فواز طرابلسي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/65rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:42 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png فواز طرابلسي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/65rommanmag-com 32 32 قراءة غرامشي في العصر النيوليبراليّ https://rommanmag.com/archives/20903 Fri, 17 Jun 2022 06:55:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%ba%d8%b1%d8%a7%d9%85%d8%b4%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b5%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%91/  مُداخلة في المؤتمر الدوليّ لدراسة غرامشي، كالياري-ساردينيا، أيلول 2021... وعن أولى ترجمات غرامشي للعربيَّة

The post قراءة غرامشي في العصر النيوليبراليّ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ترجم النص عن الإنكليزية حسام موصللي.
 

١- عن قراءة أعمال غرامشي وترجمتها في سبعينيات القرن العشرين

في أواسط العقد السادس من القرن المنصرم، أطلقَت مجموعةٌ من المثقَّفين اليساريِّين اللبنانيِّين مجموعةً دراسيَّةً ماركسيَّةً حملَت الاسم نفسه لمنشورهم السرّيِّ: لبنان الاشتراكيّ. كان يطمحون إلى استخدام النظريَّة الماركسيَّة في إنتاج معرفة عن المجتمع والدولة اللبنانيَّين بغرض بناء تنظيمٍ راديكاليّ لِما سيُعرف لاحقاً بـ (اليسار العربيّ الجديد)؛ وهو واحدٌ من بين تنظيماتٍ عديدةٍ انبثقت في العالم العربيِّ وسرعان ما ستحظى بمزيدٍ من الزخم بعد هزيمة الجيوش العربيَّة في شهر حزيران من سنة 1967.

تمحور حيِّزٌ عظيمٌ من نشاطنا الفكريّ حول العودة إلى ماركس-إنغلز-لينين، لكنَّنا قرأنا أيضاً بتحدٍّ أعمال كلٍّ من تروتسكي، وغرامشي، وكولونتي، وروزا لكسمبورغ، وغيرهم من القادة والمثقَّفين الماركسيِّين المنشقين. بيد أنَّنا تلقينا قدراً كبيراً من تعليمنا عن طريق مُترجمين معاصرين؛ على غرار جان بول سارتر، وهنري لوفيفر، ولوي ألتوسير، وإرنست ماندل، بالإضافة إلى إنتاجاتٍ معرفيَّةٍ غزيرةٍ عن التحرُّر على الصعيدين الوطنيِّ والاجتماعيّ؛ من قبيل أعمال ماو تسي تونغ، وفيدل كاسترو، وتشي غيفارا، وفرانتس فانون، وأميلكار كابرال، وسمير أمين، وريجيس دوبريه، … إلخ.

ترجمنا بدورنا أيضاً مجموعةً كبيرةً نسبيَّاً من أعمال أولئك المؤلّفين. فترجمَ كلٌّ من وضَّاح شرارة وعزيز العظمة كتاب (الأمير الحديث) لأنطونيو غرامشي عن اللغتين الفرنسيَّة والإنكليزيَّة (باستخدام الاسمين المُستعارَين زاهي شرفان وقيس الشاميّ، 1970). وفي السنة التي تلتها، ترجمتُ للمؤلِّف نفسه كتابَ (قضايا الماديَّة التاريخيَّة) عن اللغة الإنكليزيَّة؛ استعنتُ في ذلك بترجمة كوينتن هور، وهو صديقٌ وعضوٌ في مجلس تحرير مجلَّة نيو لفت ريفيو. وعلى حدِّ علمي، كانت تلك أولى ترجمات غرامشي إلى اللغة العربيَّة.

استقطب غرامشي اهتمامنا لأسباب عديدة؛ جزءٌ منها كان إعجابنا بالحزب الشيوعيّ الإيطاليّ باعتباره حزباً شيوعيَّاً مُناهضاً للستالينيَّة، لكنَّ السبب الأبرز كان كُلّاً من الإلهام والتحدِّيات التي أغنت حياته وفكره. لقد أكَّدت نظريَّتُه التاريخيَّة على دور الذاتيَّة في مواجهة الحتميَّة التاريخيَّة السائدة؛ وعلى “الاستقلال النسبيّ” للبنية الفوقيَّة والراهن السياسيّ المُناقض للحتميَّة الاقتصاديَّة؛ وعلى التعارض ما بين البنية الفوقيَّة السياسيَّة والقاعدة الاقتصاديَّة، خاصَّةً في المراحل الانتقاليَّة، التي عدّلت جذريا من الوهم الحداثويّ القائل إنَّ الرأسماليَّة دمَّرَت الأنماط ما قبل الرأسماليَّة؛ وعن مهمَّة المثقَّفين الذي برر لنا التزامنا السياسي كمثقفلن. ولا بدَّ أن أضيف المفاهيم التي طوَّرها غرامشي عن السلطة الطبقيَّة والتمثيلات الطبقيَّة؛ والهيمنة والصراع الثقافيّ، وتصوُّرَه بصدد أنَّ الأفكار الجديدة، و”الرؤى العالميَّة” الجديدة، تبدأ بنقد القديم، … إلخ. ستُكتشَف تلك المفاهيم الأخيرة بالتدريج.

كان اهتمامُنا بالغاً أيضاً بـ (القضيَّة الجنوبيَّة) التي ساعدتنا على التفكير مُعمَّقاً في مسألة بروز جنوب لبنان كمنطقةٍ تابعة، ومحرومةٍ اجتماعيَّاً، وأقلّ نموَّاً، ودخولها إلى الحياة السياسيَّة باعتبارها منطقةً حدوديَّةً مع فلسطين المحتلَّة؛ وخصوصاً أنَّ كثيراً منَّا، ومن الجيل الأصغر من اليساريِّين، جاؤوا في الأصل من تلك المنطقة.

