وديع العرابيد - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/245rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:26 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png وديع العرابيد - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/245rommanmag-com 32 32 رامي أبو شهاب: بالأدب يتغيّر الحال العربي https://rommanmag.com/archives/20637 Sun, 19 Sep 2021 06:49:34 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d8%a7%d9%85%d9%8a-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%b4%d9%87%d8%a7%d8%a8-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d9%8a%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%91%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1/ في كتابه “خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020، يطرح الناقد رامي أبو شهاب مسائل متشابكة تقارب الرواية العربية في سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي المعولَم. في هذا الحوار حول الكتاب ومواضيعه، يوضّح لنا أبو شهاب هذه المقاربة وغيرها مما تناوله الكتاب. جاء كتاب “خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية، […]

The post رامي أبو شهاب: بالأدب يتغيّر الحال العربي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في كتابه “خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020، يطرح الناقد رامي أبو شهاب مسائل متشابكة تقارب الرواية العربية في سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي المعولَم. في هذا الحوار حول الكتاب ومواضيعه، يوضّح لنا أبو شهاب هذه المقاربة وغيرها مما تناوله الكتاب.

جاء كتاب “خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية، مقاربات في النقد الثقافي؛ ما بعد الكولونيالية؛ النقد النسوي؛ التاريخيانية الجديدة” في وقت تشهد فيه المنطقة العربية تحولات متعددة في المشهد السياسي والثقافي كان أبرزها الثورات العربية ومرور عقد عليها، ويمكن قراءة كتابكم من زوايا عديدة لكونه يتقاطع مع مجموعة من الموضوعات الكونية التي أثرت على مدار التاريخ في الأدب العربي؟ ما هي الفكرة الأساسية التي يطرحها هذا الكتاب؟ 

بشكل عام، يقدّم الكتاب مقاربات نقدية للدارسين والباحثين تتلخص في البعد المنهجي الذي سيطر على الأدب، والمرتبطة بالمنهجيات البنيوية، وأصول النقد الثقافي، وما بعد الكولونيالية، والنقد النسوي، والتاريخانية الجديدة. من المعروف أنه خلال فترة من الفترات سيطرت اتجاهات مثل النفسية والشكلانية والبنيوية على تحديد النص الأدبي، وكانت الأدوات واضحة، والمناهج بينية؛ وبالتالي اعتماد عملية المقاربة فيها تحتاج للتداخل بين عدة اتجاهات، مثل الاتجاه النفسي الماركسي التاريخي؛ ويمكن استخدام الاتجاه السيميائي أو السميولوجي والثقافي وما بعد الكولونيالي وغيرها من الاتجاهات. 

بناءً عليه، حاولت أن أقدّم في الكتاب إلى حدٍ ما، رؤية نيتشاوية، الغرض منها ألا نجعل الكتاب أو المنهج يقتل روح النص، لذلك حاولت أن أجعل الرواية أو المقاربة تعبّر عن روح النص أو روح الرواية، ملتزمًا بالمعايير. ونحاول أن نكون أكثر اقترابًا من نظرية إدوارد سعيد “دنيوية النص”، أي أن يكون النص متشباكًا مع الحياة أكثر من أن يكون مجالًا أكاديميًا جافًا وباردًا. 

خلال أوائل القرن العشرين، أصبح المشهد الروائي مشوّشًا إلى حد كبير، وتم إنتاج كمًّا هائلًا من الكتابة والأعمال السردية، وأصبحت الرواية بسبب ذلك غارقة في التكرار، والكثير من كلاشيهيات الكتابة، وهذا جانب، أما الجانب الآخر، فحاولت في الفصل الأول “الرواية والجرد الجذري للسرد” -عنوان استعرته من كتاب لميلان كونديرا بعنوان “فن الرواية”-  أن أختبر هذا المشهد الروائي بشكل ما، وفي نفس الوقت أن أصل إلى خلاصة بأن الواقع العربي على مدار حوالي أكثر من مائة سنة -من أول رواية عربية بعنوان زينب إلى الآن- لم يتغيّر كثيرًا، ولم تتغيّر معه الرواية العربية. مع أن العالم دخل في الثورة الصناعية الرابعة، وتجاوز العديد من المشكلات، إلا أننا ما زلنا عالقين في قضايا كثيرة، منها الهيمنة على المرأة، والذكورية، والعلاقة المتوترة مع الآخر، وآثار وتداعيات الاستعمار على العالم العربي، واستمرار الأزمة وآثار النكبة والنكسة وغير ذلك من هذه القضايا.

تؤكد في الكتاب على دور الأدب في تفسير العالم وتقديم خلاصات أو استنتاجات تجعل من الأدب فعلًا للإدراك والوعي بالكينونة. في ضوء ذلك، وفقاً لمنظورك، كيف يمكن قراءة الرواية العربية وموقعها الثقافي والتاريخي وصولًا إلى اختبار هذه الرواية العربية عبر صيغة الوعي وتمظهره خطابيًا؟

ما قصدته من خلال الوعي بالكينونة، وهو مفهوم فلسفي يعود إلى فيلهم دلتاي وطوره لوسيان جولدمان وغيره، هو أن الرواية ربما تكون إحدى أدوات الوعي في مأساة أو أزمة الإنسان بشكلٍ ما، والسؤال هنا  كيف يمكن للرواية أن تعكس هذا الوعي؟ وإذا قمنا باختبار للرواية في تعبيراتها عن أزمة الإنسان العربي، كيف يمكن فهمها؟ وهذا في الحقيقة دفعني لتقسيم الفصول في الكتاب إلى عدة محاور لتوضيح قضية الوعي، مثلًا الوعي بالنسوية، والوعي بالتاريخ، والوعي بالاستعمار وغيرها من القضايا مثل الإرهاب وأزمة الذات… إلخ.

هل العربية كانت حاضرة ككيان مستقل وعبّرت عن نفسها ضمن هذه التحولات كفعل بحد ذاته وليس كردة فعل أو نتيجة لهذه التحولات؟

في بعض الحالات لم يتمكن الروائيون العرب أن يدركوا الأزمات التي كانت تمر بها بلدانهم. وحتى هذا الإدراك جاء بطريقة لم تتجاوز الرؤية الماضوية وتتجه نحو المستقبل وتبدو أكثر وعيًا وشمولية في نظرة إنسانية كونية. نتيجة لذلك، ظلّت الرواية العربية أسيرة التكرار. وهنا لا يقع السبب على عاتق الروائي، بل يقع على عاتق السياقات والواقع العربي الذي لم يتزحزح. من أجل هذه الأمور، حاولت في الكتاب تجنّب الخوض في مشكلة الربيع العربي، لأن هذا الموضوع يحتاج إلى مقاربة منفصلة تمامًا، والربيع العربي بحد ذاته ما زال قضية لم تنته تاريخيًا وما زال في مرحلة المخاض، لذلك نظرت في الوعي الذي أصبح إلى حدٍ ما منجز بالنسبة إلينا. 

في اعتقادي، إن التحول في الرواية لم يتحقق بعد، والدليل على ذلك أن الروائي العربي في الصوت العالمي، باستثناء نجيب محفوظ في سياقات محددة، لم يلفت الانتباه. سبب ذلك، أن السمات في الرواية العربية ما زالت تعاني من محدودية الأفق، ولا يوجد فيها خرق لبعض التابوهات في التفكير، وعليه، فهي عالقة في سياقات إلى حدٍ ما مضت. هذا يدل على أن هناك أزمة في الذات العربية. هذه الذات التي لم تستطع إنتاج تصوّرات متداخلة ومتفاعلة مع العالم. لذلك نجد أن هناك روائيين ربما من دول تكون ثقافتها أقل بكثير من ثقافتنا العربية تاريخيًا، ولكن لهم تأثير، وهذا التأثير ينتج من فكرة الرؤية، مع الأخذ في الاعتبار تعقيد هذه المسألة والواقع العربي نفسه، فضلًا عن أزمة التوصيف في الرواية العربية ذاتها. 

معظم التيارات التي شاعت في الغرب كانت تنطلق من فهم الظاهرة الاجتماعية في تقاطعها مع السياقات، أي أنها لم تكن غايات بحد ذاتها. كيف يمكن المقارنة بين هذا النموذج والرواية العربية؟ وهل ينطبق ذلك على الرواية العربية وتفاعلها مع السياقات التاريخية الثقافية؟

أعتقد أن الرواية في الغرب نجحت في تحقيق التحوّل. على سبيل المثال، إذا قرأنا رواية الكاتب الأمريكي جون ستاينبيك “عناقيد الغضب”، نرى أن هذه الرواية استطاعت أن تقود التحوّل. أي أن الأدب في الغرب ينتج عنه أثرًا وليس تابعًا، ولكن الرواية العربية تبدو تابعًا في الأغلب، وتحاول أن تلحق الحدث لا أن تنتجه. علاوة على ذلك، نرى فيلم الجوكر كيف صنع تأثيرًا عالميًا، بغض النظر عن الموافقة أو الاعتراض على الفيلم، ولكنه أحدث تأثيره، لدرجة يكاد فيها الواقع يقلّد الفن وليس العكس. لو نظرنا أيضًا إلى رواية روبنسون كروزو حينما كُتبت عام 1719، التي شكّلت نموذجًا استعماريًا تم تقليده. ويمكن أن يُعزى ذلك -بصورة جزئية- إلى أن البنية الفكرية لدى الغرب أقوى تاريخيًا، خصوصًا حينما نتحدّث عن التحوّلات التي حاولت أن تزحزح بنية التفكير الديني أو الكنسية، بدءًا من سبينوزا حينما حاول أن يخترق القراءة الدينية، وهذه من الأمور التي لربما أحدثت حرية في النص، ليتمكّن من قيادة التحوّل أو الفكر، وهذا شيء نحتاجه في الرواية العربية.

النقد المنزوع الفكر… المسؤولية السالبة. عنوان يحمل في طياته الكثير من المعاني. هل أدّت الرواية العربية الوظيفة التاريخية المنوطة بها؟ أم أنها أعادت القديم بأثواب جديدة أو منزوعة الفكر؟ وهل ما حصل من تحوّلات في الرواية العربية يتوافق مع القيم الجديدة التي قلت إنها لا تتسق مع النظام المعرفي القديم؟

يمكننا القول إن هناك نماذج وأسماء متنوّعة في الأدب العربي قدمت أعمالًا جيّدة، مثل جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني، وحتى من الروائيين الجدد مثل إبراهيم نصر الله، ولكن هل نراهن على مقدار أن تكون راديكالية في التغيير؟ لو رأينا على سبيل المثال مائة عام من العزلة، بكل بساطة سنجد بأنها قادت تيارًا أدبيًا كاملًا في العالم بأكمله. لذلك لدي فصل في الكتاب أسميته “الرواية العظيمة”، وأتساءل هنا: أين الرواية العربية العظيمة؟ بينما كل العالم يعرف روايات لجوزيه ساراماغو، وكافكا، وغيرها من الأسماء والروايات العالمية.

عبرت سطور الكتاب عن دور الحكومات والسلطة في منع ومصادرة بعض النصوص والأعمال ومحاولتها إخضاع الأدب لتفريغه من غايته وأهدافه، ومنعه من تحدّي السلطة ومقاومة الأزمات من خلال الأدب. هذا الدور السلطوي للحكومات أدى إلى نشأة وعي ثقافي مبتور عن سياقات التوصيف والنقد ليفقد العمل طاقته. هل كان هناك دور للرواية العربية في مقاومة هذه السلطوية والاستبداد؟ أم أنها بفعل هذا الدور السلطوي ظلت مضطربة وقلقة؟ 

من وجهة نظري، إن السلطة -وبغض النظر عن مفهوم السلطة- بكل تمظهراتها وبشكلها المؤسساتي وغير المؤسساتي، وحتى السلطة الموجودة على المستوى المصغّر، على المستوى الأسري والذاتي أحيانًا، لها دور في نشأة وعي ثقافي مبتور عن سياقات التوصيف والنقد، وساهمت في فقدان العمل الأدبي طاقته وتأثيره. ولكن حتى هذه السلطة، تحتها يوجد بنية لم تتزحزح ولم تُحدث أي تأثير في الوعي العربي. وفي كل العالم يوجد حرية إلى حدٍ ما ونمط هيجيلي، بينما الأفكار في العالم العربي تدور في دائرة، لذلك قلت بإن الرواية العربية منذ مائة سنة تسير بشكل دائري، ولم تحدث أي تغيير ينتج عنه انفجار شيء آخر، وهذا هو الوعي المؤسلب، وحتى التغييرات التي تحصل تجدها تابعة للخارج ولا تُنتَج من دواخلنا. 

دور الحكومات والسلطة هو ظاهر وموجود ولا يمكن أن ننكره، واتخذ أشكالًا مختلفة تتمثل في أنها أوجدت سياقات وبيئة لا يمكن أن تُنتج أفكارًا مهمة أو خطيرة، ناهيك عن فكرة القمع الذي أنتج خوف لدى الكُتّاب. كما عملت المؤسسات على نشر الفساد الثقافي، إذ نجد أن المؤسسات الثقافية لم تعد تُدار تحت فكرة تهتم بنهوض الثقافة، وهذا أدى إلى أن يكون بعض الأشخاص والكُتّاب الفاعلين والمؤثرين غير معروفين للعامة، وأصبح الشيء غير الحقيقي هو الشائع. 

هل يمكن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي حاولت أن تُقاوم قمع السلطة؟ 

بالعكس لم تستطع، بل في بعض الأحيان أفسدت مواقع التواصل الاجتماعي مناخ الحرية الثقافية. وللإجابة على هذا السؤال، ربما نحتاج إلى الضرب العميق في جذور الفكر العربي، حيث يوجد أزمة معينة لدى العقل العربي، ولا بد من أن نضع في الحسبان “أننا محاصرون” بعيدًا عن نظرية المؤامرة. كذلك يوجد مشكلة الإنسان العربي مع ذاته، ويوجد احتقار للذات من قِبل الشخص العربي، على عكس باقي الحضارات والأمم الأخرى المنسجمة مع ذاتها. والفرد العربي يوجد لديه مشكلة في الانسجام مع ذاته، على المستوى الثقافي والديني والاجتماعي. نحن غير واضحين وغير مُتقنين لهويتنا الدينية والثقافية.

ما هو تأثير العولمة على الرواية العربية؟ وهل تفاعلت الرواية العربية مع موضوع العلمانية؟

مفهوم العولمة هو مفهوم اقتصادي بدأ في الستينات والسبعينات، وأصبح كمفهوم حتمي، ولذلك يعتبر موضوعًا مهمًا. وأظن أن الرواية العربية لم تتمكّن من استيعاب ماهية العولمة. بل على العكس، الرواية العربية قامت بتذكيرنا بالرواية التاريخية المسكونة في الماضي.  لو نظرت إلى معظم الأعمال لا تجدها تبحث في معاناة المواطن ولا في تأثير الطبيعة مثل أزمة وباء كورونا وكيف نقرأ هذه الأزمة. نحن ببساطة مسكونين في قضايا وأزمات كثيرة، ولا ننظر إلى العالم والتحوّلات التي تطرأ عليه كل يوم. يُضاف إلى ذلك، أن الرواية العربية تعد رواية مسكونة بشكل كبير في الشخصيات العربية فقط، ومنقطعة عن الشخصيات الخارجية في العالم المحيط. 

إضافة إلى ما سبق، في العصر الحالي لا يوجد مقاربة محددة لتفاعل الرواية مع موضوع العلمانية. لكن في الإتجاه يوجد حديث عن المجتمعات المُنغلقة. بعد أفول التيار القومي في العالم العربي، انهزّت الثقافة العربية في عصرنا الحالي، ولم يعد يوجد مثقفين في العالم العربي يملكون أعمالًا أدبية مبنية على الأفكار، إنما معظمها كانت مبنية على الحكايات واستهلاك الحدث.

من خلال قراءتك للنقد النسوي وبروز الرواية النسوية، يبدو من خلال الكتاب أن هناك تحوّلًا قد حصل على صعيد الأدب بما وصفته “بالخضة للوعي العربي”. هل يمكن القول إن الرواية النسوية ساهمت في نقل الرواية العربية من الهامش إلى المركز  وبأنها رواية واعية؟ 

اعتقد أن أهم ما يُميّز الكتابة الحالية الإبداعية هو الصوت النسوي، وربما يكاد أن يكون الأكثر تأثيرًا حتى على المستوى الكمّي والنوعي بكل صراحة. لذلك نجد روائيات مثل جون بارك ونعامة كجه جي وهدى بركات. مشكلة الرواية النسوية هي حاضرة وتأخذ مركزًا جيدًا في الرواية العربية ويوجد أصوات واضحة ومؤثرة، لكن تكمن مشكلة الرواية النسوية في أنها عالقة في نفس المنظور، وهي فكرة التعالي النسوي، أي أنه يوجد إشكالية مع الذكر أو الذكورة، وتنتج ردة فعل مُبالغ فيها، حيث أفرزت عملية إقصاء وتعالي الروح أو الجسد. فهي تتعامل مع الذكر بنفي وجوده، وتنفي ذاتها، حيث أنها لا تحاول أن تجد منطقة مشتركة للتحاور. لذلك إذا قرأنا الخطاب النسوي، نجد أن العلاقة مع الرجل مأزومة أو مبتورة. فالذكر في الرواية النسوية مشوّه، وهذا ناتج عن عدم النضج في قراءة وإدراك هذه العلاقة. إن محاولة تعريف الذات على أساس الاختلاف هو جوهر المشكلة هنا. مع ذلك، لا ننكر أن الرواية النسوية أصبحت تخرق أحيانًا بعض الصور النمطية وتحاول أن تبحث في الأسباب والمشكلات، مع الأخذ في الاعتبار أنها ما زالت خاضعة لنفس الإشكالية، وهي النظر من نوافذ قديمة وماضوية وتقليدية. 

كيف عبرت الرواية العربية عن ما وصفته “بوعي الاستلاب”، وكيف تعاملت مع الذات العربية المأزومة؟ أنجحت الرواية العربية في تأويل إشكالية الإنسان العربي نتيجة فهم متبصّر للبنية الثقافية للواقع العربي؟

يمكننا القول إن الرواية العربية نجحت في تفسير وتأويل إشكالية الإنسان العربي، لكن لم تنجح في خلق ثورة. صحيح أنها أحيانًا كانت رواية توصيفية، ورواية تقوم على فكرة الانعكاس، وتحاول أن تبحث في الأزمات، لكن خلال هذا البحث ومعالجتها بقيت أسيرة خطاب تاريخي مُنجز بناءً على الواقع أكثر من كونها مشكلة الرواية بحد ذاتها. وفي كتابي حاولت أن أنقد الواقع العربي بشكل غير مباشر  أكثر من الرواية العربية. والرواية العربية كان من الممكن أن يكون لها دور في أن تكون طليعية، لكنها لم تمارس هذا الدور الطليعي في تغيير الفكر، ولم نجد رواية حاولت أن تهز التفكير العربي، فضلًا عن أن الرواية العربية لم تجد الشجاعة في البحث عن الأشياء المسكوت عنها، فالرواية العربية تحاول أن تعكس أزمتها وأزمة الذات العربية. ولم تحاول الرواية العربية أن تعالج حال الإنسان العربي وواقعه، وكأنه يعيش حالة من الرفاهية، بعكس بعض الروايات الأجنبية التي كانت تصف كيف أن الفرد يعيش في بعض مراحل الحياة حياة منحطة وقاسية. أخيرًا يمكن القول إن الأدب هو الوسيلة الوحيدة التي يتم من خلالها التغيير في ظل الحال العربي المؤلم والحزين الذي يعيشه.

The post رامي أبو شهاب: بالأدب يتغيّر الحال العربي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«أكبر سجن على الأرض» لإيلان بابيه… تفكيك لمنظومة إسرائيل الاستعمارية https://rommanmag.com/archives/20448 Fri, 09 Apr 2021 07:24:25 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%83%d8%a8%d8%b1-%d8%b3%d8%ac%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%b6-%d9%84%d8%a5%d9%8a%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%87-%d8%aa%d9%81%d9%83/ كتاب إيلان بابيه، «أكبر سجن على الأرض: سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة» المنشور باللغة الإنجليزية عام 2017، وبالعربية عن دار “هاشيت أنطوان” عام 2020 بترجمة أدونيس سالم، ليس تاريخاً شاملاً عن الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، بل يبحث في لحظات حاسمة، باتت اليوم معروفة جداً، من تاريخ المنطقة. ينتمي هذا الكتاب إلى فضاء […]

The post «أكبر سجن على الأرض» لإيلان بابيه… تفكيك لمنظومة إسرائيل الاستعمارية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كتاب إيلان بابيه، «أكبر سجن على الأرض: سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة» المنشور باللغة الإنجليزية عام 2017، وبالعربية عن دار “هاشيت أنطوان” عام 2020 بترجمة أدونيس سالم، ليس تاريخاً شاملاً عن الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، بل يبحث في لحظات حاسمة، باتت اليوم معروفة جداً، من تاريخ المنطقة. ينتمي هذا الكتاب إلى فضاء الدراسات التاريخية السياسية، وهو يصف منذ بدايته حتى نهايته، حركة تاريخية بدأت بطرق كثيرة في أواخر القرن التاسع عشر واستمرت في 1948، وهي الآن في مرحلتها الثالثة التي بدأت عام 1967. وحده التاريخ كفيل بإخبارنا إن كانت هذه المرحلة هي الأخيرة وفقاً لبابيه، إذ أن مقاومة الفلسطينيين وصمودهم، والتأييد العالمي الذي يجدونه من المجتمعات المدنية، كلها أمور منعت حصول ذلك حتى اللحظة. بناءً عليه، هذا الكتاب  بمثابة سجل للمشروع الصهيوني والإسرائيلي حتى تاريخ صدوره، مع تركيز خاص على المرحلة التي بدأت مع الاجتماعات الحكومية في العام 1967.

