؟

لا أزال متمسكة بدعمي لحركة مقاطعة البضائع الإسرائيلىة والمقاطعة الأكاديمية وسحب الاستثمارات، والتي تنسجم أدواتها وأهدافها غير العنيفة مع قيمي الخاصة. ولكن ربما كان من المهم أن نسأل أولئك الذين يدافعون عن حماس كحركة للمقاومة المسلحة كيف يضعون هذه المقاومة المسلحة في تاريخ من الصراعات المسلحة، وما هي، إن وجدت، الشروط التي يتعين استيفاؤها لإلقاء السلاح. وإحدى الإجابات الواضحة هي أن العنف الذي تمارسه إسرائيل يجب أن ينتهي قبلًا. وإذا كان عنف الدولة الإسرائيلية هو شرط إمكانية المقاومة المسلحة، فإن وقف هذا العنف سيُنتج بلا شك تشكيلة سياسية أخرى.

لقد اصطدمت مع لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين بشأن مقالتي التي قدمتها في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”(5) والتي أشرت فيها إلى أن “نظام الفصل العنصري هو الملام الوحيد هنا” على الهجمات المميتة التي تشنها حماس على أهداف إسرائيلية. وأعتقد أنه من الخطأ “أن نقسم المسؤولية بهذه الطريقة، ولا ينبغي لأي شيء أن يبرئ حماس من المسؤولية عن أعمال القتل البشعة التي ارتكبتها”. ولكنني أعتقد أن من غير المنطقي القول إن العنف الإسرائيلي هو نفس العنف الذي ترتكبه حماس، لأن حماس لديها خطتها الخاصة، وقرار شن صراع مسلح هو قرار تتحمل المسؤولية عنه. بل إن المرء يستطيع أن يقول إن (هذا) الادعاء بأن عنف حماس ليس سوى نفس العنف الإسرائيلي، إنما ينقلب على التقويض الإسرائيلي المستمر لفعالية الفلسطينيين الذين اتخذوا الموقف المؤيد للنضال المسلح. إن العنف الفلسطيني هنا ليس وسيطًا مقابلًا للعنف الإسرائيلي، ولكنه عنف له إسمه وأسبابه الخاصة به، بل وسياقه، أو هكذا أفترض. ومع ذلك، فإن الطلاب على حق بالتأكيد في أنه لن تكون هناك حاجة إلى صراع مسلح إذا لم يكن هناك استمرار لعنف الدولة الإسرائيلية، بشكل لا يمكن تحمله، وهي في هذه الحالة  قوة استعمارية تمارس قمعها ضد المحاصرين والمحرومين.

غير أن هذه الفكرة لا يمكننا تمريرها، ناهيك عن مناقشتها، في ظل الظروف التاريخية الراهنة، حيث يقتل الفلسطينيون والفلسطينيات في غزة، بل وكل فلسطيني هو هدف لهذه المقتلة. وإذا اعترضنا عليها نحن وإياهم، فإن ذلك لا يجعلنا مؤيدين لحماس، إنما فقط ناقدين للإبادة الجماعية.

واسمحوا لي بعد ذلك أن أعتذر وأوضح: إن الطلاب لهم كل الحق في معارضة الطريقة التي تم بها تأطير “الصراع” في الصحافة، والطريقة التي أصبحت بها 7 أكتوبر/تشرين الأول وأعمال حماس نقطة البداية الزائفة لأية مناقشة عامة، بما يطمس -مايزيد عن- خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال، والاعتقال، ونزع الملكية، وسرقة الأراضي التي سبقتها. وليس علينا أن نساند كل شيء يصدح به الطلاب، حول النقد غير المشروط للطريقة التي ألحقت بها الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة الضرر بهم، إلا أن لهم الحق في الكلام، والتحدث علناً ضد الظلم، وفي أن تكون أصواتهم مسموعة -ومُناقشة بنزاهة- في المجال العام. إن الرقابة على أصواتهم لا يمكن التهاون معها من جميع النواحي، لأنها تتطلب الصمت في مواجهة هجوم مروع على أرواح الفلسطينيين والتعامي عن مآلات المذبحة التي تشنها إسرائيل الآن في موقعها الأساسي في آلة الاستعمار؛ جزءا من حملة أطول لإنكار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في دياره وأرضه وحقه في تقرير مصيره السياسي دون عنف.

إن الرقابة والمنع هي دائما أدوات الضعفاء. صحيح، إنها أدوات تملك السلطة لنفسها، لكنها تعترف بأن الأمور تخرج بالفعل عن سيطرة من يستخدمونها. فأولئك الذين يوظفون تلك الأدوات يسعون إلى احتواء أو إلغاء وجهة نظر لا يريدون لها أن تصل إلى غيرهم. وبالتالي هم يعزون قوة كبيرة إلى وجهة النظر تلك، لأنهم يعلمون أن المواجهة المباشرة مع القمع والظلم، يمكن لها أن تجتذب المناصرين الذين ما زالوا يملكون الشجاعة لرؤية وتسمية ومواجهة كل هذا الرعب الذي يحدث، بلغة لا لبس فيها. ويمكن للرقابة أن تغرس الخوف في قلوب أولئك الذين يشاهدون أثرها بوصفها الجناح الثقافي للحملة العسكرية ضد فلسطين والفلسطينيين. ولكن هناك دائما أولئك الذين يرفضون أن يتم احتواؤهم أو إسكاتهم من قِبَل الرقابة، أولئك الذين تستثيرهم الحساسية ضد -كل أشكال- الرقابة ويعارضون خنق الكلام والنقاش والأفكار. دعونا ننضم إلى أولئك الذين يعتقدون أن طلاب هارفارد كانوا على حق في الكلام بحرية، والحق في معارضة الظلم، والحق في لفت الانتباه إلى التاريخ الأطول للعنف الذي توج في هذه اللحظة الرهيبة.

وينبغي أن تكون الجامعات أماكن نتمتع فيها بحرية التعلم عن كل ما له علاقة بوجهات النظر تلك، وحيث يكون الطلاب أحراراً في التعبير عن وجهات نظر مخالفة، وحيث ينبغي تشجيع المناقشات المتعلقة بمزايا آرائهم، وتبعاتها. وهناك الكثير من المحادثات التي ينبغي إجراؤها، بما في ذلك التساؤل عن الكيفية التي يمكن بها للذين التزموا منّا باللاعنف أن يضطلعوا بدور نشط في الحفاظ على حقوق التعبير وانتقاد الأكاذيب. إن الرقابة والمنع لهما أداتان أساسيتان لأي حكم استبدادي. وبما أن الهجمات على الديمقراطية متفشية ومتصاعدة، يقع على عاتق مديري الجامعات مسؤولية حماية حرية التعبير بما هي حق أصيل، خاصة عندما يكون الجو العام متوترًا، وتكون اللغة محفوفة بالمخاطر، وتحل الادعاءات والتهديدات محل التأمل والمناقشة. إن منع المرء من مقاومة الظلم هو في ذاته ظلم. هل من الممكن أن نجري نقاشاً حول العدالة؟ وقد تتاح للجامعة بعد ذلك فرصة لاستعادة سمعتها بما هي مكان للتفكير المنفتح. هل يمكننا الإستماع لطلابنا؟ وقد تُتاح للجامعة بعد ذلك فرصة أن تصبح مكانا للتعلم وأن تُقدِّم للعالم درسا جديدا في التواضع.

هوامش المترجم:

  1. المقالة المُشار إليها:
    https://www.lrb.co.uk/the-paper/v45/n20/judith-butler/the-compass-of-mourning

  2. المكارثية الأمريكية:

في شهر فبراير/شباط 1950 أعلن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية وينكسون جوزيف مكارثي أن لديه قائمة تضم 205 موظفين يعملون في وزارة الخارجية الأمريكية ويشتبه بأنهم شيوعيون.وبدأت حينها حملة كبيرة لمطاردة أي معارض أو ناقد للسياسة الأمريكية بدعوى محاربة الشيوعية، قامت بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بوجود أدلة. وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس. وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين والمعارضين.

  1. نشرت هذه المادة بتاريخ 16 نيسان أبريل 2024 وهو اليوم 202 من أيام حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وأهله، والتي قتلت حتى تاريخ ترجمة المادة ما يزيد عن الأربعين ألف مدني من أهل غزة، ثلثهم أو يزيد من الأطفال.