٢- دَين شخصيّ

عشتُ مع مفاهيم غرامشي وأفكاره بعد حقبة لبنان الاشتراكيّ (1965-1970)، ولا أزال كذلك. وكان مفهوماه عن “السيطرة” و”النفوذ الثقافي (الهيمنة)” ملهمَين لكتابي عن ميشال شيحا؛ المصرفيِّ، والصحفيّ والمثقَّف العضويّ، والبرجوازيِّ الماليّ التجاريّ اللبنانيّ، ومهندس نظامي التجارة الحرَّة والطائفيّة إبَّان مرحلة ما بعد الاستقلال (صدرَ الكتاب بعنوان: «صلات وصل- ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانيَّة»، في سنة 1990). وأمَّا مفهوَماه “الوطنيَّة الشعبيَّة و”الحسّ السليم”، فقد وجَّها بحثي بصدد الرؤى العالميَّة الراسخة في التراث والثقافة الشعبيَّين. درست في كتابي عن المسرح الغنائيّ اللبنانيّ، المعنون بـ «فيروز والرحابنة- مسرح الغريب والكنز والأعجوبة» الصادر في سنة 2006، تمثيل التحوُّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في لبنان من خلال تحليل مجموعةٍ من الأعمال الميلودراميَّة التي قدّموها بالاستناد إلى التراث والثقافة الشعبيَّين، وذلك أثناء مرحلةٍ انتقاليَّةٍ ما بين حربين أهليَّتين (1958-1975)؛ مرحلةٍ تميَّزت بتغلغل رأس المال الماليِّ والتجاريِّ في الريف، وموجات الهجرة الواسعة من الريف إلى المدن. وضمَّ كتاب «إن كان بدَّك تعشَق- كتاباتٌ في الثقافة الشعبيَّة»، الصادر في طبعتين (2004، و2019)، مجموعة مقالاتٍ تناولت فيها بعض جوانب الثقافة الشعبيَّة؛ على غرار دور نساء جبل لبنان في صناعة الحرير إبَّان القرن التاسع عشر، وطقوس الخصوبة والتضامن في رقصة الدبكة- الرقصة الشعبيَّة في لبنان والمشرق العربيّ، والاحتفالات الريفيَّة التقليديَّة في عيد البربارة (القديسة بربارة) وإعادة التمثيل الدمويّة لها في المدينة إبَّان الحرب الأهليَّة في سنة 1975؛ بالإضافة إلى مُعجمٍ وجيزٍ بحكم وأمثالٍ مأثورةٍ، ودراستها باعتبارها من مكوِّنات الحكمة والفلسفة الشعبيّتين.

في تسعينيَّات القرن المنصرم، ترجمتُ عن الإنكليزيَّة أيضاً كتاب غرامشي «في الوحدة الإيطاليَّة»، الصادر في سنة 2018.

٣- نحو مُعجمٍ نيوليبراليّ:

فيما تبقَّى من هذه المداخلة، أودُّ أن أشارككم بعض الأفكار عن عملي الآن مع عددٍ من الزملاء، ما بين جمع وتحليل معجمٍ بالمصطلحات النيوليبراليَّة التي تنتشر في كلٍّ من “الحسّ السليم” و”الثقافة الشعبيَّة”. ليست الدول، والطبقات الحاكمة، والسياسيُّون، والمثقّفون، من يسهم في ترويج هذه المصطلحات فحسب، بل أيضاً وعلى نحوٍ خاصٍّ كلٌّ من الهيئات الماليَّة والإنمائيَّة التابعة للأمم المتّحدة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، والإعلام، والمنظَّمات غير الحكوميَّة. وأودُّ عبر استخدام أمثلةٍ من الكلمات، والمصطلحات، والمفاهيم، التي تُخاطب (الدول النامية)، بيان أنَّ هنالك لغةً تمحو أخرى أقدَم منها، وتُبدِّل مصطلحاتها، وتحظرُ مفرداتٍ وتعمِّم أخرى، وتُغطِّي ظاهرةً اجتماعيَّة بثانية، وتخترع مفرداتٍ جديدة، وتُغيِّر معاني المفردات القديمة، … إلخ. والنتيجة هي أنَّنا لم نعد نتعامل مع كيفيَّة تسرُّب الأيديولوجيا إلى اللغة، مثلما حاول غرامشي أن يثبِت، وإنَّما مع تكوين لغةٍ جديدةٍ وفرضها. 

ثقافويَّة 

“يزعم دعاة البَعد حداثيَّة أنّهم معارضون لجميع أنواع السرديَّات الكبرى، إلَّا أنَّهم يرفعون إحدى تلك السرديَّات -الثقافة- إلى مصافي السرديَّة الكبرى” (إيغلتن 2007، ص. 17-18). عند نهاية الحرب الباردة، قدَّم صاموئيل هنتنغتن نموذجاً فكريَّا جديداً للعصر الجديد يستند إلى الحجَّة الآتية: لقد انتهت الماركسيَّة، ومعها ما سمَّاه بـ “التفسير الاقتصاديّ”، بانهيار الاتحِّاد السوفييتيّ؛ وانتهت مذاهب التحرُّر الوطنيِّ بحصول الشعوب المستعمَرة على استقلالها؛ ولم يتبقَّ سوى النموذج الفكريّ الممكن الوحيد: ألا وهو الثقافة. لقد ارتُقي بالثقافة إلى رتبة قيمةٍ عالميَّةٍ مُطلقة، برغم أنَّ السبب وراء كونها البديل الممكن الوحيد غير واضح. وتحوَّل هذا النموذج الفكريّ الجديد، الذي ينبغي أن نُسميَّه بـ “الثقافويَّة”، إلى “تفسيرٍ للحياة والظواهر المجتمعيَّة وسلوك البشر بناءً على جواهر ثابتة وهويات راسخة عادةً ما تكون منبثَّة في الدين واللغة”. علمًا بأن هذا التعريف السابق يتعارض كليَّاً مع ما تعنيه الثقافة عموماً؛ أي من إنتاج، ونمو، وتنوُّع، وابتكار، … إلخ. وعلى الرغم من ذلك، “ينسب الآباء المؤسِّسون للثقافويَّة … (ومن بينهم المستشرق برنارد لويس) إلى المجتمعات والجماعات جواهر ثقافيَّة وهويَّات متفرِّدة تستدعي دوماً … تمايزات وفوارق”.. تكمن المفارقة هُنا في أنَّ يبدأ باعتباره ثقافيَّاً يتحوَّل إلى جيو-سياسيّ، إنْ لم نقل جيوستراتيجيّ. نرى من خلال نظريَّة هنتنغتن عن “صراع الحضارات”، وعبر منظورٍ جيوسياسيّ، أنّ “الحضارات” التي ترتكز في الأصل على الدين تُعتبر تحدِّياً، وخطراً، في وجه الهيمنة الأميركيَّة أحاديَّة الجانب على العالم: الحضارة الكونفوشيَّة (التهديد الاقتصاديّ الصينيّ)، والمسيحيَّة الأرثوذكسيَّة (القوَّة العسكريَّة الروسيَّة)، والمسيحيَّة الكاثوليكيَّة (الهجرة الأميركيَّة اللاتينيَّة إلى الولايات المتّحدة)، والحضارة الإسلاميَّة (مُكافحة للأصوليَّة و”الإرهاب” الإسلامَّيَّين). وهنالك مفهومٌ آخر لهنتنغتن يتعلَّق بفرادة الغرب وتفوُّقه، وفي ذلك مقولته “الغرب والآخرون”؛ ومفادُها أنَّ الآخرين يفتقرون بالضرورة إلى الخصائص التي يتميَّز بها الغرب.