يتمحور الكتاب حول “تاريخ قوى الاحتلال أكثر منه تاريخاً للشعب الخاضع للاحتلال، فهو يسعى لتفسير الآلية التي تم استحداثها لحكم ملايين الفلسطينيين، وليس لاستعادة حياتهم”. صحيح أن الفلسطينيين يظهرون في الكتاب، ولكنه في الواقع سرد تاريخي لما تعرضوا له من قمع، أكثر منه سرداً لتطلعاتهم، ونسيجهم الاجتماعي، ونتاجهم الثقافي، ولجوانب أخرى من حياتهم، يعتقد المؤلف أنها تستحق الدراسة في مرات أخرى (ص42).

بنية الكتاب ونموذجه الفكري: استحداث قاموس ومصطلحات جديدة

يحتوي الكتاب المترجم باللغة العربية على اثني عشر فصلاً، و335 صفحة، من خلالها يكشف المؤرخ المعروف عن وثائق تعد أدلة دامغة على أن ما حصل هو جزء من خطط مسبقة تم تجهيزها في الغرف السرية بهدف احتلال فلسطين وطرد الفلسطينيين ومن ثم تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سجن كبير، فأصبح الفلسطينيون شعباً بلا هويّة ولا حقوق ولا مقومات عيش، تمزق أرضه المستوطنات المزروعة كالأسافين. ونظراً لأهمية الكتاب، تتناول هذه المقالة مراجعة نقدية لأهم مقطفات الكتاب الذي أطلقت عليه صحيفة آيرش تايمز بأنه بإختصار “سيثير غضب أركان الدولة الإسرائيلية بلا أدنى شك”.

وفقاً لبابيه يتطلب النموذج الفكري الذي يستخدمه الكتاب استحداث قاموس جديد ومصطلحات جديدة. ويتجلى ذلك تحديداً في مقاربته الشخصية للجهود الدبلوماسية التي قام المؤلف باستعراضها كجزء من المساعي لترسيخ نموذج السجن المفتوح من جهة، مع رفضه للتصور السائد بأن هذا النموذج كان ولا يزال جهداً صادقاً للتوصل إلى مصالحة وتفاهم مع الشعب الفلسطيني من جهة أخرى. 

يسرد بابيه في هذا الكتاب قصة القناع الاستعماري الوحشي لدولة الكيان الصهيوني بطريقة مغايرة هذه المرة، عبر تبني نموذج فكري جديد لكشف حقيقة هذا القناع ولدحض سردية المستعمر الصهيوني. لم تكن إسرائيل يومًا صانعة سلام، ولم تكن حربها ضد سوريا ومصر مفاجأة كما ادعى البعض، ولم تكن المقاومة سبب القمع المطلق. بل كل سياسات إسرائيل كان يُخطط لها مسبقًا في الغرف السرية مع انتظار التنفيذ. لم يكن حزب العمل الإسرائيلي حمائميا بل كان شريرًا، ولم تكن جهود السلام التي بذلوها سوى جزء من مخطط إسرائيل الاستعماري الاستيطاني. كل ذلك يثبته بابيه بالأدلة الدامغة، من خلال كشفه في الكتاب عن وثائق تعرض لأول مرة، وفي سردية جديد لاحتلال الأرض الفلسطينية المحتلة.

من منظار السجن الضخم، يجد المؤلف بأن الحوار الدائر في النقاشات الداخلية الاسرائيلي حول الأراضي الفلسطينية حافلة بالأوهام والنفاق، لأن كل القرارات الاستيراتيجية حول مصير الأراضي المحتلة أخذت عشية الانتهاء من حرب 1967 مباشرة، ما جعل معظم النقاشات الدائرة بعد ذلك بين معسكر السلام والحرب في إسرائيل بدون أهمية في أقل وصف، وكاذبة في أسوأ وصف. بكلمات أخرى، فإن الواقع الاستعماري الاستيطاني على فلسطين جاء نتيجة لخطط قانونية وتنظيمية موضوعة مسبقاً في الغرف السرية وضعها عرابو الحركة الصهيونية، ولبثوا ينتظرون فرصة للتنفيذ.

فلسطين حالة استثنائية

تثير الأراضي الفلسطينية المحتلة عدة إشكاليات حول تأطيرها سواء من النواحي  السياسية أو القوانية. وبشكل أكثر تحديداً يلفت بابيه النظر حول بعض الشكوك المتعلقة بمدة صوابية إطلاق مسمى الاحتلال على فلسطين أم الاستعمار الاستيطاني فهو لا يستسيغ استخدام مصطلح الاحتلال على الرغم من شيوعه. فالواقع القائم في فلسطين والضفة الغربية استثنائي ومختلف  لكون هذا الاحتلال أصبح مع العام 1987، أطول احتلال عسكري في التاريخ، إضافة إلى أن تلك المعاني والتفسيرات سمحت لدولة إسرائيل التملص من أي شجب أو إدانة دوليين جدّيين (ص37). 

في السنوات الأخيرة استعان الأكاديميون بمفهوم الاستعمار الاستيطاني لدراسة حالة فلسطين/إسرائيل، لكن في التجارب مثل الجزائر وجنوب أفريقيا استتبعت الهجرة إلى وطن جديد تصادماً مع السكان الأصليين، مما أدّى في كثير من الأحيان إلى إبادة هؤلاء السكان أو في أحيان أخرى نادرة، إلى انهيار المشروع الاستعماري الاستيطاني.

ولكن يجد بابية في فلسطين حالة استثنائية، لأننا لا نعرف بعد كيف ستكون النهاية. فهل يستمر منطق الاستعمار الاستيطاني الذي عرف عنه الراحل باتريك وولف بأسلوبه اللامع بأن منطق ” إزالة السكان المحليين”، في فلسطين من خلال التطهير العرقي أو الاستعمار؟ أم سيفسح المجال أما الحقوق الانسانية والمدنية؟ وحده الوقت كفيل بالإجابة على هذه الأسئلة. ما يمكن قوله وفقاً لبابيه بالاستناد مرة أخرى إلى باتريك وولف، هو أن الاستعمار الاستطياني بُنية وليس حدثاً: بُنية تشريد واستبدال، أو بإعادة صياغة كلمات إدوارد سعيد، استبدال للحضور بالغياب (ص38). 

ابتداع السجن الكبير: من السجن المفتوح إلى السجن المشدد

بدأ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وفقاً للمؤلف يعمل كبنية عام 1882، ووصل إلى ذروة معينة عام 1948، واستمرت بقوة في 1967، ولا تزال قائمة حتى اليوم. والسجن الضخم هو إحدى الطرق العديدة التي اعتمدتها دولة إسرائيل الاستيطانية لإبقاء المشروع قائماً (ص38). 

تنفيذاً لمخططاتها الاستعمارية على فلسطين، قامت إسرائيل أولاً بترسيم الحدود الجغرافية والديمغرافية للسجن الضخم، عبر تقطيع الأراضي الفلسطينية وتوزيعها بشكل عشوائي ومشتت داخل مناطق يهوديّة مستعمَرة، التي شرعت القوّات الصهيونيّة في تطبيقها خلال السنة الأولى بعد نهاية حرب عام 1967، مُستعينة بقوانين وأوامر عسكرية قامت باستحداثها لمُصادرة الأراضي وطرد السكان. هذه الخطط المسبقة التي تم وضعها وتم تنفيذها بشكل سريع شكلت واقع السجن الحالي.

لقد أُنشئ ذلك السجن الضخم في غضون أيام قليلة، وأصبح واقعاً راسخاً لا مثيل له في التاريخ المعاصر مطلقاً. ويجادل بابيه بأن هذا السجن الضخم الذي شُيٍّد عام 1967 لم يتم إنشاؤه للابقاء على الاحتلال؛ بل كاستجابة عملية لشروط الآيديولحية الصهيونية المسبقة، أي الحاجة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين التاريخية، وخلق أكثر يهودية مطلقة فيها، بل وحصرية إذا أمكن (ص39). هذه الدوافع نتج عنها تطهير عرقي عام 1948، وشكلت حجر الزاوية الذي صيغت على أساسها السياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي المحتلة عام 1967، تماماً كما لا تزال المحرك الرئيسي للأفعال الإسرائيلية اليوم.  شكل السجن الضخم وفقاً لبابيه النتيجة المنطقية والحتمية للتاريخ والإيديولوجية الصهيونيين. التي رغبت على الدوام في احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل دائم.  

في 11 يونيو 1967، اجتمعت الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى لمناقشة الواقع الجيوسياسي الجديد الذي فرضته الحرب. وخلال الأسبوع التالي من انتهائها تم تكليف كبار الوزراء بصفتهم أعضاء اللجنة الوزارية لوزارة الدفاع محاولة التوافق على سياسة حول الأراضي المحتلة حديثاً؛ لكنهم وصلوا إلى طريق مسدود. نتيجة لذلك، تسلمت المهمة الحكومة الإسرائيلية الثالثة عشر بنصابها الكامل في نهاية الأسبوع عينه. والمفاجئ وفقاً لبابيه، أن هذا العدد الكبير من الوزراء نجح وبسرعة فائقة في تقرير استيراتجية شكلت منذ ذلك الحين حجر الأساس لسياسة إسرائيل (ص96). تمحورت القرارات التالية لإسرائيل حول مستقبل الـ 20 بالمئة المتبقية من الأراضي الفلسطينية التي أصبحت خاضعة لها ومصير هذه الأراضي. 

ناقش صانعو القرار في إسرائيل مختلف الطرق الممكنة لحكم السكان دون طردهم، أو منحهم الجنسية. وقد جرى التمييز منذ وقت مبكر بين المناطق التي ستقع تحت الحكم الإسرائيلي المباشر، وتلك التي ستوضع تحت المراقبة غير المباشرة. وبالتالي كان الحل المطروح تقسيم فلسطين مرة ثانية، وهو التكتيك المفضل دائماً لدى الحركة الصهيونية في كل ما يخص فلسطين. وهكذا جرى تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مساحة يهودية وأخرى فلسطينية. 

مع مرور السنين، مارست إسرائيل الضغوط، وانتهجت سياسة دفعت سكان الضفة والقطاع إلى الرحيل. ومع أن صانعو القرار في إسرائيل قد قضوا بتجنب التطهير العرقي وتنفيذ سياسات لحكم السكان مختلف السياسات  الجماعي لسكان الضفة الغربية وغزة، إلا أن بابيه يقصد هنا أن القرار كان تشريع عملية طرد جماعي على غرار ما حدث سنة 1948. فحتى حينما اتضح أن ثمة وسائل لتقليص عدد السكان، وأن هذه الوسائل قد طُبِّقت عمداً، كان من الواضح أن عدداً من الفلسطينيين سيبقى تحت الحكم الإسرائيلي. وبوسيلة أو بأخرى يرى بابيه تمثل عقاب الفلسطيني في إحدى صوره إما بعدم السماح له بالرحيل، أو بطرده، على حدٍ سواء. وكان القرار يختلف بحسب رغبة “المساجين”: فإن كانوا يريدون الرحيل، يُمنعون من ذلك، وإن كانوا يريدون البقاء، يُهدَّدون بالطرد. ليست هذه وفقاً لبابيه بالمنهجية الجديدة، بل هي استعادة لممارسات قديمة: اقتراح سياسة العصا والجزرة، أي المكافأة والعقاب، على كل الذين يقبلون أو يرفضون ما يفرضه عليهم الحكم الإسرائيلي. 

وهذه اللغة المستعارة من عالم الزراعة كما يقول بابيه ليست من بنات أفكاره، فعبارة العصا والجزرة هي ما وصف به صانعوا القرار الإسرائيلي خياراتهم منذ سنة 1967. وكان المطلب الرئيسي المفروض على السكان أن يقبلوا بأن لا رأي لهم على الإطلاق بتقرير مستقبلهم، وأنهم في حال رفضوا هذه الظروف الجديدة، سيجدون أنفسهم داخل سجن مشدد الحراسة. أما إذا قرروا التعاون، فيمكنهم الاستمتاع بالعيش في سجن مفتوح يديرونه بأنفسهم، وهو ما يحصل الآن أمام العالم (ص98).

تسويق الواقع الجديد: التعامي الأمريكي

بعد الاحتلال مباشرة، أدركت إسرائيل أن موضوع القدس لا بد من الإسراع فيه، خاصة في ظل المخاوف من عدم استجابة المجتمع الدولي  لهذه الفكرة، وبدأت في السيطرة على القدس شيئاً فشيئاً وذلك من خلال استخدام مطار القدس قبلة للرحلات الداخلية، تغيير أسماء بعض الشوارع الفلسطينية إما بعبرنة الأسماء العربية، أو بإطلاق مصطلحات صهيونية معروفة أو غير معروفة عليها. 

المهم في هذه الجزئية هي أن الولايات المتحدة لم تكن في البداية قد تقبلت الطريقة التي أبطلت فيها إسرائيل وضع القدس كمنطقة دولة عام 1948، لذلك افتتحت سفارتها في تل أبيب. مع الإشارة هنا إلى الخلاف الذي حصل إبان الهجوم الجوي الإسرائيلي على سفينة التجسس والاستطلاع الأميركية “يو أس أس ليبرتي”. هذه الحادثة التي يجد بابيه أنها جعلت الحكومة الإسرائيلية تتوخى الحذر عندما تقرر تضليل الأميركيين أكثر، وهذه المرة حول القدس.

لكن هذا القلق لم يدم طويلاً، إذ أن إسرائيل عرفت كيف توجه السياسة الأميركية نحو الدعم غير المشروط لدولة إسرائيل في سياساتها الخارجية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمور لم تكن دائماً بهذا الوضوح؛ فقبل بضع سنوات فقط، أي في 1964، لم يكن واضحاً أبداً بأنّ إسرائيل هي طفلة أميركا المدللة في المنطقة. ولكن الوضع تغير بعد اغتيال الرئيس كينيدي، وتسلم الرئيس جونسون سدة الحكم بعدها. وهكذا، فجأة، بدأت حقبة جديدة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

ولعل كتابة هذا الكتاب عام 2016 جعلت بابيه يشير إلى ما توقعه الدبلوماسي الإسرائيلي، أبا إيبان، تطوّرت في واشنطن سياسة عدم انتقاد، إضافة إلى أنه توقع قبل 45 عاماً أن الولايات المتحدة سوف تؤيد على المدى البعيد، أو على الأقل لن تعترض، على القرارات التي ستتخذها إسرائيل من جانب واحد حول الأراضي المحتلة عموماً، وحول القدس خصوصاً، وكم كانت توقعات أبا إيبان دقيقة .هذه السياسة وفقاً للدكتور عزمي بشارة تغيرت مع ادارة الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترمب، حيث جادل بأن “الدور الذي لعبته صفقة القرن في تغيير الموقف الأميركي من الانحياز إلى إسرائيل والتحالف معها، إلى التماهي المعلن وغير المنضبط مع مواقف اليمين الصهيوني”، وهو ما حصل أيضاً في نقل السفارة الأميركية للقدس، والإعلان الخطير عن شرعية المستوطنات، وقطع المساعدات المالية عن الأونروا.(1)

وضع بنية تحتية قانونية للاحتلال: بيروقراطية الشر

يلفت المؤلف الإهتمام إلى أنه في أولى أيام الاحتلال، كانت وتيرة عمل الإسرائيليين مذهلة حقاً لمن يراقب الوضع عن بعد. فبحلول 21 يونيو، كان الخبراء القانونيون في الجيش قد انتهوا من وضع قانوني شامل ومتكامل للضفة الغربية وقطاع غزة (ص224). بكلمات أخرى، كان الإسرائيليون قد عملوا بخطط موضوعة مسبقاً للسيطرة الكاملة على فلسطين. وهنا نشير إلى أن الأكاديمية المرموقة نورا عريقات في كتابها «العدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية» كشفت “كيف استطاعت إسرائيل، وبمساعدة غربية متواصلة، تسخير القانون الدولي والقوانين المحلية وسن قوانين جديدة لترسيخ الاحتلال وشرعنته بل وإخراجه من حيز إمكانية التفاوض عليه”.(2)

يقول بابيه، منذ البداية، تعامل المشرعون في الأراضي الفلسطينية مع القانون الدولي من خلال مقاربة غير نزيهة ولا تخدم سوى مصلحتهم. فالأراضي المحتلة اعتبرت تارةً خاضعة للقانون الإسرائيلي، وطوراً غير خاضعة له، بما يخدم على أفضل وجهة استراتيجية استيطان تلك الأراضي. بمعنى آخر، وبإعادة صياغة كلمات نورا عريقات تحول القانون لأداة كولونيالية بيد إسرائيل.(3)

كان لدى إسرائيل وفقاً لبابيه، مشروعان مُتوازيان، يهدف المشروع إلى السّيطرة الجغرافيّة بتحويل أماكن سكن الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة إلى مناطق معزولة متراميّة وغير متّصلة بإقامة المستوطنات، وآخر قانونيّ استيطاني يقوم على إصدار المراسيم والقوانين لمصادرة الأراضي وتحويلها إلى مستوطنات لإعاقة النموّ الطبيعي للمجتمع الفلسطيني بمنع البناء والتوسّع الطبيعيين في الضفّة وقطاع غزّة.

شكلت السنوات بين 1987 و1993 فترة تأسيسية صيغت من خلالها بعض الوقائع القائمة اليوم في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة حتى سنة 2005. وكان ذلك زمناً أظهرت فيه بيروقراطية الاحتلال سلطتها المطلقة في تحويل السياسات المؤقتة، بما فيها العقوبات، إلى سياسات روتينية، وهكذا، قدمت الحواجز الأمنية إلى العالم، وقد وُضعت قيد التطبيق المنهجي سنة 1993. وقبل أن توقع إسرائيل اتفاقية السلام مع منظمة التحرير تم تجريب الحواجز في القدس، وبعدها بدأت الحواجز كسياسة تهدف إلى عزل القدس عن الضفة الغربية، وتقطيع الأراضي الفلسطينية إلى جيتوهات (ص286). 

تطهير عرقي وإبادة جماعية تدريجية 

يجد إيلان بابيه، صاحب كتاب التطهير العرقي لفلسطين، أن ممارسات إسرائيل هي تطهير عرقي مخطط لها مسبقاً بحيث تقع هذه السياسة في جوهر المشروع الصهيوني الإستيطاني. وحينما وجدت إسرائيل نفسها أمام كتلة ديمغرافية مقاومة واجهتها بالعنف والاستبداد المطلق الذي يرى بابيه أنه في جوهر المشروع الصهيوني. بمعنى آخر، هذا العنف المطلق الذي استخدمته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني متأصل في المشروع الصهيوني وهو فعل بحد ذاته وليس ردة فعل على مقاومة وصمود الشعب. باختصار، هدف هذا المشروع محو كل فلسطيني على الأرض، ورميهم في البحر لو أتاحت لهم الفرصة!

يسلم بابيه بأن ما حصل سنة 1948 هو تطهير عرقي متكامل الأركان. وبعد ذلك، وتحديداً بعد عام 1967 استمرت هذه السياسة إلا أن الظروف ردعت إسرائيل من التطهير الواسع النطاق، وأهم هذه الظروف مقاومة الشعب الفلسطيني. ويؤكد إيلان أن حزب العمل الإسرائيلي كان أكثر شرًا وتماهياً مع المشروع الصهيوني الاستيطاني القائم على تنفيذ سياسات غرضها طرد وتشريد وإبادة السكان الأصليين حسب الممارسات والظروف وما تسمح به مع وجود هدف سامي لدى هذا المشروع وهو تفتيت الإنسان الفلسطيني وضرب ذاكرته وهويته وتشويهها على حساب نمو مشروعه. من المهم هنا ذكر أن المقاومة للشعب الفلسطيني والتي يرى بابيه أنها جاءت نتيجة لممارسات إسرائيل وليس سببًا يبرر وحشية إسرائيل. يؤكد بابيه بأن التطهير العرقي استمر في فلسطين، ولكن اختلاف الظروف، وصمود الفلسطينيين، أفشل هذا المشروع، مع أن كل الممارسات التي تنفذ حتى اللحظة، والمخطط لها مسبقاً، هدفها النهائي التطهير العرقي القائم على الإبادة والطرد وتنفيذ سياسة السجن المشدد الحراسة.

استعمار استيطاني ومستوطنين وحوش

منذ سنة 2005 أصبح المستوطنون أشد قسوة ووحشية في معاملتهم للضفة الغربية. معاملة بلغت ذروتها بإشعال النار في جسد مراهق فلسطيني حيّ وبعائلة فلسطينية بأكملها. ولقد تمكنت الصهيونية كحركة استعمارية من استعمار فلسطين بكاملها تقريباً بغض النظر عن كونها أقلية ديمغرافية. بيد أن هؤلاء المستوطنين أقوى بكثير من الصهاينة الأوائل ومن غير المرجح أن ينجح أحد في منعهم عن السيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية. وخلال الفترة ذاتها أخضعت إسرائيل قطاع غزة إلى قمع أقسى بكثير وإلى النموذج الأشد وحشية، حتى اليوم، لسجن مُشدد الحراسة واستخدام العنف المطلق، أو بكلمات أخرى الانتقال من سياسة التطهير العرقي التقليدية التي نفذها إسرائيل عام 1948، إلى سياسة الإبادة التدريجية، الذي لا يزال يؤمن بابيه بأن التعريفات القانونية والأخلاقية المختلفة للإبادة الجماعية تنطبق على السياسة الإسرائيلية في قطاع غزة منذ سنة 2006 (ص334)، وذلك مع الأخذ في عين الاعتبار بأنه على غرار سياسة التطهير العرقي فإن سياسة الإبادة الجماعية هذه لم تُرسم في فراغ، بل جاءت ضمن تخطيط مسبق ومدروس لتنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني على فلسطين.

