نُشر المقال قبل الحراكات التضامنية في الجامعات الأمريكية. في “منشورات فيرسو” في ١٦٤٢٠٢٤.
أشعلت هجمات السابع من أكتوبر نقاشًا عامًا عن طبيعة التضامن، وكيف يمكن له أن يدعم النضال لتحرير فلسطين. هنا تقدم جوديث باتلر، ردًا مقتضبًا على جودي دين ونقدها لداعمي فلسطين، إلى جانب إعادة نشر مقال “حيث يمنع النقد”.
في خضم الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة، وبينما يُخرس أي نقاش في الجامعات بشأنها، بالكاد يبدو مهمًا أن أقول إنني ومعي آخرون، لم تعجبنا كل الحجج التي ساقتها بعض المجموعات الطلابية حول ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين أول. فعندما عرضت رأيي في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس(1) [ترجمتنا لها هنا]، حول اللغة التي استخدمتها لجنة دعم فلسطين في جامعة هارفارد، فإنني فعلت ذلك بروح الحوار، ودعمًا له، ولم أتوقع أن يتم إخراسهم بهذا الشكل، ولا حتى كم المضايقات واللمز اللذين تعرضوا لهما. ومع ذلك، لا تزال الفرصة سانحة للدفاع عن هؤلاء الطلاب -وكل الطلاب- وحقهم في التعبير عن وجهة نظرهم دون خوف من الانتقام أو التعرض للأذى.
إن أزمة الحرية الأكاديمية التي نواجهها حاليًا، ليست أقل وطأة مما كانت عليه في سنوات الماكارثية الأمريكية(2). فقد جُعلت تهمة معاداة السامية أداة لإخراس أي حديثٍ كان، وهو الأمر الذي ينبغي أن يشكل مصدر قلق شديد لكل من يهتم، ليس فقط بحرية التعبير في المجال العام، إنما أيضًا من يدافع عن الحرية الأكاديمية داخل أسوار الجامعة. فعندما تُعتبر الدعوات لوقف إطلاق النيران معاداة للسامية، فلن ينجو منها إلا أولئك الذي يدعمون حرب الإبادة الإسرائيلية الساعية للقضاء على كل الفلسطينيين في قطاع غزة. إن الخلط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، إنما يحقق أهداف الرقابة المتطرفة، التي تقيد من يعارض العنف الإسرائيلي المستمر، والذي قتل ما يزيد عن ثمانية عشر ألفًا(3) حتى الآن، ويدعو إلى التعبير عن الغضب الأخلاقي والسياسي والدفاع عن المبادئ الأساسية لحرية التعبير والعدالة السياسية. وإذا تجرأنا على وصف المقتلة بأنها إبادة، انطوت على نية الإبادة، أو حتى دونها، وهو ما أقره أكثر من 800 من الحقوقيين المختصين، فإننا نُتهم بمعاداة السامية. والسؤال؛ ما معنى أن يعلو صوتنا بالحديث ضد الإبادة الجماعية، في مواجهة كل هذا المنع وهذه الرقابة الشديدة؟
إن الحديث الذي يدافع عن الظلم هو الذي لا يجب الدفاع عنه.
