طالت عملية المحو الاستعماري الصهيوني لفلسطين وعلى مدار عقود كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مع وجود نية مبيتة لتفكيك وبعثرة الهوية والذاكرة الفلسطينية لتحل محلها ذاكرة أخرى مرتبطة بآخر قوة استعمارية على الأرض “إسرائيل”. ومع استمرار عمليات التهديد للذاكرة الجماعية الفلسطينية، والسرقة في كثير من الأحيان، بدت الذاكرة الفلسطينية الجماعية للإرث الفلسطيني مرتبكة ومهددة، بما في ذلك الإرث الثقافي المرئي والمسموع. ومع بروز الاتجاهات الحديثة في الأرشفة وحفظ المعلومات ومع التطور الرقمي الهائل في العالم، برزت الأرشيفات الوطنية التي أصبحت متاحة مع حرية الوصول إليها، ليس كمخزون علمي فحسب، بل كمهمة رئيسية لحفظ الذاكرة الثقافية والجماعية وصون الهوية الوطنية للشعوب ولحفظ الوقائع التاريخية وتاريخ العلم وثقافة التذكير. في فلسطين، تعرض الإرث الثقافي، بما فيه المرئي والمسموع، للضياع والتدمير والسرقة، ويعود ذلك لأسباب تاريخية، أو لأسباب عسكرية متعلقة بالاستعمار، الأمر الذي ترك العديد من المعوقات في إعادة تكوين الذاكرة الوطنية الفلسطينية وإعادة تجميعها.
في ضوء هذا السياق والنقاش العالمي الذي يدور حول الأرشفة والنهج الأرشيفي يأتي كتاب “الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع: نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه: دراسات أولية وتطلعات مستقبلية”، تأليف وترجمة عن الألمانية بشار شموط، والذي يتكون من 200 صفحة، وسبعة فصول، كل فصل يليه عدة موضوعات فرعية، والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 2020. يناقش الكتاب قضايا سياسية تاريخية حساسة ودقيقة تخص الأرشيف الفلسطيني باعتباره كياناً مهماً ومرتبطاً بالذاكرة والهوية الجماعية الوطنية للشعب الفلسطيني. يمهد الكتاب عبر سطوره الطريق لاستيعاب هذه القضايا ضمن سياق أوسع من خلال إعادة صياغتها بطريقة علمية وأكاديمية مميزة، ومن ثم يتيح قراءته ضمن عدسات متعددة ومتنوعة، فهو يندرج في فضاء الدراسات الأكاديمية للإرث الثقافي الفلسطيني، ثم يسد ثغرات في البحث التاريخي الثقافي، فضلاً عن قيمته العالية من الناحية الثقافية السياسية. وبين هذين الحقلين الأخيرين، ورغبةً في المساهمة في حفظ الإرث الثقافي المرئي والمسموع الفلسطيني، يقدم المؤلف بشار شموط، بحثا أكاديميا مدعوما بالأسس العلمية، في مجال الأرشفة الرقمية والمسموعة، مستخدما منهجيةً ثلاثية الأبعاد معتمدا على المعلومات والدراسات الموثوقة المتوافرة، وخبرته الشخصية لسنوات في هذا المجال، والعديد من النقاشات والمقابلات مع أشخاص معنيين.
يشير الكتاب بصورة عامة إلى “الأهمية المركزية للمواد الأرشيفية الوطنية وتجسيد الهوية المتعلقة بذلك، كما يطرح العديد من التساؤلات حول مصير الأرشيفات المسروقة” (ص1). لذا، فإنه يعد مساهمة فكرية وأكاديمية ووطنية عالية لما يحمل في طياته من أهمية علمية وثقافية للإرث الفلسطيني المرئي والمسموع. ومما يستحق الذكر أنه لا بد وفقا للمؤلف النظر إلى الهوية الثقافية الفلسطينية العربية كجزء من الهوية الثقافية العربية العامة في منطقة الشرط الأوسط. ومع ذلك تقتصر الدراسة على دراسة الإرث الثقافي المرئي والمسموع الفلسطيني، مع الأخذ في عين الاعتبار “سياق التعددية الثقافية والاجتماعية والدينية في جميع أنحاء المنطقة، وكيفية تفاعل هذه الفئات مع بعضها البعض، لا داخل فلسطين فحسب، بل أيضا مع جيرانها”. ففي مجال التسجيل الموسيقي مثلا، يعتقد الكاتب بأنه “قد يكون من المستحيل تصور نشوء حركة فلسطينية مستقلة وبعيدة عن سائر الحراك الموسيقي في المنطقة، وتحديدا في سوريا ومصر”. إذ يدعو الكاتب بدايةً إلى فهم التفاعلات في المنطقة والتعددية العرقية والدينية، وهو أمر جعل من الهوية الثقافية لفلسطين تحديداً، هوية غنية ومتنوعة (ص12). بناء عليه، تقدم هذه المساهمة مراجعة وعرض لأهم ما ناقشه الكتاب من محاور وأفكار ولبنات رئيسية مع الاشتباك مع بعضها نقدياً متى أتاحت الفرصة لذلك.