أوجه نقص ثقافيَّة/ إصلاحات اقتصاديَّة

في تسعينيَّات القرن الماضي، أنتج برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيّ مقاربةً جديدةً في التنمية تحت مسمَّى التنمية البشريَّة، والتي اعتُبِرت أكثر كفاءةً من مقياس الناتج المحليّ الإجماليّ. وفي سنة 2002، أطلَق البرنامج سلسلةً تقارير التنمية الإنسانيَّة العربيَّة التي حرَّرتها مجموعةٌ من الخبراء العرب؛ حدث ذلك بُعيد الهجوم الإرهابيِّ الذي استهدف برجي مركز التجارة العالميّ في نيويورك في التاسع من أيلول لسنة 2001، واحتلال كلٍّ من أفغانستان في تشرين الأوَّل لسنة 2001، والعراق في آذار لسنة 2003. كان الموضوع الرئيسيُّ لتلك التقارير السبعة تصوُّراً مفاده أنّ العالم العربيّ “متخلِّف” عن ركب التنمية، ويعاني من أوجه نقصٍ ثقافيَّة، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بحقوق الإنسان، والديمقراطيَّة، والوصول إلى مجتمع المعرفة، وتمكين النساء.

غنيٌّ عن البيان، من خلال منعطفٍ استشراقيّ كلاسيكيّ، تحوّل العالم العربيّ إلى كتلةٍ أساسيَّةٍ واحدة تضمُّ 370 مليون شخص بـ”ثقافة” واحدة. لكن ما يثير اهتمامنا في هذا السياق بصفةٍ خاصَّةٍ هو كيفيَّة انزلاق التقدُّم الثقافيّ إلى تعديلات هيكليَّةٍ وإصلاحات نيوليبراليَّة.

في شهر آذار من سنة 2004، نظَّم برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائي مع عددٍ من المنظَّمات العربيَّة والدوليَّة مؤتمراً في الإسكندريَّة حضَرَه قرابة 250 مثقَّفاً، بناءً على دعوةٍ من الرئيس المصريّ السابق حسني مبارك. واللافت في الميثاق المنبثق عن ذلك المؤتمر هو مدى توغُّله في النيوليبراليَّة لإصلاح أوجه النقص الثقافيَّة. فتحت شعار الالتحاق بركب “مجتمع المعرفة”، دعَت توصيات المؤتمر إلى مزيدٍ من “التعديلات الهيكليَّة” و”الإصلاحات” النيوليبراليَّة: على غرار دمج الاقتصادات العربيَّة في الاقتصاد العالميّ، وفتحها على الاستثمارات الأجنبيَّة المباشرة، واعتماد اقتصادات سوق حرَّة تنافسيَّة، ووضع القطاع الماليّ في صدارة الاقتصادات العربيَّة؛ وبناء مؤسَّسات مصرفيَّة ضخمة؛ وتحرير التجارة في الخدمات (لماذا في الخدمات فقط؟)؛ والتحوُّل إلى الخصخصة؛ وإنهاء الاحتكارات الحكوميَّة… إلخ. الجدير بالذكر أنَّه بعد أقلّ من عقدين من تطبيق هذه الإجراءات، يخبروننا أنَّ اقتصاداتنا أصبحَت “ريعيَّة”، وأنَّه ينبغي علينا بناء اقتصاداتٍ إنتاجيَّة!

أليس في كلِّ ما سبق مثالٌ واضحٌ عن مبدأ غرامشي الذي ينصّ على أنّ “القضايا السياسيَّة (والاقتصاديَّة) تصبح مستحيلة الحلِّ حين تتخفَّى بلبوسٍ ثقافيٍّ!”

عندما تتحوَّل القضايا كلُّها إلى ثقافةً، يغدو الإرهاب (بتخصيصٍ أو بدونه) مُنتَجاً ثقافيَّاً-دينيَّاً، ويصير حلُّه هو: تشجيع “الإسلام الوسطيّ”. وأمَّا بالنسبة إلى “تمكين” النساء (تحرير النساء، أو الحقوق المتساوية للنساء، في السابق)، فتتحول في مقررات مؤتمر الإسكندرية ذاته إلى “تغيير ثقافة النساء”؛ وكأنَّ لا حاجة إلى تغيير ثقافة الرجال! وأخيراً وليس آخراً، فإنَّ الطريق السريع الملكيَّ إلى “مجتمع المعرفة” هو: الترجمة (اللغة مرَّة أخرى!). وهُنا لا يتخلَّف العالم العربيّ تخلُّفاً حادَّاً عن بقيَّة العالم ببضع مئات من الترجمات سنويَّاً فحسب، وإنَّما هو متخلّف بالمقارنةً بعصره الذهبيِّ؛ حين أشرف خليفةٌ عباسيٌّ واحد على ترجمة مئة ألف كتاب. ولعلَّ الرقم الأخير بدا صاخباً، فقُلِّص في تقرير التنمية الإنسانيَّة العربيَّة اللاحق إلى عشرة آلاف كتاب!

رأسماليَّة متعذِّرٌ تحقيقها

مثلما هي الحال في اللوحة المعروفة “ليس هذا غليوناً” لرينينه مارغريت -حيثُ لا نرى فيها لوحةً فنيَّة، لكن تمثيلاً لغرضٍ على قطعة قماش- فإنَّه مطلوبٌ منَّا الإيمان بأنَّ كلَّ تجليَّات الرأسماليَّة ليس هي الرأسماليَّة. في المقام الأوَّل، المصطلح نفسه نادر الاستخدام، ويحلُّ محلَّه “الاقتصاد السياسيّ” أو “اقتصاد السوق”. والدول النامية تُعاني من أوجه نقصٍ ثقافيَّة، وبالقدر نفسه أيضاً من أوجه نقصٍ اقتصاديَّةٍ. لكن مختلف أشكال الرأسماليَّة المتوقَّع وجودها في الجنوب العالميّ ليست ناجمةً عن “الرأسماليَّة”، بل قد تعاني من “رأسماليَّة المحاسيب” (الأعمال الحرَّة في السوق التي تعرقلها السلطة السياسيَّة)، والباترومونياليَّة، والنيوباترومونياليَّة أو الإرثية والإرثية الجديدة (أي غلبة البُنى البدائيَّة التي تتحكَّم بالسلطة السياسيَّة)، والاقتصادات الريعيَّة (وهي ليسَت اقتصاداتٍ مُنتِجة)، والرأسماليَّة الاحتكاريَّة (التي تنتهك قوانين المنافسة). “هذا إقطاع!” هكذا تصيح بك مجموعةٌ غاضبة من أبرز الاقتصاديِّين الماليِّين اللبنانيِّين-الأميركيِّين الذين يبحثون بدقَّةٍ في الأزمة الماليَّة لبلادهم. بل حتَّى أنَّ وزير الماليَّة اليونانيّ السابق، يانيس فاروفاكيس، قد قدَّم المساعدة إلى هذا التيَّار الإنكاريّ إذ صاغ مصطلح “الإقطاع التكنولوجيّ” لوصف الرأسماليَّة المعاصرة (أو المتأخرة). ويبدو هُنا أيضاً أنَّ هذه ليست رأسماليَّة لأنَّ الأخيرة لا تنطبق إلَّا على اقتصاد السوق الحرّ التنافسيّ. بيد أنَّ السيِّد فاروفاكيس، بحكم معرفته بأنَّ الأسواق التنافسيَّة تُولِّدُ احتكاراتٍ ضخمة -على غرار مايكروسوفت، وأمازون، وجنرال إلكتريك، وإكسون موبيل، ونستله، … إلخ- يؤكِّد على جدارة حجَّته بالقول – توخيّا للدقة – إنَّ مايكروسوفت وأخواتها “تبتلع” السوق.