عندما يزعم جنرالات الحرب الإسرائيليون، يدعمهم الرئيس هرتزوغ في ذلك، وعلانية، بأنه لا وجود لمدنيين في غزة (الأمر ليس بعيدًا عن عبارة غولدا مائير الشائنة بأنه “لا يوجد ما يسمى بشعب فلسطين”)، فإنهم -بذلك – يمهدون الطريق للتبرؤ التام من المسؤولية عن إبادة المدنيين في غزة. فإذا لم يكن هناك مدنيون، فلا يمكن، بحكم التعريف، أن تقع أي وفيات بين المدنيين، ولا يمكن ارتكاب جرائم حرب، وكل القتل حينئذ له ما يبرره. إن “نفي” هذا الادعاء؛ بأنه “لا قتل للمدنيين” إنما يقر ويثبت منطق الإبادة ذاته ويدل عليه، وبالتالي ينقض الادعاء -المقابل- بأن الإبادة تحدث ويمكن مقاومتها. ففعل المقتلة يتضمن -في جانب منه- الرقابة على أي خطاب من شأنه أن يمنحه تسمية إبادة جماعية أو حتى جريمة حرب، أو أن يدعو إلى إنهائه. فمن المنطقي، إذن، أن تتشكل المجموعات الطلابية الرافضة لهذا الأمر، وأن تنضم إلى مجموعات أخرى صغيرة أو حتى واسعة النطاق، للاحتجاج على هذا المنطق المقيت وعلى المذبحة التي لا هوادة فيها، والتي يمررها ويشرعنها هذا المنطق الرقابي. وأولئك الذين يعارضون احتجاجاتهم -ونعني احتجاجات الطلاب- باعتبارها “معاداة للسامية”، يجعلون من تلك الوصمة رخيصة، ومضللة، في حين ينبغي لها أن تنحصر في الحالات الواضحة لمعاداة السامية، والتي تظهر في خطاب الصهيونية. وينبغي ذكر هذه الأسماء ومعارضتها لأن الوقوف ضد جميع أشكال العنصرية، أمر واجب. وكذلك ينبغي أيضا أن تكون معاداة السامية منفصلة عن معاداة القومية المسيحية التي تدعم الصهيونية، والتي يعطيها نتنياهو مبررًا. ولكن في هذه اللحظة بالذات، نحن مطالبون بأن نسأل كيف أن الرقابة والقمع والتسلط لا تقمع الحس العام بإدانة للجرائم ضد الإنسانية فحسب، بل تبرر القتل والاستمرار فيه.
ومن الغريب في هذا الشأن، أن أولئك الذين يعارضون الإبادة الجماعية، وفي إطار من التلاعب المدمر بالعقول، يُتهمون أحياناً بدعم الإبادة الجماعية (في نفس الوقت)، كما رأينا في حالة النائبة عن الحزب الجمهوري إليز ستيفانيك، في 7 ديسمبر/كانون الأول، في معرض استجوابها لرئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل ورئيسة هارفارد كلودين غاي، والذي تضمن عدداً من الأسئلة الافتراضية المشكوك في صحتها -باعتبار أن بعض العبارات الواردة في إشارات تلك الأسئلة تفترض قصدية الإبادة الجماعية- بدلاً من النظر إلى موقع تلك المعارضة الفعلي في حركات التحرر. أما “الانتفاضة”، التي تُترجم -عامةً- في اللغة العربية إلى “تمرد”(4)، تعني “أن يُنفض الشيء” أو “أن ينتفض بنفسه”. وهو مفهوم على أنه حركة ترفض أن تظل منقادة/مطواعة في مواجهة العنف الكولونيالي، بما هي محاولة لإزالة أغلال الحكم الكولونيالي، كما أنها دعوة إلى الوحدة فلسطينيًا. هل ينطوي ذلك بالضرورة على عنف إبادة جماعية؟، الإجابة في نظرنا: لا.
والآن، قد يتصور البعض أن المستعمَرين، بمجرد تحريرهم من أغلالهم، سينقلبون ضد المستعمِر بنيّة تنفيذ إبادة جماعية انتقامية. لكن التخيل ليس تنبؤاً في واقع الأمر. لن يحدث ذلك إذا تم نزع الاستعمار بشكل راديكالي وحاسم. ولكن إذا كان غضب الانتفاضة موجها ضد الحكم الاستعماري، فمن المرجح أن يؤدي نزع الاستعمار إلى شعور آخر: متعة التحرر، والشعور بالحرية، والانتهاء من القيود التي رزح تحتها الفلسطينيون والفلسطينيات لما يقارب -حتى اليوم- ستة وسبعين عامًا. ولا يحتاج المرء إلا إلى التساؤل عما إذا كان الفلسطينيون يفضلون أن تقتلهم جهات فاعلة غير يهودية للتأكد من أنهم يعارضون العنف الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية.