يشكل هذا الكتاب التاريخي العابر للسياسة وللفكر أهمية بالغة، إذ أنه يوجه سهام النقد نحو إسرائيل كدولة استعمارية عاثت فساداً في الأرض لتنفيذ مخططاتها الخبيثة وخلق مشروعها الاستعماري الصهيوني في فلسطين. يعيدنا الكتاب إلى سؤال الراحل إدوارد سعيد الوارد في تعقيبات على الاستشراق: كيف يمكن إنتاج معرفة غير مهيمنة وغير عسفية في أجواء منخرطة بعمق في سياسة واعتبارات ومواقف واستراتيجيات السلطة؟ (4)

وبإعادة صياغة السؤال، كيف يمكن إنتاج معرفة حقيقية عن واقع الاستعمار في فلسطين في ظل وجود مستعمر يحتكر سردية التاريخ ليشوه تاريخ شعب ويستبدله بتاريخ آخر؟ ربما يكون هذا الكتاب مساهمة في فضح الممارسات اليومية، القديمة الجديدة، والمستمرة لطمس الواقع التاريخي وتدمير الذاكرة والهوية الفلسطينية الهادفة في مجملها للتطهير العرقي والإبادة الجماعية لشعب بأكمله. إيلان بابيه يقدم كتاباً مميزاً تعيد السردية الحقيقية إلى مكانها وزمانها الأصليين والحقيقيين، وذلك من خلال كشف وثائق جديدة ودحض السردية الصهيونية. فحينما تتحدث السلطة، وأقصد هنا حينما يتحدث الاستعمار، فهو يتحدث عن نفسه في النهاية وعن صورته، التي لطالما حاول المستعمر الصهيوني سترها تحت غطاء القانون والعدالة والدفاع عن النفس، وهم بعيدين كل البعد عن ذلك.

هذا الكتاب باختصار، مقاومة لاشتباكات التاريخ الأيدلوجية والسياسية لعرض الحقيقة التي لطالما تمنت إسرائيل طمسها منذ بدأ المشروع الصهيوني الاستعماري على فلسطين وحتى هذه اللحظة. 

 

المراجع:

(1) عزمي بشارة، “صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، 2020.
(2) أسامة إسبر، القانون كأداة كولونيالية.. الرواية القانونية لاحتلال فلسطين، مراجعة كتاب، موقع جدلية، 13/4/2020.
(3) المرجع السابق.
(4) إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير: صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1996.

The post «أكبر سجن على الأرض» لإيلان بابيه… تفكيك لمنظومة إسرائيل الاستعمارية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«العدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية» لنورا عريقات… الاستعمار كمسألة “قانونية” https://rommanmag.com/archives/20361 Wed, 27 Jan 2021 12:40:47 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3/ على مدار عقود من الصراع في فلسطين، لم تكتف إسرائيل بسرقة الموارد ونهبها والاستيلاء على الأراضي والتوسع الاستيطاني فيها، بل قامت بكل جرأة بعملية مأسسة لهذه الممارسات الاستعمارية الكولونيالية هادفةً إلى ترسيخ حالة الاحتلال والاستعمار الدائمة وإنهاء قضية الفلسطينيين للأبد. كثيرة هي الأبحاث والدراسات التي أطرت الصراع في فلسطين على أنه صراع ضد نظام الأبارتهايد، […]

The post «العدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية» لنورا عريقات… الاستعمار كمسألة “قانونية” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
على مدار عقود من الصراع في فلسطين، لم تكتف إسرائيل بسرقة الموارد ونهبها والاستيلاء على الأراضي والتوسع الاستيطاني فيها، بل قامت بكل جرأة بعملية مأسسة لهذه الممارسات الاستعمارية الكولونيالية هادفةً إلى ترسيخ حالة الاحتلال والاستعمار الدائمة وإنهاء قضية الفلسطينيين للأبد. كثيرة هي الأبحاث والدراسات التي أطرت الصراع في فلسطين على أنه صراع ضد نظام الأبارتهايد، وعلى أن الاحتلال الإسرائيلي هو نظام استعماري عنصري كولونيالي لكن ماذا يعني ذلك؟ في هذه المراجعة الموجزة لبعض المقتطفات من كتاب “العدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية”، للأكاديمية الفلسطينية نورا عريقات، توضح كيف نجحت إسرائيل في فرض أنظمة قانونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة واستغلتها أفظع استغلال مما أدى في نهاية المطاف إلى فرض واقع حَوَّلَ فلسطين إلى بانتوستانات، وإسرائيل إلى دولة أبارتهايد، كما تبين أيضا كيف يشكل النضال ضد الأبارتهايد تهديدا لقلب المشروع الاستعماري الصهيوني.

الهيمنة الاستعمارية على فلسطين: خطوات باتجاه ترسيخ نظام الفصل العنصري

بداية لا بد من الإشارة إلى الممارسات الاستعمارية التي أدت إلى ترسيخ نظام الفصل العنصري والتي نتجت من خلال الأنظمة القانونية التي أفرزها الاستعمار على فلسطين منذ عهد الانتداب البريطاني الذي فتح بوابة الهجرة لليهود إلى فلسطين، ثم الاحتلال الإسرائيلي الذي فرض أنظمة قانونية خاصة مهدت إلى إنشاء نظام فصل عنصري على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي ضوء تمكين إسرائيل من تأكيد سيادتها بالقوة على المكان، تشير نورا عريقات، إلى أنه وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، نتج عن الاستثناء السيادي بوضع فلسطين كموقع للاستيطان اليهودي ترتيبًا قانونيًا متخصصًا برر المحو القانوني للمجتمع السياسي الفلسطيني. هذا النظام، إلى جانب ثلاثة عقود من الرعاية الإمبريالية البريطانية، مكّن إسرائيل من تأكيد سيادتها الاستيطانية اليهودية الصهيونية بالقوة على أكثر من 78 في المئة من فلسطين الانتدابية في عام 1948.

تتابع المؤلفة بالقول بأنه تم التعبير عن هذا الاستثناء لأول مرة في إعلان بلفور عام 1917 ثم في وقت لاحق في الانتداب على فلسطين عام 1922، حيث ظل امتياز سيادة المستوطنين اليهود الصهيونيين على الشعب الفلسطيني مهيمناً في المداولات الدولية حتى عام 1939 وحتى قيام إسرائيل في عام 1948. من خلال السرد التفصيلي للأحداث، والتقسيمات التي أجراها الانتداب، تقطع عريقات الشك باليقين بأن الانتداب البريطاني استخدم القانون ومنطقه لوضع فلسطين تحت “نظام خاص” للسماح بإنشاء وطن لليهود على فلسطين، وحرمان الفلسطينيين من الحق في تقرير مصيرهم (ص37). 

تلفت المؤلفة الانتباه إلى مسألة خطيرة مفادها بأن المكتب الاستعماري قد اعترف بالتشابه في الوضع بين الفلسطينيين والعرب في الدول المجاورة الناشئة التي تميزت بالاستقلال، وبأن التزام بريطانيا بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين هو ما أدى إلى وضع فلسطين ضمن نظام خاص (ص37)، وهذا يعني أن محاولات وضع فلسطين تحت نظام خاص تعد دليلا دامغا على كيفية استخدام القوى الاستعمارية القانون لخدمة مصلحة الاستعمار وسياساته حتى لو أدى ذلك إلى محو هوية المستعمِر ومسحها عن الخارطة. وهذا ما حصل في حالة فلسطين، حيث استُخدم القانون كأداة لاستعمار المنطقة وفتح الهجرة للمستوطنين للاستيلاء على فلسطين.

تستكمل عريقات في كتابها مسيرة الاستعمار الصهيوني لفرض حالة الاحتلال الدائمة على فلسطين، حيث استخدمت إسرائيل حالة الطوارئ الدائمة كنظام لحكم استثنائي عنصري لتبرير ممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين من السكان الأصليين من الذين لم يهربوا أو يطُردوا خلال الحرب وظلوا إما في منازلهم أو نزحوا داخليًا داخل الدولة الجديدة، بعد حرب عام 1948، والذين يقدرون بنحو 160.000 فلسطيني. على الرغم من صغر عددهم، إلا أنهم شكلوا تحديًا وجوديًا وديمغرافيًا لسيادة المستوطنين اليهود والصهاينة، وبالتالي يجب على إسرائيل إزالتهم أو نزع ملكيتهم أو احتوائهم. أدرجت إسرائيل هيكل الاستثناء في نظام الحكم اليومي، ووضعت الفلسطينيين خارج القانون من خلال تجريم وجودهم كتهديد، ماديًا (من حيث التركيبة السكانية) وميتافيزيقيا (على سبيل المثال، المطالبة بالاستمرارية الزمانية والمكانية اليهودية) وبالتالي تبرير معاملتهم العنصرية والمتميزة في القانون بحجة الطوارئ (ص54).

بعد فترة وجيزة من إقامة هدنة عام 1949 مع الدول العربية، كلف بن غوريون بمراجعة الحكم العسكري لتحديد متى يجب أن تنتهي. وخلصت المراجعة إلى أن الحكم العسكري هو الآلية المثلى للدولة لمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين وإزالة التجمعات السكانية المتبقية بالقوة، ومصادرة أراضيهم، واستبدالهم بالمستوطنين اليهود. بالإضافة إلى ذلك، أرادت الحكومة الإسرائيلية أن تكون مستعدة لاغتنام الفرصة لإخراج السكان الفلسطينيين المتبقين قسراً في حالة تجدد الحرب مع الدول العربية المجاورة. إن تنظيم السكان في إطار قانوني استثنائي “لا يخضع لقواعد الإجراءات العادية” من شأنه أن يسهل مثل هذا النقل الجماعي للسكان. وبهذا، قامت إسرائيل بإضفاء الطابع المؤسسي على نظام الطوارئ لتعزيز طموحاتها الاستيطانية الاستعمارية بشكل أكبر (55). وكجزء من عملية التحول القانوني التي مارستها إسرائيل للاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين الغائبين بموجب سلطات الطوارئ، يمكن إعلان بعض الأراضي الفلسطينية “مناطق مغلقة” وفقًا لتقدير القادة العسكريين وبالتالي الاستيلاء عليها والاستيطان فيها (ص56)، وهنا مرة أخرى توضح عريقات بما لا يدع مجالا للشك كيف تستخدم القوى الاستعمارية الأطر القانونية للحفاظ على قشرة القانون وتبرير ممارستها العنصرية الكولونيالية.

خططت إسرائيل منذ البداية للاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها خلال حرب عام 1967، ولكن كانت هناك مشكلة واحدة: كانت تريد الأرض وليس سكانها الفلسطينيين. لأنها إذا ضمت الأراضي الفلسطينية، فستضطر إلى استيعاب السكان الفلسطينيين، وبالتالي تعطيل الأغلبية الديموغرافية التي حققتها نتيجة حرب عام 1948 وتحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية (62). لذا فضلت إسرائيل تفريغ الأراضي من مواطنيها الفلسطينيين واستبدالهم برعايا يهود. ومع ذلك، بحلول عام 1967، تم نزع الشرعية عن الاستعمار والغزو، وتبلور مبدأ تقرير المصير إلى قانون إيجابي يضمن الاستقلال وحكم الذات؛ كانت طموحات إسرائيل الاستعمارية-الاستيطانية الآن عفا عليها الزمن ومثيرة للجدل، وبالتالي قامت إسرائيل ببناء آلية قانونية وسياسية للتغلب على هذه العقبات (ص62). ولفعل ذلك، زعمت أن عدم وجود سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة جعل الأراضي فريدة من نوعها، أو استثنائية من حيث القانون، في حين أن قانون الاحتلال يتطلب الحفاظ على الوضع الذي كان قبل الحرب إلى حين إحلال سلام يؤدي لاستعادة سلطة السيادة المستبدلة، أصرت إسرائيل على أنه لا توجد سيادة لاستعادة الضفة الغربية وقطاع غزة وأنها ستعتبر الأحكام الإنسانية لقانون الاحتلال مسألة تخضع لسلطتها التقديرية (ص63).

استمرارية استعمارية

ترى المؤلفة بأن هذا الإطار القانوني الذي سعت إسرائيل لتشكيله ونشره يمثل استمرارية استعمارية. لقد مكن نظام الأحكام العرفية في إسرائيل، من وقت إنشائها في عام 1948 حتى عام 1966، من نزع وطرد واحتواء المواطنين الفلسطينيين ضمن خطوط الهدنة لعام 1949. في ذلك الحين استخدمت إسرائيل السلطة السيادية داخل حدودها غير المعلنة لإعلان حالة الطوارئ، في الضفة الغربية وقطاع غزة، واستخدمت الآن قشرة قانون الاحتلال لإنشاء نظام استثنائي قائم على الأمن. ومع ذلك، فإن حقيقة أن إسرائيل تسعى الآن إلى مصادرة الأراضي بشكل متزايد خارج حدودها المفترضة، شكل عقبات كبيرة من حيث القانون والسياسة. وعلى وجه الخصوص، كان على إسرائيل أن تتغلب على الإرادة السياسية للمجتمع الدولي، الذي تحرك بسرعة لحل الصراع في الأمم المتحدة. وكانت النتيجة قرار مجلس الأمن 242، الذي يفرض انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية مقابل سلام دائم. وبدلاً من كبح طموحات إسرائيل الإقليمية، أثبت القرار أنه مفيد في تحقيقها. قدم النص النهائي للقرار 242 لإسرائيل ثغرة قانونية نشرتها منذ ذلك الحين بشكل استراتيجي لإضفاء الشرعية على عمليات الاستعمار (ص64).

وفي الحقيقة، إن خطط إسرائيل لم تكن فعالة لولا الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل في هذا السياق. منذ حرب حزيران / يونيو 1967، استخدمت الولايات المتحدة براعتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لحماية إسرائيل بشكل منهجي من المساءلة القانونية الدولية، ومساعدتها على تطبيع حججها القانونية في إطار سياسي قابل للاستمرار (ص 46). شكل هذا التدخل السياسي الأمريكي آلية قانونية وسياسية مكنت إسرائيل من سرقة الأراضي الفلسطينية دون عواقب وخيمة. لم يفشل القانون الدولي في تنظيم احتلال الأراضي الفلسطينية فحسب، بل وفر الإطار القانوني لاستعمارها المتزايد. إن قابلية القانون للتطويع بالتحديد هي التي جعلت مثل هذه النتيجة الضارة ممكنة، وسياسات القوة التي شكلت الشرق الأوسط هي التي أعطت قانون الاحتلال والقرار 242 المعنى الذي كانت تفترضه في ظل النموذج التفسيري لإسرائيل، كما لم تكن هذه النتيجة ممكنة لولا الفرصة القانونية التي ولّدتها حرب 1967 (ص64).

تهديد قلب المشروع الصهيوني

تشير عريقات في كتابها إلى قضية مهمة جدا مفادها أن نجاح إسرائيل في نشر العمل القانوني كان له عواقب غير مقصودة: إنها تشرف على نظام الفصل العنصري. وبدون تقسيم يفصل إسرائيل عن المناطق، يتوجب على إسرائيل الآن أن تتعامل مع حقيقة أن ولايتها القضائية تحتوي على عدد كبير من السكان الفلسطينيين الأصليين. وفقًا لمكتب الإحصاء الإسرائيلي، اعتبارًا من أكتوبر 2012، كان هناك حوالي 5.9 مليون يهودي إسرائيلي، بما في ذلك سكان المستوطنين، و6.1 مليون فلسطيني يعيشون في جميع أنحاء إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة. تشير التوقعات السكانية إلى أنه بحلول عام 2035، سيشكل اليهود الإسرائيليون 46 في المئة فقط من إجمالي السكان. إن الترتيب الحالي الذي تحكم فيه إسرائيل الفلسطينيين المحتلين ولكنها تستبعدهم من الجنسية يجسد نظامًا يدير أنظمة قانونية متميزة تستند إلى تعريفاتها العنصرية: بعبارة أخرى، نظام الفصل العنصري (ص213). 

عرف أسلاف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مخاطر هذا التشعب القانوني. خلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء، علق إيهود أولمرت بأن الفشل في إنشاء دولة فلسطينية سيجبر إسرائيل على “مواجهة صراع على غرار جنوب إفريقيا من أجل حقوق تصويت متساوية، وبمجرد حدوث ذلك، تنتهي دولة إسرائيل”. بعد مغادرته منصب رئيس الوزراء، عرض إيهود باراك هذا التحذير: “إذا، وطالما بين الأردن والبحر، هناك كيان سياسي واحد فقط، يدعى إسرائيل، سينتهي به الأمر إما أنه غير يهودي أو غير ديمقراطي …. إذا صوت الفلسطينيون في الانتخابات، فهي دولة ثنائية القومية، وإذا لم يصوتوا، فهي دولة فصل عنصري (ص214). وهذا معناه تهديد لإسرائيل ولقلب المشروع الصهيوني ولكن بشرط توافر استراتيجية قانونية وطنية يتم استثمارها في إطار حركة سياسية.

أوسلو ونظام الفصل العنصري

ترى عريقات في أوسلو منعطفا تاريخيا مكّن إسرائيل من مواصلة توسعها الاستعماري-الاستيطاني، هذه المرة تحت قشرة صنع السلام. وفي ندوة تحت عنوان “إسرائيل والأبارتهايد – قراءة مقارنة” للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية أشارت إلى أن “أوسلو رسخت ثلاثة أشياء قربتها بشدة إلى المقاربة بين تجربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وتجربة الواقع الفلسطيني، فهي أولا “مهدت للتجزئة الجغرافية من خلال تقسيم المناطق إلى أ، ب، ج، وأيضا من خلال الصلاحيات التي منحتها أوسلو لإسرائيل في ممارسة سياسة الاغلاقات والحواجز والادعاء بمطالب في الضفة الغربية. ثانيا مأسسة سياسة التصاريح وهو نفسه كان متبعا في جنوب افريقيا. ثالثا منحت أوسلو حكما محليا للفلسطينيين بدون سيادة”، مما حَوَّلَ الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى بانتوستانات”(1). لم تحقق أوسلو الحلم بإقامة الدولة الفلسطينية، بل على العكس عززت فشل حل الدولتين، كما أنها أيضا لم تعترف للفلسطينيين بحقهم في تقرير المصير او في الدولة، بل كل ما تضمنته اعتراف بمنظمة التحرير، وحكم ذاتي جزئي على جزء من الأراضي الفلسطيني، وفي المقابل منحت أوسلو امتيازات للإسرائيليين عدا عن الاعتراف بهم كدولة (ص136-155).

النضال ضد نظام الفصل العنصري

تتفاوت الآراء في قضية النضال ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني، فهل ينبغي أن تقتصر المطالبة هنا بالدولة والاعتراف باننا شعب تحت الاحتلال فقط، أم ينبغي لنا المضي قدما واعتبار نضالنا هو نضال تحرير الهدف منه العدالة والمساواة والحرية بشكل يضمن كافة الحقوق للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده. وفي إطار الدروس المستفادة والدعوة إلى إيجاد رؤية استراتيجية قانونية في إطار حركة سياسية، تسلط عريقات الضوء على الاستراتيجية القانونية لناميبيا خلال كفاحها من أجل التحرر والاستقلال والتي تقدم بعض الدروس حول الفوائد المحتملة للقانون الدولي والنضال ضد الاستعمار (ص224). تدعو عريقات إلى التمسك بأفق الحرية والتحرر من الاستعمار إلى ما وراء الدولة، ذلك أن الالتزام بإقامة الدولة والتخلي عن المقاومة يحجب حقيقة الازالة الاستعمارية الاستيطانية ويمكن نظام الفصل العنصري عن غير قصد (ص234).

في كتابه “صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟، يرى الدكتور عزمي بشارة بأن “فلسطين حاليًّا هي وحدة واحدة وفضاء واحد خاضع لدرجات مختلفة من سلب الأرض ومصادرة الكيان الوطني، وتلوينات وأساليب سيطرة مختلفة للسلطة الإسرائيلية الحاكمة نفسها. يخضع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة والمواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، وأولئك الواقعون في منزلة بين المنزلتين في القدس لهذا النظام. لكن ظروفهم مختلفة، وكذلك مطالبهم العينية. ووسائل نضالهم مختلفة بالضرورة، وكذلك جبهات المواجهة التي يخوضونها. ويمكن تشخيص قضية اللاجئين ضمن نموذج الأبارتهايد نفسه. فالفصل العنصري اتخذ في عام 1948 شكل الطرد والتهجير لتحويل الأقلية اليهودية إلى أكثرية في دولة يهودية، ويتخذ الفصل حاليًّا شكل الاحتلال والتمييز العنصري. ولم يعد ثمة مجال لتصور حل لقضية فلسطين يشمل فقط جزءًا من الشعب الفلسطيني، ولن يكون تنفيذه ممكنًا. وقد أسهم فشل مسار المفاوضات الهادفة إلى التوصل إلى مثل هذا الحل في إظهار عبثية هذا الطرح وغرابته”(2). هذا يتطلب وفقا لبشارة استراتيجية تحرير ضد واقع الاحتلال والشتات ونظام الفصل العنصري والاستعمار، مع الأخذ في عين الاعتبار خصوصية كل مجتمع وطبيعة جبهة المواجهة التي يخوضها(3).