تناثر الإرث المرئي والمسموع لفلسطين والتطلع نحو التنسيق المشترك للحفاظ عليه
بعد تقديم الدراسة وتحديد مجالها ومنهجيتها يرتحل المؤلف إلى الفصل الأول، مطالعاً الجهود المبذولة للتعاون المُنَسق، والمُبَادرات الفلسطينية والعربية المتعددة، من أجل الحفاظ على التراث الثقافي. ضمن هذا السياق، نظم في السنوات الأخيرة بعض اللقاءات والمبادرات وورش العمل من أجل تبادل الأفكار والآراء، وإيجاد قاعدة مشتركة توفر للباحثين من المنطقة العربية إمكان التعاون في مجال الأرشفة بجميع أشكالها، ومنها مثلا: مؤتمر الأرشيفات والمذكرات العائلية: محاولة لقراءة تاريخ المجتمع الفلسطيني، مؤسسة الدراسات المقدسية في رام الله بالتعاون مع جامعة بيرزيت 2008، ومؤتمر الأرشيف والدولة الحديثة، القاهرة، 2010، وغيرها من المؤتمرات التي ناقشت قضايا عدة ومختلفة متعلقة بواقع الأرشيفات والمجموعات المرئية والمسموعة في الشرق الأوسط وكيفية النظر إليها.
على الرغم من هذه المؤتمرات والمبادرات يلفت المؤلف النظر لدراسة كان قد أعدها “أنطوني دوني” الذي طرح مسألة عدم التوافق فيما بين هذه الأرشيفات والمجموعات المرئية والمسموعة في الشرق الأوسط. ورأي دوني “أنه كثيرا ما ينظر إلى هذه الأرشيفات على أنها مجموعة منظمة من الوثائق التاريخية التي تحفظ المعلومات عن الناس والأماكن والأحداث، لكن هذه الرؤية تحجب عنصرا حساماً في هذه العمليات، فالأرشيف معني أيضا بتشكيل المستقبل” (ص16). يعني ذلك، في السياق الفلسطيني، بأن وجود أرشيف منظم ومرتب، قائم على التنسيق المشترك يمكن أن يشكل مقاومة للهيمنة على الذاكرة الجماعية التي تظهر في أساليب الأرشيفات الإسرائيلية في تعاملها مع الإرث الثقافي الفلسطيني، وتحديدا في ظل وجود العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تتعامل مع هذه المواد على أنها ملكية خاصة تخدم الأهداف السياسية والاجتماعية السياسية لمن يحتفظ بها ويديرها يحرم شريحة واسعة من الاستفادة من هذه المواد ويبقي على الإرث الثقافي الفلسطيني مبعثرا.
مقارنة بالأرشيفات الرسمية في أوروبا والولايات المتحدة حيث تتوفر الأرضية القانونية لإمكان فتح المقتنيات والمواد الأرشيفية أمام الجمهور المهتم، تبقى قضية حقوق الطبع وحربة الوصول إلى المعلومات في منطقة الشرق الأوسط، في كثير من الأحيان، عنواناً لا أكثر، كما يقول المؤلف. وفي كثير من الأحيان أيضا تفتقر الدول العربية إلى قوانين تُعني بالأرشفة وتختص بها. ذلك عوضا عن أي تنسيق في توزيع المهام والمسؤوليات بين مختلف مؤسسات الأرشفة في المنطقة والتي من شأنها أن تنظم العمل الأرشيفي وتحميه. أما فيما يتعلق بالمبادرات، فمنها على سبيل المثال، كتاب بطاقات بريدية من مجموعة عز الدين القلق، ومشروع أرشيف ملصقات فلسطين لدانيال ج. وولش، ومجموعة صور لإيليا قهوجيان (1910-1999)، وغيرها من المبادرات الفردية، وحتى المبادرات المؤسساتية الأخرى التي تعتمد على الدعم والتمويل الخارجي (ص21).