عندما سُئلت رئيسة جامعة هارفارد، عما إذا كانت جامعة هارفارد ستدين الدعوات إلى الإبادة الجماعية لليهود، ترددت قبل أن تجيب، ولها الحق في ذلك، لأن السؤال يفترض أن أي شخص يدعو إلى “الانتفاضة” أو يهتف لفلسطين حرة “من النهر إلى البحر”، يعبر عن نية الإبادة الجماعية أو أنه يشكل تهديداً ملموساً لطمس الحياة اليهودية الإسرائيلية، أو الوجود اليهودي بالمعنى الأعم. كان يجب أن يتوقف الاستجواب هناك ليكشف افتراضاته الهاربة ومع ذلك، فقد تم توحيدهما في لحظة الاستجواب: “الانتفاضة” و”من النهر إلى البحر”، دون توقف للتفكير، وجعل المصطلحين متطابقين مع الدعوة إلى الإبادة الجماعية ضد اليهود. حينها فهمت الدعوات إلى التحرير على أنها تهديدات بالعنف المعادي للسامية. عند استبعاد القدرة على التفكير في تلك الافتراضات المثيرة للريبة، يوضع الفخ. والنتيجة الرهيبة لذلك هي أنه لا يمكن أن يكون هناك نقد لآلة القتل الإسرائيلية، ولا خطاب معارض لها، إلا وفُسر على الفور على أنه دعوة إلى العنف إن لم يكن التهديد اللفظي بالعنف نفسه. وسيكون من حق أي رئيس لأي جامعة أن يتردد قبل الإجابة على مثل هذا السؤال، لأن المحقق عرض مجموعة من المواقع الزائفة والمفارقات الخداعة في الشكل الذي اتخذه ذلك السؤال، والأسئلة على شاكلته ومبناه. في أعقاب استقالة ماجيل، بات لدى الرئيسة غاي قرار أخلاقي وجب عليها اتخاذه: أن تواجه أشكالاً مختلفة من محاكم التفتيش التي تخلط بين مقاومة العنف الإسرائيلي وتبني نية الإبادة الجماعية، أو الدفاع عن حقوق الاحتجاج والاعتراض، أو أن تصبح هي ذاتها أداة للرقابة والإنكار والتعامي. إن اعتذارها المعلن لا يبشر بالخير، على كل الأحوال. وأياً كان ما تقرره في النهاية فإنه سيشكل سابقة تبعية لكل من الحرية الأكاديمية وحرية التعبير.
وفي الجامعات، نتساءل عن المسألة من أجل مبانيها ومجالاتها. وإذا فقدنا تلك القدرة الحيوية من فصولنا الدراسية ومن الحياة العامة، فقد خسرنا مهمتنا، وخذلنا أنفسنا وأفشلنا طلابنا. إن المنطق الرقابي، عنيف في ذاته، ويترتب على ذلك أن نُلغى أو نتنازل عن مواقعنا، أو نتعرض للتشويه في وسائل الإعلام. ودون اقتناع، فإن الكثيرين منا يخضعون ببساطة للمطالبة بإعلان إدانتهم لحماس بطرق اعتبارية ليجدوا مهربًا من هذا الخوف الرمزي. لقد انعدم التفكير النقدي، وأصبحت المطالبة بإظهار الإدانة شكلا من أشكال الإرهاب الأخلاقي المفروض علينا جميعًا.
موقف غاي، ومنذ البداية، كان موقفًا معرضًا للخطر، منذ اللحظة الأولى التي سمحت فيها بتقليص مساحات الطلاب والامتناع عن دعم حقوقهم الأساسية في التجمع والتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وبطبيعة الحال، فقد انتقد الصهاينة ذلك، وسوف ينتقدونها الآن، لعدم تدخلها لإغلاق لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين بسرعة وبوحشية أكبر. وقد ساعد الجهد المبذول لقمع رسالة الطلاب على بدء موجة الرقابة على الحرم الجامعي التي نشهدها الآن، والتي تعمل بشكل رسمي وغير رسمي. وهذه الرقابة لا تغض الطرف عن استمرار حملة الذبح هذه ضد الفلسطينيين فحسب، بل هي بمثابة مرآة ومبرر لها في المساحات الأكاديمية والمعرفية، وبالتالي السياسية. فكما تغلق الدولة الإسرائيلية أبواب الحياة ، كذلك تفعل أشكال الرقابة تلك في ما يتعلق بأشكال التضامن مع الكفاح الفلسطيني (التي يُنظر إليها على أنها أكبر من فكرة التضامن مع حماس). فكلا الأمرين (حرب الدولة الإسرائيلية والرقابة على حركات التضامن) يتطلب الآخر، لأن الحرب على المدنيين لا يمكن كسبها إلا إذا: (أ) اقتنع المجتمع الدولي بأن المدنيين إما هم دروع بشرية أو أنهم جميعًا إرهابيين؛ (ب) قُمع النقد العلني الصريح لتلك الافتراضات، من بين أمور أخرى مروعة تحدث في هذه الحرب. وبعبارة أخرى، فإن القتل مع الإفلات من العقاب من هذا الحجم من القتل يتطلب حملة رقابية تُنهي الخطاب الذي من شأنه أن يُطلق عليه اسماً صحيحاً ويعارضه ويعريه، فاضحًا تاريخ القتل، والعنف البنيوي للدولة نفسها.