الخاتمة

غياب رؤية سياسية استراتيجية واضحة لدى القيادة الفلسطينية بعد أوسلو ساهم في استغلال الاحتلال الإسرائيلي لهذه الفرصة التاريخية من حالة الشرذمة والعجز السياسي لدى الفلسطينيين. نتج عن ذلك، مزيد من التجاهل للفلسطينيين ولاحتياجاتهم، والتوسع الاستيطاني في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحصار غزة وعزلها من خلال الانسحاب عام 2005 والحروب المتكررة. لذا من الضروري العمل على توافر استراتيجية سياسية في الوقت الحالي تمهد لوحدة وطنية سياسية وجغرافية وحشد التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية وإعادتها على صدارة المشهد العالمي. أيضا، هناك حاجة ملحة لإعادة صوغ مشروع فلسطيني متكامل لمواجهة نظام الفصل العنصري ودولة الأبارتهايد، فضلا عن ضرورة وجود مظلة واحدة تجمع الكل الفلسطيني بمختلف فصائله وتياراته في الداخل والخارج(4)، لأن  من شأن ذلك أن يضمن التفكير في إيجاد نهج عملي وواضح ومدروس للتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحله على الرغم من تعقيد هذا الصراع الممتد والمستعصي.

المراجع

  1. مركز مدار، إسرائيل-أبرتهايد جديد، ندوة صادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية تحت عنوان ، “إسرائيل والأبارتهايد – قراءة مقارنة”، قضايا إسرائيلية – متاح على: ندوة خاصة- إسرائيل – ابارتهايد جديد.pdf. 
  2. عزمي بشارة، “صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2020، ص 110.
  3. المرجع نفسه، ص 111.
  4. أبو رشيد، أسامة، معنى حل الدولتين في ظل تقويض إمكان إقامة دولية فلسطينية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2016.

The post «العدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية» لنورا عريقات… الاستعمار كمسألة “قانونية” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع” لبشار شموط… التوثيق كضرورة فلسطينية https://rommanmag.com/archives/20297 Thu, 26 Nov 2020 14:53:35 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%a6%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%85%d9%88%d8%b9-%d9%84%d8%a8%d8%b4%d8%a7/ طالت عملية المحو الاستعماري الصهيوني لفلسطين وعلى مدار عقود كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مع وجود نية مبيتة لتفكيك وبعثرة الهوية والذاكرة الفلسطينية لتحل محلها ذاكرة أخرى مرتبطة بآخر قوة استعمارية على الأرض “إسرائيل”. ومع استمرار عمليات التهديد للذاكرة الجماعية الفلسطينية، والسرقة في كثير من الأحيان، بدت الذاكرة الفلسطينية الجماعية للإرث الفلسطيني مرتبكة ومهددة، […]

The post “الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع” لبشار شموط… التوثيق كضرورة فلسطينية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

طالت عملية المحو الاستعماري الصهيوني لفلسطين وعلى مدار عقود كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مع وجود نية مبيتة لتفكيك وبعثرة الهوية والذاكرة الفلسطينية لتحل محلها ذاكرة أخرى مرتبطة بآخر قوة استعمارية على الأرض “إسرائيل”. ومع استمرار عمليات التهديد للذاكرة الجماعية الفلسطينية، والسرقة في كثير من الأحيان، بدت الذاكرة الفلسطينية الجماعية للإرث الفلسطيني مرتبكة ومهددة، بما في ذلك الإرث الثقافي المرئي والمسموع. ومع بروز الاتجاهات الحديثة في الأرشفة وحفظ المعلومات ومع التطور الرقمي الهائل في العالم، برزت الأرشيفات الوطنية التي أصبحت متاحة مع حرية الوصول إليها، ليس كمخزون علمي فحسب، بل كمهمة رئيسية لحفظ الذاكرة الثقافية والجماعية وصون الهوية الوطنية للشعوب ولحفظ الوقائع التاريخية وتاريخ العلم وثقافة التذكير. في فلسطين، تعرض الإرث الثقافي، بما فيه المرئي والمسموع، للضياع والتدمير والسرقة، ويعود ذلك لأسباب تاريخية، أو لأسباب عسكرية متعلقة بالاستعمار، الأمر الذي ترك العديد من المعوقات في إعادة تكوين الذاكرة الوطنية الفلسطينية وإعادة تجميعها. 

في ضوء هذا السياق والنقاش العالمي الذي يدور حول الأرشفة والنهج الأرشيفي يأتي كتاب “الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع: نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه: دراسات أولية وتطلعات مستقبلية”، تأليف وترجمة عن الألمانية بشار شموط، والذي يتكون من 200 صفحة، وسبعة فصول، كل فصل يليه عدة موضوعات فرعية، والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 2020. يناقش الكتاب قضايا سياسية تاريخية حساسة ودقيقة تخص الأرشيف الفلسطيني باعتباره كياناً مهماً ومرتبطاً بالذاكرة والهوية الجماعية الوطنية للشعب الفلسطيني. يمهد الكتاب عبر سطوره الطريق لاستيعاب هذه القضايا ضمن سياق أوسع من خلال إعادة صياغتها بطريقة علمية وأكاديمية مميزة، ومن ثم يتيح قراءته ضمن عدسات متعددة ومتنوعة، فهو يندرج في فضاء الدراسات الأكاديمية للإرث الثقافي الفلسطيني، ثم يسد ثغرات في البحث التاريخي الثقافي، فضلاً عن قيمته العالية من الناحية الثقافية السياسية. وبين هذين الحقلين الأخيرين، ورغبةً في المساهمة في حفظ الإرث الثقافي المرئي والمسموع الفلسطيني، يقدم المؤلف بشار شموط، بحثا أكاديميا مدعوما بالأسس العلمية، في مجال الأرشفة الرقمية والمسموعة، مستخدما منهجيةً ثلاثية الأبعاد معتمدا على المعلومات والدراسات الموثوقة المتوافرة، وخبرته الشخصية لسنوات في هذا المجال، والعديد من النقاشات والمقابلات مع أشخاص معنيين.

يشير الكتاب بصورة عامة إلى “الأهمية المركزية للمواد الأرشيفية الوطنية وتجسيد الهوية المتعلقة بذلك، كما يطرح العديد من التساؤلات حول مصير الأرشيفات المسروقة” (ص1). لذا، فإنه يعد مساهمة فكرية وأكاديمية ووطنية عالية لما يحمل في طياته من أهمية علمية وثقافية للإرث الفلسطيني المرئي والمسموع. ومما يستحق الذكر أنه لا بد وفقا للمؤلف النظر إلى الهوية الثقافية الفلسطينية العربية كجزء من الهوية الثقافية العربية العامة في منطقة الشرط الأوسط. ومع ذلك تقتصر الدراسة على دراسة الإرث الثقافي المرئي والمسموع الفلسطيني، مع الأخذ في عين الاعتبار “سياق التعددية الثقافية والاجتماعية والدينية في جميع أنحاء المنطقة، وكيفية تفاعل هذه الفئات مع بعضها البعض، لا داخل فلسطين فحسب، بل أيضا مع جيرانها”. ففي مجال التسجيل الموسيقي مثلا، يعتقد الكاتب بأنه “قد يكون من المستحيل تصور نشوء حركة فلسطينية مستقلة وبعيدة عن سائر الحراك الموسيقي في المنطقة، وتحديدا في سوريا ومصر”. إذ يدعو الكاتب بدايةً إلى فهم التفاعلات في المنطقة والتعددية العرقية والدينية، وهو أمر جعل من الهوية الثقافية لفلسطين تحديداً، هوية غنية ومتنوعة (ص12). بناء عليه، تقدم هذه المساهمة مراجعة وعرض لأهم ما ناقشه الكتاب من محاور وأفكار ولبنات رئيسية مع الاشتباك مع بعضها نقدياً متى أتاحت الفرصة لذلك.

تناثر الإرث المرئي والمسموع لفلسطين والتطلع نحو التنسيق المشترك للحفاظ عليه

بعد تقديم الدراسة وتحديد مجالها ومنهجيتها يرتحل المؤلف إلى الفصل الأول، مطالعاً الجهود المبذولة للتعاون المُنَسق، والمُبَادرات الفلسطينية والعربية المتعددة، من أجل الحفاظ على التراث الثقافي. ضمن هذا السياق، نظم في السنوات الأخيرة بعض اللقاءات والمبادرات وورش العمل من أجل تبادل الأفكار والآراء، وإيجاد قاعدة مشتركة توفر للباحثين من المنطقة العربية إمكان التعاون في مجال الأرشفة بجميع أشكالها، ومنها مثلا: مؤتمر الأرشيفات والمذكرات العائلية: محاولة لقراءة تاريخ المجتمع الفلسطيني، مؤسسة الدراسات المقدسية في رام الله بالتعاون مع جامعة بيرزيت 2008، ومؤتمر الأرشيف والدولة الحديثة، القاهرة، 2010، وغيرها من المؤتمرات التي ناقشت قضايا عدة ومختلفة متعلقة بواقع الأرشيفات والمجموعات المرئية والمسموعة في الشرق الأوسط وكيفية النظر إليها.

على الرغم من هذه المؤتمرات والمبادرات يلفت المؤلف النظر لدراسة كان قد أعدها “أنطوني دوني” الذي طرح مسألة عدم التوافق فيما بين هذه الأرشيفات والمجموعات المرئية والمسموعة في الشرق الأوسط. ورأي دوني “أنه كثيرا ما ينظر إلى هذه الأرشيفات على أنها مجموعة منظمة من الوثائق التاريخية التي تحفظ المعلومات عن الناس والأماكن والأحداث، لكن هذه الرؤية تحجب عنصرا حساماً في هذه العمليات، فالأرشيف معني أيضا بتشكيل المستقبل” (ص16). يعني ذلك، في السياق الفلسطيني، بأن وجود أرشيف منظم ومرتب، قائم على التنسيق المشترك يمكن أن يشكل مقاومة للهيمنة على الذاكرة الجماعية التي تظهر في أساليب الأرشيفات الإسرائيلية في تعاملها مع الإرث الثقافي الفلسطيني، وتحديدا في ظل وجود العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تتعامل مع هذه المواد على أنها ملكية خاصة تخدم الأهداف السياسية والاجتماعية السياسية لمن يحتفظ بها ويديرها يحرم شريحة واسعة من الاستفادة من هذه المواد ويبقي على الإرث الثقافي الفلسطيني مبعثرا.
 

مقارنة بالأرشيفات الرسمية في أوروبا والولايات المتحدة حيث تتوفر الأرضية القانونية لإمكان فتح المقتنيات والمواد الأرشيفية أمام الجمهور المهتم، تبقى قضية حقوق الطبع وحربة الوصول إلى المعلومات في منطقة الشرق الأوسط، في كثير من الأحيان، عنواناً لا أكثر، كما يقول المؤلف. وفي كثير من الأحيان أيضا تفتقر الدول العربية إلى قوانين تُعني بالأرشفة وتختص بها. ذلك عوضا عن أي تنسيق في توزيع المهام والمسؤوليات بين مختلف مؤسسات الأرشفة في المنطقة والتي من شأنها أن تنظم العمل الأرشيفي وتحميه. أما فيما يتعلق بالمبادرات، فمنها على سبيل المثال، كتاب بطاقات بريدية من مجموعة عز الدين القلق، ومشروع أرشيف ملصقات فلسطين لدانيال ج. وولش، ومجموعة صور لإيليا قهوجيان (1910-1999)، وغيرها من المبادرات الفردية، وحتى المبادرات المؤسساتية الأخرى التي تعتمد على الدعم والتمويل الخارجي (ص21).

دور المتحف الفلسطيني في الحفاظ الرقمي على الإرث الثقافي الفلسطيني المرئي والمسموع

يقدم الفصل الثاني نقرأ نبذة عن تاريخ تأسيس المتحف الفلسطيني، وخطة تنفيذ مشروع الأرشيف المرئي والمسموع التابع للمتحف. رأي المتحف النور في آذار 2016، حيث عبر جاك برسكيان، الشريك في فكرة إنشاء الأرشيف الرقمي، عن اهتمامه بدعم آلية البحث عن المواد المرئية والمسموعة، ثم العمل على تجميعها وتحويلها الرقمي (رقمنتها)، ونظرا إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإلى الوضع السياسي القائم في فلسطين منذ سنوات طويلة، تمنع السلطات الإسرائيلية الشعب الفلسطيني (فلسطينيي قطاع غزة والشتات) من دخول الضفة الغربية، حيث يوجد المتحف. أي أن نحو 70% من الفلسطينيين محرومون من زيارة المتحف الرئيسي لوطنهم الذي لا يزال حتى هذه اللحظة قيد التطوير (ص25). بجانب البحث عن المواد والمجموعات والأرشيفات التي لها علاقة بالذاكرة الجماعية الفلسطينية، يطمح هذا المتحف إلى ربط كل المجموعات والأرشيفات ببعضها البعض، وتزويدها بأسس وأساليب موحدة لرقمنة المواد المتوفرة لدى كل منها وفهرستها من أجل إنشاء قواعد متوافقة وموحدة للبيانات الرقيمة المستقبلية (ص26). 

بدايات التوثيق المصور والتسجيل الصوتي في فلسطين قبل سنة 1948

وفقا للمؤلف فإن تقنيات التصوير الفوتوغرافي والسينمائي ومن بعدهما التسجيل الصوتي عرفت طريقها إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث لعب دخول هذه التقنيات بشكل سريع دوراً هاماً في الفضاءات الثقافية والاجتماعية والسياسية. بعد إعلان دولة إسرائيل في أيار/مايو 1948 الذي أدي إلى تهجير وتشتيت جزء كبير من الشعب الفلسطيني، بدأ الفلسطينيون في سنوات ما بعد النكبة رحلتهم في تنظيم عملهم السياسي، وهنا برزت أهمية الوسائل المرئية والمسموعة في توثيق وحفظ العمل السياسي والحراك النضالي الوطني للفلسطينيين وسائر النشاطات الفنية والثقافية مثل الأدب والشعر والموسيقى والفن التشكيلي، وتحديدا منذ أواخر الستينات (ص33).

نظم هذا الفصل العديد من المواضيع ذات العلاقة بنشأة الإرث المرئي والمسموع في فلسطين حيث تضمن عدة مواضيع فرعية كالتالي: أولا: بدايات التصوير الفوتوغرافي في فلسطين؛ ثانيا: أوائل المصورين الفلسطينيين؛ ثالثا: بدايات تصوير الأفلام السينمائية المتحركة في فلسطين؛ رابعا: بداية التسجيلات الموسيقية في فلسطين؛ خامسا: بدايات التسجيل الموسيقى الأنثروبولوجي في فلسطين-مجموعة روبرت لاخمان؛ سادسا: الإرث الموسيقي في الوسط البرجوازي في فلسطين ما قبل 1948؛ سابعا: أثر الموسيقى الكنائسية الأوروبية في الحياة الموسيقية في الوسط المسيحي الفلسطيني؛ ثامنا: مصلحة الإذاعة الفلسطينية-أول إذاعة في فلسطين ودورها في نشر الإرث المسموع، الموسيقي واللغوي المحكي؛ تاسعا: إذاعة الشرق الأدنى، ثاني إذاعة بريطانية ناطقة بالعربية في فلسطين قبل سنة 1948.

كان لكل من هذه المجالات كما يحكي المؤلف (أي التصوير الفوتوغرافي، ثم الفيلم، ثم التسجيل الصوتي/الموسيقي) دور اجتماعي وثقافي مختلف، مثلا دور أساسي في توثيق الأحداث المرئية والمسموعة والمناسبات الخاصة والاجتماعية، كان للتسجيل الصوتي للموسيقى هدف أساسي مادي من خلال تسويق الأسطوانات التجارية (ص33). ومنذ أواخر الستينات، يشير المؤلف إلى ان هذه الأوساط كان لها دور رئيسي من خلال الاندماج فيما بينها في توحيد دورها لصناعة نتاج فني سياسي جديد. لكن هذا التسييس كما يراه المؤلف في الفن الفلسطيني لم يقتصر على الإنتاج المرئي والمسموع، بل كان يلاحظ أيضا في سائر النشاطات الفنية والثقافية في ذاك الوقت مثل الأدب والشعر والموسيقى والفن التشكيلي (ص33).

1948، النكبة والذاكرة الجماعية المهددة

يتعمق المؤلف في الفصل الرابع في أعماق الذاكرة الجماعية الفلسطينية، حيث يصور النكبة كملحمة فعلت فعلها المأساوي في حياة الفلسطينيين، معتبراً إياها نقطة تحول جذرية وحدثا مستمرا ما زال له حضوره في حياة الشعب الفلسطيني بما فيه من آلام حتى اليوم. ووفقا للكاتب، “تعتبر النكبة بداية التاريخ الفلسطيني المعاصر، والتغيرات الكارثية بما حملت من عمليات القمع العنيف والإصرار على البقاء”. ما يميز هذا الفصل هو اعتباره للإرث الفلسطيني المرئي والمسموع قضية عابرة للتاريخ والثقافة والسياسة، وحافظة لا يمكن الاستغناء عنها لمقاومة الهيمنة الصهيونية التي سعت منذ النكبة لمحو الهوية الفلسطينية الثقافية والاجتماعية والسياسية وخلق كيان صهيوني بدلا منها.

في دفتر يومياته، كتب بن غوريون بتاريخ 18 تموز/يوليو 1948: ” علينا أن نبذل كل جهدنا ألا نسمح لهم (الفلسطينيون) بالعودة… فالكبار منهم سوف يموتون والصغار سوف ينسون” (78). تستفز هذه العبارة المؤلف، لأنها لا تعكس الفكر الصهيوني الاستعماري الذي يهدف إلى الهيمنة الكاملة على أرض فلسطين بشتى الأساليب فحسب، بل تشكل جوهر السياسة الإسرائيلية، الذي يرفض التعامل ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلا عن اعتبار هذه المقولة مرآة للأمم الاستعمارية القديمة التي استخدمت أساليب متنوعة لمحو هوية الآخر وتجريده من ذاكرته، أو للحد من امتدادها لتسهيل مهمة السيطرة عليه.

عديدة هي الأمثلة التي قامت بها إسرائيل لمحو وتشويه الهوية العربية الفلسطينية، ابتداءً من تهجير السكان ومصادرة الأراضي وارتكاب المجاز بحق أصحابها وطردهم من بيوتهم، وانتهاءً بتغيير أسماء المدن والقرى وتحويلها الى مدن إسرائيلية. يحذر المؤلف هنا من الصور التي ينشرها الاحتلال الإسرائيلي للقرى الفلسطينية التي تعطي انطباعا مغايراً ومخالفاً للحقيقة (ص81). يرى المؤلف أنه بعد النكبة، ونتيجة لما تعرضوا له، احتاج الفلسطينيون إلى سنوات عديدة لتشكيل رؤية وهيكلية سياسية تقودهم إلى العودة وتحرير الوطن. فأنشئت منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، ولكن عمل الفلسطينيين في مجالي الفن والثقافة بدأ قبل تأسيس المنظمة بسنوات ولو بشكل فردي على الرغم من الأوضاع المعيشية والمادية الصعبة (ص83). فمنهم من اتجه إلى الكتابة والشعر مثل محمود درويش (1941-2008)، وسميح القاسم (1914-1939)، ومنهم من اتجه إلى الفن التشكيلي والرسم مثل إسماعيل شموط (1930-2006)، أو حتى إلى التصوير الفوتوغرافي مثل سلافة مرسال جاد الله (1941-2006)، التي كانت أول فتاة فلسطينية تدرس فن التصوير الفوتوغرافي في القاهرة. وبعدما تكرس الحضور الفعلي والرسمي لمنظمة التحرير تطور الإنتاج والحراك الثقافي الفلسطيني ما بعد النكبة ضمن سياق المعطيات السياسية والثقافية والاجتماعية في تلك الفترة وتحديداً في الستينيات والسبعينيات، حيث نشأت الكثير من المشاريع الثقافية بهدف الحفاظ على وحدة الهوية الوطنية المشتركة للشعب الفلسطيني.

يتابع المؤلف بقوله تمثل هذا الحراك في نشوء الفيلم السياسي الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير، حيث تم تأسيس دائرة الثقافة والإعلام في سنة 1965، حيث بقي المقر ناشطاً حتى اجتياح لبنان سنة 1982 من قبل الجيش الإسرائيلي الذي قام بالسيطرة على مبنى مقر منظمة التحرير ونهب كافة محتوياته من ملصقات وكتب وصور وأرشيفات فوتوغرافية وإصدارات فنية وغيرها (ص86). وحتى لحظة اجتياح لبنان، كانت المؤسسات في مجال السينما قد أنتجت أكثر من 70 أو 80 فيلماً وثائقياً، في مقابل فيلم روائي واحد بعنوان عائد إلى حيفا (ص89). يمكن هنا الإشارة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي شكل بيئة طاردة للعمل السينمائي الفلسطيني في الداخل واقتصر على الخارج، بينما تمكنت الحركة الموسيقية بدعم من منظمة التحرير والمؤسسات التابعة لها من البروز بطريقة غير عادة. وضمن هذا السياق، برز نجم “فرقة الفنون الشعبية” التي تأسست سنة 1979 في الضفة الغربية، وفرقة صابرين في القدس، وغيرها. ومن المنظور التاريخي يجادل المؤلف على أنه كان هناك منعطفان أساسيان في مسار العطاء الثقافي الفلسطيني الذي تشكل في ظل وجود منظمة التحرير بعد انتقالها إلى بيروت سنة 1970، تمثل الأول في الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف عام 1982، وتوقيع اتِّفاق أوسلو 1993 (ص99).