دور المتحف الفلسطيني في الحفاظ الرقمي على الإرث الثقافي الفلسطيني المرئي والمسموع
يقدم الفصل الثاني نقرأ نبذة عن تاريخ تأسيس المتحف الفلسطيني، وخطة تنفيذ مشروع الأرشيف المرئي والمسموع التابع للمتحف. رأي المتحف النور في آذار 2016، حيث عبر جاك برسكيان، الشريك في فكرة إنشاء الأرشيف الرقمي، عن اهتمامه بدعم آلية البحث عن المواد المرئية والمسموعة، ثم العمل على تجميعها وتحويلها الرقمي (رقمنتها)، ونظرا إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإلى الوضع السياسي القائم في فلسطين منذ سنوات طويلة، تمنع السلطات الإسرائيلية الشعب الفلسطيني (فلسطينيي قطاع غزة والشتات) من دخول الضفة الغربية، حيث يوجد المتحف. أي أن نحو 70% من الفلسطينيين محرومون من زيارة المتحف الرئيسي لوطنهم الذي لا يزال حتى هذه اللحظة قيد التطوير (ص25). بجانب البحث عن المواد والمجموعات والأرشيفات التي لها علاقة بالذاكرة الجماعية الفلسطينية، يطمح هذا المتحف إلى ربط كل المجموعات والأرشيفات ببعضها البعض، وتزويدها بأسس وأساليب موحدة لرقمنة المواد المتوفرة لدى كل منها وفهرستها من أجل إنشاء قواعد متوافقة وموحدة للبيانات الرقيمة المستقبلية (ص26).
بدايات التوثيق المصور والتسجيل الصوتي في فلسطين قبل سنة 1948
وفقا للمؤلف فإن تقنيات التصوير الفوتوغرافي والسينمائي ومن بعدهما التسجيل الصوتي عرفت طريقها إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث لعب دخول هذه التقنيات بشكل سريع دوراً هاماً في الفضاءات الثقافية والاجتماعية والسياسية. بعد إعلان دولة إسرائيل في أيار/مايو 1948 الذي أدي إلى تهجير وتشتيت جزء كبير من الشعب الفلسطيني، بدأ الفلسطينيون في سنوات ما بعد النكبة رحلتهم في تنظيم عملهم السياسي، وهنا برزت أهمية الوسائل المرئية والمسموعة في توثيق وحفظ العمل السياسي والحراك النضالي الوطني للفلسطينيين وسائر النشاطات الفنية والثقافية مثل الأدب والشعر والموسيقى والفن التشكيلي، وتحديدا منذ أواخر الستينات (ص33).
نظم هذا الفصل العديد من المواضيع ذات العلاقة بنشأة الإرث المرئي والمسموع في فلسطين حيث تضمن عدة مواضيع فرعية كالتالي: أولا: بدايات التصوير الفوتوغرافي في فلسطين؛ ثانيا: أوائل المصورين الفلسطينيين؛ ثالثا: بدايات تصوير الأفلام السينمائية المتحركة في فلسطين؛ رابعا: بداية التسجيلات الموسيقية في فلسطين؛ خامسا: بدايات التسجيل الموسيقى الأنثروبولوجي في فلسطين-مجموعة روبرت لاخمان؛ سادسا: الإرث الموسيقي في الوسط البرجوازي في فلسطين ما قبل 1948؛ سابعا: أثر الموسيقى الكنائسية الأوروبية في الحياة الموسيقية في الوسط المسيحي الفلسطيني؛ ثامنا: مصلحة الإذاعة الفلسطينية-أول إذاعة في فلسطين ودورها في نشر الإرث المسموع، الموسيقي واللغوي المحكي؛ تاسعا: إذاعة الشرق الأدنى، ثاني إذاعة بريطانية ناطقة بالعربية في فلسطين قبل سنة 1948.
كان لكل من هذه المجالات كما يحكي المؤلف (أي التصوير الفوتوغرافي، ثم الفيلم، ثم التسجيل الصوتي/الموسيقي) دور اجتماعي وثقافي مختلف، مثلا دور أساسي في توثيق الأحداث المرئية والمسموعة والمناسبات الخاصة والاجتماعية، كان للتسجيل الصوتي للموسيقى هدف أساسي مادي من خلال تسويق الأسطوانات التجارية (ص33). ومنذ أواخر الستينات، يشير المؤلف إلى ان هذه الأوساط كان لها دور رئيسي من خلال الاندماج فيما بينها في توحيد دورها لصناعة نتاج فني سياسي جديد. لكن هذا التسييس كما يراه المؤلف في الفن الفلسطيني لم يقتصر على الإنتاج المرئي والمسموع، بل كان يلاحظ أيضا في سائر النشاطات الفنية والثقافية في ذاك الوقت مثل الأدب والشعر والموسيقى والفن التشكيلي (ص33).