لا يقتصر الأمر على طلاب هارفارد الذين يجدون خطابهم محصوراً في المجال العام بينما حيواتهم الخاصة تحاصرها الهجمات الإعلامية، والتربص، والمضايقة. في الواقع، يمكننا إن نقول أن جميع كلمات الطلاب التي تسعى إلى التصدي للخلط المتعمد بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، ليست وحدها المستهدفة، بل أي سعي إلى وصف القتل الإسرائيلي بأنه إبادة جماعية، هو هدف لهذه الحملات الرقابية. فالطلبة يتعرضون للمضايقات وتلغى عروض العمل المقدمة لهم، وتتهدم تطلعاتهم المهنية، كما أن قدرتهم على تحمل الاتهامات المروعة تؤدي إلى أشكال من الضرر النفسي لا يمكن لهم أن يتخلصوا منها ومن آثارها في فترة قصيرة.
ولو كانت هذه اللحظة التي نعيشها أقل خوفًا وكراهيةً مما هي عليه الآن، لأمكننا أن نتوقف لطرح بعض الأسئلة الهامة. هل حماس حركة إرهابية أو حركة مقاومة مسلحة؟ عندما يدافع الطلاب عن فلسطين، هل يطالبون بإنهاء الاستعمار، إنهاء عنف الدولة الإسرائيلية، أم أنهم يهتفون لموت الإسرائيليين؟ هل يجب أن نسألهم؟ هل علينا أن ننشغل لنكتشف ذلك، الآن؟ أم هل ينبغي لنا، كما يحصل معنا الآن، أن نقفز بسرعة إلى الاستنتاج بأن تحرير فلسطين يؤدي إلى موت الإسرائيليين بينما قد يؤدي، في الواقع، إلى إمكانية جديدة للتعايش، سواء في تجسد في حل دولة أو دولتين، أو في شكل آخر من أشكال الحكم؟
لا أزال متمسكة بدعمي لحركة مقاطعة البضائع الإسرائيلىة والمقاطعة الأكاديمية وسحب الاستثمارات، والتي تنسجم أدواتها وأهدافها غير العنيفة مع قيمي الخاصة. ولكن ربما كان من المهم أن نسأل أولئك الذين يدافعون عن حماس كحركة للمقاومة المسلحة كيف يضعون هذه المقاومة المسلحة في تاريخ من الصراعات المسلحة، وما هي، إن وجدت، الشروط التي يتعين استيفاؤها لإلقاء السلاح. وإحدى الإجابات الواضحة هي أن العنف الذي تمارسه إسرائيل يجب أن ينتهي قبلًا. وإذا كان عنف الدولة الإسرائيلية هو شرط إمكانية المقاومة المسلحة، فإن وقف هذا العنف سيُنتج بلا شك تشكيلة سياسية أخرى.
لقد اصطدمت مع لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين بشأن مقالتي التي قدمتها في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”(5) والتي أشرت فيها إلى أن “نظام الفصل العنصري هو الملام الوحيد هنا” على الهجمات المميتة التي تشنها حماس على أهداف إسرائيلية. وأعتقد أنه من الخطأ “أن نقسم المسؤولية بهذه الطريقة، ولا ينبغي لأي شيء أن يبرئ حماس من المسؤولية عن أعمال القتل البشعة التي ارتكبتها”. ولكنني أعتقد أن من غير المنطقي القول إن العنف الإسرائيلي هو نفس العنف الذي ترتكبه حماس، لأن حماس لديها خطتها الخاصة، وقرار شن صراع مسلح هو قرار تتحمل المسؤولية عنه. بل إن المرء يستطيع أن يقول إن (هذا) الادعاء بأن عنف حماس ليس سوى نفس العنف الإسرائيلي، إنما ينقلب على التقويض الإسرائيلي المستمر لفعالية الفلسطينيين الذين اتخذوا الموقف المؤيد للنضال المسلح. إن العنف الفلسطيني هنا ليس وسيطًا مقابلًا للعنف الإسرائيلي، ولكنه عنف له إسمه وأسبابه الخاصة به، بل وسياقه، أو هكذا أفترض. ومع ذلك، فإن الطلاب على حق بالتأكيد في أنه لن تكون هناك حاجة إلى صراع مسلح إذا لم يكن هناك استمرار لعنف الدولة الإسرائيلية، بشكل لا يمكن تحمله، وهي في هذه الحالة قوة استعمارية تمارس قمعها ضد المحاصرين والمحرومين.