  2. في النص الأصلي، تقترح الكاتبة تعبير “Uprising” ترجمة لمصطلح “انتفاضة”، إلا أنها تغفل خصوصية التكوين التاريخي والسياقي لمصطلح انتفاضة، والذي أصبح المرادف الوحيد لنفسه دونًأ عن غيره. فالانتفاضة، ليست تمردًا ولا ثورة ولا عصيانًا ولا حراك شعبي، “الانتفاضة” هي انتفاضة. وهي بحسب الموسوعة البريطانية:

“مصطلح يشير إلى الانتفاضتين الشعبيتين للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بهدف إنهاء احتلال إسرائيل لتلك الأراضي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقد بدأت الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٧ وانتهت في أيلول/سبتمبر ١٩٩٣ بتوقيع اتفاقات أوسلو الأولى، التي وفرت إطارا لمفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. أما الانتفاضة الثانية، التي تسمى أحيانا انتفاضة الأقصى، فقد بدأت في أيلول/سبتمبر 2000. وعلى الرغم من أنه لم يشر أي حدث إلى نهايتها، فإن معظم المحللين يوافقون على أنها استمرت حتى عام 2005. وأسفرت الانتفاضتان عن مقتل أكثر من 000 5 فلسطيني ونحو 400 1 إسرائيلي”.

والانتفاضة بحسب تكوينها وسيرورتها وسياقها لا يمكن جعل أي من المصطلحات السابقة مرادفًا لها، وهو أمر معرفي قادر على إحداث عصيانًا معرفيًا مناهضيًا لكولونيالية العلوم السياسية والعلاقات الدولية الحديثة. ولعل ما قصدته بتلر هو بالانتفاضة، هو فعل الانتفاض/النفض، باعتباره فعلًا اهتزازيًا أو ارتجاجيًا قويًا، وهو ما لا يتحقق في فعل Uprising. 

  1. مصدر سابق

The post جوديث بتلر: حيث يُمنع النقد (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: في تأويل المسافة بيننا وبين غزة https://rommanmag.com/archives/21497 Thu, 11 Apr 2024 13:15:30 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%aa%d8%a3%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a7%d9%81%d8%a9/ في الخامس والعشرين من مارس آذار 2024، في مظاهرة حاشدة لحصار السفارة الإسرائيلية في عمّان، على خلفية المجازر وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وأهله، والتي شهدت عنفًا مفرطًا من قوات الأمن الأردنية، هتف المتظاهرون والمتظاهرات، موجهين ندائهم إلى الشعب المصري، متسائلين: “الشعب المصري عامل إيه؟ معبر رفح مسكِّر ليه؟”. ليرد المصريون والمصريات في اليوم […]

The post تأملات على هامش الحرب: في تأويل المسافة بيننا وبين غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الخامس والعشرين من مارس آذار 2024، في مظاهرة حاشدة لحصار السفارة الإسرائيلية في عمّان، على خلفية المجازر وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وأهله، والتي شهدت عنفًا مفرطًا من قوات الأمن الأردنية، هتف المتظاهرون والمتظاهرات، موجهين ندائهم إلى الشعب المصري، متسائلين: “الشعب المصري عامل إيه؟ معبر رفح مسكِّر ليه؟”. ليرد المصريون والمصريات في اليوم التالي في مظاهرة على سلم نقابة الصحفيين في القاهرة، هاتفين: “قول للرفاق في عمّان، مصر لسه حيّة كمان”، وتنتشر صورة من تطبيق خرائط غوغل توضح أن المجاعة على بعد 400 كلم من القاهرة، في محاولة مغايرة لتأمل المسافة. 

وأخيرًا، يعلق أهل غزة في خضم كل هذا الموت الأسود والتواطؤ العربي الرسمي، موجهين خطابهم لمتظاهري عمان: “صوتكم وصل”، و”عمان أقرب من رام الله”، في عتبة أخرى من التأويل. هذا الهتاف الذي أعطى للمسافات بين المدن والجغرافيا العربية (أو كما يحب دارسو العلوم السياسية والعلاقات الدولية تسميتها: الجيو-استراتيجيا) بعدًا مسافاتيًا رمزيًا، هدد الكثير من الأنظمة المتواطئة في هذه الحرب، حتى أن بعضهم جند منصاته الإعلامية لمهاجمة المتظاهرين والمتظاهرات في عمان ومصر، بدعوى أنهم “مؤامرة على الاستقرار”.

هذا الأمر وغيره من الشواهد والأحداث، يمثل تأويلًا مغايرًا للمسافة التي أورثتنا إياها الخرائط الرسمية والحديثة في السنوات المائة الأخيرة (على الأقل) للمنطقة، بمعنييها المادي (400 كلم)، والرمزي (رام الله – أوسلو). ما يستدعي شكلًا من أشكال المعرفة المناهضة للاستعمار في إدراك المسافة بما هي معادلة مركبة من الموقعية والمكانية والحداثية وغيرها، والذي بدأت شواهده في الظهور تراكميًا في الوعي الجمعي العربي، في السنوات والعقود الأخيرة (كانت 2011 إحدى ذُرى هذا التحول)، بشكل -نراه- بات منذرًا بتحول نقدي جذري، يهدد شكل الدولة الحديثة (المسماة) “ما بعد استعمارية” في العالم العربي، أو “القومية” في أدبيات استعمارية أخرى. ولعل هذا هو ما يفسر سلوك أجهزة الأمن العربية (في الأردن ومصر والمغرب وغيرها)، لا باعتبارها تعبر عن موقف علاقاتي اقتصادي وسياسي وتاريخي براغماتي اللبوس، إنما هي دفاعًا مقولة وجودها الأساسية(2).

مفهوم المسافة

إن المسافة، بما هي كيانية مادية مقاسة (في العتبة الأولى لفهمها: بما هي الامتداد بين نقطتين)، قامت على سياسات إنتاج حداثية تضمنت القياس، الخريطة، الحد، وهو البناء الذي يطمس المضمون الرمزي والتركيبي للمسافة ويقتصرها على محمولاتها المادية. والمسافة في هذا السياق تتضمن شكلًا أدائيًا Performative من الإدراك: القرب – البعد، بما هو علاقة بين الذات ومكانها، موقعها في العالم، والذات وما ترغب أن تكونه، أو تصله، كتعبير عن نفسها.

 وعليه فإن أشكال إدراكنا للمسافة في العالم العربي، الحداثي لا يمكن أن تستوعبه المنظومة الحداثية الجغرافية ذات الجذور الاستعمارية، إلا من خلال علاقات الإنتاج: إنتاج المسافة رقميًا، إنتاج المسافة كبنية تحتية، إنتاج المسافة كخطاب سياسي. بكلمات أخرى، لا يمكن للخرائط الحديثة والمسافة المقاسة بالكيلومترات فيها، والحدود الدولانية الحد(ا)يثة (أيضًا) أن تشرح شكل العلاقات بين الجماعات والقوميات والهويات حولها، والتي تتشكل من خلال العناصر التالية: القرب – الحدّ – البعد.

في كل أشكال الإدراك التي في المشاهد السابقة وغيرها، المسافة بيننا كمتظاهرين أو أفراد وجماعات وشعوب على أطراف الإبادة  (غير ناجين منها بمفهوم الألم)، تضمنت شكلًا من أشكال الحدود، سواءً حدًا دولانيًا كحدود الدولة الحديثة، أو حدًا مجاليًا، بمعنى “المدينة”، القبيلة، الجماعة، وغيرها. وإذ ثمة تعاضد بين شكلي الحدود هذين، يمكننا فهم خطاب الحملات الالكترونية (الذباب الالكتروني) الرافض للمظاهرات من حيث التركيز على ترسيم حدود الجماعات القومية، والقبائلية وغيرها، في الأردن ومصر وبعض دول الخليج، نموذجًا لهذا التعاضد(3).

هنا وجبت الإشارة إلى “عمل الحد”(4)، وليس الحد باعتباره أداة لفهم المسافة بيننا وبين غزة. فالحد هنا هو العتبة التي تنبني عليها مدركاتنا للمسافة في المخيال الحداثي، وهي أيضًا مفتاح تفكيك هذا المخيال الاستعماري الرأسمالي الجذور، بما هو أداة لأرضنة الحداثة/الرأسمالية/الاستعمار. وهو ما طرحه ديفيد هارفي في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” (2005)، من حيث كون الحد أداة تنظيم المادة والفضاء والزمن، في الحداثة وما بعدها، وهو الأساس في تكوين الدولة الحديثة. إلا أننا نطرح هنا “المسافة” بما هي مكون مجالي يضم المادة والفضاء والزمن، والحد، والأخير هو نقطة التكثيف التي يجب تفكيكها لمناهضة دورها الاستعماري.