1948، النكبة والذاكرة الجماعية المهددة
يتعمق المؤلف في الفصل الرابع في أعماق الذاكرة الجماعية الفلسطينية، حيث يصور النكبة كملحمة فعلت فعلها المأساوي في حياة الفلسطينيين، معتبراً إياها نقطة تحول جذرية وحدثا مستمرا ما زال له حضوره في حياة الشعب الفلسطيني بما فيه من آلام حتى اليوم. ووفقا للكاتب، “تعتبر النكبة بداية التاريخ الفلسطيني المعاصر، والتغيرات الكارثية بما حملت من عمليات القمع العنيف والإصرار على البقاء”. ما يميز هذا الفصل هو اعتباره للإرث الفلسطيني المرئي والمسموع قضية عابرة للتاريخ والثقافة والسياسة، وحافظة لا يمكن الاستغناء عنها لمقاومة الهيمنة الصهيونية التي سعت منذ النكبة لمحو الهوية الفلسطينية الثقافية والاجتماعية والسياسية وخلق كيان صهيوني بدلا منها.
في دفتر يومياته، كتب بن غوريون بتاريخ 18 تموز/يوليو 1948: ” علينا أن نبذل كل جهدنا ألا نسمح لهم (الفلسطينيون) بالعودة… فالكبار منهم سوف يموتون والصغار سوف ينسون” (78). تستفز هذه العبارة المؤلف، لأنها لا تعكس الفكر الصهيوني الاستعماري الذي يهدف إلى الهيمنة الكاملة على أرض فلسطين بشتى الأساليب فحسب، بل تشكل جوهر السياسة الإسرائيلية، الذي يرفض التعامل ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلا عن اعتبار هذه المقولة مرآة للأمم الاستعمارية القديمة التي استخدمت أساليب متنوعة لمحو هوية الآخر وتجريده من ذاكرته، أو للحد من امتدادها لتسهيل مهمة السيطرة عليه.
عديدة هي الأمثلة التي قامت بها إسرائيل لمحو وتشويه الهوية العربية الفلسطينية، ابتداءً من تهجير السكان ومصادرة الأراضي وارتكاب المجاز بحق أصحابها وطردهم من بيوتهم، وانتهاءً بتغيير أسماء المدن والقرى وتحويلها الى مدن إسرائيلية. يحذر المؤلف هنا من الصور التي ينشرها الاحتلال الإسرائيلي للقرى الفلسطينية التي تعطي انطباعا مغايراً ومخالفاً للحقيقة (ص81). يرى المؤلف أنه بعد النكبة، ونتيجة لما تعرضوا له، احتاج الفلسطينيون إلى سنوات عديدة لتشكيل رؤية وهيكلية سياسية تقودهم إلى العودة وتحرير الوطن. فأنشئت منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، ولكن عمل الفلسطينيين في مجالي الفن والثقافة بدأ قبل تأسيس المنظمة بسنوات ولو بشكل فردي على الرغم من الأوضاع المعيشية والمادية الصعبة (ص83). فمنهم من اتجه إلى الكتابة والشعر مثل محمود درويش (1941-2008)، وسميح القاسم (1914-1939)، ومنهم من اتجه إلى الفن التشكيلي والرسم مثل إسماعيل شموط (1930-2006)، أو حتى إلى التصوير الفوتوغرافي مثل سلافة مرسال جاد الله (1941-2006)، التي كانت أول فتاة فلسطينية تدرس فن التصوير الفوتوغرافي في القاهرة. وبعدما تكرس الحضور الفعلي والرسمي لمنظمة التحرير تطور الإنتاج والحراك الثقافي الفلسطيني ما بعد النكبة ضمن سياق المعطيات السياسية والثقافية والاجتماعية في تلك الفترة وتحديداً في الستينيات والسبعينيات، حيث نشأت الكثير من المشاريع الثقافية بهدف الحفاظ على وحدة الهوية الوطنية المشتركة للشعب الفلسطيني.