غير أن هذه الفكرة لا يمكننا تمريرها، ناهيك عن مناقشتها، في ظل الظروف التاريخية الراهنة، حيث يقتل الفلسطينيون والفلسطينيات في غزة، بل وكل فلسطيني هو هدف لهذه المقتلة. وإذا اعترضنا عليها نحن وإياهم، فإن ذلك لا يجعلنا مؤيدين لحماس، إنما فقط ناقدين للإبادة الجماعية.
واسمحوا لي بعد ذلك أن أعتذر وأوضح: إن الطلاب لهم كل الحق في معارضة الطريقة التي تم بها تأطير “الصراع” في الصحافة، والطريقة التي أصبحت بها 7 أكتوبر/تشرين الأول وأعمال حماس نقطة البداية الزائفة لأية مناقشة عامة، بما يطمس -مايزيد عن- خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال، والاعتقال، ونزع الملكية، وسرقة الأراضي التي سبقتها. وليس علينا أن نساند كل شيء يصدح به الطلاب، حول النقد غير المشروط للطريقة التي ألحقت بها الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة الضرر بهم، إلا أن لهم الحق في الكلام، والتحدث علناً ضد الظلم، وفي أن تكون أصواتهم مسموعة -ومُناقشة بنزاهة- في المجال العام. إن الرقابة على أصواتهم لا يمكن التهاون معها من جميع النواحي، لأنها تتطلب الصمت في مواجهة هجوم مروع على أرواح الفلسطينيين والتعامي عن مآلات المذبحة التي تشنها إسرائيل الآن في موقعها الأساسي في آلة الاستعمار؛ جزءا من حملة أطول لإنكار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في دياره وأرضه وحقه في تقرير مصيره السياسي دون عنف.
إن الرقابة والمنع هي دائما أدوات الضعفاء. صحيح، إنها أدوات تملك السلطة لنفسها، لكنها تعترف بأن الأمور تخرج بالفعل عن سيطرة من يستخدمونها. فأولئك الذين يوظفون تلك الأدوات يسعون إلى احتواء أو إلغاء وجهة نظر لا يريدون لها أن تصل إلى غيرهم. وبالتالي هم يعزون قوة كبيرة إلى وجهة النظر تلك، لأنهم يعلمون أن المواجهة المباشرة مع القمع والظلم، يمكن لها أن تجتذب المناصرين الذين ما زالوا يملكون الشجاعة لرؤية وتسمية ومواجهة كل هذا الرعب الذي يحدث، بلغة لا لبس فيها. ويمكن للرقابة أن تغرس الخوف في قلوب أولئك الذين يشاهدون أثرها بوصفها الجناح الثقافي للحملة العسكرية ضد فلسطين والفلسطينيين. ولكن هناك دائما أولئك الذين يرفضون أن يتم احتواؤهم أو إسكاتهم من قِبَل الرقابة، أولئك الذين تستثيرهم الحساسية ضد -كل أشكال- الرقابة ويعارضون خنق الكلام والنقاش والأفكار. دعونا ننضم إلى أولئك الذين يعتقدون أن طلاب هارفارد كانوا على حق في الكلام بحرية، والحق في معارضة الظلم، والحق في لفت الانتباه إلى التاريخ الأطول للعنف الذي توج في هذه اللحظة الرهيبة.