إن هذه المقاربة المكانية و/أو الفضائية Spatial، هي الأساسية لإحداث هذا الفهم المناهض للاستعمار. وهنا نطرح ثيمات محددة لتفكيك مفهوم المسافة، ومحمولاته من العسف المعرفي ذو الجذور الكولونيالية الحداثية، وهي الجسد/الألم والمدينة والفرح والزمن والبحر، والهدم (إبادة المدن) والكتابة بالمحو.

أولًا: البحر:

كان اقتراح العالم الإنجليزي هالفورد ماكيندر بشأن الفرق ما بين المجال البري والبحري، هو الأطروحة الأساسية للمقاربات الجيوسياسية المعاصرة(5). ومن بعده قام كارل شميت، بالتأسيس الفكري والثقافي والفلسفي لتلك الثنائية(6). ولأن الحدود بين البر والبحر تبدو وكأنها ثابتة لا تتغير، فقد شكلت المجالات البحرية مساحات مطمئنة وخاملة، في ما يتعلق بسياسات الحدود بين البلدان، والسرديات الدولانية، في البر والبحر، بالنسبة للدولة الحديثة. أي أننا قلما ما نسائل البحار بما هي مساحات لتكوين سرديات الدولة، هي بدورها، إنما نعتبرها وكأنها أمر مسلم به، تابع للسياسية الدولانية البرية. وعليه فإن تاريخ البلدان الحديث (أو الحداثي) يتكون بالأساس بحسب العالم البري أكثر من البحري. (لا يمكننا أن نتخيل جماعات بدوية تعتاش مرتحلة على شطآن البحار، وتعتمد على صيد السمك، مثلًا! أو بدو رحل يعيشون في البحر، والصورة الأقرب لهذه الحالة كان القراصنة في القرنين الثامن والتاسع عشر، الذين كانوا مادة ثرية للشيطنة الخطابية الحداثية، قدمتهم باعتبارهم جماعة قذرة، ماديًا ورمزيًا، بلا أخلاق، وليسوا جماعات من الرحالة البحريين الثوريين. وحتى عندما نفكر في مساحات مائية أثرت على تاريخ الحضارة، يحضر في عقلنا الحداثي الأنهار والموانئ، لا البحار ولا المحيطات).

إن ما يفعله اليمن السعيد في مضيق باب المندب، يجب أن يدفعنا إلى فهم المجال الدولاني من خلال الطرف الأخفض صوتًا وهو البحر، لا باعتباره ابتعادًأ مسافاتيًا، بقدر ما هو مجال قرب، ودوره في تشكيل تاريخ معاصر مضاد للتاريخ والتأريخ الحداثي، الذي طمس التاريخ البحري للعرب، وسياسات انتاج المكان والفضاء الاجتماعي. ولو عدنا قليلًا إلى تاريخ البحر الأحمر، أو بحر الحميرين نسبة إلى الدولة الحميرية (115 قبل الميلاد – 525 ميلادية)، لوجدناه ضاجًا بالحياة في التاريخ العربي(7)، حتى أن ذكره يرد في كتابات عدد من الرحالة العرب والأجانب، مثل ناصر خسرو وإبن جبير وابن بطوطة وجون لويس بوركهارت، وسارل ديدييه.

إن العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بما هي علوم الحداثة وأدوات خطابها الاستعماري، ستقتصر الدور اليمني المساند، في شبكة العلاقات الجيوسياسية، دون أن تعي الدور التاريخي للبحر الأحمر في إنتاج وترسيم حدود الجماعة العربية التاريخية، تمامًا كما صدرت لنا صورة الصوماليين باعتبارهم قراصنة يسعون للمكاسب، متعامية عن دور القراصنة في مقاومة الاحتلال الأمريكي خلال تسعينيات القرن الماضي. وعليه يمكننا القول أن الحد الجنوبي لفلسطين هو باب المندب، وأن هناك تدور رحى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأمريكية الغربية، على غزة واليمن معًا.

ثانيًا: الزمن – التاريخ:

في النظر إلى المسافة بما هي معرفة، يقول المنظر الماركسي الفرنسي هنري ليفيفر(8):

“يعود الديالكتيك على جدول أعمالنا، لكنه ليس الديالكتيك الماركسي، كما كان هو الحال مع الديالكتيك الماركسي باعتباره لم يكن هو الهيغلي … الديالكتيك اليوم لم يعد متعلقًا بالتأريخ والزمن التاريخي، أو بآلية زمنية كتلك: “فرضية Thesis – فرضية مضادة Antithesis – تأليف Synthesis”، أو “برهان Affirmation – نفي Negation – ونفي النفي Negation of the Negation” … أن ندرك المكان، وما “وقع” فيه، وفيما وجد له، هو أن نستكمل الديالكتيك أنه من خلال التحليل ليظهر التراكب في المكان”(9).

إن الحدث الأساسي في غزة، بما هو إبادة ومحو، يتضمن في بنيته الوجود من خلال هذا المحو والطمس، وبالتالي يصبح السؤال عن العلاقة بين فعل الإبادة بما هو طمس، وفعل الأرشفة بما هو غياب، هو محاولة للتساؤل عن العلاقة بين الإبادة والأرشفة، بما أن كلا الفعلان/الممارستان يتضمنان شكلًأ من أشكال الغياب والمحو، في الإبادة يمحى الوجود، وفي الأرشفة يُفترض شكل واحد من الوجود بمحو غيره وممكناته. وفي وسط حمى الأرشفة الفلسطينية الآن، لعل التساؤل عن جدوى الأرشفة بطرائقها الحالية، هو فعل بحث عن شكل من أشكال الوجود الفلسطيني، الذي ينفتح على الأشكال الأخرى دون محو، ساعيًا إلى تأكيد وبناء مكون نقدي لهذا الوجود. سعي إلى فعل الأرشفة بما هو فعل تحرر، وليس فقط وجود.

ينطلق هذا الهاجس من واقع حال هوس الأرشفة الفلسطيني الحالي ومآلاته. فالسؤال عن أي فلسطين تلك التي في كل هذه المشاريع الأرشيفية والمسافة بينها وبين فلسطين التي نعرفها، والتي تتعرض الآن إلى حرب إبادة، على كامل جغرافيتها. 

ونموذجنا من عديد النماذج هنا، هو كتاب “كتاب الهدم”، والذي كانت السلطة الحاكمة في غزة قد أصدرته لتوثيق حجم الدمار العمراني والمديني الذي أحدثته حرب إسرائيل على القطاع في العام 2008-2009. كيف يمكننا كفلسطينيين أن نوثق ونؤرشف لهذه الحرب، وكيف سنذكرها. نموذجنا الثاني هو الملف الذي قدمه فريق جنوب أفريقيا في مرافعته ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، في محكمة العدل الدولية. والذي تضمن تسجيلات وشهادات لجنود الاحتلال الإسرائيلي، بما هي مواد إدانة بنية الإبادة الجماعية.

ما الذي يمكن للأرشفة الحالية والتوثيق أن توثقه حين توثق هذه الحرب، وكيف؟ يتضمن هذا التساؤل عتبتين أساسيتين: عتبة تعريف المادة الأرشيفية، فما هي طبيعتها، هل هي الأخبار المتعلقة بالحرب، وتفاصيلها ومجرياتها فقط، حتى هذه لا يمكن تعريفها بحسم. والثانية هي بناء العلائق بين المواد المعرّفة باعتبارها مادة أرشيفية، وهذه العلائق هي الفرجات بين المواد الأرشيفية، أي البحث في شكل العلاقة بين مادتين أرشيفيتين، أو أكثر. سؤال الربط هذا هو سؤال في جوهره مسافاتي، بمعنى أنه لا يتناول القرب والبعد من حيث أنهما مواد مقاسة بالواضح من العلوم السياسية والسردية الحداثية التاريخية، وهو ما تعكسه التوجهات الأيديولوجية والفصائلية في التوثيق الحالي لتاريخ فلسطين، بقدر ما ينفتح على المسافة كتأويل اجتماعي متعدد ومتداخل ومتجاوز للحقول في آن. بوصف آخر، ما الذي قد يربط مادتين أرشيفيتين في هذه الحرب، وكل الحروب والمذابح الإسرائيلية السابقة. كيف يمكننا فهم العلاقة بين الوالدية في هذه الحرب وبين كتاب “كتاب الهدم”؟، مثلًا.

