من أين تنبع الكتابة عن الفرح بين كل هذا الألم والوجع والموت والقهر والخيانات، في الحرب على غزة؟
وما المسافة بين الفرح والأمل هنا؟
تنبع هذه التأملات من مشهد الشاب الغزي الذي أطلق قذيفة تجاه مركبة/دبابة إسرائيلية، وبعد أن أصابها قفز فرحًا (مقاطع الإعلام الحربي التابع للجهاد الإسلامي، بتاريخ 8 كانون ثاني / ديسمبر 2023). مع التأكيد أن علاقتنا مع هذا الشاب وفي هذا المشهد، سواءً خلال هذه المادة، أو من خلال النص البصري (مقطع الفيديو) هي علاقة تنبني من خلال:
-
جهلنا بهويته الفردية، وبالتالي فإننا نتعامل مع مفهوم الفرح باعتباره مشتركًا جمعيًا، تعبير صادق عن الرفح، وفي وصف أدق طفولي عفوي.
-
من منّا سبق له أن هزم و/أو أحرق و/أو دمر دبابة إسرائيلية في مواجهة مباشرة؟
وبالتالي فإن الفرح هنا خاص جدًا لدرجة الارتباط بجسده وفرادته وخصوصية الحدث.
غني عن القول أنّ الأمران متضاربان ومتعاكسان حدَّ التناقض، لكنهما متشابكين في النظر في هذا الفرح. ولنَجُّب المسافة بينهما، علينا أن نستدعي ممارسة أخرى في التحليل فهم تلك العاطفة الإنسانية الأساسية، والتي منذ الفصل بين الطبيعي والاجتماعي خضعت -بشكل مستمر- لعمليات إنتاج ومثاقفة. وبالتالي، وبتحركنا بين القطبين أعلاه، فإننا سنعمل على إرجاع فرحة ذلك المقاتل إلى بدائيتها وعفويتها الطفولية، بقدر ما نضيف عليها طبقات ثقافوية مركبة مرتبطة بالسياق الحربي، لتأمل خصوصيتها كفعل عفوي ومقاوم ونقدي في آن، في مواجهة منظومة استعمارية تمتد جذورها إلى القرن الثامن عشر، وتتجلى في لحظة مواجهة عسكرية جسدانية، تتواطأ فيها المادة والرمز والخطاب، من الدبابة وحتى اللغة.
الفرح بما هو أمل
أتمنى لو كانت لي القدرة على ولوج رأس هذا الشاب المجاهد، وتحديدًا المسافة، بالمعنى المكاني والرمزي والزمني، بين العين حين رَصَدَ الدبابة الإسرائيلية، والعقل الذي أعطى أوامر الإطلاق. في هذه المسافة، وهي مسافة سابقة على الفرحة كنتيجة، تتراكم طبقات مختلفة من ثنائية الإدارك (الرصد) – والفعل (الإطلاق)، أي أن أدرك الشيء/الحدث، ثم أتصرف في مواجهته. هنا يُمتحن “الأمل”، لا باعتباره ممارسة خطابية تراكمية كالتنشئة الأيديولوجية التي خضع لها هذا المقاتل، أو الوطنية، أو ممارسة ضبطية – تدريبية كالتدريب العسكري الذي خضع له، وليس أيضًا ممارسة أدائية كالعلوم السياسية أو الخطاب القومي والوطني، إنما هو أمل نفسي، يمتحن كل تلك الممارسات ويكثفها في أقل فترة زمنية بين الموقعين (العين – العقل). الأمل هنا في هذه المسافة هو ممارسة نقدية للعلاقة بين الإدراك: ما أدركه، والفعل: ماذا سأفعل تجاه ما أدركه.
الأمل هنا في هذه المسافة، هو فرجات تأويليّة في مفاهيم وآليات إنتاج المعنى، ومقاومة استبداده الرمزي. فالدبابة التي رصدها العقل، لا شك تحضر في معنى المواجهة باعتبارها آلة قتل، وبالذات أن هذا الشاب يواجهها بجسده المباشر (على جلده)، وعليه فإن أمل إصابته لها هو تأويل آخر لقوته في مواجهتها (قوته الجلدية/الجسدانية)، ليس محكومًا بموضوعية المواجهة فعليًا. وامتلاك الأمل هنا يتضمن – مبدئيًا – امتلاك الحق في معنى خاص تتحكم فيه “الذات” إلى ما هو وراء المعنى المباشر للقوة، والردع، أي الحق في كتابة نفسها في مواجهة كتابة أخرى. إن الأمل في هذه المواجهة هو الامتحان الذي يُخرج “الوطن” و”الدين” و”العقل” وغيره، كمفاهيم ومقولات من حدود طمأنينتها، إلى انبعاثات جديدة. وليست المواجهة وحدها، باعتبارها أمرًا مفهومًا بشكل ضمني في ثنائية الوطني واللاوطني، أو الديني واللاديني، أو العقلاني وغير العقلاني. إنما الأمل هنا بما هو فعل نقدي يحدث داخل سياق “الوطن” ليفككه ويعيد بنائه، يفترض تساؤلًا عن كيف هو الوطن وليس ما هو الوطن، لتذوب حدود الدولة – الوطن، وتتركز مسامات الوطن – الفكرة، فتوحد بين فلسطينيين الشتات والضفة وغزة والداخل المحتل، في فلسطينية منفتحة على قيم الحق والتحرر غير المسيَّسة، وكذلك تغيير ضوابط التصور الخطابي الديني بما هو آلية تصنيف وإعادته لما هو بحق منظومة معاني وقيم، كما حدث مع لفظة “جهاد – مجاهد”، والتي بتكثيف الأمل والحق تحررت من صورها الاستشراقية العتيدة، حتى وجدنا أننا وغيرنا نتشارك المجاهد “فرحة” جهاده، وأخيرًا هزيمة العقل الذي يعقلن الموت أمام الدبابة باسم المادة وسياسات الانتاج، لينتصر الأمل للاعقل الذي يقول أن الفرحة أقوى من مدفع الدبابة.