وينبغي أن تكون الجامعات أماكن نتمتع فيها بحرية التعلم عن كل ما له علاقة بوجهات النظر تلك، وحيث يكون الطلاب أحراراً في التعبير عن وجهات نظر مخالفة، وحيث ينبغي تشجيع المناقشات المتعلقة بمزايا آرائهم، وتبعاتها. وهناك الكثير من المحادثات التي ينبغي إجراؤها، بما في ذلك التساؤل عن الكيفية التي يمكن بها للذين التزموا منّا باللاعنف أن يضطلعوا بدور نشط في الحفاظ على حقوق التعبير وانتقاد الأكاذيب. إن الرقابة والمنع لهما أداتان أساسيتان لأي حكم استبدادي. وبما أن الهجمات على الديمقراطية متفشية ومتصاعدة، يقع على عاتق مديري الجامعات مسؤولية حماية حرية التعبير بما هي حق أصيل، خاصة عندما يكون الجو العام متوترًا، وتكون اللغة محفوفة بالمخاطر، وتحل الادعاءات والتهديدات محل التأمل والمناقشة. إن منع المرء من مقاومة الظلم هو في ذاته ظلم. هل من الممكن أن نجري نقاشاً حول العدالة؟ وقد تتاح للجامعة بعد ذلك فرصة لاستعادة سمعتها بما هي مكان للتفكير المنفتح. هل يمكننا الإستماع لطلابنا؟ وقد تُتاح للجامعة بعد ذلك فرصة أن تصبح مكانا للتعلم وأن تُقدِّم للعالم درسا جديدا في التواضع.
هوامش المترجم:
-
المقالة المُشار إليها:
https://www.lrb.co.uk/the-paper/v45/n20/judith-butler/the-compass-of-mourning -
المكارثية الأمريكية:
في شهر فبراير/شباط 1950 أعلن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية وينكسون جوزيف مكارثي أن لديه قائمة تضم 205 موظفين يعملون في وزارة الخارجية الأمريكية ويشتبه بأنهم شيوعيون.وبدأت حينها حملة كبيرة لمطاردة أي معارض أو ناقد للسياسة الأمريكية بدعوى محاربة الشيوعية، قامت بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بوجود أدلة. وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس. وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين والمعارضين.
-
نشرت هذه المادة بتاريخ 16 نيسان أبريل 2024 وهو اليوم 202 من أيام حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وأهله، والتي قتلت حتى تاريخ ترجمة المادة ما يزيد عن الأربعين ألف مدني من أهل غزة، ثلثهم أو يزيد من الأطفال.
-
في النص الأصلي، تقترح الكاتبة تعبير “Uprising” ترجمة لمصطلح “انتفاضة”، إلا أنها تغفل خصوصية التكوين التاريخي والسياقي لمصطلح انتفاضة، والذي أصبح المرادف الوحيد لنفسه دونًأ عن غيره. فالانتفاضة، ليست تمردًا ولا ثورة ولا عصيانًا ولا حراك شعبي، “الانتفاضة” هي انتفاضة. وهي بحسب الموسوعة البريطانية:
“مصطلح يشير إلى الانتفاضتين الشعبيتين للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بهدف إنهاء احتلال إسرائيل لتلك الأراضي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقد بدأت الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٧ وانتهت في أيلول/سبتمبر ١٩٩٣ بتوقيع اتفاقات أوسلو الأولى، التي وفرت إطارا لمفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. أما الانتفاضة الثانية، التي تسمى أحيانا انتفاضة الأقصى، فقد بدأت في أيلول/سبتمبر 2000. وعلى الرغم من أنه لم يشر أي حدث إلى نهايتها، فإن معظم المحللين يوافقون على أنها استمرت حتى عام 2005. وأسفرت الانتفاضتان عن مقتل أكثر من 000 5 فلسطيني ونحو 400 1 إسرائيلي”.
والانتفاضة بحسب تكوينها وسيرورتها وسياقها لا يمكن جعل أي من المصطلحات السابقة مرادفًا لها، وهو أمر معرفي قادر على إحداث عصيانًا معرفيًا مناهضيًا لكولونيالية العلوم السياسية والعلاقات الدولية الحديثة. ولعل ما قصدته بتلر هو بالانتفاضة، هو فعل الانتفاض/النفض، باعتباره فعلًا اهتزازيًا أو ارتجاجيًا قويًا، وهو ما لا يتحقق في فعل Uprising.
-
مصدر سابق