يتابع المؤلف بقوله تمثل هذا الحراك في نشوء الفيلم السياسي الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير، حيث تم تأسيس دائرة الثقافة والإعلام في سنة 1965، حيث بقي المقر ناشطاً حتى اجتياح لبنان سنة 1982 من قبل الجيش الإسرائيلي الذي قام بالسيطرة على مبنى مقر منظمة التحرير ونهب كافة محتوياته من ملصقات وكتب وصور وأرشيفات فوتوغرافية وإصدارات فنية وغيرها (ص86). وحتى لحظة اجتياح لبنان، كانت المؤسسات في مجال السينما قد أنتجت أكثر من 70 أو 80 فيلماً وثائقياً، في مقابل فيلم روائي واحد بعنوان عائد إلى حيفا (ص89). يمكن هنا الإشارة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي شكل بيئة طاردة للعمل السينمائي الفلسطيني في الداخل واقتصر على الخارج، بينما تمكنت الحركة الموسيقية بدعم من منظمة التحرير والمؤسسات التابعة لها من البروز بطريقة غير عادة. وضمن هذا السياق، برز نجم “فرقة الفنون الشعبية” التي تأسست سنة 1979 في الضفة الغربية، وفرقة صابرين في القدس، وغيرها. ومن المنظور التاريخي يجادل المؤلف على أنه كان هناك منعطفان أساسيان في مسار العطاء الثقافي الفلسطيني الذي تشكل في ظل وجود منظمة التحرير بعد انتقالها إلى بيروت سنة 1970، تمثل الأول في الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف عام 1982، وتوقيع اتِّفاق أوسلو 1993 (ص99).
شكل اجتياح لبنان ثغرة كبيرة في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، بينما سمح اتِّفاق أوسلو للفلسطينيين بمساحة من العمل الثقافي والإعلامي في كل من الضفة الغربية وغزة (ص100). اختلفت الآراء حول مدى المساحة التي كانت موجودة في الفضاء الثقافي الفلسطيني وبخاصة بعد أوسلو، ولكن ما هو مؤكد أن الواقع الاستعماري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، والحروب المتكررة على المنشآت والمقرات والتدمير الممنهج لها، لم يساعد في إيجاد نهج فلسطيني لأرشفة وحفظ هذه المواد المرئية والمسموعة الأمر الذي يعني ضرورة تكثيف الجهود للملمة هذا الإرث الثقافي المبعثر والمشتت.
مجموعات ومواد مرئية ومسموعة منهوبة في الأرشيفات الإسرائيلية
يسلط الفصل الخامس الضوء على الموضوع البالغ الحساسية من الناحيتين السياسية والثقافية والذي يتعلق بالمجموعات والمواد المرئية والمسموعة الفلسطينية المنهوبة أو المفقودة والموجودة اليوم في عدة أرشيفات إسرائيلية (ص103). يلفت المؤلف هنا الانتباه إلى أن جزء كبير من هذه المواد لا يزال موجود في صندوق أسود مغلق عليه، وهو ما يمنع الفلسطينيين من دراسته أو الاستفادة منه، كما أن حجم هذه المواد غير معروف حتى الآن. الثابت أن الجيش الاسرائيلي كان يقوم بنهب منظم للوثائق والمواد التابعة للمؤسسات الفلسطينية، أو حتى لأشخاص وعائلات، أثناء اعتداءاته العسكرية المتكررة. ومع ذلك يشير المؤلف إلى بعض الأدلة الدامغة حول المعلومات المتوافرة بشأن هذا الموضوع، وفي سبيل الإثبات لهذه القضية المهمة اعتمد المؤلف في هذا الفصل على النقاشات والحوارات والمقابلات الشخصية مع أشخاص معنيين بهذا الموضوع أو لديهم بعض المعلومات المتوافرة.
الأكيد أن عملية النهب لم تكن عشوائية، بل كانت مدروسة من جانب السلطات الإسرائيلية (ص104). ويعد الحصول على هذه المواد أو استرجاعها أو الوصول إليها مستحيلا بالنسبة للفلسطينيين، حيث تسمح قوانين الأرشفة المعمول بها في الجيش الإسرائيلي بإخفاء هذه المواد والإبقاء عليها مدفونة، على الرغم من أن القوانين تلزم الإفراج عنها ، إلا أنه يحق للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية ابقاؤها سرية إذا تعارض الكشف عنها مع التطلعات السياسية أو الأمنية للدولة (ص106). وعمليا هناك قانونان يوفران الأرضية القانونية للاستيلاء على هذه الأرشيفات وعدم الكشف عنها وهما: “قانون أموال الغائبين” الذي سن عام 1950، وقانون الأرشفة المعمول به في الأرشيف العسكري التابع للجيش (ص108).