عدالةٌ اجتماعيَّة

في معناها المبكّر، اعتُبِرت العدالة الاجتماعيَّة حلَّاً للتفاوتات الاجتماعيَّة وتطبيقاً للحقِّ في المساواة. وأمَّا في المعجم النيوليبرالي الجديد، فقد جُرِّدت من كلِّ إشارةٍ إلى العدل، أو الإنصاف، أو المساواة في توزيع الثروة والدخل والموارد والخدمات العموميَّة وفرص الحياة والعمل، أو تقليص الفوارق الطبقيَّة والإقليميَّة، … إلخ. باختصار، أصبحَ معنى العدالة الاجتماعيَّة اليوم في غاية القرب من معنى نقيضها؛ أي، بحسب نانسي فريزر، الحقّ في الاختلاف، وخاصَّة أنَّها من أكثر المصطلحات استخداماً بمؤدَّى هُويَّاتيّ فيما يتعلَّق بالنسويَّة، والحقوق الجنسيَّة، ومناهضة العنصريَّة. اكتسبَت “العدالة الاجتماعيَّة” أيضاً جملةً من المعاني المستجدَّة، من بينها التعريف الآتي هو هذا الخليط العبثيّ الصادر عن الاتِّحاد الأوروبيّ: “تعزيز دور البرلمان، وحماية حقوق الإنسان، وتشجيع الحوار المجتمعيّ، وتعزيز برامج الوقاية من المخدِّرات والعلاج منها، وتمكين النساء، وإشراك الشباب”. 

طبقة

كانت كلمةُ الحروف الخمسة (بالانكليزية) -كما دعاها تشومسكي- محظورةً عمليَّاً إبَّان الحرب الباردة، قبل أن تعود لتحضر بصورةٍ متواضعة، لكن خادعة، في مرحلة لاحقة للنيوليبراليَّة. ومع ذلك، فقد أسهم ظهور طبقة واحدة في إخفاء الطبقات الأخرى والبنية الطبقيَّة بالمجمل. خلال حقبة الحرب الباردة، وحروب التحرُّر الوطنيّ والاجتماعيّ في القارَّات الثلاث، اعتمدَت هيئات الأمم المتّحدة على الإيراد كأداةٍ لقياس التراتب الاجتماعيّ. وبانتصار العولمة والنيوليبراليَّة، منذ ثمانينيَّات القرن المنصرم، أصبحَ الاستهلاك أداة القياس. في هذا السياق، تُعتبر الدراسة التي أجرتها الإسكوا (لجنة الأمم المتَّحدة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لغربي آسيا) في سنة 2014 ونُشرت تحت عنوان ” الطبقة الوسطى في البلدان العربية: قياسها ودورها في التغيير” مثالاً واضحاً عن هذا التحوُّل. هنالك في أسفل الهرم الفقراء (الذين يستهلكون 1-4 دولار أميركيّ في اليوم الواحد؛ أو 12 دولار أميركيّ في اليوم الواحد لنظرائهم في الولايات المتَّحدة)، وفي قمَّته الميسورون الذين تتجاوز دخلهم السنويَّ 40 ألف دولار أميركيّ. وقد استفسر توماس بيكيتي، مؤلِّفُ كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” الصادر في سنة 2014، عن السبب في كلٍّ من تواضُع الأرقام الظاهرة في قمَّة الهرم، أو الحديث عن “اليسر” وليس “الثراء”، فحصل على الجواب الآتي: “لئلَّا نشِّجع على الحسد الاجتماعيّ”.

تتموضع “الطبقة الوسطى” ما بين المجموعتين سالفتي الذكر، وبمقدورك الانضمام إليها إذا رفعت حجم استهلاكِك إلى ما يزيد عن أربعة دولارات أميركيَّة في اليوم الواحد (خارج الولايات المتَّحدة) -وهو مُعدَّل قريب من الحدِّ الأدنى للأجور في لبنان ما قبل 2019- مقابل ألَّا يتجاوز دخلك عتبة الأربعين ألف دولار أميركيّ سنويَّا.

عقب محاولاتٍ فاشلةٍ “للقضاء” على الفقر بحلول سنة 2015، وفقاً لبرنامج الأهداف الإنمائيَّة الألفيَّة، تُقلِّصَ حجم طموحات المشروع عدَّة مرَّاتٍ من “الاستئصال” إلى “الاستهداف” و”التقليص”، قبل الاستقرار على توفير “الحماية الاجتماعيَّة”. لقد حقَّقت إعادة اختراع “الطبقة الوسطى”، بشروط انضمامٍ مُتدنيِّة على النحو السابق، فائدةً إحصائيَّةً عظيمة؛ حيثُ ساعدَت في تضخيم أهميَّة النتائج الهزيلة للمعركة العالميِّة ضدَّ الفقر. وهكذا أصبحَ الوصول إلى الطبقة الوسطى، بتسعيرة أربعة دولارات، ولعاً مزدوجاً، ووعداً مزدوجاً أيضاً: التحرُّر من الفقر من جهة، والترقية اجتماعيَّة للانضمام إلى المجتمع الاستهلاكيّ من جهةٍ أخرى. وليس من المستغرب إذاً أن تستثمر هيئات الأمم المتّحدة جهوداً وأموالاً هائلة في دفع كلٍّ من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة نحو الوصول إلى مرتبة “قارَّة الطبقة الوسطى!” ويبدو أنَّ آسيا في صدارة هذا السباق، حتَّى الآن.

فساد

بلغ الفساد أبعاداً هائلةً في ظلِّ النيوليبراليَّة بقدر ما استُخدِم للتستُّر على مشكلاتٍ اقتصاديَّةٍ-اجتماعيَّة أخرى (الاستغلال محظور آخر، على سبيل المثال)، وللمفارقة، في الضغط من أجل تطبيق المزيد من التدابير النيوليبراليَّة! هي حلقةٌ مُغلقة: ينصبُّ التركيز على “الفاسِدين”-أي السياسيِّين-، في حين يظلُّ “المفسِدون”-رجال الأعمال- خارج دائرة الضوء إلَّا من توصيَّاتٍ تتعلَّق بـ”تعزيز أخلاقيات الأعمال”. ومع أنَّ “تعارُض المصالح” هو إجراءٌ قائمٌ لمكافحة الفساد في القطاع الخاصّ، إلّا أنَّه من النادر ما يظهر-إن ظهر- ضمن تدابير مكافحة فساد الدول والحكومات الصادرة عن البنك الدوليّ. وأمَّا التدابير النمطيَّة الموجَّهة “للبلدان النامية”، فهي “الإصلاحات” النيوليبراليَّة نفسها بغية تحرير قوى السوق: ميزانيَّات صغيرة، وتقليص حجم الخدمة المدنيَّة، وإنهاء الدعم الحكوميّ للسلع الأساسيَّة، وتفكيك القطاعات الخاصَّة وخصخصتها، … إلخ. وهكذا يحار المرء في هُويَّة ضحايا الفساد في الأصل. 