شكل اجتياح لبنان ثغرة كبيرة في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، بينما سمح اتِّفاق أوسلو للفلسطينيين بمساحة من العمل الثقافي والإعلامي في كل من الضفة الغربية وغزة (ص100). اختلفت الآراء حول مدى المساحة التي كانت موجودة في الفضاء الثقافي الفلسطيني وبخاصة بعد أوسلو، ولكن ما هو مؤكد أن الواقع الاستعماري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، والحروب المتكررة على المنشآت والمقرات والتدمير الممنهج لها، لم يساعد في إيجاد نهج فلسطيني لأرشفة وحفظ هذه المواد المرئية والمسموعة الأمر الذي يعني ضرورة تكثيف الجهود للملمة هذا الإرث الثقافي المبعثر والمشتت. 

مجموعات ومواد مرئية ومسموعة منهوبة في الأرشيفات الإسرائيلية

يسلط الفصل الخامس الضوء على الموضوع البالغ الحساسية من الناحيتين السياسية والثقافية والذي يتعلق بالمجموعات والمواد المرئية والمسموعة الفلسطينية المنهوبة أو المفقودة والموجودة اليوم في عدة أرشيفات إسرائيلية (ص103). يلفت المؤلف هنا الانتباه إلى أن جزء كبير من هذه المواد لا يزال موجود في صندوق أسود مغلق عليه، وهو ما يمنع الفلسطينيين من دراسته أو الاستفادة منه، كما أن حجم هذه المواد غير معروف حتى الآن. الثابت أن الجيش الاسرائيلي كان يقوم بنهب منظم للوثائق والمواد التابعة للمؤسسات الفلسطينية، أو حتى لأشخاص وعائلات، أثناء اعتداءاته العسكرية المتكررة. ومع ذلك يشير المؤلف إلى بعض الأدلة الدامغة حول المعلومات المتوافرة بشأن هذا الموضوع، وفي سبيل الإثبات لهذه القضية المهمة اعتمد المؤلف في هذا الفصل على النقاشات والحوارات والمقابلات الشخصية مع أشخاص معنيين بهذا الموضوع أو لديهم بعض المعلومات المتوافرة.

الأكيد أن عملية النهب لم تكن عشوائية، بل كانت مدروسة من جانب السلطات الإسرائيلية (ص104). ويعد الحصول على هذه المواد أو استرجاعها أو الوصول إليها مستحيلا بالنسبة للفلسطينيين، حيث تسمح قوانين الأرشفة المعمول بها في الجيش الإسرائيلي بإخفاء هذه المواد والإبقاء عليها مدفونة، على الرغم من أن القوانين تلزم الإفراج عنها ، إلا أنه يحق للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية ابقاؤها سرية إذا تعارض الكشف عنها مع التطلعات السياسية أو الأمنية للدولة (ص106). وعمليا هناك قانونان يوفران الأرضية القانونية للاستيلاء على هذه الأرشيفات وعدم الكشف عنها وهما: “قانون أموال الغائبين” الذي سن عام 1950، وقانون الأرشفة المعمول به في الأرشيف العسكري التابع للجيش (ص108).

السؤال المهم الإجابة عنه هنا: لماذا يقوم الاحتلال الإسرائيلي بنهب هذه المواد؟ وفقا للمؤلف يقوم الاحتلال الإسرائيلي بعمليات النهب المنظمة من خلال مرحلتين الأولى وهي النهب للمواد، والثانية دراسة المواد وتقييمها ومن ثم تصنيفها من حيث أهميتها السياسية والقانونية من أجل زيادة المعرفة عن تاريخ الفلسطينيين وثقافتهم وطريقة تفكيرهم (ص109). كان لا بد من الكاتب على الرغم من قلة المعلومات الإشارة إلى بعض المواد التي نهبت وقام بعض الباحثين بالكشف عنها، مثل الفيلم الوثائقي للباحث بني برونر الذي أنتجه عام 2012 مسلطاً الضوء على عملية النهب الممنهجة التي قام بها متخصصون من القوات العسكرية الإسرائيلية لمجموعات الكتب الخاصة من بيوت الفلسطينيين الذين هجروا عام 1948، وغيرها مثل “أرشيف مصلحة الإذاعة الفلسطينية التي أسست عام 1936 وتم تسليمها إلى مكتب رئيس الحكومة بصفتها مواد أموال غائبين، وغيرها من المواد التي نهبت في بيروت عام 1982 (ص111)، وجميعها تعد ادلةً دامغةً على النهب المنظم والمدروس الذي ارتكبه، ولا يزال يرتكبه، الاستعمار الصهيوني المتطرف لأغراض خبيثة تتمثل في طمس الذاكرة والهوية الجماعية الفلسطينية، ولا سيما تهميش وإنكار الشعب الفلسطيني كشعب ذي تاريخ وثقافة، إضافة إلى استعمال هذه المواد في تقييم ودراسة العقل الفلسطيني وطريقة تفكيرهم، بجانب استعمال تلك المواد كأداة ضغط كما حدث سنة 1983 في صفقة تبادل جثث الجنود الإسرائيليين في مقابل أرشيف مركز الأبحاث (ص128).

يستخلص الكاتب في هذا الفصل عدة نتائج أهمها أنه يمكن القول بأنه “بات من المؤكد أن المواد المرئية والمسموعة التي كانت في حوزة قسم الثقافة الفنية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت أصبحت جميعها في يد السلطات الإسرائيلية”، مع دعوة الكاتب إلى ضرورة الاستمرار في البحث المعمق في هذا الموضوع للحصول على أدلة جازمة فيما يتعلق بهذه المواد الوثائق (ص128).

قوائم المجموعات والأرشيفات المرئية والمسموعة التي تم العثور عليها حتى الآن

حتى الآن لا يوجد وفقا للمؤلف إلا قليل من الكشوفات والسجلات التي تحتوي على بيانات وصفية ومعلومات عن المجموعات والمواد المرئية والمسموعة الموجودة في الأرشيفات العربية والفلسطينية تحديدا، والتي يمكن الاستفادة منها في الحقل العلمي أو الثقافي (ص131). ويمكن رد ذلك إلى أن علوم الأرشفة لا زالت غير متطورة في العالم العربي وهي حديثة نسبيا. ومع ذلك، يمكن العثور في كثير من الأحيان على معلومات متفرقة لكنها ذات قيمة ثقافية وتاريخية عالية في أماكن متعددة من العالم الغربي وخارجه. ضمن هذا السياق يوجه المؤلف بوصلته إلى رواية الطنطورية للكاتبة رضوى عاشور حيث ذكرت بأن مركز الأبحاث في بيروت الذي أدراه الدكتور أنيس الصايغ من سنة 1966 إلى سنة 1977 قام بإعداد أربعة أفلام مصورة لمحتويات ملفات المعلومات، احتفظ بنسختين منها وأعطى نسخة للجامعة العربية ونسخة لجامعة بغداد، ثم إن المركز وضع خطة سرية للحفاظ على الكتب النادرة والوثائق والخرائط التي تتيح نقلها بسرعة عند أي خطر داهم.” (ص131).

لكن مع الأسف، وعلى الرغم من وجود خطة، فإن العاملين في المركز لم يتمكنوا من إنقاذا الأرشيف حينما نُهِب عام 1982. وفي قطاع غزة، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على معلومات دقيقة وموثوق بها عن المجموعات، أو حتى الأرشيفات المرئية والمسموعة بسبب الحصار الإسرائيلي، إلا أن هناك معلومات حصل عليها المؤلف تدل على وجود أرشيفين هما: (1) أرشيف التلفزيون الرسمي الفلسطيني (التابع لهيئة الإذاعة والتلفزيون)، وأرشيف غزة المرئي والمسموع التابع لوكالة الغوث الأونروا، وهو جزء من الأرشيف الكامل لهذه المنظمة. لكن ألمانيا تحديدا، تبدو الأبرز في عملية العثور على مقتنيات مرئية ومسموعة تابعة للإرث الثقافي الفلسطيني، ومنها لم يكن معروفا أو كان يعتقد أنه مفقود (ص133).

اهتمت المؤسسات الأوروبية والأجنبية بمهمة الأرشفة والمقتنيات ذات العلاقة التاريخية بفلسطين، وهذه المؤسسات انقسمت إلى ثلاثة أنواع هي: أولا: مجموعات تمت فهرستها في الأرشيفات الرسمية أو التابعة لمؤسسات أكاديمية مثل مجموعة صور صندوق استكشاف فلسطين ومجموعة معهد غوستاف دالمان للدراسات الإقليمية لفلسطين-كلية الدراسات الدينية، جامعة غرايفسفالد-ألمانيا، ومجموعة صور فلسطين التابعة لمكتبة الكونغرس الأميركية-واشنطن، ومجموعة صور فلسطين التابعة لكلية العلوم الدينية في جامعة هومبولت في برلين-ألمانيا، ومجموعة صور مدرسة الكتاب المقدس وعلوم الآثار الفرنسية، وأرشيف برلين للغراموفون، ومواد فيلمية عن فلسطين في المعهد البريطاني للأفلام-لندن، وغيرها (ص135-156)؛ ثانيا: مجموعات أًسست كمشاريع وبمبادرات مستقلة وبتمويل فردي أو خاص مثل مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية، والمجموعة الموسيقية للمؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية، وأرشيف مؤسسة عرب – بيروت، والأرشيف الشفهي الفلسطيني – الجامعة الأميركية في بيروت، وغيرها (ص157-164)؛ ثالثا: مجموعات صغيرة وغير مفهرسة ولكنها ذات أهمية مثل أوائل الأفلام المتحركة التي صُورت في فلسطين (مجموعة أفلام تابعة لـ lobster Films، باريس، ومجموعة عز الدين القلق (1936-1978) للبطاقات البريدية التاريخية الفلسطينية، ومجموعة أفلام المخرجة مونيكا ماورر، ومجموعة صور إيليا قهوجيان، ومجموعة صور المصور محمود دبدوب، ومجموعة صور المصور أسامة سلوادي (ص165-168)؛ رابعا: الاستفادة من المصادر المفتوحة في الإنترنت في مجال الإرث الثقافي مثل منصة سماعي نت، ومنصة فلسطين في الذاكرة، واللتان تحتويان على مواد سمعية مهمة للإرث الفلسطيني (169-172).

يلاحظ الكاتب في هذا الفصل، السادس، بأن معظم المواد المرئية والمسموعة الفلسطينية موجودة في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية، وهي تفتح جزءاً كبيراً من موادها، أو تعرف على الأقل بما تحتفظ به أمام الجمهور عن طريق الإنترنت. بينما يلاحظ بأن الجزء الأكبر من الأرشيفات العربية في الشرق الأوسط لا يزال مغلقا امام الجمهور، والاستفادة منه محدودة، لأسباب منها على سبيل المثال لا الحصر، عدم توافر القوانين والتعليمات الواضحة مثل (قوانين الأرشفة والحقوق، وغيرها من الأسباب (ص172).

مبادئ التحويل والتخزين الرقمي للمواد المسموعة والمرئية

 في الفصل السابع والأخير يعتمد المؤلف على خبرته الشخصية والعملية على مدار سنوات طويلة في مجال الأرشفة الرقمية المرئية والمسموعة، وخصوصاً آلية التحويل من مواد تماثلية (Analogie) إلى رقمية (Digital)، وذلك لنشر المعرفة التقنية التي اكتسبها في هذا المجال، لتوفير معلومات يمكن اعتبارها دليلا تقنيا لمشاريع الأرشفة الرقمية المستقبلية في الشرق الأوسط (ص173). ووفقا للمؤلف ومن أجل أن تكون الاستفادة من التوفير الرقمي للمواد المرئية والمسموعة مجدي ومستدامة، يجب ضمان المعطيات التالية: “أولا: توافر هيكلية منظمة لآلية لتخزين الرقمي تبدأ بالتسمية الصحيحة والمنطقية للمواد الرقمية؛ ثانيا: إنشاء بنوك معلومات للبيانات الوصفية الذكية والمنطقية أي التي تسمح بالبحث الدقيق من خلال كلمات البحث المخزنة والتي تدل على المواد المطلوبة؛ ثالثا: توافر المعرفة الدقيقة مع المواد الحساسة واختيار انسب الطرق لتحويلها لملفات رقمية دون فقدان تفاصيلها الدقيقة”. وعلى الرغم من إيجابيات التخزين الرقمي للمواد المرئية والمسموعة يرى الكاتب أنها تواجه تحديين رئيسيين وهما سهولة استنساخ الملفات غير المسموح بها، وسهولة الاقتحام غير القانوني لها (ص147). بشكل عام، يمكن القول، بأن الغاية الرئيسية من وراء هذا الفصل هي رسم خارطة طريق لكيفية حفظ البيانات الرقمية وتحويل هذه المواد للاستفادة منها رقميا سواء أكانت ملفات صوت أو صورة أو أفلام أو فيديو.

خاتمة

يوثق المؤلف في هذه الدراسة حقلاً مهما له دور أساسي في الحفاظ على الهوية الجماعية الفلسطينية، من خلال تتبع وتقصي مصير مجموعات المواد المرئية والمسموعة ذات الأهمية للإرث الثقافي الفلسطيني، والبحث عنها وعن أماكن وجودها. ومن ثم تحاول فهم لماذا تشتت هذا الإرث التاريخي والثقافي الغني والذي بات جزء كبير منه اليوم خارج فلسطين وفي أيادي غير فلسطينية. اشتبكت هذه الدراسة مع الحقائق السياسية والتاريخية بطريقة علمية وأمينة للغاية نظرا لقلة المعلومات والدراسات المتوافرة عن الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع. بحثت الدارسة في الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع منذ نشأته، وخاصة منذ بدايات القرن الماضي، وكان لا بد من ذلك نظرا للحراك الثقافي الفلسطيني الذي بدأ في تلك الفترة. لم تقتصر الدراسة على البحث في الماضي، بل تتبعت مسارات حاضر هذا الإرث وحاولت جمع البيانات والمعلومات لما موجود وما هو مفقود حتى اللحظة، فضلا عن احتوائها لخارطة مستقبلية يمكن أن تشكل حراكاً كبيراً في كيفية تجميع هذه البيانات والمواد ورقمنتها والسبل الأنسب لحفظها، مع بيان أهمية ذلك في حفظ وحماية الإرث الثقافي الغني لفلسطين في الماضي والحاضر والمستقبل.

يحمل الكتاب قيمة معرفية كبيرة، وليس ممكناً ذكر كل معالمه وتفاصيله، لأنه يحتوي على مجموعة غنية متنوعة ومختلفة من الصور والوثائق والمواد عن الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع داخل فلسطين وخارجها. وأخيرا، تعد هذه الدراسة من أوائل الدراسات في الإرث الثقافي الفلسطيني المرئي والمسموع. بل يمكن القول بأن مثل هذه الدراسات هي نقلة نوعية لقضية تعد جزءاً لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية الهادفة إلى حماية الذاكرة والهوية الوطنية الجماعية للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده؛ مقاومة لمحتل ومستعمر استهدف الفلسطينيون من جميع الاتجاهات لإزاحتهم عن الخارطة وطمس حقيقة كونهم شعبا ذو تاريخ وثقافة فلسطينية عربية تفاعلت مع الوسط المحيط وتأثرت به وتأثر بها وهو ما اتضح وضوح الشمس في العديد من الوثائق والدراسات والمقابلات التي وفرتها الدارسة.

تضيف هذه الدراسات إلى المكتبة الفلسطينية جانباً مهماً من التاريخ الفلسطيني والثقافة التاريخية والسياسية لهذا الشعب الذي تعرضت هويته الجماعية للتفكيك، تلاها عمليات ممنهجة لضرب وطمس ثقافته وتاريخه من خلال نهب إرثه الثقافي لإفقاده القدرة على إعادة تشكيل وتكوين ذاكرته الجماعية ولملمتها من جديد. من المهم التذكر أيضا بأنه قل ما نجد دراسات من هذا النوع والمتعلقة بعلوم الأرشفة الرقمية، وهو ما أشار إليه الكاتب. لا يتوفر الكثير من الدراسات عن الإرث الثقافي المرئي والمسموع لفلسطين، وبالتالي ترسم هذه الدراسة خارطة مستقبلية للباحثين في هذا الحقل المهم من الدراسات الفلسطينية العابرة للتخصصات والجامعة للتاريخ والسياسة والثقافة والفنون في آن واحد. وأخيرا، يمكن القول بأن هذه الدراسة تتجاوز كونها بحثاً علمياً، بل يمكن اعتبارها أيضا حراكاً لقضية تاريخية وثقافية وسياسية، وفعلاً مقاوماً بحد ذاته، لما تحمله من أهمية بالغة تهدف إلى حماية الذاكرة الجماعية الفلسطينية، فضلا عن قيمتها الوطنية.

The post “الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع” لبشار شموط… التوثيق كضرورة فلسطينية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«الفلسطينيون في العالم: دراسة ديموغرافية»… الشعب في شتاته https://rommanmag.com/archives/20230 Fri, 25 Sep 2020 12:55:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%88%d8%ba%d8%b1%d8%a7/ مقدمة يتعرض الفلسطينيون منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى محاولات لمحو الهوية الفلسطينية وعمليات ممنهجة من التفكيك وإعادة التشكيل، أقدم عليها النظام الاستعماري الغربي بصور وطرائق مختلفة، شكلت الصهيونية آخرها.(1) بدأت هذه المحاولات على صورة حرب، “تطورت بنوايا مبيتة إلى نوع من الإبادة الجماعية قضت على الكيانية الفلسطينية في شكلها الذي سبق الحرب”، فتشتت المجتمع […]

The post «الفلسطينيون في العالم: دراسة ديموغرافية»… الشعب في شتاته appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقدمة

يتعرض الفلسطينيون منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى محاولات لمحو الهوية الفلسطينية وعمليات ممنهجة من التفكيك وإعادة التشكيل، أقدم عليها النظام الاستعماري الغربي بصور وطرائق مختلفة، شكلت الصهيونية آخرها.(1) بدأت هذه المحاولات على صورة حرب، “تطورت بنوايا مبيتة إلى نوع من الإبادة الجماعية قضت على الكيانية الفلسطينية في شكلها الذي سبق الحرب”، فتشتت المجتمع الفلسطيني إلى جماعات عدة، تعيش كل منها على هامش مجتمع آخر “تتعلق به ويقصيها بدوره عن مركزه”.(2) وعلى الرغم من هذه المحاولات، بقي للفلسطينيين وزنا ديمغرافيا سواء داخل إسرائيل نفسها أو على أرض فلسطين المحتلة أو في جميع أنحاء العالم على مستويات عدة سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وهو ما يوضحه كتاب الفلسطينيون في العالم: دراسة ديموغرافية، للمؤلفين يوسف كرباج وحلا نوفل، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2020، والذي يتكون من 296 صفحة، وزعت على اثني عشر فصلا. 

 تحمل الدراسة منهجية هجينة قائمة على التحليل الكمي والكيفي والجمع ما بين الديموغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد، ولا تحمل فقط جانبا مونوغرافياً، بل تمتد لتبحر في خصوصية ودور كل مجتمع بذاته،  والسفر عبر ممرات الماضي وصولا إلى الحاضر والمستقبل للفلسطينيين حول العالم وأعدادهم، فضلا عن الإسقاطات للإحصائيات المتوافرة لاستشراف عدد الفلسطينيين ووزنهم الديمغرافي بحلول العام 2050 (ص 20). في هذه الدراسة المميزة لا تتعلق المسألة فقط بأعداد الفلسطينيين، إنما تتعدى ذلك لمناقشة مؤثرات النمو والانخفاض في ضوء عدة عوامل كالهجرة ومعدل الخصوبة والوفيات وغيرها من العوامل المرتبطة بكل مجتمع على حدة نتيجة للأوضاع السياسية داخل بلد الاستضافة نفسه، فضلا عن تناول الأثر الحاسم لتطور أعدادهم في ضوء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومدى ارتباطه بالمستقبل السياسي للشعب الفلسطيني. ونظرا لما تحمله هذه الدراسة من طموحات، ولما تحققه من أهداف وغايات، تحاول هذه المراجعة أن تبحث في أبرز القضايا التي وردت في تفاصيلها، مع توضيح وتفكيك البنى الناظمة لها قدر الإمكان. 