الفرح بما هو إمكان
ليس السؤال هنا “ما الممكن أن يكون بين الإدراك والفعل؟”، إنما هو: “كيف يمكن لهذا الممكن أن يكون”؟
ينطلق مفهوم “سياسات الأمل” Politics of Hope، من فكرة مفادها أن الوجود الإنساني هو وجود زمني، أي أنه وجود تاريخي، يحدده الأمل كفعل استثنائي عارض في لحظة تضاد مع الفاعلية، ليصبح هو الفاعلية. وإذا عدنا إلى لحظة رؤية المقاتل للدبابة، باعتبارها لحظة/زمنية تحليلية للأمل، نقول:
الاحتلال الاستعماري لفلسطين هو ظاهرة لا يمكننا تفسيرها إلا داخل فلسفة التاريخ التي أنتجتها: أي الحداثة. وليست فلسفة التاريخ تلك بما هي منظومة تفسيرية، سوى فلسفة التاريخ التي تشكلت في ضوء مقولة: أنا أفكر إذن أنا موجود، أو الكوجيطو الديكارتي.
لكن التفسير هنا بما هو تفكيك يختلف عن المقاومة بما هي نقض، أي أنّ نقض الدبابة مختلف عن فهم التطور العسكري الذي صنعها وموازيين القوى الاستراتيجية والعقلانية. فالنقض يستلزم التفسير لكن التفسير لا يؤدي إلى النقض بالضرورة. إنّ التفسير في حالة النقض/المقاومة لا يخضع لفلسفة التاريخ التي يحدث فيها فعل التفسير؛ وإلا فإن منطق الدبابة سيتغلب بالضرورة على الشاب المجاهد الراجل بنعله الخفيف، بحسابات الاستراتيجيا الحداثية والعقلانية الحداثية المادية (الكوجيطو القمعي)، أي أن الوجود سابق على التفكير، وهي مساهمة الغزي الفلسفية الأساسية في هذه الحرب.
فالأمل كوجود مقاوم، بين الإدراك والفعل، هو وجود زمني/تاريخي، أي أنه يحدث في الزمن/التاريخ كممارسة تستلزم درجة ما من التأمل في تفاصيل الواقع ودينامياته والاشتباك معها (الدبابة)، وبالتالي فإنه -الأمل- وجود نقدي مواجه لفلسفة التاريخ الحديث، حتى وإن تعاضد مع حركات التحرير والنضالات الأخرى. ففي الفلسطيني من الجزائري والجنوب أفريقي والهندي والساكن الأصلاني في أمريكا الشمالية وأستراليا واستونيا الكثير، لكن الاستعمار الفرنسي والبريطاني والألماني والإيطالي، والاستيطان في استونيا وسيرلانكا واستراليا، وأخيرًا نظام الأبارتهايد، لن يفسروا “المسألة الفلسطينية”، الأمل هنا هو تمرين مكثف للتفكير والتفلسف، كذلك كانت فرحة الشاب الغزي.
والأمل في ذاته ليس “حدثًا” Event إنما “سيرورة” Process، فنحن لا نملك الأمل إلا إذا كانت العلاقة مع الواقع علاقة سيرورة ممتدة في الزمن/التاريخ، كفاعلين وليس مفعول بنا، وهو ما نفترضه جدلًا في النظر إلى القسامي وهو يطلق النار (قبل وبعد الاطلاق)، بغض النظر عن غلبة قوة الردع للدبابة، التي نظن أنها مفهومة ضمنًا وعقلًا. وعليه فالأمل كيان/وجود فاعل، وليس سلبيًا، هو ممارسة عملياتيّة تجاه الفاعلية التاريخيّة للأنا والنحن، أي تجاه معنى وجودهما في الزمان/التاريخ والمكان/الجغرافيا.