السؤال المهم الإجابة عنه هنا: لماذا يقوم الاحتلال الإسرائيلي بنهب هذه المواد؟ وفقا للمؤلف يقوم الاحتلال الإسرائيلي بعمليات النهب المنظمة من خلال مرحلتين الأولى وهي النهب للمواد، والثانية دراسة المواد وتقييمها ومن ثم تصنيفها من حيث أهميتها السياسية والقانونية من أجل زيادة المعرفة عن تاريخ الفلسطينيين وثقافتهم وطريقة تفكيرهم (ص109). كان لا بد من الكاتب على الرغم من قلة المعلومات الإشارة إلى بعض المواد التي نهبت وقام بعض الباحثين بالكشف عنها، مثل الفيلم الوثائقي للباحث بني برونر الذي أنتجه عام 2012 مسلطاً الضوء على عملية النهب الممنهجة التي قام بها متخصصون من القوات العسكرية الإسرائيلية لمجموعات الكتب الخاصة من بيوت الفلسطينيين الذين هجروا عام 1948، وغيرها مثل “أرشيف مصلحة الإذاعة الفلسطينية التي أسست عام 1936 وتم تسليمها إلى مكتب رئيس الحكومة بصفتها مواد أموال غائبين، وغيرها من المواد التي نهبت في بيروت عام 1982 (ص111)، وجميعها تعد ادلةً دامغةً على النهب المنظم والمدروس الذي ارتكبه، ولا يزال يرتكبه، الاستعمار الصهيوني المتطرف لأغراض خبيثة تتمثل في طمس الذاكرة والهوية الجماعية الفلسطينية، ولا سيما تهميش وإنكار الشعب الفلسطيني كشعب ذي تاريخ وثقافة، إضافة إلى استعمال هذه المواد في تقييم ودراسة العقل الفلسطيني وطريقة تفكيرهم، بجانب استعمال تلك المواد كأداة ضغط كما حدث سنة 1983 في صفقة تبادل جثث الجنود الإسرائيليين في مقابل أرشيف مركز الأبحاث (ص128).
يستخلص الكاتب في هذا الفصل عدة نتائج أهمها أنه يمكن القول بأنه “بات من المؤكد أن المواد المرئية والمسموعة التي كانت في حوزة قسم الثقافة الفنية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت أصبحت جميعها في يد السلطات الإسرائيلية”، مع دعوة الكاتب إلى ضرورة الاستمرار في البحث المعمق في هذا الموضوع للحصول على أدلة جازمة فيما يتعلق بهذه المواد الوثائق (ص128).
قوائم المجموعات والأرشيفات المرئية والمسموعة التي تم العثور عليها حتى الآن
حتى الآن لا يوجد وفقا للمؤلف إلا قليل من الكشوفات والسجلات التي تحتوي على بيانات وصفية ومعلومات عن المجموعات والمواد المرئية والمسموعة الموجودة في الأرشيفات العربية والفلسطينية تحديدا، والتي يمكن الاستفادة منها في الحقل العلمي أو الثقافي (ص131). ويمكن رد ذلك إلى أن علوم الأرشفة لا زالت غير متطورة في العالم العربي وهي حديثة نسبيا. ومع ذلك، يمكن العثور في كثير من الأحيان على معلومات متفرقة لكنها ذات قيمة ثقافية وتاريخية عالية في أماكن متعددة من العالم الغربي وخارجه. ضمن هذا السياق يوجه المؤلف بوصلته إلى رواية الطنطورية للكاتبة رضوى عاشور حيث ذكرت بأن مركز الأبحاث في بيروت الذي أدراه الدكتور أنيس الصايغ من سنة 1966 إلى سنة 1977 قام بإعداد أربعة أفلام مصورة لمحتويات ملفات المعلومات، احتفظ بنسختين منها وأعطى نسخة للجامعة العربية ونسخة لجامعة بغداد، ثم إن المركز وضع خطة سرية للحفاظ على الكتب النادرة والوثائق والخرائط التي تتيح نقلها بسرعة عند أي خطر داهم.” (ص131).
لكن مع الأسف، وعلى الرغم من وجود خطة، فإن العاملين في المركز لم يتمكنوا من إنقاذا الأرشيف حينما نُهِب عام 1982. وفي قطاع غزة، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على معلومات دقيقة وموثوق بها عن المجموعات، أو حتى الأرشيفات المرئية والمسموعة بسبب الحصار الإسرائيلي، إلا أن هناك معلومات حصل عليها المؤلف تدل على وجود أرشيفين هما: (1) أرشيف التلفزيون الرسمي الفلسطيني (التابع لهيئة الإذاعة والتلفزيون)، وأرشيف غزة المرئي والمسموع التابع لوكالة الغوث الأونروا، وهو جزء من الأرشيف الكامل لهذه المنظمة. لكن ألمانيا تحديدا، تبدو الأبرز في عملية العثور على مقتنيات مرئية ومسموعة تابعة للإرث الثقافي الفلسطيني، ومنها لم يكن معروفا أو كان يعتقد أنه مفقود (ص133).