دولة فلسطين:  أكبر عدد من الفلسطينيين على الرغم من الكارثة

في هذا الفصل الأول يقدم لنا المؤلفان صورة بانورامية لقياس الحجم الديمغرافي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث بقي حجمهم الديموغرافي الذي قدر بحوالي 5 ملايين نسمة أواخر العام 2017 هو الأكبر بين المجتمعات الفلسطينية، أي نحو 38 في المئة من إجمالي عدد الفلسطينيين في العالم الذي يُقدر بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ب 13 مليون نسمة (ص 27). صحيح أن أعداد الفلسطينيين في فلسطين لا يمثل أغلبية الفلسطينيين حول العالم، لكن يجادل الكاتبان بأنهم قد يتحولون إلى ذلك، في ضوء ديناميتهم الديمغرافية، وفي حال تحقق حقهم في العودة (ص 27). تعد إجابة التساؤلات حول المستقبل الديمغرافي للفلسطينيين في أماكن تواجدهم في فلسطين بمن فيهم فلسطينيو الداخل، وارتباط هذه المسألة بالحل السياسي مستقبلا، صعبة ومعقدة وتتراوح الإجابة عنها لخصوصية كل مجتمع، وبخاصة إذا ما قارنا هذا العدد والزيادة أو الانزلاق الديمغرافي بمقابله بالنسبة لليهود في نفس المنطقة. فبالإضافة إلى توقعهم زيادة العدد الديمغرافي للفلسطينيين على الرغم من معدل انخفاض الخصوبة، يشير المؤلفان إلى أنه من الضروري قياس التحديات الديموغرافية التي ستشكل عبئًا ثقيلاً على التطورات السياسية؛ فمن المتوقع زيادة السكان اليهود كما الفلسطينيين. يواجه الفلسطينيون توسعًا عدوانيًا عسكريًا إسرائيليًا، إلى جانب “ديموغرافيا صراع “. تتضمن هذه التطورات المتناقضة للديموغرافيتين الفلسطينية واليهودية أخطارًا سياسية. وعلى عكس الفلسطينيين، يتمتع الإسرائيليون الذين يحتلون الضفة الغربية والقدس الشرقية بالميزة التي تمثلها الدينامية الديموغرافية المتفوقة جدًا: تتزايد خصوبتهم، ولا تزال هجرتهم الوافدة قوية على الرغم من انعدام الأمن، ووفياتهم منخفضة جدًا على الرغم من الخسائر التي ألحقتها الانتفاضة بهم (ص 33). ووفقا لمعطيات الدراسة سيقفز عدد سكان فلسطين من 4700000 إلى 9500000 نسمة بحلول منتصف القرن الحالي، وإلى ضعف هذا الرقم الأخير بعد قرن، بتأثير الخصوبة التي تتجه إلى الانخفاض (ونسبة الوفيات التي تتجه أيضًا إلى الانخفاض). وما لم يحصل نزوح جماعي أو ترحيل ستؤدي الهجرة الدولية دورًا متواضعًا في النمو الديموغرافي. وسيكون عدد اليهود في إسرائيل كبيرًا أيضًا في عام 2050. لكن الأمر سيكون كذلك من دون حساب فلسطينيي أراضي 1948 الذين سيصل عددهم إلى 2400000 نسمة، حيث إن توزيع السكان في فلسطين التاريخية سيكون 56 في المئة من الفلسطينيين، في مقابل 44 في المئة من اليهود.

الفلسطينيون في إسرائيل

في الفصل الثاني بعنوان: الفلسطينيون في إسرائيل، يشتبك المؤلفان مع تاريخ فلسطينيي الداخل منذ حرب 1948، مفندين إسقاطات ذلك التاريخ على هويتهم التي تحولت بعد النكبة من هوية عربية اسرائيلية إلى هوية فلسطينية (ص 59). يسلط المؤلفان في هذا القسم إلى حقيقة مهمة تتعلق بالفلسطينيين في إسرائيل أو “فلسطينيو الداخل” سموها بالمعجزة المزدوجة -وهي الحفاظ على وجودهم في أراضيهم والنمو على الرغم من المعوقات التي يواجهونها- حيث قفز عددهم في إسرائيل من 156 ألف نسمة حين النكبة، إلى 1427000 نسمة في أواخر عام 2016، مشكلين بذلك ثاني أكبر مجتمع فلسطيني في العالم خارج دولة فلسطين بعد الأردن (ص 62). وهذه معجزة بحق، فالصراع الديمغرافي بين الفلسطينيين واليهود سيكون له آثاره بدون أي شك على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يستشرف المؤلفان المستقبل الديمغرافي للفلسطينيين في إسرائيل وفقا لما تسمح أحدث الإسقاطات التي قام بها المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، أو تلك التي قاموا بها، وتتقاطعان إلى حدٍ بعيد، بإدراك أن أولئك الفلسطينيين في إسرائيل الذين قُدّموا كطابور خامس وتهديد وجودي لإسرائيل، سيتزايدون بمعدلات معتدلة خلال الأعوام الـ 35 المقبلة. فبحلول عام 2048 الذي سيصادف مرور مئة عام على النكبة، سيصل عدد الفلسطينيين في إسرائيل إلى 2.5 مليون نسمة بحسب الإسقاطات الإسرائيلية، وإلى 2.4 مليون نسمة بحسب إسقاطات المؤلفين، أي بنسبة أقل قليلً من 20 في المئة من مجموع السكان (ص 77).

الأردن: العدد الأكبر من الفلسطينيين في الشتات

يرتحل المؤلفان بعد توضيح الوزن الديمغرافي لفلسطينيي الداخل إلى الفصل الثالث. وقبل الدخول في جدلية أعداد الفلسطينيون في الأردن الحقيقية، لا بد من ذكر ما يرمي إليه المؤلفان من وجود تناقض وتباين في تداول أعدادهم، إذ تشي الأرقام المتداولة بخصوص أعدادهم فيها بنوع من الحيرة سواء بالنسبة للفلسطينيين أو الأردن نفسها أو إسرائيل والمنظمات الدولية مثل الأونروا. على سبيل المثال، وفقا للتعداد العام للسكان والمساكن في الأردن لم يبلغ عدد الفلسطينيين سوى 634 ألف نسمة، أي ما يعادل 6.6 في المئة من مجموع السكان.(3) في المقابل وتبعًا لوجهة النظر المنحازة أيديولوجيًا-سياسيًا في الكثير من الأحيان، تبلغ نسبتهم ما يراوح بين 60 و80 في المئة بحسب بعض الصحف الإسرائيلية الحريصة على تقديم الأردن بوصفه وطنًا بديلاً للفلسطينيين، مع النيّة غير المعلنة أن يمثّل الأردن بديلاً للفلسطينيين في الضفة الغربية (ص 85). وعلى الرغم من عدم دقة البيانات والأرقام، تكشف الدراسة شيئا مهما وهي أن الفلسطينيين يمثّلون عنصرًا أساسيًا في البلاد، لكنه العنصر الذي لا توجد لديه الرغبة في السيطرة على كل شيء. وهذه مفيدة للعلاقات الجيدة بينهم من خلال نزع فتيل الأوهام التي تنتشر في الكثير من الأحيان (ص 111). تشير النتائج أنّ مجموع سكان البلاد سيشهد نموًّا ملحوظًا بنسبة 53 في المئة في غضون 35 عامًا، وسيبقى العنصر الرئيس ممثلً في الأردني الأصل، مع 42 في المئة من مجموع السكان في عام 2050، وهو ما يبدو طبيعيًا تمامًا. أما على صعيد الأجانب، فسيشكل الفلسطينيون وغيرهم وفق الإسقاطات نسبة كبيرة، مع ما يقرب من ثلث مجموع السكان. سيمثل الفلسطينيون (الأصل) وغيرهم من الفلسطينيين من جنسيات أجنبية 35 في المئة، أي أقل من الأردنيين (الأصل). وأخيرًا، من حيث مكون السكان من الجنسية الأردنية، سيحتل الأردنيون الأغلبية مع 60 في المئة (ص 103). 

الفلسطينيون في سورية: من الاستقرار إلى التهجير الثاني

في الفصل الرابع يوجه المؤلفان البوصلة نحو الفلسطينيين في سورية. قبل اندلاع الحرب في سورية في عام 2011، كان الفلسطينيون المقيمون فيها يمثلون نسبة مهمة من فلسطينيي الشتات نحو 10.7 في المئة من مجمل عدد السكان. وقدّر بعض الباحثين عددهم بنحو 600 ألف نسمة في عام 2011 أي ما يعادل 2.6 في المئة من إجمالي سكان سورية يعيشون ثلثيهم في دمشق وحلب مع الإشارة الى مخيم اليرموك كأكبر تجمع فلسطيني في سوريا (ص124،115). كانت أوضاع الفلسطينيين أفضل بكثير لما هو عليه في لبنان، مع الأخذ في عين الاعتبار الفئات الأربع للاجئين الفلسطينيين في سورية الذين تراوحت أوضاعهم حسب القوانين التي تنطبق عليهم (ص 118).  لكن سرعان ما انقلب وضعهم رأسا على عقب بعد عام 2001. الذي ولّد إحدى أكثر حركات التهجير والتشرّد اتساعًا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية؛ فتأثر الفلسطينيون مباشرة بهذا الصراع، على الرغم من أنهم لم يكونوا طرفًا فيه. أصبح اللاجئون الفلسطينيون معرّضين، كغيرهم من المواطنين السوريين، للهجرة القسرية مرة أخرى بعد عقود من الاستقرار في المخيمات التابعة للأونروا (ص 116). ووفقا لإسقاطات كينسيلا، فمن المتوقع أن يصل عدد الفلسطينيين في سورية إلى 600 ألف حاليًا، و1200000 في عام 2050. توضح هذه الدراسة، على خلاف التوقعات، أنّ عددهم انخفض كثيرًا بسبب انخفاض الخصوبة من جهة، ومن جهة أخرى نزوحهم إلى بلدان متعددة من المحتمل جدًا ألا يعودوا منها، فتكون هجرتهم نهائية. ونشير هنا إلى أن انخفاض خصوبتهم يتساوق مع انخفاض معدل خصوبة المرأة السورية العام (ص131).

الفلسطينيون في لبنان: من حق العودة إلى حق الهجرة

مهما كان وضع الفلسطينيين في سورية، فهو أسوأ في لبنان، ويوضح المؤلفان ذلك في هذا الفصل الخامس. تعكس الديموغرافيا الفلسطينية في لبنان الحوادث والصراعات التي شهدها هذا البلد منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، فضلاً عن القيود القانونية وسياسات التضييق المأساوية التي يتعرض لها الفلسطينيون والتهميش والغياب الواضح لتعريف من هو اللاجئ الفلسطيني، وغياب حل لهم حتى يومنا هذا (ص 135). وعلى الرغم من صعوبة تقدير عدد الفلسطينيين في لبنان، يعود أحدث تقدير رسمي لعدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى دراسة أوضاع الأسر المعيشية في عام 1997، حيث قُدّر عددهم ب 196 ألفًا – الذين لم يكتسبوا الجنسية اللبنانية – يمثلون 4.9 في المئة من تقدير عدد السكان المقيمين في لبنان 4005000 نسمة. هذا العدد أقل من مثيله المُقدر في السبعينيات من القرن الماضي، حين بلغ نحو أكثر قليلً من 200 ألف فلسطيني. مقيم في لبنان، منهم 130 ألفًا يعيشون في المخيمات. وبعد مضي ثلاثة عشر عامًا، قدّر الاستقصاء الاجتماعي والاقتصادي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذي أُجري في عام 2010، عدد الفلسطينيين المقيمين بين 260 ألفًا و280 ألفًا، وتوصل الاستقصاء المشابه له الذي أُنجز في عام 2016 إلى التقدير نفسه، معللا السبب في الهجرة المتواصلة للفلسطينيين من لبنان نتيجة الحرمان الاجتماعي والاقتصادي الحاد، والحواجز القانونية التي تحول دون تمتعهم بمجموعة واسعة من حقوق الإنسان. وفي حين تعتبر بعض المصادر أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد لا يتجاوز حاليًا 250 ألف نسمة أظهر تعداد للاجئين الفلسطينيين على مدى عام 2017 في 12 مخيمًا و156 تجمعًا، أن عددهم يصل إلى 174422 نسمة (ص 137-138).  وفقا لبعض المعطيات، يمكن تقدير نسبة الفلسطينيين ب 5.5 في المئة من مجمل السكان المقيمين حاليًا على الأراضي اللبنانية 6136243 نسمة مع الفلسطينيين والنازحين السوريين، أي أقل بمقدار الضعف من نسبتهم إبان نزوحهم إليه في عام 1948، في مقابل 33 في المئة من النازحين السوريين (ص 141). 

الفلسطينيون في مصر: من الاندماج إلى النسيان

لمصر حكاية أخرى شكلت ملامح الفصل السادس من الكتاب. تشير الاحصائيات وفقا للكتاب بأن عدد الفلسطينيين قدر في مصر ب 100 ألف في عام 2014، إلا أن بعض المصادر يعتبر أن العدد الحالي لا يتعدى 30 ألف شخص، موزعين على كل أنحاء مصر الذين قدروا بحوالي 92 مليون نسمة عام 2016 (ص 161). في عهد جمال عبد الناصر كان يتمتع الفلسطينيين بحقوق متساوية مع المصريين، لكن سرعان ما تم تجريدهم من هذه الامتيازات في عهد أنور السادات وتوتر العلاقات ونتيجة الخلافات بين القيادتين الفلسطينية والمصرية بعد اتفاقات كامب ديفيد، صدر قانونان في عام 1978 جرّدا الفلسطينيين من الحقوق التي كانوا يتمتعون بها، وأصبحت الحكومة المصرية تعاملهم معاملة الأجانب سواء على صعيد العمل حيث يحتاجون إلى تصريح للعمل وكان هذا صعبا بالنسبة للفلسطينيين، او على صعيد التعليم وغيره (164-168). وأصبح الفلسطينيون أجانب باستثناء ذوي الامتيازات كالفلسطينيين العاملين لدى منظمة التحرير الفلسطينية. كما جُرِّد الفلسطينيون من حقوقهم في الإقامة في مصر، باستثناء مَن كان متزوجًا من مواطنة مصرية، أو ملتحقًا بمدرسة أو جامعة ودافعًا رسومها، أو متعاقدًا مع القطاع الخاص، أو مَن كانت لديه مصلحةٌ تجارية أو استثماراتٌ داخل البلد. تلا ذلك تأثيرات على الأوضاع الاجتماعية للفلسطينيين، أهمها لجوء الفلسطيني للزواج من مصرية لإضفاء الشرعية على إقامته، على الرغم من أن زواج الفلسطيني بالمصرية لا يمنحه سوى الإقامة (ص167). حسب المعطيات المتاحة، يُتوقع تدني عدد الفلسطينيين في مصر إلى حد منخفض جدًا على مدى الأجيال المقبلة القليلة. وتختلف هذه النتيجة، المتمثلة في الانخفاض الملحوظ لعدد السكان الفلسطينيين في مصر والناتج أيضًا من الهجرة المرتفعة إلى منطقة الخليج وكندا، كثيرًا عن تلك التي توصل إليها مكتب الإحصاء الأميركي، حيث قدر عدد الفلسطينيين ب 60 ألفًا في عام 2015 على الرغم من الانخفاض المتوقع في معدلات نموهم، وكان يفترض أن يصل عددهم إلى 83 ألفًا في عام 2050  (ص167).

الفلسطينيون في العراق التي كانت أرض استضافة متواضعة للفلسطينيين

في الفصل السابع يورد المؤلفان إلى أنه في بدايات عام 1949، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين 4 آلاف شخص وفق بعثة الأمم المتحدة. وكان يبلغ عدد سكان العراق 4.3 ملايين نسمة في عام 1948 (ص171). على الرغم من عدم دقة المعطيات، وفي بلد مزّقته الحرب والحروب الأهلية، فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين انخفض إلى 10 آلاف في عام 2010، وهو ربما أقل من ذلك كثيرًا اليوم (ص 172). دفع الفلسطينيون في عهد النظام الجديد منذ عام 2003 الثمن وتمت معاملتهم بطريقة جائرة، مع النيّة المُعلنة لطردهم. كما دفع الفلسطينيون بعد الاحتلال ثمن المعاملة التفضيلية من صدام حسين (ص 174). ولما كانت الأغلبية الساحقة منهم تنتمي إلى الطائفة السُنّية، لم يتم استيعابهم من السلطة الجديدة التي تميزت بنزعتها الشيعية المهيمنة. انخفض عدد الفلسطينيين في العراق تحت عتبة ديموغرافية متدنية جدًا إلى درجة بات انقراضهم على المدى الطويل أو القصير محتّمًا. ومن المؤكد أن إمكانات نموّهم الديموغرافي تداعت على نحو ملحوظ؛ تدنٍّ مستمر للزواجات والولادات. لكن الهجرة إلى خارج العراق هي التي ستشكل الضربة القاضية (ص 175). ويقابل عدم ترحاب البلدان العربية التي أغلقت الأبواب أمامهم، فتح الدول الغربية أبوابها، حيث لم تكن هناك مشكلة في استقبال بعض الآلاف من المهاجرين هنا وهناك. وبناء عليه، سيكون انقراض المجتمع الفلسطيني في العراق، احتمالا قويًا بحلول عام 2050، ما يميزه من مجتمعات الشتات الفلسطيني الأخرى في جميع أنحاء العالم (ص 175).

الفلسطينيون في الخليج: نخبة مثقفة ومختارة

يوجه المؤلفان في هذا الفصل الثامن بوصلتهم نحو الخليج العربي. فوفقا لهما شهد الوجود الفلسطيني في منطقة الخليج العربي، الذي يعود تاريخه إلى ما يقرب من مئة عام، الكثير من التطورات السياسية والاقتصادية. واتّسم مثل هذا الوجود، على الرغم من اعتدال وزنه في ديموغرافيا الشتات، ولا يزال، بأهمية فائقة في مجتمعات البلدان المضيفة (ص 179).  يؤكد المؤلفان في هذا الفصل على عدم دقة وتناقض أعداد الفلسطينيين في دول الخليج، الذين قدرهم البعض نحو المليون، بينما قدروا لأغراض الدراسة وتبعا لنموهم حتى العام 2050 بنحو 443925 نسمة (ص181). شكل الفلسطينيون في دول الخليج نخبة دينامية مثقفة ومختارة، خصوصًا على الصعيد التربوي والمهارات المهنية. ومع ذلك، تعكس بعض الشهادات والقصص الشفوية الكثير من إشكالات اندماجهم في المجتمعات الخليجية. يحتل السكان الفلسطينيون في منطقة الخليج العربي أهمية خاصة بالنسبة إلى دول الشتات الفلسطيني، لا يتعلق الأمر بأهميتهم العددية؛ إذ أن وزنهم الديموغرافي ليس كبيرًا، مقارنة بالبلدان الأخرى من الشتات، خصوصًا أنهم ينتشرون في ست دول. لكن قد يكون ضروريًا الإشارة إلى دورهم الاقتصادي المهم، وبدرجات معيّنة تأثيرهم السياسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. مهم الالتفات هنا إلى أن المجتمعات الفلسطينية في الخليج العربي بحاجة إلى مزيد من الدراسة والاستقصاء خصوصا في ظل عدم توافر أعداد دقيقة حولهم وحول أدوارهم وتأثيرهم سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي في هذه المنطقة.

الفلسطينيون في أوروبا الغربية (فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا)

يوضح الفصل التاسع من الكتاب أعداد وتأثير الفلسطينيون الثقافي والسياسي والاقتصادي في أوروبا الغربية تحديدا (فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا). في أوائل التسعينيات، قدّرت ساندرين  منصور ميرين، ضمن مروحة واسعة جدًا، عدد الفلسطينيين في فرنسا الذين كانوا لاجئين ومجنسين، بين 500 و3000 نسمة. في المقابلات القليلة التي أجراها المؤلفين مع محاوريهم الفلسطينيين أو غيرهم، تبيّن وفقا لهم أن الفلسطينيين في فرنسا يراوحون بين 2000 شخص إلى 3000 على أكثر تقدير. بل إن هناك من يذهب إلى تقديرهم بنحو 7000 شخص كحد أقصى وفقًا لعدد الطلاب المقيمين في فرنسا فترات قصيرة أو متوسطة؛ والأرقام منخفضة بشكل مدهش، مقارنة بالدول الغربية الأخرى مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة، أو حتى السويد. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا المجتمع لا يتميز بقوة اقتصادية؛ فمعظم الفلسطينيين في فرنسا من المثقفين، أو من الطلاب الذين يعيشون هناك، إمًا موقتًا أو بنيّة الإقامة على نحو دائم.

في بريطانيا، يتميز الفلسطينيون في وجودهم على المستوى الثقافي والاجتماعي، وليس في عددهم، حيث أنشأوا المؤسسات ولديهم مشاركة متزايدة في الحياة العامة والسياسية، فضلاً عن بروز عدد لا يستهان به من الفلسطينيين البريطانيين في أوساط عدة، من بينها الأوساط الأكاديمية والقانونية والطبية والإعلامية (ص 293). وتشير تقديرات عباس شبلاق للفلسطينيين في البلدان الأوروبية بما فيها بريطانيا إلى أن عدد الفلسطينيين في هذه الأخيرة ارتفع من 20 ألفًا في عام 2001 إلى 25 ألفًا في عام 2012  (ص 204). أما التقديرات الحالية المتداولة، فتراوح بين 25 و35 ألفًا، بينما ذكر موقع مركز العودة الفلسطيني أن العدد نحو 50 ألفًا. وسبق تداول هذا الرقم الأخير حوالي عام 2005، ما يرجح وصول عدد الفلسطينيين في بريطانيا إلى نحو 60 ألفًا حاليًا، مع تضمين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى بريطانيا في مراحل مبكرة وفيما بعد حصلوا على الجنسية البريطانية، وأخذ نموهم الديموغرافي الطبيعي في الحسبان (ص 205). أما بالنسبة لألمانيا، ففيها العدد الأكبر من الفلسطينيين على الرغم من عدم دقة وتناقض بعض الأرقام، غير أن المؤكد هو أن العدد تجاوز عشرات الآلاف منذ بعض الوقت (ص 207). 