قد يبدو هذا التساؤل عدميًا للوهلة الأولى، لكنه ينطلق في الأساس من الألم الحادث في هذه الحرب، والذي يجمعنا ويوحدنا كفلسطينيين وفلسطينيات، مع أنصار العدالة حول العالم، في الحاجة لطرائق تاريخية أخرى لفهم ما تمر به البشرية الآن.

تخبرنا جولييتا سن، في كتابها No Archive Will Restore You: “الأرشيف هو أمر محفز لنفسي بين أناي وذاتي”(10)

ثالثًا: الفرح والأمل:

ما زلت أتذكر السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، حين خرجت علينا محطات الأخبار، وأضاءت شاشات هواتفنا الذكية بالأخبار من غزة. إن الفرح في حينه كان مفتاح تحديد المسافة في شقيها:
المسافة بيننا وبين غزة من ناحية، والمسافة بين غزة وباقي فلسطين من ناحية أخرى، لقد أعاد هذا اليوم ترسيم حدود المسافة بالفرح. هو نفس الفرح الذي نحسه عند رؤية مظاهرات عمان والقاهرة، وغيرهما. هذا الفرح نفسه الذي أشرنا إليه باعتباره مهددًا لأنظمة عربية متواطئة هو الآن مفتاح فهم المسافات بين المدن والعواصم العربية، هو فرجات تأويليّة في مفاهيم وآليات إنتاج المعنى، ومقاومة استبداده الرمزي.

 إن التظاهر وحصار السفارات بما هو فعل مشاركة استراتيجي، هو كذلك فعل رمزي، يربط بين المشترك رمزيًا بين كل تلك المدن ومن بها. فالمتظاهرون الذي يحاصرون السفارات ويهتفون في الشوارع، إنما يحمون حقهم في الفرح والأمل، المشترك بين هذه المدن وفي تلك المسافات بينها. وامتلاك الأمل هنا يتضمن – مبدئيًا – امتلاك الحق في معنى خاص تتحكم فيه “الذات” إلى ما هو وراء المعنى المباشر للقوة، والردع، أي الحق في كتابة نفسها في مواجهة كتابة أخرى. إن الأمل في هذه المواجهة هو الامتحان الذي يُخرج “الوطن” و”الدين” و”العقل” وغيره، كمفاهيم ومقولات من حدود طمأنينتها. الأمل بما هو فعل تشاركي مديني هنا بما هو فعل نقدي يحدث داخل سياق “الوطن” ليفككه ويعيد بنائه، يفترض تساؤلًا عن كيف هو الوطن وليس ما هو الوطن، لتذوب حدود الدولة – الوطن، التي أجبرتنا خرائط سايكس بيكو على تضمينها في اللاوعي الفردي والجمعي لفهم المسافات والحدود. 

هل يمكننا هنا طرح الأمل والفرح باعتبارهما تأويلات للمسافة بيننا وبين الله؟

انتشرت في الأسابيع والشهور الأخيرة، مقاطع مرئية لشباب ينتزعون الحق في الدعاء لغزة في المساجد من أئمة تقاعسوا عن ذلك، وفي مقاطع أخرى رأينا لمعتمرين ومعتمرات في مكة يرفعون أعلام فلسطين، ولآخرين يعظون زوار أحد المطاعم الواجب مقاطعتها بعدم الشراء منهم، حتى أن ذلك الواعظ العجوز قال: “تدعون الله بقنوط في المسجد الحرام لنصرة أهل غزة، ومن ثم تخرجون لشراء وجبة من مطعم يدعم يدعم قتلتهم! ألا تخافون الله؟!”، ولآخرين في رام الله يقاطعون خطبة الجمعة لوزير الأوقاف الفلسطيني (سيء الذكر والوجه).

إن غزة الآن تقدم لنا طريقًا أقصر لإله أقرب.
 

كتبت هذه المادة على هامش مداخلة قدمها المؤلف في حوارية له مع الباحثة الفلسطينية سنابل عبد الرحمن، من تنظيم مجموعة نضالات في برلين، بتاريخ 15 مارس/آذار 2024. 

 

هوامش وإحالات:

  1. يبين كتاب «القاهرة ١٩٢١» للمؤرخ الأمريكي سي برادفوت، والمُترجم إلى العربية حديثًا، أن فلسطين التاريخية قُسّمت مرتين؛ المرة الثانية المعروفة في عام ١٩٤٧، أما المرة الأولى فكانت في مؤتمر القاهرة ١٩٢١، وقد نشأت إمارة شرق الأردن عن هذا التقسيم. وكان الهدف من هذا التقسيم الأول هو منح عرب فلسطين دولة في إطار محاولة تشرشل الموازنة بين وعد بريطانيا لحلفائها العرب (الشريف حسين وأسرته) بدولة عربية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ووعدها للصهاينة بدولة يهودية على أرض فلسطين (لا تمس مصالح بقية السكان)، ومسعاها التاريخي لتشكيل قاعدة غربية أمامية في الشرق. وقد رفض السير هربرت صموئيل، الصهيوني الجَلد، وأول مفوض بريطاني سامٍ على فلسطين، هذا المقترح أول الأمر (كان يريد فلسطين التاريخية كلها بما فيها شرق الأردن لليهود)، ولكنه كان سياسيًّا عقلانيًّا يعي أن تأييد بريطانيا لوطن يهودي على أرض فلسطين رهين تأييدها لشرق أردن عربي، فاستطاع تشرشل إقناعه بهذا المقترح في نهاية المطاف عن طريق تدخل حاسم من أحد مساعديه في وزارة المستعمرات، وهو توماس لورنس الشهير.
  2. يروي الكتاب أنه لما احتدم الخلاف بين «أنصار العرب» وأنصار الصهاينة من مندوبي المؤتمر، وجُلّهم موظفون بريطانيون استعماريون «عرض لورنس وجهة نظره في أن دولة عربية بقيادة [الأمير] عبد الله [ابن الشريف حسين] قد تكون صمّام أمان في المنطقة؛ إذ يمكن الضغط على حاكم يعتمد مركزه على التأييد البريطاني لحمله على كبح جماح معاداة الصهيونية في شرق الأردن. وردّ صموئيل بأنه يخشى استمرار الغارات العربية عبر الحدود إلى داخل فلسطين. ولكن لورنس عقّب قائلًا: إن مسألة هذه الغارات يمكن حلها على أفضل وجه من خلال نظام حكم جيد في شرق الأردن. وأضاف أن إدارة الوضع قد تتم على نحو فعال لمصلحة الطرفين إذا أظهر عبد الله حسن التصرف».
  3. شهدت شبكات التواصل الاجتماعي، في الأردن، بعضًا من الهجوم على المتظاهرين والمتظاهرات باعتبارهم يهددون الهوية الوطنية الأردنية، في استدعاء ضحل لنماذج الخطاب الاستعماري والقومي في سياساته الهوياتية. كما تضمن هذا الخطاب تهديدات مبطنة ومصرحة، ودعوة مفتوحة للأجهزة الأمنية لقمع المظاهرات والمتظاهرين.
  4. قد نرى أن استخدامات مفهوم الحدّ في العلوم الاجتماعية والإنسانية تنحصر في تيارين رئيسين؛ الأول نتج عن التيار النقدي Theory Borderland الذي حاول أن يبحث في المجموعات المهمشة التي تقطن في الأطراف مقارنة بالمركز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهي في العادة تحاول أن تعطي مساحة للتعبير عن ثنائية المركز الهامش بطريقة علائقية، ولكنها تظل الأغلب الأعم حبيسة هذه الثنائية، والتي لا نراها قادرة على تخطيها، وإنتاج معرفة نقدية مغايرة. وأما التيار الثاني والذي يتضمن تيارات معرفية ونظرية مختلفة ومتباينة، فهو  Frontier Studies، ولا يمكن الإشارة إلى توجه محدد فيه، عدا أنه يبحث في ديناميات الطرف من حيث هو جبهة نشاط إنساني واجتماعي واقتصادي وسياسي متوسع باستمرار. هنالك بعض الدراسات في هذا التيار التي تدرس التوسع الاستعماري باتجاه الأطراف من خلال دراسة وتحليل تجربة استعمار أمريكا الشمالية من قبل الأوروبيين، ولقد أفرزت هذه الأبحاث فهمًا معمقًا ونقديًا للجانب التوسعي للنظم الاستعمارية والرأسمالية. للإطلاع على طرق استخدام التيار الأول في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ينظر على سبيل المثال:
Smadar Lavie & Ted Swedenburg (eds.), Displacement, Diaspora, and Geographies of Identities (Durham/ London:Duke University Press, 1996); Gloria Anzaldua, Borderland/ La Frontera: The new Mestiza (San Francisco: Aunt Lute Books, 1987(
وأما التيار الثاني: Bjorn Thomassen, Liminality and the Modern (Burlington: Ashgate Publishing Limited, 2014).
Jessica Elbert Decker & Dylan Winchock (eds.), Borderlands and Liminal Subjects (Switzerland: Springer, 2017).
  1. يُنظر: Halford Mackinder, The Geographical Pivot of History, 1904
  2. يُنظر: Carl Schmitt, The Concept of the Political, (Chicago, Chicago University Press, 2006)
  3. يُنظر: جرجي زيدان، العرب قبل الإسلام، دار ومكتبة الحياة.
  4. سبق للكاتب تطرح مقاربة نقدية لأدبيات ليفيفر، يُنظر:
  5. النص الأصلي للاقتباس: “The dialectic is back on the agenda. But it is no longer Marx’s dialectic, just as Marx’s was no longer Hegel’s … The dialectic today no longer clings to historicity and historical time, or to a temporal mechanism such as ‘thesis- antithesis-synthesis’ or ‘affirmation – negation – negation of the negation’ … To recognize space, to recognize what ‘takes place’ there and what it is used for, is to resume the dialectic; analysis will reveal the contradiction of space”
يُنظر: Henry, Lefebvre, Dialectic Materialism, (Paris: Press Universitaires de France, 2009)
  1. Julietta, Singh, No Archive will Restore You, (California: Puntom Books, 2018), p26.