مناصرة/ تضامن

بينما كانت قطاعاتٌ واسعةٌ من سكَّان العالم تناضل من أجل الحقوق، ومَطالب النقابات العماليَّة، وأهداف التحرُّر الوطنيّ والاجتماعيّ، عنى “التضامن” آصرةً من الوحدة والأخوَّة والمساعدة المتبادلة ضدَّ خصمٍ مشتركٍ وفي سبيل قضيَّةٍ مشتركة. وأمَّا “المناصرة”، التي حلَّت تدريجيَّاً محلَّ مفردة “التضامن”، فإنَّها تنطوي الآن على أنشطة للمجموعات، والجمعيَّات، ومنظَّمات المجتمع المدنيّ، … إلخ، تهدف إلى تأييد قضيَّة، أو مطلَب، أو حقوق، قطاعات سكَّانيَّة غير أنفسهم، والضغط من أجلها؛ وعادةً ما تكون أقليَّات، مهاجرين، شباب، مجموعات مُهمَّشة، وما إلى ذلك. 

ناشط/ مُناضِل

“مُناضِل” مُصطلحٌ محوَّرٌ آخر؛ إنَّ المقصود بالمناضِل هو الشخص الذي ينشط في دعم قضيَّة، أو هدفٍ أو برنامج، من الحقوق والمطالب، وهو يحارب في سبيل ذلك السلطات أو المؤسَّسات، وقد يلجأ حتَّى إلى حمل السلاح في وجه الاحتلال الأجنبيّ. اليوم، يحلُّ “الناشط” المحُايد محلَّ المناضل، وهذا الأوَّل إنسانٌ فاعل، بغضِّ النظر عمَّا تفعله أو يفعله، أو الاتِّجاه التي تسير فيه أفعاله/ـا والأهداف الذي تفضي هذه الأفعال إليها. فكلمة السرِّ هُنا هي النشاط؛ هذه هي القيمة بحدِّ ذاتها. وأمَّا مُصطلح “مُناضل” اليوم، فحُمِّل بدلالاتٍ سلبيَّة، ويشير إلى المقاتل المسلَّح جِزافاً سواءٌ أكان جهاديَّاً إرهابيَّاً يتبع لتنظيم الدولة الإسلاميَّة أو مُقاوماً فلسطينيَّاً في وجه الاحتلال. في حين لا يزال يُطلَق على المواطنين الإسرائيليِّين المُسلَّحين الذين يصيحون “الموت للعرب”-وينجحون في قتل البعض- لقب “مستوطنين” بصفةٍ رسميَّة، وهذا بحدِّ ذاته لقبٌ عجيبٌ لمواطني دولةٍ يعتبرون محتلّين غير شرعيِّين لأرض شعب آخر!

 

أحاول أن أتخيَّل ما سيتعلَّمُه حفيدي عن تشي غيفارا…

ربَّما سيكون شيئاً على غرار الآتي:

إرنستو غيفارا (الشهير بـ تشي): هو ناشطٌ اجتماعيٌّ من الأرجنتين، تقلَّدَ عدداً من المناصب الحكوميَّة في كوبا ما بعد باتيستا، وقُتِل في حادثة درَّاجةٍ ناريَّةٍ في بوليفيا.

وعلى الأرجح لن يتمتَّع حفيدي بتفضيلٍ جماليٍّ عاطفيّ، أو يحتفيَ بتقدير رمزيَّة صورة نزول تشي عن الصليب، لأنَّها ستكون محظورةً بموجب قواعد الصوابيَّة السياسيَّة الصارمة.

The post قراءة غرامشي في العصر النيوليبراليّ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
العلاقة بين المدينة والريف في النهضة القومية وفي البنيان القومي (أنطونيو غرامشي) https://rommanmag.com/archives/19038 Tue, 26 Dec 2017 08:06:43 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%8a%d9%81-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%b6%d8%a9-%d8%a7/ الفصل الثالث من كتاب «في الوحدة القومية الإيطالية» لأنطونيو غرامشي، ترجمه فواز طرابلسي وصدر عن منشورات المتوسط. لا تجري العلاقات بين سكان الريف وسكان المدن على مجرى واحد مبسّط، خاصة في ايطاليا. لذا يتوجَب علينا ان نثبَت ما الذي نعنيه بـ”مديني” و ما الذي نعنيه بـ”ريفي” في المدينة الحديثة. كذلك يتوجب علينا ان نعيَن مختلف […]

The post العلاقة بين المدينة والريف في النهضة القومية وفي البنيان القومي (أنطونيو غرامشي) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الفصل الثالث من كتاب «في الوحدة القومية الإيطالية» لأنطونيو غرامشي، ترجمه فواز طرابلسي وصدر عن منشورات المتوسط.

لا تجري العلاقات بين سكان الريف وسكان المدن على مجرى واحد مبسّط، خاصة في ايطاليا. لذا يتوجَب علينا ان نثبَت ما الذي نعنيه بـ”مديني” و ما الذي نعنيه بـ”ريفي” في المدينة الحديثة. كذلك يتوجب علينا ان نعيَن مختلف التركيبات الناجمة عن حقيقة ان أشكالاً مفوَتة ومتخلَفة لا تزال مستمرة في التركيب العام للسكان، اذا ما درسناه – التركيب – من منظار درجة كثافته النسبية. فنعثر احيانا ًعلى مفارقة ان النمط الريفي هو اكثر تقدمية من النمط الذي يدعي الإنتساب للمدينة.

تكون المدينة “الصناعية” اكثر تقدمية دوماً من الريف الذي يرتبط عضوياً بها. لكن ليست كل مدن ايطاليا مدناً “صناعية”، بل ان المدن الصناعية النموذجية بينها قليلة جداً. هل ان المدن الإيطالية “المائة” مدنٌ “صناعية”؟(١) هل ان احتشاد السكان في مراكز غير ريفية، بنسبة الضعف ما هي عليه الحال في فرنسا، مثلاً دليل على ان التطور الصناعي في ايطاليا يوازي ضعف التطور الصناعي في فرنسا؟

الواقع ان “التمدن” في ايطاليا لا يمكن اعتباره ظاهرة صافية، ولا “مميزة” من ظواهر التطور الرأسمالي او حتى من تطور الصناعة الكبيرة. فنابولي التي كانت لفترة طويلة اكبر مدن ايطاليا والتي لا تزال من اكبرها، ليست مدينة صناعية، ولا هو الحال كذلك بالنسبة الى لروما، التي هي الآن أكبر المدن الإيطالية قاطبة. على انه في هاتين المدينتين من النمط القرأوسطي توجد ايضاً نوى سكانية صلبة من النمط المديني الحديث. ولكن ما هم موقعها النسبي على وجه التحديد؟ انها مغمورة ومقهورة ومسحوقة من قبل الطرف الآخر، الطرف الذي لا ينتمي الى النمط الحديث والذي تتشكل منه الأكثرية السكانية. تلك هي مفارقة “مدن الصمت”(٢).