الفلسطينيون في بلدان شمال أوروبا

في الفصل العاشر ينتقل المؤلفان إلى دراسة الفلسطينيين في دول شمال أوروبا الخمس: السويد، والدانمارك، والنرويج، وأيسلندا، وفنلندا. ومع أن المجتمعات الفلسطينية في هذه البلدان ليست كبيرة، فإنها تكتسب أهمية سياسية ورمزية (225-239). فعلى سبيل المثال كانت السويد من بين عدد قليل من دول أوروبا الغربية التي اعترفت بدولة فلسطين، وبرز اندماج عدد من الفلسطينيين في الدانمارك، خصوصًا في المجال السياسي. بينما يتناقض، بوضوح، الاهتمام الذي تعيره النرويج للقضية الفلسطينية في الشرق الأوسط مع مصير الفلسطينيين الذين تمكنوا من اللجوء إليها. وتعتبر أيسلندا أول دولة أوروبية اعترفت بدولة فلسطين في 15 كانون الأول/ديسمبر 2011 وأقامت علاقات دبلوماسية معها، حيث قامت بدور فاعل على الأرض الفلسطينية (ص 225). الشتات الفلسطيني ليس كبيرًا جدًا في الدول الخمس من شمال أوروبا. نحو 10 آلاف في السويد، والعدد نفسه أو أكثر بقليل في الدانمارك 15 ألفًا، وأقل قليلاً من 4 آلاف في النرويج، وبضع عشرات في أيسلندا، وأقل من 4 آلاف في فنلندا. وبهذا قد يصل المجموع إلى 30 ألف فلسطيني أو أكثر قليلاً كحد أعلى. ومما لا شك فيه، أنه يتوقع زيادة عدد هؤلاء الفلسطينيين في المستقبل القريب، وربما تضاعفه بحلول عام 2050 نتيجة النمو الطبيعي والهجرة الوافدة.

الفلسطينيون في الولايات المتحدة الأميركية: بين الاندماج والشعور بالانتماء

في الفصل الحادي عشر، يوضح المؤلفان كيف واجه أبناء الجيل الأول من الجالية الفلسطينية صعوبات ومعوّقات كبيرة أمام عملية اندماجهم داخل المجتمع الأميركي، وفي مقدمتها الاختلاف في اللغة والعادات والتقاليد. إلا أن هذه العقبة أخذت في الانحسار بالنسبة إلى الجيل الثاني الذي كان أكثر قبولاً للانخراط في بوتقة المجتمع الأميركي بعاداته وتقاليده وقيمه، فاتسع نطاق اندماجهم، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي (ص 294). وعلى الرغم من عدم توافر معطيات دقيقة عن الفلسطينيين في الولايات المتحدة، يستشف من التقديرات المتوافرة أن عددهم تزايد من حوالي 200 ألف نسمة في عام 1988 إلى 236 ألفًا في عام 2005، ويُقدّر حاليًا ب 310 آلاف نسمة. وفي انتظار نتائج تعداد السكان الفلسطينيين المرتقب تنفيذه، وفي ضوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الولايات المتحدة، يمكن توقع تطور عدد الفلسطينيين، حيث يصل إلى 344 ألف نسمة حوالي عام 2025، وإلى 441 ألفًا بحلول عام 2050 (ص 251). 

الفلسطينيون في تشيلي: أهمية رمزية وسياسية

في الفصل الثاني عشر يعتمد المؤلفان العدد 350 ألف نسمة، لتقدير عدد الفلسطينيين في تشيلي، وهو تقدير قامت به المنظمات الفلسطينية في تشيلي من دون تعديل الفارق الزمني بين هذه التقديرات منذ بداية هذا العقد حتى عام 2017  (ص265). يركز المؤلفان هنا على الأهمية الرمزية والسياسية لهذا المجتمع نظرا للعدد الكبير للمنظمات الفلسطينية في تشيلي ميزة، وانتماء الفلسطينيين إلى الطبقات الأكثر تعليمًا في المجتمع. ويشكل الحفاظ على منزلتهم الاجتماعية المرتفعة وتركزهم الجغرافي في أماكن محددة جدًا في البلد وفي المدن، ميزة أخرى من شأنها أن تجعل من الممكن، عن طريق تقنيات مناسبة ليست معقدة، التعرف إلى هؤلاء السكان، من دون المخاطرة بازدواجية العد والحذف. في الوقت الذي قد يُستفاد من التجارب السابقة للتعرف إلى الشتات في جميع أنحاء العالم، فإن تعداد الفلسطينيين في تشيلي قد يعود بالفائدة على دراسة المجتمعات الفلسطينية الأخرى في جميع أنحاء العالم.

خاتمة ونقاش

يمكن القول هنا بأن الحفاظ على وجود أعداد الفلسطينيين ونموهم والتفوق العددي سواء في فلسطين أو في الخارج يعد مقاومة بحد ذاتها للمشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يستهدف الشعب الفلسطيني لتصفيته والنيل من وجوده.(4) في فلسطين التاريخية، بين المؤلفان التنافس والصراع الديمغرافي الحاصل بين اليهود والفلسطينيين، فضلا عن كشفهم لمدى الارتباط بين الديموغرافيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ وغيرها من التخصصات الأخرى التي مع تفاعلها يمكن أن تشكل تأثيرا كبيرا في استشراف المستقبل. لا يمكن ذكر كل شاردة وواردة في هذه الدراسة، فهي تحمل في طياتها مجموعة كبيرة من التفاصيل والمعلومات عن المجتمعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجه. على الرغم من ملاحظة انخفاض معدل الخصوبة في العديد من المجتمعات، وربما معظمها، إلا أن الدراسة تُفصِح عما يمكن وصفه بالمعجزة، التي تتمثل في زيادة عدد الفلسطينيين إلى الضعف خلال العام 2050، وهو ما يعني استمرار التنافس الديمغرافي الذي يشكل خطرا على إسرائيل نفسها وسيكون له دور بالغ في توجيه الصراع في السنوات المقبلة. أخيرا، شكلت هذه الدراسة خارطة طريق لمجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات المستقبلية المهتمة بدراسة المجتمعات الفلسطينية، وهناك حاجة معها إلى تطوير الدراسات فيما يتعلق بمجتمعات الشتات سواء تلك التي تضمنتها الدراسة أو غيرها من المجتمعات التي تعذر ادراجها لاستحالة ذلك من الناحية العملية وفقا لما أشار إليه المؤلفان. 

المراجع:

١- إسماعيل ناشف، صور الموت الفلسطيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (بيروت: حزيران/يونيو 2015)، ص8-9.
٢- المرجع نفسه.
٣- يشمل هذا الرقم الفلسطينيين الذين يحملون جواز السفر الفلسطيني (البطاقة الخضراء) والسكان الفلسطينيين المقيمين في الأردن من قطاع غزة، ولا يتضمن الفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن ويحملون الجنسية الأردنية (النازحون واللاجئون وحملة البطاقة الصفراء). انظر الكتاب نفسه، ص 85.
٤- غازي حسين، الاستيطان اليهودي في فلسطين: من الاستعمار إلى الامبريالية، اتحاد الكتاب العرب، (دمشق، 2003)، ص 7-10.

The post «الفلسطينيون في العالم: دراسة ديموغرافية»… الشعب في شتاته appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«صفقة ترامب – نتنياهو» لعزمي بشارة… عن النّص والفعل https://rommanmag.com/archives/20134 Thu, 02 Jul 2020 08:08:18 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b5%d9%81%d9%82%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%85%d8%a8-%d9%86%d8%aa%d9%86%d9%8a%d8%a7%d9%87%d9%88-%d9%84%d8%b9%d8%b2%d9%85%d9%8a-%d8%a8%d8%b4%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%b9%d9%86/ مقدمة: في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن تفاصيل الشق السياسي لما سمي بـ “صفقة القرن”، بعدما تم الإعلان عن الشق الأول منها وهو الشق الاقتصادي في ورشة عمل عقدت في العاصمة البحرينية، المنامة، بعنوان “السلام من أجل الازدهار” وذلك في حزيران عام 2019. وفي الوقت الذي تستمر فيه […]

The post «صفقة ترامب – نتنياهو» لعزمي بشارة… عن النّص والفعل appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقدمة:

في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن تفاصيل الشق السياسي لما سمي بـ “صفقة القرن”، بعدما تم الإعلان عن الشق الأول منها وهو الشق الاقتصادي في ورشة عمل عقدت في العاصمة البحرينية، المنامة، بعنوان “السلام من أجل الازدهار” وذلك في حزيران عام 2019. وفي الوقت الذي تستمر فيه الهيمنة الصهيونية والاستعمارية على فلسطين، وفي ظل تصاعد قوى اليمين المتطرفة في واشنطن بقيادة ترامب، يأتي كتاب الدكتور عزمي بشارة “”صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال وما العمل؟” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2020، ليجسد مساهمة فكرية واستثنائية، في تفكيك وتحليل هذا المنعطف التاريخي الخطير في حياة الفلسطينيين بل وفي الوطن العربي بأكمله.  

يقدم الكتاب مقاربة نقدية جديدة لفهم حيثيات وتفاصيل صفقة القرن والتي سميت “صفقة ترامب – نتنياهو“، وفي محطات أخرى أطلق عليها المؤلف تسمية “الرؤية” لفهم أحداث القضية الفلسطينية بمجرياتها وتطوراتها والفاعلين فيها، مع تفصيل وتشريح لديناميكية الأحداث التي أدت إليها، وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ 

يتكون هذا الكتاب من 159 صفحة، تتمحور حول أربعة أجزاء، جاء الأول بعنوان: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”، ويشمل خمسة أقسام، أما الثاني فقد ورد بعنوان: “كيف وصلنا إلى هنا”، بينما الثالث بعنوان: “ما العمل”، والرابع بعنوان: ” الرأي العام العربي والقضية الفلسطينية”.  ونظرا لما يدرسه الكتاب من زوايا معرفية تتعلق بصفقة القرن والقضية الفلسطينية، ستقدم هذه المساهمة مراجعة نقدية للكتاب وستسعى إلى التعريف به وبأهم ما ورد في أجزائه، بالإضافة إلى الاشتباك معرفيا ونقديا مع أبرز ما ورد في طياته من أفكار وتصورات وتوجهات ناظمة له. 

الجزء الأول: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”

في الجزء الأول وعنوانه: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”، الشق الأكبر من الكتاب، ويتكون من خمسة أقسام، يوضح بشارة كيف أن صفقة القرن بدأت من الصفر، وشكلت لحظة قطع دون كل المبادرات الأميركية السابقة، على الرغم من انحياز تلك المبادرات مع إسرائيل. يصوب المؤلف هنا بوصلة اهتمامه نحو الدور الذي لعبته صفقة القرن في “تغيير الموقف الأميركي من الانحياز إلى إسرائيل والتحالف معها، إلى التماهي المعلن وغير المنضبط مع مواقف اليمين الصهيوني”، بجانب تخلي أميركا عن دورها كوسيط وراعي لعملية السلام وتحولها إلى آمرٍ يقوم بإملاء شروطه على الفلسطينيين والعرب بالضغط الفعلي من طرف واحد(ص17). 

“القطع مع المبادرات الأميركية السابقة والبدء من جديد”

في هذا القسم الأول من الجزء الأول، يناقش المؤلف كيف أن صفقة القرن بدأت من الصفر، ويرد على فرية إسرائيلية نمطية موجودة في ذهن بعض السياسيين العرب والمطبعين مع إسرائيل، مفادها أن العرب هم من يرفضون السلام دائما، بينما الحقيقة التي يكشف عنها المؤلف الستار بالأدلة الدامغة أدهى من ذلك، وهي أن ما يروج عن الرفض العربي ما هو إلا وهم، فالرافض المثابر كان إسرائيل (ص17). 

ويدعم ما يذهب إليه بأدلة قوية، من خلال تتبع مسار مبادرات السلام الأميركية في المنطقة والتي رفضتها إسرائيل تماما وأجهزت عليها. ويصب المؤلف تركيزه لإثبات ذلك على مبادرة وليام روجرز (1969-1973) في حزيران 1970 (ص19)، ومبادرة مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي (1977-1981) عام 1977(ص22)، ومشروع الرئيس رونالد ريغان (1981-1989) من عام 1982 (ص25)، ومبادرة “خارطة الطريق” التي طرحها الرئيس جورج بوش الابن (2001-2009) (ص29)، ومقترحات الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري(ص31). 

في كل مرة كانت إسرائيل هي من تُجهز على عملية السلام وترفضها، وهذا يدلل بشكل قاطع على الهيمنة الاستعمارية الصهيونية ورفضها المثابر لمبادرات السلام الأميركية، ردا على الصلف والترويج والتنافر الإدراكي الذي يحمله البعض بأن العرب هم من كانوا يرفضون وبأن الفلسطينيين هم من “أضاعوا أرضهم”، بينما الحقيقة عكس ذلك تماماً. 

وفي الحقيقة، على الرغم من هذه الأدلة الدامغة، إلا أن الدور الأميركي المنحاز سابقا لإسرائيل لا يقل ضراوة عن موقفها حاليا، فانحيازها التام لإسرائيل شكل دائما عقبة أمام قيام دولة فلسطينية، ولا أدل على ذلك من ما يذكره الكاتب حول مبادرة رونالد ريغان، الذي أكد بأن الولايات المتحدة لن تؤيد إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بل أن الحديث كان عن حكم ذاتي مرتبط بالأردن  (ص25).

“تنفيذ أمريكي للصفقة قبل إعلانها”

في القسم الثاني من الجزء الأول يوجه الكاتب سهام النقد على الفريق الذي تولى رسم صفقة القرن وهم أربعة أشخاص: جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، وديفيد فريدمان، صهيوني يميني، وجيسون غرينبلات، وخلفه آفي بيركوفيتش (36-46). وفي سياق وضع خطة التنفيذ للصفقة تحت المجهر، عرض المؤلف الكيفية التي طبق بها الفريق السابق “صفقة القرن” قبل إعلانها، والتي مكنتهم من فحص ردود الفعل العربية والدولية حول الصفقة بعد كل خطوة. تمثلت هذه الخطوات الاستباقية وفقا للمؤلف في العمل على تصفية “الأونروا” بوقف التمويل الأميركي عنها، ثم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس مع الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وطرد بعثة منظمة التحرير الفلسطينية من واشنطن، واعتبار أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية شرعية ولا تعد خرقا للقانون الدولي(ص37-40). 

وبالنسبة لمسألة الاستيطان فإنها بحاجة إلى وقفة هنا، حيث يرى المؤلف بأن اعتبار إدارة ترامب المستوطنات شرعية، يعد تحولا في موقف واشنطن تجاه الاستيطان الإسرائيلي على أرض فلسطين (ص40). في محطات عدة، امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) حينما تعلق الأمر بإدانة الاستيطان، وتحديدا قرار مجلس الأمن رقم 446 بتاريخ 22 مارس 1979، والقرار 2334 عام 2016، فضلا عن اعتبار إدارة ريغان التي عكست موقفها من الاستيطان وعدته غير قانوني في مذكرة “هانزل”، وإدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون (1993-2001) التي أيدت رسميا صيغة الأرض مقابل السلام واعتبرت الاستيطان عقبة حقيقية للسلام، ثم إدارة بوش الابن التي عبرت عن قلقها ازاء المستوطنات، ثم إدارة أوباما التي اعتبرت تجميد الاستيطان شرطا عمليا لتقدم عملية السلام، حتى أن في عهد أوباما امتنعت إدارته عن التصدي للقرار 2334 الذي أدين فيه الاستيطان (ص43). 

توافق الأكاديمية نورا عريقات مع ما يجادل فيه بشارة معتبرة بأن موقف إدارة ترامب تجاه الاستيطان باعتباره قانونياً، يعد استثناء عن مواقف الإدارات الأميركية السابقة وتحديدا أوباما. وتجادل عريقات بأن هذا الموقف جاء نتيجة للعمل القانوني الذي روجته إسرائيل على مدار العقود الماضية، إذ يكمن جوهر العمل القانوني للاحتلال في ادعائه المستمر بأن الظروف الفريدة له ولفلسطين تشكل حالة استثنائية أو وضعًا خاصًا للتجاوزات، و بالادعاء بأنه لا يوجد إطار قانوني قائم بالكامل لعلاقاتها مع الفلسطينيين، ليضع الاحتلال تدريجيًا نماذجه القانونية الخاصة به باعتباره “دولة” ذات سيادة تتمتع بصلاحيات قانونية لإعلان مثل هذا الاستثناء مدعيًا بأن تصرفاته لا تتجاوز حدود القانون (١). هذا الرأي الذي كانت تخالفه الولايات المتحدة سابقا، تماهت معه إدارة ترامب ووافقت عليه،  وهو ما أثار الحنق والغضب لدى الليبراليين، الذين يعدون أن “النقاش القائم حول ماهية الصواب والخطأ تحت القانون الدولي لن يحقق السلام مثلما لا يعزز الخوض في المسائل القانونية عملية السلام”.(٢)

“في متن النص: السطور تغني عما بينها”

يرتحل المؤلف في القسم الثالث من الفصل الأول في دروب القضايا المطروحة على بساط النقد إلى تحليل اللغة، ويستحضر هنا مجموعة من الإسقاطات المهمة والتي تشكل دروسا حول سلوك اليمين الشعبوي في العلاقات الدولية، مؤكدا بأن هذه الصفقة ما هي إلا بلورة لمنطق ولغة القوة، فضلاً عن الاعتناق الكامل للسردية الإسرائيلية التوراتية وكأنها قانون دولي أو اتفاقية سياسية معاصرة أو صك طابو، ناهيك عن العودة إلى النبرة الاستعمارية الوصائية المستفزة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر (ص 46-47). هنا، يؤكد المؤلف على عدم صلاحية التفسير السياسي للنصوص الدينية، فالدولة والسيادة والشرعية والاستعمار وحق تقرير المصير كلها مصطلحات حديثة غير توراتية، ومن المفترض أن ترفض دولة مثل أميركا يمنع دستورها الانحياز إلى دين بعينه تسخير النص الديني والتورط في الاستغلال الحزبي للدين. أما فيما يتعلق بالسردية العلمانية الإسرائيلية التي تتبناها الوثيقة وفي تفاعلها مع المنطقة ومنظورها لقضية الأمن، فينتقد بشارة ما تتضمنه من احتكار في لعب دور الضحية، وأنها دائما محاطة بالأعداء حتى حين تكون هي من يقترف الجرائم (ص53) (٣). يستفز المؤلف ما تحتويه ما أسماه ب “الرؤية” من لغة التطوير العقاري، فحينما تتجاوز الجزء الأول والثاني من الصفقة، اللغة تصبح لغة مطورين عقاريين، مما يدلل على العقلية الرأسمالية العقارية في قيادة دولة عظمى رامية وراء ظهرها الشرعية الدولية (٤).

“مغالطات”

هنا في القسم الرابع من الجزء الأول، ينتقل المؤلف من تحليل اللغة إلى ما تم دسه في الوثيقة من مغالطات فجة تستخف بعقول الناس، فندها في ستة بنود، محذرا مما حملته من مفاهيم خاطئة ومغلوطة، منها على سبيل المثال، لا الحصر، الادعاء بأن إسرائيل انسحبت من 80% الأراضي التي احتلتها عام 1967، واعتبار اليهود القادمين من الدول العربية “لاجئين” (ص56-68). وهنا في المثال الأول الحديث عن سيناء وليست كما تدعي الوثيقة الانسحاب من 88% من أرض فلسطين (ص56)، أما حقيقة اعتبار اللاجئين يهود، يرد المؤلف الى أن ذلك مخالف لجوهر الصهيونية التي لا تعدهم لاجئين وإنما قادمين جدد “عوليم حدشيم” وتعتبر قدومهم ممارسة للصهيونية(ص58).

ولعل ما دفع المؤلف إلى ذكر هذه المغالطات هو افتقار الوثيقة للقيم والأخلاقيات الإنسانية، واستنادها على ادعاءات غير صحيحة وفاسدة لا يؤخذ بها، تأسيسا على ما تضمنته من كذب وتلفيق وخداع، قائم على جهل واضح من ادارة ترامب لحقائق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتجاهل واضح للقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فضلا عن أن الصفقة لم تحمل شيئا جديدا وإنما عكست الواقع الموجود فقط.

“حول الدولة والسيادة”

من القضايا الكبرى التي جعلها بشارة في سلة المراجعات ما جاء في القسم الخامس من الجزء الأول حول مسألة الدولة والسيادة ونقد ما تضمنته صفقة القرن بشأنها. ووفقا لخطة ترامب-نتنياهو، فإن هناك شروط محددة لإقامة الدولة الفلسطينية، ومن يقرر استيفاء هذه الشروط من عدمه هما الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يعني إقامة الدولة الفلسطينية وفقا لما تراه الأخيرتان مناسبا فقط. أما السيادة، فهي أمر ملتبس ومفهوم مرن بالنسبة للفلسطينيين وحدهم، أما بالنسبة لإسرائيل فهي مطلقة ليست فقط على أراضيها وشؤونها الداخلية بل تتضمن أيضا جيرانها بحجة أمن إسرائيل. لا تتحدث الصفقة هنا عن سيادة منقوصة على الأرض فحسب، وإنما سيادة منقوصة على شؤونهم الداخلية أيضا ووفقا لما يراه الإقطاعي ترامب و “الحربجي” نتنياهو ملائما للفلسطينيين (70-71). يلفت المؤلف هنا إلى محاضرة كان قد ألقاها نتنياهو عام 2009 في جامعة بار إيلان “منظرا” بنفس المفهوم السابق(٥)، مما يعني بأن الشروط التي تتضمنها الصفقة هي رؤية نتنياهو حول السيادة كونها تتطابق مع ما قاله في تلك المحاضرة (ص 68-67). 