The post تأملات على هامش الحرب: في تأويل المسافة بيننا وبين غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ثماني مقولات ماركسية مباغتة (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/21492 Tue, 02 Apr 2024 05:53:36 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d9%85%d9%82%d9%88%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d8%a7%d8%b1%d9%83%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%a8%d8%a7%d8%ba%d8%aa%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85%d8%a9/ كتبها ميشيل أبولافية ونشرتها مجلة “جاكوبان” في 01122019.   نقاد ماركس، عادة ما يخطئون فهم الماركسيين العظام، وهنا محاولة لتصويب الأمر. ثمة العديد من الطرق لفهم ماركس، ولكل منها شرعيته، غير أن طرائق أخرى تسعى إلى إزاحة ماركس عن طريق استحضار بقايا الخطاب المناهض للشيوعية، فيسخرون منه باعتباره مبشرًا مخلصًا بالحتمية الاقتصادية، ويتحاملون على تحليلاته وتنبؤاته، […]

The post ثماني مقولات ماركسية مباغتة (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كتبها ميشيل أبولافية ونشرتها مجلة “جاكوبان” في 01122019.

 

نقاد ماركس، عادة ما يخطئون فهم الماركسيين العظام، وهنا محاولة لتصويب الأمر.

ثمة العديد من الطرق لفهم ماركس، ولكل منها شرعيته، غير أن طرائق أخرى تسعى إلى إزاحة ماركس عن طريق استحضار بقايا الخطاب المناهض للشيوعية، فيسخرون منه باعتباره مبشرًا مخلصًا بالحتمية الاقتصادية، ويتحاملون على تحليلاته وتنبؤاته، باعتبارها قد أخطأت مسارها بشكل فج. ماركس لم يكن على صواب دومًا، (من هو ليكون كذلك!). لكنه كان مصيبًا، أو على الأقل نجح في طرح مقولات يمكن الدفاع عنها، أكثر مما يدركه الناس عامة، ليظل محط اهتمام دائم. وعليه، حيث نسعى إلى دحض بعض الصور الأكثر عسفًا للمفكر الاشتراكي العظيم، نقدم هنا ثمانية ادعاءات أن تفسيرات لماركس والماركسية، لها مقبوليتها.

1.

يمكننا القول، ببساطة، أن ماركس لم يرفض الرأسمالية! بل كان منبهرًا بها، حتى أنه جادل بأنها المنظومة الأكثر إنتاجية التي شهدها العالم.

خلال فترة حكمها البسيطة، حوالي المائة عام، صنعت البرجوازية، قوى إنتاجية أكبر حجمًا وأشد وطأة من كل الأجيال التي سبقتها، مجتمعين. فإخضاع الإنسان لقوى الطبيعة، والميكنة، والتطبيقات الكيميائية على الصناعة والزراعة، والنقل البخاري، والسكك الحديدية، والتواصل الهاتفي، وتحويل قارات بأكملها لتصبح أراضٍ زراعية، وحفر قنوات الري، وإخراج جماعات كاملة إلى سطح الأرض. ما الذي قد تكون القرون السابقة قد شهدته أشد دلالة على قوى إنتاجية أثرت على البنية الاجتماعية بهذا الشكل؟ 

2.

لقد أصابت تنبؤات ماركس بدقة، بأن الرأسمالية ستنتج لنا ما بات يُعرف اليوم بالعولمة. وقد رأى ماركس أن الرأسمالية ستخلق سوقًا عالمية يتزايد فيها التعاون بين البلدان. 

فمن خلال استغلال هذه السوق العالمية، اكتسبت البرجوازية طابعًا كوزموبوليتيًّا، فيما يتعلق بالإنتاج والاستهلاك في كل بلد. وبالإشارة إلى أكثر ردود الفعل ضآلة بشأن هذا الطرح، التي سحبت الأرضية القومية التي وقفت عليها الثورة الصناعية، فدُمرت الصناعات القومية القديمة، ويجري ذلك بشكل يومي، وبدلًا من المجالية المحلية والوطنية التي أحاطت بتلك الصناعات وعلائقها والاكتفاء الذاتي بها، بتنا نتواصل بشكل شبكي في كل الاتجاهات وأصبح لدينا اعتمادية عالمية بين الأمم.  

3.

وخلافًا لما كان عليه الحال في المجتمعات السابقة، حيث كانت تميل إلى الحفاظ على التقاليد القديمة وأساليب الحياة السابقة، سعت الرأسمالية إلى ابتكار طرق جديدة وبديلة للإنتاج، سرعان ما أثرت على الطرق القديمة. فالتكنولوجيا، تغير شكل حياتنا كل يوم أسرع من أي وقتٍ مضى، والإنتاج القديم بات عليه أن يفسح المجال للجديد وأصحابه.

وعلى الرغم من أن الرأسماليين عادة ما يصورون هذا الجديد على أنه سلعة نقية، إلا أنه مصدر للقلق العميق، حتى لو كان مصحوبًا ببعض التغيرات الإيجابية. فمن الممكن أن يدفع الناس إلى قبول أن قيمهم ونظام حيواتهم السابق لم يعد لها مكان في العالم، وأنهم يعيشون كالخشب المُسنّدة. كما أن استخدام تكنولوجيات وأساليب إنتاج جديدة بغرض تحقيق أرباح لقلة من الناس، يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة. (لاشك أن ماركس، لو كان بيننا اليوم، لأشار إلى التغيرات البيئية باعتبارها نتيجة للرأسمالية المنفلتة من عقالها) 

لا يمكن للرأسمالية أن تستمر دون تثوير أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج، وبالتالي العلاقات المجتمعية ككل. إن ثورة الإنتاج المستمرة، وهذا الاضطراب المستمر لكامل البنية الاجتماعية، وانعدام اليقين الدائم، وهذا التعطش الذي يميز العصر البرجوازي عن كل العصور السابقة عليه. كل تلك العلاقات الثابتة والمتجمدة، بكل محمولاتها من تحيزات الآراء الوقورة، ستجرف بعيدًا، فيما ستتمركز العلاقات الحديثة جديدة التكوين، حتى قبل نضوجها. “كل ما هو صلب سيذوب في الهواء، وكل ما هو مقدس منبوذ، والإنسان في نهاية المطاف مجبر على مواجهة شروط الحياة الحقيقية وعلاقاته مع بني جنسه، بحواس واعية”(1)

4.