توجد في هذا النمط من المدن، توجد وسط كافة الفئات الاجتماعية، وحدة/عصبية ايديولوجية مدينية ضد الريف، وحدة لا يشذ عنها حتى أحدث النوى من حيث الوظيفة المدنية (ومثل هذه النوى موجود). يسود حقد وازدراء تجاه “الفلاح” وتنتظم جبهة مشتركة ضمنية ضد مطالب الريف – وهي مطالب إن تحققت تجعل وجود مثل تلك المدن مستحيلاً. وفي المقابل يسود الريف نفور تجاه المدينة بكافة فئاتها مجتمعة، ليساقل تجدراً ولا اقل اتقاداً، وإن يكن حقداً بالسليقة generic. والواقع انها علاقة غاية في التعقيد، تظهر باشكال قد تبدو متناقضة على السطح، وقد اكتسبت أهمية حاسمة ابان الصراعات المرافقة للنهضة القومية، عندما بدت على نحو اكثر اطلاقاً وفاعلية مما هي عليه في ايامنا هذه.

يمكن دراسة اول وابرز مثال على هذه التناقضات الظاهرية خلال حقبة الجمهورية البارثينوبية سنة ١٧٩٩(٣) حيث نجح الريف المنضوي في عصابات الكاردينال روفّو في سحق المدينة سحقاً لسبب مزدوج. فالجمهورية في طورها الأرستقراطي الأول وفي طورها البرجوازي التالي كانت قد اهملت الريف إهمالاً كاملاً. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالجمهورية، إذ فرضت الحَجْر على قيام إنتفاضة من النمط اليعقوبي تصادر ممتلكات الملاك العقاريين، الذين كانوا ينفقون مداخيلهم الزراعية في نابولي، حارمة بذلك سواد السكان من موارد دخلهم ومعاشهم، ان تلك  الجمهورية لم تحصد غير اللامبالاة من سكان نابولي، إن لم نقل انها حصدت عداءهم الصريح.

بالإضافة الى ذلك فخلال النهضة القومية، ولد جنين العلاقة التاريخية بين الشمال والجنوب، وهي علاقة شبيهة بالعلاقة بين مدينة كبيرة وريف شاسع. ولما لم تكن تلك العلاقة علاقة عضوية طبيعية بين مقاطعة ريفية وعاصمة صناعية، وانما قامت بين مساحتين شاسعتين تتميزان بتقاليد مدنية وثقافية شديدة الإختلاف، فقد احتدمت من جراء ذلك ملامح وعناصر الإصطراع بين القوميات. ومن أبرز وقائع فترة النهضة القومية ان الجنوب كان السبّاق الى المبادرة دوماً في الأزمات السياسية: نابولي سنة ١٧٩٩، پاليرمو ١٨٢١-١٨٢٠، مايسّينا وصقلية سنة ١٨٤٧، وصقلية ونابولي ١٨٤٨-١٨٤٧. اما الواقعة البارزة الأخرى فهي الطابع الممّيز الذي اكتسبته كل من هذه الحركات في ايطاليا الوسطى، وهي الأشبه بمحطة بين الشمال الجنوب. فقد استمرت فترة المبادرة الشعبية (او المبادرة الشعبية النسبية) من سنة ١٨١٥ الى سنة ١٨٤٩ وبلغت ذروتها في توسكانا والدول البابوية (ينبغي النظر دوماً الى رومانيا ولونيجيانا على انهما تنتميان الى الوسط الإيطالي). وقد تكررت هذه المميزات لاحقاً: أحداث حزيران (يونيو) ١٨١٤ التي بلغت ذروتها في بعض مناطق الوسط (رومانيا ومارتشي) والأزمة التي نشبت في صقلية سنة ١٨٩٣ ثم انتشرت في الجنوب ولونيجيانا وبلغت ذروتها في ميلانو سنة ١٨٩٨؛ و في سنة ١٩١٩ كان اجتياح اراضي الجنوب وصقلية؛ وفي سنة ١٩٢٠ قامت حركة احتلال المصانع في الشمال(٤). ان هذا التزامن والتناغم النسبيين انما يؤكدان على انه كانت توجد في ايطاليا، منذ العام ١٨١٥، بنية سياسية – اقتصادية متجانسة مثلما يؤكد ان على ان القطاع الأضعف والأكثر هامشية كان اول القطاعات مبادرة زمن الأزمات.

يمكن دراسة علاقة المدينة والريف، فيما يخص علاقة الشمال والجنوب، من خلال التغاير في مفاهيمها الثقافية ومواقفهما الذهنية ايضاً. سبقت الإشارة الى ان كروتشي وفورتوناتو قد تزعما، في مطلع القرن، حركة ثقافية عبَرت عن نفسها من خلال مجابهتها، بهذا الشكل او ذاك، للحركة الثقافية في الشمال (المثالية في مقابل الوضعية؛ والكلاسيكية في مقابل النزعة المستقبلية).

وتجدر الإشارة الى ان صقلية قد تميزت عن الجنوب، بما في ذلك على الصعيد الثقافي. فاذا كان يجوز اعتبار كريسپي ممثلاً للنزعة الصناعية الشمالية، فإن پيراندللو يبقى الأقرب الى تمثيل المدرسة المستقبلية. ثم ان جنتيلي والمدرسة الراهنية actualism اقرب الى الحركة المستقبلية هو ايضاً (هذا اذا فهمنا المستقبلية بمعناها الأشمل بما هي حركة معارضة للمدرسة الكلاسيكية التقليدية، اي بما هي لون من الوان الرومنطيقية المعاصرة ٥).

يختلف مثقفو الشمال عن مثقفي الجنوب من حيث التكوين والإنحدار (الإجتماعي). فنمط المثقف السائد في الجنوب لا يزال المحامي المخادع الذي يتوسط بين جماهير الفلاحين من جهة وملاك الأرض وجهاز الدولة من جهة أخرى. في حين ان النمط السائد في الشمال هو “التقني” في المصنع الذي يلعب دور صلة الوصل بين جماهير العمال وإدارة المصنع. اما الصلة بالدولة فكانت من نصيب التنظيمات النقابية والحزبية التي تقودها فئة من المثقفين جديدة كل الجدة (فالنقابية الحكومية الراهنة – (٦) التي ادت الى الإنتشار المنهجي لهذا النمط الإجتماعي على النطاق القومي بشكل أشد تماسكاً وفاعلية مما كان ممكناً ايام النقابات القديمة – تشكَل، بمعنى ما، اداة توحيد اخلاقي – سياسي).