اهتمت المؤسسات الأوروبية والأجنبية بمهمة الأرشفة والمقتنيات ذات العلاقة التاريخية بفلسطين، وهذه المؤسسات انقسمت إلى ثلاثة أنواع هي: أولا: مجموعات تمت فهرستها في الأرشيفات الرسمية أو التابعة لمؤسسات أكاديمية مثل مجموعة صور صندوق استكشاف فلسطين ومجموعة معهد غوستاف دالمان للدراسات الإقليمية لفلسطين-كلية الدراسات الدينية، جامعة غرايفسفالد-ألمانيا، ومجموعة صور فلسطين التابعة لمكتبة الكونغرس الأميركية-واشنطن، ومجموعة صور فلسطين التابعة لكلية العلوم الدينية في جامعة هومبولت في برلين-ألمانيا، ومجموعة صور مدرسة الكتاب المقدس وعلوم الآثار الفرنسية، وأرشيف برلين للغراموفون، ومواد فيلمية عن فلسطين في المعهد البريطاني للأفلام-لندن، وغيرها (ص135-156)؛ ثانيا: مجموعات أًسست كمشاريع وبمبادرات مستقلة وبتمويل فردي أو خاص مثل مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية، والمجموعة الموسيقية للمؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية، وأرشيف مؤسسة عرب – بيروت، والأرشيف الشفهي الفلسطيني – الجامعة الأميركية في بيروت، وغيرها (ص157-164)؛ ثالثا: مجموعات صغيرة وغير مفهرسة ولكنها ذات أهمية مثل أوائل الأفلام المتحركة التي صُورت في فلسطين (مجموعة أفلام تابعة لـ lobster Films، باريس، ومجموعة عز الدين القلق (1936-1978) للبطاقات البريدية التاريخية الفلسطينية، ومجموعة أفلام المخرجة مونيكا ماورر، ومجموعة صور إيليا قهوجيان، ومجموعة صور المصور محمود دبدوب، ومجموعة صور المصور أسامة سلوادي (ص165-168)؛ رابعا: الاستفادة من المصادر المفتوحة في الإنترنت في مجال الإرث الثقافي مثل منصة سماعي نت، ومنصة فلسطين في الذاكرة، واللتان تحتويان على مواد سمعية مهمة للإرث الفلسطيني (169-172).
يلاحظ الكاتب في هذا الفصل، السادس، بأن معظم المواد المرئية والمسموعة الفلسطينية موجودة في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية، وهي تفتح جزءاً كبيراً من موادها، أو تعرف على الأقل بما تحتفظ به أمام الجمهور عن طريق الإنترنت. بينما يلاحظ بأن الجزء الأكبر من الأرشيفات العربية في الشرق الأوسط لا يزال مغلقا امام الجمهور، والاستفادة منه محدودة، لأسباب منها على سبيل المثال لا الحصر، عدم توافر القوانين والتعليمات الواضحة مثل (قوانين الأرشفة والحقوق، وغيرها من الأسباب (ص172).
مبادئ التحويل والتخزين الرقمي للمواد المسموعة والمرئية
في الفصل السابع والأخير يعتمد المؤلف على خبرته الشخصية والعملية على مدار سنوات طويلة في مجال الأرشفة الرقمية المرئية والمسموعة، وخصوصاً آلية التحويل من مواد تماثلية (Analogie) إلى رقمية (Digital)، وذلك لنشر المعرفة التقنية التي اكتسبها في هذا المجال، لتوفير معلومات يمكن اعتبارها دليلا تقنيا لمشاريع الأرشفة الرقمية المستقبلية في الشرق الأوسط (ص173). ووفقا للمؤلف ومن أجل أن تكون الاستفادة من التوفير الرقمي للمواد المرئية والمسموعة مجدي ومستدامة، يجب ضمان المعطيات التالية: “أولا: توافر هيكلية منظمة لآلية لتخزين الرقمي تبدأ بالتسمية الصحيحة والمنطقية للمواد الرقمية؛ ثانيا: إنشاء بنوك معلومات للبيانات الوصفية الذكية والمنطقية أي التي تسمح بالبحث الدقيق من خلال كلمات البحث المخزنة والتي تدل على المواد المطلوبة؛ ثالثا: توافر المعرفة الدقيقة مع المواد الحساسة واختيار انسب الطرق لتحويلها لملفات رقمية دون فقدان تفاصيلها الدقيقة”. وعلى الرغم من إيجابيات التخزين الرقمي للمواد المرئية والمسموعة يرى الكاتب أنها تواجه تحديين رئيسيين وهما سهولة استنساخ الملفات غير المسموح بها، وسهولة الاقتحام غير القانوني لها (ص147). بشكل عام، يمكن القول، بأن الغاية الرئيسية من وراء هذا الفصل هي رسم خارطة طريق لكيفية حفظ البيانات الرقمية وتحويل هذه المواد للاستفادة منها رقميا سواء أكانت ملفات صوت أو صورة أو أفلام أو فيديو.