الجزء الثاني: “كيف وصلنا إلى هنا”

وعلى هدى النص ينتقل بشارة في الفصل الثاني من الكتاب إلى الحديث عن التحولات الإقليمية الأساسية التي عصفت بالمنطقة وأدت إلى هذه الصفقة الكارثية، فالإجابة عن سؤال كيف وصلنا إلى هنا في سياق القضية الفلسطينية يمكن اعتباره معطى تاريخي ناتج عن الظروف السياسية السابقة وتفاعلها مع التطورات في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة، وارتباطها في العلاقة الجدلية بين الشعبوية والنيوليبرالية. كما لا يمكن فهم صفقة القرن بدون تشخيص الأزمة ومعرفة معطياتها، للتوصل إلى ما يمكن أن يساهم في الخروج بخطة عمل. وفي سياق مراجعته المستندة إلى التاريخ، تتبع المؤلف دلالات توقيع بعض الأنظمة العربية الصلح مع إسرائيل على القضية الفلسطينية. كما يناقش البيئة السياسية التي أفضت إلى اتفاقات أوسلو وفشل نتائج هذه الأخيرة، وصولاً إلى الانقسام الفلسطيني، وما أفضى ذلك من استغلال إسرائيل لهذه الصراعات في الوطن العربي وفلسطين بهدف التغول الاستيطاني في كل من الضفة الغربية والقدس، وبالتالي إجهاض أي تسوية سياسية (ص80-97).  

الجزء الثالث: “ما هو العمل”

يسلط بشارة هنا الضوء على المشروع الوطني الفلسطيني الحالي وتداعيات فشله نتيجة لعدة عوامل منها: هبوط هذه الصفقة على واقع عربي مرير، وتصاعد اليمين المتطرف الصهيوني الأميركي، والتغيرات السياسية في المنطقة التي خلفتها ورائها ثورات الربيع العربي، والانقسام بين القوى السياسية الفلسطينية. ويدعو بشار إلى ضرورة العمل على رؤية استراتيجية جديدة لمواجهة نظام الفصل العنصري الاستعماري “الأبارتهايد” القائم حاليا في فلسطين، وخصوصا بعدما ثبت فشل المشروع الحالي بقيادة منظمة التحرير، بسبب أوسلو والرهان الخاسر على أميركا. يرى بشارة في فلسطين قضية تحرر من واقع الاحتلال والشتات والفصل العنصري المتزامن مع واقع الشرذمة السياسية في الوضع الفلسطيني، ولكي يكون بالإمكان مقاومة مشروع ترامب-نتنياهو يجب أن تسمى قضية فلسطين باسمها: “قضية استعمارية غير محلولة”، وأصبحت تتجلى على شكل نظام عنصري وبانتوستانات الفرق بينها وبين جنوب أفريقيا أن “بانتوستاناتنا” هذه لا تعترف بواقعها المرير (105-109).

وهنا لا بد الانتباه إلى أن دعوة المؤلف لوجود استراتيجية أو رؤية لمواجهة نظام الفصل العنصري تخلق عبئا على إسرائيل نفسها وتشكل تهديدا لقلب المشروع الصهيوني اليميني المتطرف العنصري. وهذا واضح من تصريح أحد القيادات الإسرائيلية، إيهود أولمرت عام 2009، خلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء، “أن الفشل في إنشاء دولة فلسطينية سيجبر إسرائيل على “مواجهة صراع على غرار جنوب إفريقيا من أجل حقوق متساوية في التصويت، وبمجرد حدوث ذلك، تنتهي دولة إسرائيل”(٦). 

وهنا لا بد من القول إن هناك تقصير من جانب القيادة الفلسطينية في تبني نهج جديد لمواجهة نظام الأبارتهايد، حيث تشير نورا عريقات إلى أنه “على عكس الوضع في منتصف السبعينيات عندما دعمت منظمة التحرير الفلسطينية تطبيق القرار 3379، لم توافق القيادة الفلسطينية اليوم رسمياً على إطار مناهضة الفصل العنصري. ذلك أن الاعتراف بنظام قانوني فريد –أي وجود استراتيجية لمواجهة نظام الابارتهايد- من شأنه أن يتعارض مع طموحاته في إقامة دولة. وقد أشارت السلطة الفلسطينية الرسمية إلى نظام الفصل العنصري وإمكانية قيام دولة ديمقراطية واحدة فقط كتهديد لإجبار التسوية الإسرائيلية في المفاوضات (٧).

الجزء الرابع: ” الرأي العامّ العربي والقضية الفلسطينية”

يضع المؤلف هنا تفاعل الرأي العامّ العربي مع القضية الفلسطينية تحت المجهر، ويدحض ما تم الترويج له من قبل بعض المحللين السياسيين والمثقفين وغيرهم، بأن هناك تغير جذري في الرأي العام بخصوص القضية الفلسطينية باعتبارها ليست قضيتهم وتشكل عبئاً كبيراً على العرب. ولدحض ذلك، يستعين بشارة ببيانات المؤشر العربي، حيث يورد “تشير بيانات المؤشر العربي منذ استطلاعه الأول، وحتى عام 2020، إلى أن اتجاهات الرأي العام المختلفة تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربية، وليست قضية تخص الشعب الفلسطيني وحده؛ إذ أن هناك شبه إجماع بين مواطني المجتمعات المشمولة باستطلاعات المؤشر، وبنسب تزيد على ثلاثة أرباع المستجيبين، على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب أجمعين، لا قضية الفلسطينيين وحدهم” (ص126). بل أبعد من ذلك، يرفض جزء كبير ممن يعتبرون أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم اعتراف حكوماتهم بإسرائيل أو التطبيع معها. وهذا يعطي خلاصة وفقا للمؤلف إلى أن الرأي العام العربي يرفض منح الشرعية لإسرائيل في المنطقة، ولا يقبل تطبيع العلاقات معها، كما أن ثلث المستجيبين عللوا رفضهم الاعتراف بإسرائيل كونهم يرونها دولة احتلال واستعمار استيطاني (ص131). 

خاتمة وتعليق:

كان ما سبق هو عرض موجز، وقراءة مختصرة لأهم ما ورد في الكتاب من نقاط رئيسية، على الرغم من صعوبة الإلمام بكافة القضايا التي وضعها المؤلف على بساط المراجعة؛ وذلك لتشابك القضايا المعرفية التي يدرسها، وتوزعها بين السياسة والعلاقات الدولية والتاريخ والاجتماع. وجماع القول إن كتاب “صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال وما العمل؟، يعد مساهمة كبيرة في دراسات القضية الفلسطينية، ذلك أنه يوثق لحظة تاريخية حساسة ودقيقة لا زلنا نعيش آثارها ومآلاتها في الوقت الحاضر، فضلا عن دراسة أطوار تشكلها وجريانها بمقارنتها بأحداث سياسية تاريخية سابقة وصولا إلى تفكيك الواقع وكيفية الخروج منه من خلال تعزيز الصمود ومقاومة نظام الفصل العنصري الصهيوني على الرغم من المشهد السوداوي الذي يحيط بالمنطقة.

يسعنا هنا، أن نتحدث عن نقطة مهمة ربما من الواجب أن يتم دراستها في المستقبل، وتناولها الكتاب بشكل جزئي، وهي ترتبط بالتغير الكبير في الوضعين العربي والإقليمي بسبب ثورات الربيع العربي عام 2011 وحتى اللحظة، إذ يقر المؤلف بأنها تستحق الدراسة بتعمق فيما بعد كونها تشكل تحولا كبيرا، وخصوصا أن المؤلف له إنجازات عديدة في هذا المجال نذكر هنا مثالا واحدا وهو كتاب “سورية ودرب الآلام نحو الحرية”. وقد أشار المؤلف إلى أثر هذه الثورات من منظور جزئي معللا أننا لا زلنا نعيش هذه المرحلة. فهناك حاجة ملحة إلى دراسة الوضع العربي الحالي وإسقاطاته على القضية الفلسطينية، إذ يلاحظ بأن هناك توجه لدى بعض الأنظمة في الوقت الحالي للتطبيع مع إسرائيل، وأبعد من ذلك إلى التحالف معها، وبالتالي تجريد هذه الأنظمة للقضية الفلسطينية من مركزيتها. وهذا حقيقة حذر منها المؤلف في تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر تقول “وقد دأب المتمسكون بعدم تطبيع العلاقات مع الاحتلال على النقد المحق للأفراد الذين تعاونوا مع إسرائيليين أو زاروا إسرائيل.. إلخ. لكن ما يجري بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل حاليا يتجاوز التطبيع إلى التحالف وحتى تشكيل محور. من السخف اعتباره مجرد تطبيع”.

وأخيرا، لا يمكن إغفال الصورة الفريدة التي قدمها الكتاب لقراءة الأحداث التاريخية السياسية وتداعياتها على الوضع الفلسطيني وعلى المنطقة العربية، ومثل هذا النوع من الدراسات التي تتناول الحدث من أبعاده وزواياه المختلفة داخليا وخارجيا مثل ما فعله بشارة، وصولا إلى “ما هو العمل”، والرد على هذا الكم من المغالطات الواردة في الوثيقة وفي تصور بعض الكتاب والمثقفين وحتى الأنظمة، هو عمل فكري ونقدي جريء، وقيمة مضافة إلى الفكر السياسي المعاصر، واستنهاضا لقضية عادلة. والمطلوب حاليا وفقا للمؤلف” هو صياغة استراتيجية التحرر وأهدافه، وليس اقتراحات حلول. والخصم هو نظام الأبارتهايد في فلسطين، ويجب أن يكون خطاب هذا النضال ديمقراطيا، فلا يمكن في هذا العصر، حين تدور من حولك نضالات عربية ضد الاستبداد، أن تخوض نضالا من أجل العدالة بخطاب غير ديمقراطي، فلن يقتنع أحد بصدقيتك”(ص 110).

 

قائمة المراجع:

١- فرح فرحان، “لماذا يخفق القانون الدولي في إنقاذ فلسطين؟”، مراجعة في كتاب “العدالة للبعض: القضية الفلسطينية والقانون الدولي” لنورا عريقات”، المحطة، 4/2/2020، شوهد في 22/5/2020، في: https://bit.ly/2zZkOmX
٢- المرجع السابق.
٣- أنظر في ذلك أيضا، بشارة، عزمي، “صفقة ترامب نتنياهو… خطة اليمين الأميركي الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية في سياق تاريخي”. يوتيوب. 5/2/ 2020. شوهد في 23/5/2020، في: https://www.youtube.com/watch?v=-GHRf07CjhQ&t=50s
٤- المرجع السابق.
٥- المرجع السابق.
٦- Erakat, Noura. Justice For Some: Law and the Question Of Palestine. Stanford, California: Stanford University Press, 2019, p. 214. 
٧- Ibid, p. 215. 
 

The post «صفقة ترامب – نتنياهو» لعزمي بشارة… عن النّص والفعل appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
القانون الدولي والاستعمار… “صفقة القرن: استعمار منمق بخطاب السلام” https://rommanmag.com/archives/20081 Thu, 21 May 2020 06:54:51 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d8%b5%d9%81%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%86/  في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن ما سمي بـ “صفقة القرن”، وهي عبارة عن رؤية قدمها ترامب ونتنياهو والتي تمحورت في جزء كبير منها حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.  واجهت هذه الصفقة سيلًا من الانتقادات اللاذعة والرفض حول العالم، دولا ومنظمات وأفراد وفاعلين، لما في هذه الصفقة من انتهاكات للقانون […]

The post القانون الدولي والاستعمار… “صفقة القرن: استعمار منمق بخطاب السلام” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
 في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن ما سمي بـ “صفقة القرن”، وهي عبارة عن رؤية قدمها ترامب ونتنياهو والتي تمحورت في جزء كبير منها حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

 واجهت هذه الصفقة سيلًا من الانتقادات اللاذعة والرفض حول العالم، دولا ومنظمات وأفراد وفاعلين، لما في هذه الصفقة من انتهاكات للقانون الدولي ولحق الشعوب في تقرير المصير. الناظر بعين ثاقبة إلى هذه الاتفاقية سيجد بأنها تفتقر للحد الأدنى من عمليات السلام، إذ أنها همشت الاتفاقيات والقوانين والمواثيق الدولية التي صدرت وأكدت على الوضع القانون للأراضي الفلسطينية المحتلة ولا سيما عدم قانونية المستوطنات. كشفت هذه الرؤية، رؤية ترامب-نتنياهو، عن النبرة الاستعمارية والصيغة الوصائية في التعامل مع القضية الفلسطينية(١). لكن، هل هذا جديد؟ فيما يلي إجابة عن سؤال: هل ما قدمته هذه الصفقة أمرًا جديدًا من حيث لهجتها الاستعمارية المنمقة بخطاب السلام؟ وهل يمكن فصل هذا الحديث والخطاب والطرح الذي تضمنته الصفقة عن سياق القانون الدولي؟

يرى جانب كبير من الفقه بأن الاستعمار لم ينتهِ، وبأنه عاد وبقوة في حلة القانون الدولي الذي من خلاله تفرض الدول القوية سلطانها على الدول الضعيفة. ويجادل الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، بان أحد الأدلة على عودة الاستعمار   الحرب التي شنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في بلاد ما بين النهرين بحثا عن السلطة والنفط ومناطق النفوذ فضلا عن استمرار الحرب الاستعمارية في أفغانستان، وحصر مهام حفظ الأمن الدولي في أيدي القوى الكبرى، والعدالة من طرف واحد بموجب القانون الدولي (٢).

 بكلمات نورا عريقات فإن مسار تطور القانون الدولي يُظهر بأن هذا القانون هو عبارة عن أداة بيد الدول القوية أو الدول الكبرى، إذ انه كما هو قائم اليوم بدأ في أوروبا بين الدول التي كانت قوى استعمارية (٣). ويبدو بأن ما يجادل به هذا الجانب قريب جدا من الحقيقة ومن واقع القانون الدولي الذي هو في الأصل ينظم قوانين الاحتلال والحرب وغيرها من الأدوات الاستعمارية. ووفقًا لنورا عريقات، بينما واجهت إسبانيا مجتمعات السكان الأصليين في نصف الكرة الغربي، قام اللاهوتي ورجل القانون الإسباني، فرانسيس دي فيتوريا، بصياغة مجموعة من القوانين جعلت حقوق الشعوب الأصلية مشروطة بتشابه مجتمعها مع المجتمع الأوروبي. 

وبعد وضع المعايير الأوروبية الخاصة وإبرازها على أنها عالمية، استخدمت إسبانيا بعد ذلك هذه المعايير لتبرير نهب الشعوب الأصلية وأراضيها وغزوها. ومن هذا المنطلق تم تأسيس القانون الدولي من خلال الغزو للدول أو المجتمعات الأخرى بهدف إسباغ الشرعية عليه. تستمر هذه الأصول القاسية والمريبة في وصف القانون الدولي، حيث لم يعاد كتابة هذا القانون من قبل المجتمع الدولي في الوقت الحاضر، وبدلاً من ذلك، قامت القوى الاستعمارية السابقة والدول المستقلة حديثًا وكذلك الحركات والشعوب بتطوير القانون الدولي بشكل تدريجي استنادًا إلى التعبير الأول.

وبالتالي فإن القانون الدولي بما ينظمه من ظواهر كالاحتلال والغزو يصبح بهذه الطريقة وهذا المفهوم أداة بيد القوى الاستعمارية ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل. فعلى سبيل المثال منذ تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب، جادلت إسرائيل بأن قطاع غزة لا يخضع للاحتلال وبالتالي فان التزاماتها المترتبة وفقا للقانون الدولي غير موجودة.

وفي محطات عدة، سعت إسرائيل إلى الاستفادة من القانون الدولي من خلال الادعاء بقصوره وعدم قدرته على تنظيم وضع الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا العمل القانوني الذي يروجه الاحتلال الإسرائيلي للعالم يمكن عده شرًا خالصا لما ينطوي عليه من تلاعب وظلم للفلسطينيين، ولا يمكن التقليل من شأنه، فالولايات المتحدة في هذه اللحظة توافقت مع إسرائيل في اعتبار المستوطنات شرعية بعدما كانت في لحظة تاريخية معينة خلاف ذلك تماما (٤).

ونذكر في هذا الصدد مثالًا آخرًا وهو قيام رئيسة وزراء ألمانيا بالذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لإقناع “المدعي العام” بان اختصاص المحكمة لا يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد اتخذت ألمانيا هذه الخطوة المتمثلة في تقويض القانون الدولي من خلال الطعن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، مدعية أن المحكمة الجنائية الدولية تفتقر إلى سلطة التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين (٥). هذا يدلل على سعي مثل هذه الدول على إضفاء الشرعية على الممارسات الإسرائيلية التي تقوم بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي إن كانت لا تعني بان النتائج قد تكون شرعية، فهي تدلل على أن “الشرعية” هي ذات تأثير سياسي ويمكن أن تؤثر على القانون بدون أي شك.

تُفسر هذه الممارسات بأن القانون الدولي هو أداة بيد الدول العظمي، ولكن، كما للقانون الدولي مساوئه فإن له محاسنه المتمثلة في إعطاء مجموعة من الناس حقوقهم في الكفاح المسلح وحقهم في تقرير المصير. على خلاف العديد من الدراسات، تدّعي عريقات أن القانون الدولي له مساوئه ومحاسنه، وكما أن القانون يفرض الهيمنة في قضايا معينة فإنه يمكن الاستفادة منه حينما تقوم حركة وطنية باستثماره لصالحها، في إطار حركة التحرر الوطنية والحق في تقرير المصير المشروع طبقا للقانون الدولي.

تجادل عريقات بأن هناك سببان على الأقل للشك في أن القانون الدولي لديه القدرة على التغلب على الحقائق الجيوسياسية ودفع الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية. أحدهما هو الأصل المخزي للقانون الدولي باعتباره مشتقًا من النظام الاستعماري وبالتالي ككيان قانوني يعيد عدم التماثل في الحقوق والواجبات بين الجهات الفاعلة الدولية بدلاً من عدم الاستقرار. والآخر هو حقيقة أن النظام الدولي يفتقر إلى السيادة العالمية ، وبالتالي تسييس الإنفاذ من خلال تركه لتقدير الدول لتقرير متى وكيف ، ومن الذي يعاقب.

وبالعودة إلى صفقة القرن، فإنها بنفس المنطق تعيد شرعنة الاستعمار وشرعنة ما ورد هذه الصفقة من عدم التماثل الواضح في الحقوق، ولكن بحلة جديدة، لا سيما ما يتضمنه هذا الاستعمار من جرائم ترتكب بحق السكان الأصليين للأرض كما يحصل الآن في أرض فلسطين. 

يستمر الجدل حول مدى استفادة الفلسطينيين من القانون الدولي ومدى فاعلية تطبيقه التي ثبت بأنها مرهونة بالإرادة السياسية للدول مثل الولايات المتحدة وغيرها التي سعت منذ عقود لتحقيق مصالحها فقط. ولكن، ما على الفلسطينيين فعله هو التحرر من قبضة وانحياز دول مثل الولايات المتحدة، وبدلا من ذلك سلوك طريق التحرر الوطني وفي نفس الوقت المطالبة بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، وبدون ذلك فإن التعويل على القانون وحده لن يجدي نفعا ولن يصل إلى أي طريق سوى الطريق المسدود المؤدي عدم الاعتراف للفلسطينيين بحقوقهم. 

وأخيرا، لا يمكن النظر إلى إعلان صفقة القرن بدون النظر إلى ما سبقها من إجراءات اتخذتها الولايات المتحدة كإعلان (بومبيو) الذي شرعن المستوطنات الإسرائيلية على أرض فلسطين ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. هذه الممارسات التي تحاول القوى الاستعمارية إخراجها للعالم على أنها خطوات باتجاه تحقيق سلام في الشرق الأوسط هي في الأساس نهب للشعوب وسرقة لمواردها وخيراتها وأرضها على حساب السكان الأصليين، كما يكمن في قلب هذه الممارسات جرائم لا حصر لها ولا تعكس سوى عودة للاستعمار منمقة بخطابات السلام والازدهار الاقتصادي.
 

الهوامش
١-  بشارة، عزمي، “صفقة ترامب نتنياهو… خطة اليمين الأميركي الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية في سياق تاريخي”. يوتيوب. 5/2/ 2020.
٢-   “الاستعمار يعود بحلة القانون الدولي”، الجزيرة، 1/5/2012، شوهد في 27/2/2020.
٣- Erakat, Noura. Justice For Some: Law and the Question Of Palestine. Stanford, California: Stanford University Press, 2019, p12.
 Ibid, Erakat, Noura, p 6.
٤-  WATCH: Secretary of State Pompeo to Announce Shift in U.S. Policy on Israeli Settlements. PBS NewsHour, 2019. https://www.youtube.com/watch?v=C4U4FPHXGJ4.
٥-  Jassat, Iqbal JassatIqbal. “Merkel's Defence of Israel's War Crimes Undermines the ICC and the Rule of Law.” Middle East Monitor , February 17, 2020. https://bit.ly/2vb7JVN.

The post القانون الدولي والاستعمار… “صفقة القرن: استعمار منمق بخطاب السلام” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>