الشركات القوية، ومراكز الثروات، وأساليب الإنتاج الجديدة، جميعها تزيد من صعوبة الإنتاج الحرفي والمهني المستقل، وتجارة الطبقات الوسطى، والمحافظة على مراكز كل هؤلاء. إذ ينتهي بهم المطاف مكتسبين لمجموعات من المهارات التي لا أهمية لها، ليعملوا بها لصالح شركات تأسست أصلًا بهدف إزاحة هؤلاء من مجال العمل. بعبارة أخرى، لقد توقع ماركس إنشاء مجتمعات رأسمالية وولمارتية.(2)

فالطبقات الدنيا من الطبقة المتوسطة، وهم أصحاب الحرف الصغيرة والمتاجر والتجار المتقاعدين عمومًا، وكذلك أصحاب الحرف اليدوية والفلاحون، كلهم يغرقون تدريجيًا دوائر بروليتارية(3)، ويعود ذلك جزئيًا إلى أن رأس مال هذه الطبقة المنخفض، لا يكفي لأن يدخلها في دوائر الصناعة الحديثة، وإلا ستغرق في المنافسة مع كبار الرأسماليين، حيث مهاراتهم المتخصصة أصبحت بلا جدوى في مواجهة أساليب الإنتاج الحديثة.

5.

لم يسع ماركس إلى إلغاء أشكال المِلكية والتملك، ولم يرد للأغلبية الساحقة من الناس أن تمتلك العدد الأقل من السلع المادية، ولم يكن ماركس طوباويًا مناهضًا للمادية، بحال من الأحوال. كان كل ما عارضه ماركس هو الملكية الخاصة، في شكل تمركزها في يد الرأسماليين البرجوازيين. في الواقع، نجد في نهاية هذا المقطع، ماركس وانجلز، وبحسٍ ملؤه الاستهزاء، يتهمون الرأسمالية بحرمان الناس من “ممتلكاتهم التي اكتسبوها بأنفسهم”.

إن السمة المميزة للشيوعية، لا تكمن في إلغاء الملكية/التملك عمومًا، بل في إلغاء أشكاله البرجوازية. إلا أن الملكية البرجوازية الحديثة باتت التعبير النهائي والأكثر اكتمالًا لنظام الإنتاج والاستيلاء على كل شيء، والذي يقوم في أساسه على الفروقات الطبقية، واستغلال الأقلية للأكثرية.

بهذا المعنى، يمكننا تلخيص نظرية الشيوعيين في جملة واحدة، مفادها: إلغاء التملك الخاص.

وقد انتُقدنا، نحن الشيوعيين، على أساس أننا نعبر عن رغبتنا في إلغاء الحق في الامتلاك الفردي، بما هو ثمرة لعمل الفرد، باعتبار أن الممتلكات في هذه الحالة هي الأساس والنتيجة لكل حرية شخصية ونشاط واستقلال.  

إنها غنائم اكتسبها الفرد بصعوبة، وحقق بها ذاته! هل يعني ذلك أن ملكية الحرفي أو المزارع البسيط، هي شكل من أشكال الملكية التي سبقت البرجوازية؟ لا حاجة لإلغاء هذا الأمر، فقد دمره التطور الصناعي بالفعل، إلى حد كبير، ولا يزال يفعل ذلك كل يوم!

6. 

يعتقد ماركس أن البشر لديهم ميل طبيعي للشعور بالارتباط بالمواد التي صنعوها أو أنتجوها، وأسمى ذلك “تشيؤ” العمل، وقصد بذلك ما نضعه من ذواتنا في هذه الأعمال. فعندما يعجز المرء عن الارتباط بالمواد التي يصنعها، وأنه عنصر “خارج” عليه، فإنه ينفصل عن نتائج عمله هذا، مغتربًا عنه. كما لو كنت قد نحتّ تمثالًا، وسرعان ما أخذه أحدهم منك، ومنعك عن رؤيته أو لمسه بعد ذلك. يجادل ماركس بأن هذا ما مر به العمال في القرن التاسع عشر ، في مصانع الرأسمالية.

ما الذي يعنيه إذن اغتراب العمل؟

أولًا، واقع أن العمل هو أمر خارجي منفصل عن العامل، بمعنى أنه -العمل- لا ينتمي إلى الطبيعة الذاتية للعامل، وبالتالي، فهو لا يحقق ذاته من خلاله، بل يمحو نفسه، ولا يتحقق له الرضا، بل التعاسة، فلا يطور بحرية قدراته البدنية والعقلية، بل على العكس من ذلك. لذا ينتهي الأمر بالعامل أن يشعر بأنه منفصل عن عمله ومجاله، وكذلك عمله أمر منفصل عنه وعن ذاتيته. فهو يشعر بالأمان وبوطنه حين لا يعمل، فإذا عمل خرج منهما، لذلك فإن عمله، في هذه الحال، هو أمر قد أُجبر عليه، قسرًا. 

7. 

أراد لنا ماركس أن نكون قادرين على التحرر من طغيان تقسيم العمل وأيامه الطويلة، التي تمنع الأفراد من تطوير أنواع مختلفة من القدرات والمواهب. فنصبح خُدّامًا لنوع واحد فقط من الأنشطة، فتترك جوانب شخصياتنا المختلفة والمتنوعة دون تطوير. في اقتباس ملهم يؤطر ماركس الشاب دعوته تلك على النحو التالي:

بمجرد أن يبدأ توزيع العمل، يكون لكل فرد مجال نشاط خاص وحصري له، مجبرًا عليه، لا فكاك منه. أكان صيادًا أو صائد سمك، أو راعي قطيع، أو ناقدًا فذًا، يجب عليه أن يظل كذلك، إن أراد ألا يخسر سبل عيشه؛ بينما الأمر في المجتمع الشيوعي، حيث لا وجود لمجال حصري واحد لكل فرد، بل يمكن أن يكون منجزًا وفاعلًا في أكثر من مجال يرغبه، ويحقق ذاته فيه. ينظم المجتمع الإنتاج العام، جاعلًا من الممكن لي أن أفعل شيئًا ما اليوم، وغدًا شيئاً آخر، أصيد في الصباح، وفي الظهيرة أصطاد السمك، وحينما يحل المساء أرعى قطيعًا، وأتفرغ للنقد والتفكير بعد العشاء، تمامًا كما يراد لمن يمتلك عقلًا دون أن يجبر أن يكون صيادًا أو صائد سمك أو ناقدًا.

8.

لم يكن ماركس اقتصاديًا خالصًا، يؤمن بالحتمية الاقتصادية، كيف يفكر الناس ويتصرفون، هو أمر أثار اهتمامه. في رسالة كتبها انجلز بعد وفاة ماركس، شدد على أهمية الاقتصاد، وحاول أيضًا أن يوضح أنه ورفقيه -ماركس- قد أُسيء فهمهما، وأنهما قد تسببا في ذلك بشكل جزئي (ولنتنبه إلى آخر النقاط الماركسية في آخر النص):

أنا وماركس نلوم أنفسنا جزئيًا على حقيقة أن الشباب يركزون -أحيانًا- على الجانب الاقتصادي، أكثر مما يستحق. فكان علينا أن نشدد بدورنا على المبدأ الرئيسي، في مواجهة نقادنا وخصومنا، الذين أنكروه، بينما لم نمتلك الوقت الكافي، ولا الموقع اللازم ولا الفرصة الحقيقة، لنرد عليهم بما يستحقونه من عناصر أخرى ضالعة في أشكال التفاعل تلك. ولكن عندما يتعلق الأمر بعرض جزء من التاريخ، لجعل هذه التطبيقات عملية، كان أمرًا مختلفًا، ولا مجال للخطأ. إلا أنه، ولسوء الحظ، لم تسر الأمور بهذا الشكل، في كثير من الأحيان. حيث يعتقد الناس أنهم فهموا تمامًا نظرية جديدة، وأن بإمكانهم تطبيقها لحظة استيعاب مبادئها الرئيسية، بدهشة، دون أن يعوا ما قد يكون منها غير صحيح. ولا يمكنني هنا أن أعفي العديد من “الماركسيين”، من الجيل الأحدث من  هذا التقريع، حيث أن الكثير من سوءات الأمور أنتجت في هذا البند هي أيضًا…

 