خاتمة
يوثق المؤلف في هذه الدراسة حقلاً مهما له دور أساسي في الحفاظ على الهوية الجماعية الفلسطينية، من خلال تتبع وتقصي مصير مجموعات المواد المرئية والمسموعة ذات الأهمية للإرث الثقافي الفلسطيني، والبحث عنها وعن أماكن وجودها. ومن ثم تحاول فهم لماذا تشتت هذا الإرث التاريخي والثقافي الغني والذي بات جزء كبير منه اليوم خارج فلسطين وفي أيادي غير فلسطينية. اشتبكت هذه الدراسة مع الحقائق السياسية والتاريخية بطريقة علمية وأمينة للغاية نظرا لقلة المعلومات والدراسات المتوافرة عن الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع. بحثت الدارسة في الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع منذ نشأته، وخاصة منذ بدايات القرن الماضي، وكان لا بد من ذلك نظرا للحراك الثقافي الفلسطيني الذي بدأ في تلك الفترة. لم تقتصر الدراسة على البحث في الماضي، بل تتبعت مسارات حاضر هذا الإرث وحاولت جمع البيانات والمعلومات لما موجود وما هو مفقود حتى اللحظة، فضلا عن احتوائها لخارطة مستقبلية يمكن أن تشكل حراكاً كبيراً في كيفية تجميع هذه البيانات والمواد ورقمنتها والسبل الأنسب لحفظها، مع بيان أهمية ذلك في حفظ وحماية الإرث الثقافي الغني لفلسطين في الماضي والحاضر والمستقبل.
يحمل الكتاب قيمة معرفية كبيرة، وليس ممكناً ذكر كل معالمه وتفاصيله، لأنه يحتوي على مجموعة غنية متنوعة ومختلفة من الصور والوثائق والمواد عن الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع داخل فلسطين وخارجها. وأخيرا، تعد هذه الدراسة من أوائل الدراسات في الإرث الثقافي الفلسطيني المرئي والمسموع. بل يمكن القول بأن مثل هذه الدراسات هي نقلة نوعية لقضية تعد جزءاً لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية الهادفة إلى حماية الذاكرة والهوية الوطنية الجماعية للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده؛ مقاومة لمحتل ومستعمر استهدف الفلسطينيون من جميع الاتجاهات لإزاحتهم عن الخارطة وطمس حقيقة كونهم شعبا ذو تاريخ وثقافة فلسطينية عربية تفاعلت مع الوسط المحيط وتأثرت به وتأثر بها وهو ما اتضح وضوح الشمس في العديد من الوثائق والدراسات والمقابلات التي وفرتها الدارسة.
تضيف هذه الدراسات إلى المكتبة الفلسطينية جانباً مهماً من التاريخ الفلسطيني والثقافة التاريخية والسياسية لهذا الشعب الذي تعرضت هويته الجماعية للتفكيك، تلاها عمليات ممنهجة لضرب وطمس ثقافته وتاريخه من خلال نهب إرثه الثقافي لإفقاده القدرة على إعادة تشكيل وتكوين ذاكرته الجماعية ولملمتها من جديد. من المهم التذكر أيضا بأنه قل ما نجد دراسات من هذا النوع والمتعلقة بعلوم الأرشفة الرقمية، وهو ما أشار إليه الكاتب. لا يتوفر الكثير من الدراسات عن الإرث الثقافي المرئي والمسموع لفلسطين، وبالتالي ترسم هذه الدراسة خارطة مستقبلية للباحثين في هذا الحقل المهم من الدراسات الفلسطينية العابرة للتخصصات والجامعة للتاريخ والسياسة والثقافة والفنون في آن واحد. وأخيرا، يمكن القول بأن هذه الدراسة تتجاوز كونها بحثاً علمياً، بل يمكن اعتبارها أيضا حراكاً لقضية تاريخية وثقافية وسياسية، وفعلاً مقاوماً بحد ذاته، لما تحمله من أهمية بالغة تهدف إلى حماية الذاكرة الجماعية الفلسطينية، فضلا عن قيمتها الوطنية.