ويمكن دراسة هذه العلاقة المركَبة بين المدينة والريف من خلال البرامج السياسية العامة التي كانت تسعى لفرض نفسها قبل ان يسيطر الفاشيون على الحكم. فقد كان برنامج كل من جيوليتي(٧) و الديمقراطيين الليبراليين يهدف الى إنشاء جبهة “مدينية” (من الصناعيين والعمال) في الشمال تشكل ركيزة لنظام من الحماية الإقتصادية، تعزَز الإقتصاد الشمالي والهيمنة الشمالية في آن معاً.

وهكذا تقلَص دور الجنوب الى سوق شبه كولونيالية، تشكل مصدراً للمدخرات والضرائب، جنوب يجري تأديبه بإجراءات من نوعين: إما بالإجراءات البوليسية الصرفة، اي القمع بلا هوادة لكل حركة شعبية، وما يتخلله من مجازر دموية ضد الفلاحين؛ و إما ان يتم التأديب بالإجراءات السياسية – البوليسية، اي التنفيعات الشخصية لشريحة من “المثقفين”، على شكل الوظائف في الإدارة الحكومية، وإلقاء الحبل على غاربه لنهب الإدارة المحلية بلا عقاب او محاسبة، والتطبيق المتسامح للتشريعات الإكليركية خلافاً لما هو الحال في سائر أنحاء ايطاليا، ما يترك مساحات كبيرة من الأوقاف في يد رجال الدين، الخ.. وهذا النوع الثاني يعني الإستيعاب “الفردي” للعناصر الجنوبية الأشد حيوية في جهاز الدولة القائد، حيث يتمتعون بامتيازات “قانونية” و بيرقراطية خاصة، الخ.

وهكذا فان الشريحة الإجتماعية التي كانت مرشحة لتنظيم وتقنين التذمر الجنوبي الدائم، تحولت بدلاً من ذلك الى اداة للسياسة الشمالية، الى نوع من جهاز شرطة احتياطي. ولم ينجح تذمر الجنوبيين في ن يعبَر عن نفسه بالشكل السياسي المألوف لإفتقاده الى القيادة. فاذا بتجليات ذاك التذمر، التي لا تعبَر عن نفسها الا على شاكلة اضطرابات فوضوية، يجري تقديمها “كقضايا من اختصاص الشرطة” و المحاكم. و الحقيقة ان امثال كروتشي وفورتوناتو، في مفهومهم الصنمي للوحدة (القومية) قد شجعوا على هذا النمط من الفساد وإن يكن على نموٍ سلبي و غير مباشر.

ثمت عامل سياسي – أخلاقي لا يجوز إغفاله هو حملة التهويل التي شنَت ضد كل توكيد، مهما كان موضوعياً، على وجود اسباب للنزاع بين الشمال والجنوب. هنا يمكننا ان نستذكر خلاصة التحقيق الذي اجراه بايس – سييرا عن ساردينيا بعد الأزمة التجارية لفترة ١٩٠٠-١٨٩٠، و ايضاً التهمة السالفة الذكر التي اطلقها كريسبي ضد فاشيي صقلية بانهم عملاء للإنكليز. و قد كان هذا الشكل من النزعة الوحدوية المهووسة سائداً بين مثقفي صقلية بنوع خاص (نتيجة الضغط الجبار الذي كان يمارسه الفلاحون على اراضي النبلاء وايضاً بسبب شعبية كريسپي المحلية) حتى انها تجلت اخيراً في الهجوم الذي شنه ناتولي ضد كروتشي بسبب إشارة لا ضرر فيها الى نزعة الإنفصال الصقلية بالنسبة لمملكة ناپولي.

تضافرَ عاملان على “إرباك” برنامج جيوليتي:

١) بروز الجناح المتصلب في الحزب الإشتراكي بقيادة موسوليني وسعيه الى مغازلة الجنوبيين (التبادل الإقتصادي الحر، انتخابات مولفاتا، الخ.) الأمر الذي قوَض الجبهة  المدينية الشمالية (٨)؛

٢) إقرار مبدأ الإقتراع العام، الذي وسَع القاعدة الإنتخابية للجنوب بطريقة لا سابق لها، وتقييد الرشوة الفردية (والحقّ ان زيادة عدد الناخبين قد صَعَب من عملية الرشوة، من هنا بروز ظاهرة القبضايات السياسيين).

لجأ جيوليتي، رداً على ذلك، الى تغيير تحالفاته، فأحل “معاهدة جنتيلوني” محل “الجبهة المدينية” (او بالأحرى واجه الأولى بالثانية، من اجل الحيلولة دون الإنهيار النهائي لجبهته العتيدة. (٩) و بفضل هذه المعاهدة تكونت جبهة جديدة بين الصناعة الشمالية ومزارعي الريف “العضوي العادي” (و الواقع ان القوى الكاثوليكية الإنتخابية كانت تتطابق جغرافياً مع قوى الإشتراكيين، اي انها كانت منتشرة في المناطق الشمالية والوسطى). وقد نالت الجبهة الجديدة دعماً إضافياً من أهالي الجنوب، على الأقل بما يكفيها لأن “تعدَل”، على نحو مقبول، من نتائج توسيع جمهور الناخبين.

اما البرنامج الآخر، اي الموقف السياسي العام الآخر، فهو ذلك الذي حملته صحيفة “كورييري ديلا سييرا” و رئيس تحريرها لويجي البرتيني(١٠) و يمكن النظر اليه على انه حصيلة تحالف بين شريحة من صناعيي الشمال (بقيادة اصحاب مصانع النسيج و القطن و الحرير، و كانوا من المصدَرين اي من دعاة التبادل الحر) وبين الجبهة الجنوبية الريفية. و قد دعمت ال”كورييري” سالفيميني ضد جيوليتي في انتخابات مولفينا سنة ١٩١٣ كما دعمت وزارة سالاندرا و بعدها وزارة نيتي،(١١) اي انها دعمت اول حكومتين شكلهما الساسة الجنوبيون(١٢).

وكان توسيع حق الإقتراع العام سنة ١٩١٣ قد ارهص باولى معالم تلك الظاهرة التي سوف تبلغ ذروتها خلال فترة ١٩٢٢-١٩٢١-١٩٢٠ كنتيجة للخبرة السياسية- التنظيمية التي اكتسبتها الجماهير الفلاحية خلال الحرب، اي الإنهيار النسبي للكتلة الريفية الجنوبية، وانفصال الفلاحين عن كبار الإقطاعيين بقيادة قطاع من المثقفين كانوا ضباطاً خلال الحرب. و هكذا ولدت الدعوة الساردينية (سارديزمو) (١٣) و قام الحزب الإصلاحي الصقلَّي (او ما يسمى بكتلة بونومي والنواب الصقليين الإثنين وعشرين) (١٤) بجناحها الإنفصالي المتطرف الذي تمثله “سيسيليا نووفا” (صقلية الجديدة).