الهوامش

  1. هذا اقتباس من ماركس في بيانه الشيوعي مع إنجلز، ونصه: ” All that is solid melts into air, all that is holy is profaned, and man is at last compelled to face with sober senses his real conditions of life, and his relations with his kind.”، يُنظر:
    Marx/Engels Selected Works, Vol. One, Progress Publishers, Moscow, 1969, pp. 98-137;
Translated: Samuel Moore in cooperation with Frederick Engels, 1888; (المترجم)
  1. في إشارة إلى مجموعة أسواق شركة وول مارت، وهي شركة متعددة الجنسيات للبيع بالتجزئة. لها فروع في 48 بلد، وتدير مواقع للتجارة الالكترونية على شبكة الانترنت. وتعد الشركة من كبريات شركات العمل في القطاع الخاص في العالم، حيث لها 10500 مخزن ومعرض حول العالم، بعضها بأسماء مختلفة، وتبيع مختلف المنتجات بداية من مواتد البقالة المنزلية الأساسية وصولًا إلى الأثاث المنزلي والأجهزة الالكترونية المعمرة، وغيرها. (المترجم) 
  2. البروليتاريا وفقًا لنظرية كارل ماركس، هو مصطلح يحدد فئة العمال المأجورين الذين يعملون في الإنتاج الصناعي والذين يعتمد دخلهم على بيع قوتهم الجسدانية العاملة. وكفئة اقتصادية تم تمييزها في أدبيات الماركسية عن الفقراء، والطبقات العاملة. ونظراً لوضعها التابع في مجتمع رأسمالي وآثار الكساد الاقتصادي على الأجور والعمالة، فإن البروليتاري كما يصفه الماركسيون يعيش عادة في فقر. غير أنه لم يكن لذلك مرتبطاً بالفقراء. (المترجم)

The post ثماني مقولات ماركسية مباغتة (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تأملات على هامش الحرب: في الفرح https://rommanmag.com/archives/21412 Mon, 18 Dec 2023 10:10:35 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%ad/ من أين تنبع الكتابة عن الفرح بين كل هذا الألم والوجع والموت والقهر والخيانات، في الحرب على غزة؟ وما المسافة بين الفرح والأمل هنا؟ تنبع هذه التأملات من مشهد الشاب الغزي الذي أطلق قذيفة تجاه مركبة/دبابة إسرائيلية، وبعد أن أصابها قفز فرحًا (مقاطع الإعلام الحربي التابع للجهاد الإسلامي، بتاريخ 8 كانون ثاني / ديسمبر 2023). […]

The post تأملات على هامش الحرب: في الفرح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
من أين تنبع الكتابة عن الفرح بين كل هذا الألم والوجع والموت والقهر والخيانات، في الحرب على غزة؟

وما المسافة بين الفرح والأمل هنا؟

تنبع هذه التأملات من مشهد الشاب الغزي الذي أطلق قذيفة تجاه مركبة/دبابة إسرائيلية، وبعد أن أصابها قفز فرحًا (مقاطع الإعلام الحربي التابع للجهاد الإسلامي، بتاريخ 8 كانون ثاني / ديسمبر 2023). مع التأكيد أن علاقتنا مع هذا الشاب وفي هذا المشهد، سواءً خلال هذه المادة، أو من خلال النص البصري (مقطع الفيديو) هي علاقة تنبني من خلال:

  1. جهلنا بهويته الفردية، وبالتالي فإننا نتعامل مع مفهوم الفرح باعتباره مشتركًا جمعيًا، تعبير صادق عن الرفح، وفي وصف أدق طفولي عفوي.

  2. من منّا سبق له أن هزم و/أو أحرق و/أو دمر دبابة إسرائيلية في مواجهة مباشرة؟
    وبالتالي فإن الفرح هنا خاص جدًا لدرجة الارتباط بجسده وفرادته وخصوصية الحدث.

غني عن القول أنّ الأمران متضاربان ومتعاكسان حدَّ التناقض، لكنهما متشابكين في النظر في هذا الفرح. ولنَجُّب المسافة بينهما، علينا أن نستدعي ممارسة أخرى في التحليل فهم تلك العاطفة الإنسانية الأساسية، والتي منذ الفصل بين الطبيعي والاجتماعي خضعت -بشكل مستمر- لعمليات إنتاج ومثاقفة. وبالتالي، وبتحركنا بين القطبين أعلاه، فإننا سنعمل على إرجاع فرحة ذلك المقاتل إلى بدائيتها وعفويتها الطفولية، بقدر ما نضيف عليها طبقات ثقافوية مركبة مرتبطة بالسياق الحربي، لتأمل خصوصيتها كفعل عفوي ومقاوم ونقدي في آن، في مواجهة منظومة استعمارية تمتد جذورها إلى القرن الثامن عشر، وتتجلى في لحظة مواجهة عسكرية جسدانية، تتواطأ فيها المادة والرمز والخطاب، من الدبابة وحتى اللغة.

الفرح بما هو أمل

أتمنى لو كانت لي القدرة على ولوج رأس هذا الشاب المجاهد، وتحديدًا المسافة، بالمعنى المكاني والرمزي والزمني، بين العين حين رَصَدَ الدبابة الإسرائيلية، والعقل الذي أعطى أوامر الإطلاق. في هذه المسافة، وهي مسافة سابقة على الفرحة كنتيجة، تتراكم طبقات مختلفة من ثنائية الإدارك (الرصد) – والفعل (الإطلاق)، أي أن أدرك الشيء/الحدث، ثم أتصرف في مواجهته. هنا يُمتحن “الأمل”، لا باعتباره ممارسة خطابية تراكمية كالتنشئة الأيديولوجية التي خضع لها هذا المقاتل، أو الوطنية، أو ممارسة ضبطية – تدريبية كالتدريب العسكري الذي خضع له، وليس أيضًا ممارسة أدائية كالعلوم السياسية أو الخطاب القومي والوطني، إنما هو أمل نفسي، يمتحن كل تلك الممارسات ويكثفها في أقل فترة زمنية بين الموقعين (العين – العقل). الأمل هنا في هذه المسافة هو ممارسة نقدية للعلاقة بين الإدراك: ما أدركه، والفعل: ماذا سأفعل تجاه ما أدركه.

الأمل هنا في هذه المسافة، هو فرجات تأويليّة في مفاهيم وآليات إنتاج المعنى، ومقاومة استبداده الرمزي. فالدبابة التي رصدها العقل، لا شك تحضر في معنى المواجهة باعتبارها آلة قتل، وبالذات أن هذا الشاب يواجهها بجسده المباشر (على جلده)، وعليه فإن أمل إصابته لها هو تأويل آخر لقوته في مواجهتها (قوته الجلدية/الجسدانية)، ليس محكومًا بموضوعية المواجهة فعليًا. وامتلاك الأمل هنا يتضمن – مبدئيًا – امتلاك الحق في معنى خاص تتحكم فيه “الذات” إلى ما هو وراء المعنى المباشر للقوة، والردع، أي الحق في كتابة نفسها في مواجهة كتابة أخرى. إن الأمل في هذه المواجهة هو الامتحان الذي يُخرج “الوطن” و”الدين” و”العقل” وغيره، كمفاهيم ومقولات من حدود طمأنينتها، إلى انبعاثات جديدة. وليست المواجهة وحدها، باعتبارها أمرًا مفهومًا بشكل ضمني في ثنائية الوطني واللاوطني، أو الديني واللاديني، أو العقلاني وغير العقلاني. إنما الأمل هنا بما هو فعل نقدي يحدث داخل سياق “الوطن” ليفككه ويعيد بنائه، يفترض تساؤلًا عن كيف هو الوطن وليس ما هو الوطن، لتذوب حدود الدولة – الوطن، وتتركز مسامات الوطن – الفكرة، فتوحد بين فلسطينيين الشتات والضفة وغزة والداخل المحتل، في فلسطينية منفتحة على قيم الحق والتحرر غير المسيَّسة، وكذلك تغيير ضوابط التصور الخطابي الديني بما هو آلية تصنيف وإعادته لما هو بحق منظومة معاني وقيم، كما حدث مع لفظة “جهاد – مجاهد”، والتي  بتكثيف الأمل والحق تحررت من صورها الاستشراقية العتيدة، حتى وجدنا أننا وغيرنا نتشارك المجاهد “فرحة” جهاده، وأخيرًا هزيمة العقل الذي يعقلن الموت أمام الدبابة باسم المادة وسياسات الانتاج، لينتصر الأمل للاعقل الذي يقول أن الفرحة أقوى من مدفع الدبابة.