قد يغدو الأمل رفاهيّة في واقعيّةٍ مُدّعاةٍ لليأس والهزيمة، واقعيّة – على عكس الأمل – يمكن رسم حدود “راهنيّتها” بوضوح الدم والهدم، لكن ثمة فارق في ما يتعلق بالأمل وعلاقته التأويلية بالنحن؛ في الأمل “نحن” لا نوجد “في” الراهن الزمني، بل “نحن” بنيّة الراهن، وسيرورته. فالمقاومة تطرح آلية انتماء للنحن وللزمن، تتأسس على فكرة امتلاك المعنى كسيرورة، في مواجهة صلابة بناء الحدث/ النصّ الحداثي.
هنا نتماهى فعليًا مع الغزي وفرحته الخاصة العامة، لأن هذه المواجهة، هي التي أعطت وجودنا كفلسطينيين وعربًا و”أحرار العالم” شكلًا من الراهنية الزمنية/التاريخية، نحن بنيتها!
الفرح بما هو واقعية
لعل النزوع غير الموضوعي أحيانًا للتمسك بالأمل كحالة دفاعيّة عن الحق في الحرية والانعتاق من التحرر هو نزوع موضوعي في جذره، ببعض التأمل. هو نزوع للتمسك بإمكان فلسفي وتاريخي لتحقيق الـ”نحن” الفلسطينية الحرّة كممارسة، ووجود فاعل، وجماعة قادرة على ترسيم حدودها (ذات وآخر) على أساس قيمي (العدل والحرية) متجاوز لترسيم الجماعات في الحداثة (67، 48، ضفة وقطاع، مواطنين، جنود، سياسيين، شخصيات عامة، وغيرها).
هذا هو ما تشهد به التحولات التي يفرضها الأمل كمقاومة على ثلاثة مباني حداثية أساسية ساهمت في قمعنا وطمسنا كفلسطينيين وفلسطينيات مستعمرين:
-
الابستمولوجيا: ولعل ما بدأ يحدث في المعارف الحداثية الغربية نموذج نرى أنه سيكمل، ليصل إلى معارف بديلة ومغايرة ومضادة للكولونيالية.
-
الأكاديميا: والتي لطالما كانت أداة الاستعمار في إنتاج الخطاب المعرفي عن العالم العربي، والأكاديميا الإسرائيلية نموذج.
-
الإجراء السياسي الدولاني (الدولة الحديثة): وهو ما كثفته مواجهات الرأي العام العالمي (كجماعة عضوية عابر للحدود الدولانية) مع الدولة الحديثة أي دولة (كإجراء بيروقراطي مواردي مستهدف)، كإيقاف السفن المحملة بالأسلحة إلى إسرائيل، أو دعوات سحب الإيداعات من البنوك، أو دعوات الإضراب العالمية، وغيرها. وحري بالذكر أن كل نطاقات المواجهة تلك هي نطاق ترسيم حدود الدولة في عصر العولمة: الموانئ، الجامعات، البورصات، البنوك، وغيرها.
يقول ماكس شتيرنر: “حالة الحرية ليس بوسعي أن أريدها حقًا بما أنه لا يسعني تحقيقها وصنعها؛ كل ما أستطيعه هو الرغبة بها والحلم فيها، وذلك أنها تظل مثلًا أعلى، تظل شبحًا”. إن الأمل في المسافة الذهنية في عقل الغزي المجاهد، بين رؤية الدبابة والإطلاق، هو الذي يجعل هذا الشبح/ الحلم واقعًا، ومنح الفلسطينيين والفلسطينيات في هذا الفرحة كل الأسباب الموضوعية وغير الموضوعية، هي فاعلية Agency للحق في تخيل الحرية، فقط لأن فعل إطلاق القذيفة هو فعل يدرك لا واقعية المواجهة بشكل واقعي. فيحوّل الاستطاعة والأمل إلى تجربة تاريخيّة قادرة على تشكيل المجتمعات والشرط التاريخي، والحداثي، بشكل يشي بتفكك رمزية القوة السياسية، في صورتها الأكثر فجاجة: الدبابة – الحرب.
والأمل في تلك المسافة في عقل الشاب الغزي المجاهد، هو حالة كثيفة من المشاعر والانفعالات، التي تكثفها اللحظة والسياق. إلا أنها سابقة على الأسئلة التأويليّة في مواجهة سؤال المواجهة: “أنا أم الدبابة؟”. ونحن في النظر إلى الفرح، إنما نمسك التأويل بعد حدوثه، وبعد خوض المجاهد لمواجهته بالنيابة عنا جميعًا، ولذا يظهر التأويل حيث نحن كمتلقين، كفن القوس المشدودة التي تعلم المرء كيف يذهب إلى أبعد من نفسه ويتغلب على حدودها، تلك النفس – الذات التي ورثناها من الحداثة، ولم نشارك في صنعها وتحريرها إلا الآن، من خلال هذه الفرحة الطفولية لذاك الشاب المجاهد.