الفرح بما هو إمكان

ليس السؤال هنا “ما الممكن أن يكون بين الإدراك والفعل؟”، إنما هو: “كيف يمكن لهذا الممكن أن يكون”؟ 

ينطلق مفهوم “سياسات الأمل” Politics of Hope، من فكرة مفادها أن الوجود الإنساني هو وجود زمني، أي أنه وجود تاريخي، يحدده الأمل كفعل استثنائي عارض في لحظة تضاد مع الفاعلية، ليصبح هو الفاعلية. وإذا عدنا إلى لحظة رؤية المقاتل للدبابة، باعتبارها لحظة/زمنية تحليلية للأمل، نقول:

 الاحتلال الاستعماري لفلسطين هو ظاهرة لا يمكننا تفسيرها إلا داخل فلسفة التاريخ التي أنتجتها: أي الحداثة. وليست فلسفة التاريخ تلك بما هي منظومة تفسيرية، سوى فلسفة التاريخ التي تشكلت في ضوء مقولة: أنا أفكر إذن أنا موجود، أو الكوجيطو الديكارتي.

لكن التفسير هنا بما هو تفكيك يختلف عن المقاومة بما هي نقض، أي أنّ نقض الدبابة مختلف عن فهم التطور العسكري الذي صنعها وموازيين القوى الاستراتيجية والعقلانية. فالنقض يستلزم التفسير لكن التفسير لا يؤدي إلى النقض بالضرورة. إنّ التفسير في حالة النقض/المقاومة لا يخضع لفلسفة التاريخ التي يحدث فيها فعل التفسير؛ وإلا فإن منطق الدبابة سيتغلب بالضرورة على الشاب المجاهد الراجل بنعله الخفيف، بحسابات الاستراتيجيا الحداثية والعقلانية الحداثية المادية (الكوجيطو القمعي)، أي أن الوجود سابق على التفكير، وهي مساهمة الغزي الفلسفية الأساسية في هذه الحرب.

فالأمل كوجود مقاوم، بين الإدراك والفعل، هو وجود زمني/تاريخي، أي أنه يحدث في الزمن/التاريخ كممارسة تستلزم درجة ما من التأمل في تفاصيل الواقع ودينامياته والاشتباك معها (الدبابة)، وبالتالي فإنه -الأمل- وجود نقدي مواجه لفلسفة التاريخ الحديث، حتى وإن تعاضد مع حركات التحرير والنضالات الأخرى. ففي الفلسطيني من الجزائري والجنوب أفريقي والهندي والساكن الأصلاني في أمريكا الشمالية وأستراليا واستونيا الكثير، لكن الاستعمار الفرنسي والبريطاني والألماني والإيطالي، والاستيطان في استونيا وسيرلانكا واستراليا، وأخيرًا نظام الأبارتهايد، لن يفسروا “المسألة الفلسطينية”، الأمل هنا هو تمرين مكثف للتفكير والتفلسف، كذلك كانت فرحة الشاب الغزي.

والأمل في ذاته ليس “حدثًا” Event إنما “سيرورة” Process، فنحن لا نملك الأمل إلا إذا كانت العلاقة مع الواقع علاقة سيرورة ممتدة في الزمن/التاريخ، كفاعلين وليس مفعول بنا، وهو ما نفترضه جدلًا في النظر إلى القسامي وهو يطلق النار (قبل وبعد الاطلاق)، بغض النظر عن غلبة قوة الردع للدبابة، التي نظن أنها مفهومة ضمنًا وعقلًا. وعليه فالأمل كيان/وجود فاعل، وليس سلبيًا، هو ممارسة عملياتيّة تجاه الفاعلية التاريخيّة للأنا والنحن، أي تجاه معنى وجودهما في الزمان/التاريخ والمكان/الجغرافيا.

قد يغدو الأمل رفاهيّة في واقعيّةٍ مُدّعاةٍ لليأس والهزيمة، واقعيّة – على عكس الأمل – يمكن رسم حدود “راهنيّتها” بوضوح الدم والهدم، لكن ثمة فارق في ما يتعلق بالأمل وعلاقته التأويلية بالنحن؛ في الأمل “نحن” لا نوجد “في” الراهن الزمني، بل “نحن” بنيّة الراهن، وسيرورته. فالمقاومة تطرح آلية انتماء للنحن وللزمن، تتأسس على فكرة امتلاك المعنى كسيرورة، في مواجهة صلابة بناء الحدث/ النصّ الحداثي.

هنا نتماهى فعليًا مع الغزي وفرحته الخاصة العامة، لأن هذه المواجهة، هي التي أعطت وجودنا كفلسطينيين وعربًا و”أحرار العالم” شكلًا من الراهنية الزمنية/التاريخية، نحن بنيتها!

الفرح بما هو واقعية

لعل النزوع غير الموضوعي أحيانًا للتمسك بالأمل كحالة دفاعيّة عن الحق في الحرية والانعتاق من التحرر هو نزوع موضوعي في جذره، ببعض التأمل. هو نزوع للتمسك بإمكان فلسفي وتاريخي لتحقيق الـ”نحن” الفلسطينية الحرّة كممارسة، ووجود فاعل، وجماعة قادرة على ترسيم حدودها (ذات وآخر) على أساس قيمي (العدل والحرية) متجاوز لترسيم الجماعات في الحداثة (67، 48، ضفة وقطاع، مواطنين، جنود، سياسيين، شخصيات عامة، وغيرها).

 هذا هو ما تشهد به التحولات التي يفرضها الأمل كمقاومة على ثلاثة مباني حداثية أساسية ساهمت في قمعنا وطمسنا كفلسطينيين وفلسطينيات مستعمرين:

  1. الابستمولوجيا: ولعل ما بدأ يحدث في المعارف الحداثية الغربية نموذج نرى أنه سيكمل، ليصل إلى معارف بديلة ومغايرة ومضادة للكولونيالية.

  2. الأكاديميا: والتي لطالما كانت أداة الاستعمار في إنتاج الخطاب المعرفي عن العالم العربي، والأكاديميا الإسرائيلية نموذج.

  3. الإجراء السياسي الدولاني (الدولة الحديثة): وهو ما كثفته مواجهات الرأي العام العالمي (كجماعة عضوية عابر للحدود الدولانية) مع الدولة الحديثة أي دولة (كإجراء بيروقراطي مواردي مستهدف)، كإيقاف السفن المحملة بالأسلحة إلى إسرائيل، أو دعوات سحب الإيداعات من البنوك، أو دعوات الإضراب العالمية، وغيرها. وحري بالذكر أن كل نطاقات المواجهة تلك هي نطاق ترسيم حدود الدولة في عصر العولمة: الموانئ، الجامعات، البورصات، البنوك، وغيرها.

يقول ماكس شتيرنر: “حالة الحرية ليس بوسعي أن أريدها حقًا بما أنه لا يسعني تحقيقها وصنعها؛ كل ما أستطيعه هو الرغبة بها والحلم فيها، وذلك أنها تظل مثلًا أعلى، تظل شبحًا”. إن الأمل في المسافة الذهنية في عقل الغزي المجاهد، بين رؤية الدبابة والإطلاق، هو الذي يجعل هذا الشبح/ الحلم واقعًا، ومنح الفلسطينيين والفلسطينيات في هذا الفرحة كل الأسباب الموضوعية وغير الموضوعية، هي فاعلية Agency للحق في تخيل الحرية، فقط لأن فعل إطلاق القذيفة هو فعل يدرك لا واقعية المواجهة بشكل واقعي. فيحوّل الاستطاعة والأمل إلى تجربة تاريخيّة قادرة على تشكيل المجتمعات والشرط التاريخي، والحداثي، بشكل يشي بتفكك رمزية القوة السياسية، في صورتها الأكثر فجاجة: الدبابة – الحرب.

والأمل في تلك المسافة في عقل الشاب الغزي المجاهد، هو حالة كثيفة من المشاعر والانفعالات، التي تكثفها اللحظة والسياق. إلا أنها سابقة على الأسئلة التأويليّة في مواجهة سؤال المواجهة: “أنا أم الدبابة؟”. ونحن في النظر إلى الفرح، إنما نمسك التأويل بعد حدوثه، وبعد خوض المجاهد لمواجهته بالنيابة عنا جميعًا، ولذا يظهر التأويل حيث نحن كمتلقين، كفن القوس المشدودة التي تعلم المرء كيف يذهب إلى أبعد من نفسه ويتغلب على حدودها، تلك النفس – الذات التي ورثناها من الحداثة، ولم نشارك في صنعها وتحريرها إلا الآن، من خلال هذه الفرحة الطفولية لذاك الشاب المجاهد.

The post تأملات على هامش الحرب: في الفرح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>