وكذلك نشأت في الجنوب مجموعة “رينوفامِنتو”- التجديد – من قدامى المحاربين التي حاولت ان تؤسس احزاب عمل إقليمية على غرار الحزب السارديني. في هذه الحركة، تضاءلت إستقلالية الجماهير الفلاحية تدريجياً، من ساردينيا الى صقلية مروراً بالجنوب، تبعاً للقوة المنظمة و السمعة و الضغط الإجتماعي الذي كان يمارسه الملاك العقاريون. في صقلية، بلغ هؤلاء الذروة في التنظيم و الوحدة، اما في ساردينيا فكانوا اقل شأناً نسبياً. ان الإستقلال النسبي لشرائح المثقفين المعنيين يتغيَر وفق منطق مماثل- اعني، طبعاً، وفق تناسب عكسي مع الإستقلال النسبي لملاك الأراضي(١٥).

من اجل تحليل الوظيفة الإجتماعية- السياسية للمثقفين، من الضروري ان نستعيد وان نتفحص موقفهم النفساني تجاه الطبقات الأساسية التي يتوسطون بينها في شتى الميادين (١٦). هل كان موقفهم موقفاً “ابوياً” تجاه الطبقات الوظيفية؟ ام كانوا يحسبون انفسهم تعبيراً عضوياً عنها؟ و هل كان لهم موقف “تبعي” من الطبقات الحاكمة، ام كانوا يحسبون انفسهم قادة لتلك الطبقات و جزاء عضوياً منها؟    

خلال النهضة القومية، كان لحزب العمل موقف ابوي، فلم يحرز غير نجاح محدود جداً في إقامة الصلة بين الجماهير الشعبية العريضة و بين الدولة. فلم تكن النزعة التحويلية (الترانسفورميزمو) غير التعبير البرلماني عن استيعاب حزب العمل، بطريقة جزئية، من قبل “المعتدلين” و عن كون الجماهير الشعبية محرومة من القيادة بدلاً من ان تكون مستوعبة في حضن الدولة الجديدة.

ان العلاقة بين المدينة و الريف هي نقطة الإنطلاق الضرورية لدراسة القوى الدافعة الأساسية للتاريخ الإيطالي،  للنقاط البرنامجية التي يجب على ضوئها ان نعالج و نحاكم سياسات حزب العمل خلال النهضة القومية. و الحصيلة اقرب الى هذه الترسيمة المبسطة:

١. القوة المدينية الشمالية؛ ٢. القوة الريفية الجنوبية؛ ٣. القوة الريفية الشمالية الوسطى؛٤. القوة الريفية لصقلية؛ ٥. قوة ساردينيا.

حافظت القوة الأولى على وظيفتها كـ”قاطرة” في كل الأحوال، فكان المطلوب بالتالي البحث عن “أجدى” تركيبة لـ”قطار” يتقدم عبر التاريخ باقصى سرعة ممكنة. في تلك الأثناء، كانت القوة الأولى تعاني اصلاً من مشكلاتها الداخلية الخاصة-، المشكلات التنظيمية، كيفية مفصلة عناصر تماسكها الداخلي ومشكلة قيادتها السياسية- العسكرية (هيمنة پييدمونت، العلاقات بين ميلانو و تورينو، الخ.). على ان الثابت في الأمر ان هذه القوة بلغت درجة من الوحدة والجاهزية القتالية، بحيث انها اخذت تمارس آلياً وظيفة قيادية “غير مباشرة” على القوة الأخرى.

ثم يبدو ان الموقف المتصلب الذي اتخذته تلك القوة في النضال ضد السيطرة الأجنبية، على امتداد مراحل النهضة القومية المختلفة، قد ادى الى تحريك القوى التقدمية الجنوبية. من هنا كان التزامن النسبي، لا التطابق الزمني، الذي نشأ بين الحركات في سنوات ١٨٢١-١٨٢٠ و ١٨٣١ و ١٨٤٨(١٧). و في سنة ١٨٦٠-١٨٥٩ بلغت هذه “الآلية” التاريخية السياسية ذروة فاعليتها، حين بادر الشمال الى إطلاق النضال، فانحاز اليه الوسط سلمياً (او بطريقة شبه سلمية) فيما انهارت دولة البوربون في الجنوب تحت وطأة إندفاعة قوات غاريبالدي (المحدودة الزخم). حصل ذلك لأن حزب العمل (غاريبالدي) تدخّل في الوقت المناسب، بعد ان كان “المعتدلون” (كافور) قد نظموا الشمال والوسط، اي ان تنسيق التزامن النسبي لم يكن من فعل قيادة واحدة (“المعتدلون” و حزب العمل”)، بل كان من فعل التعاون (الآلي) بين قيادتين اثنتين نجحتا في تحقيق التكامل والإندماج بينهما.

لذا كان على القوة الأولى ان تعالج مشكلة استقطاب القوى المدينية التابعة للقطاعات القومية الأخرى حولها وخصوصاً في الجنوب. كانت تلك هي المشكلة الأصعب، تحف بها التناقضات والتيارات الجوفية التي تطلق سيولاً من الأهواء (و شكَل ما سمي بثورة ١٨٧٦ البرلمانية الحل الهزلي لتلك التناقضات) (١٨). على ان حلَ تلك التناقضات، لهذا السبب بالذات، امسي واحداً من محكات تطور الأمة.

ان النوى المدينية منسجمة إجتماعياً، لذا يتعين ان تحتل مواقع على قدم المساواة التامة فيما بينها. كان ذلك صحيحاً من الناحية النظرية، اما من الناحية التاريخية، فكانت المسألة مطروحة على نحو مختلف. فمن البيَن ان القوى المدينية الشمالية كانت على رأس قطاعها القومي، على ان هذا لم يكن يصح على القوى الجنوبية، او انه لم يكن يصح بالمقدار ذاته من الصحة. لذا كان على القوى المدينية في الشمال ان تقنع نظيراتها الجنوبيات بأن وظيفتها القيادية ينبغي ان تقتصر على تأمين “زعامة” الشمال على الجنوب في اطار العلاقة العامة بين المدينة والريف. بعبارة أخرى، فإن الوظيفة القيادية للقوى المدينية الجنوبية لم تكن إلا لحظة ملحقة من لحظات الوظيفة القيادية الأشمل التي يمارسها الشمال.

تولدت اعنف التناقضات عن مسلسل الوقائع هذا. فلم يكن يُنظر الى القوة المدينية الجنوبية كقوة بذاتها، مستقلة عن القوة الشمالية. على أن طرح المسألة على هذا النحو كان سيعني التمهيد سلفاً لإحداث شدخٍ “قومي” غير قابل للالتآم – شدخ من الخطورة بحيث يتعذَر علاجه و لو بحل فيدرالي. و كان سيعني ايضاً التوكيد على وجود أمم مختلفة، لم يتحقق فيما بينها ما يتعدى التحالف الدبلوماسي – العسكري ضد عدو مشترك هو النمسا. (وهذا يعني باختصار ان عنصر الإجتماع و التضامن لا يتعدى وجود عدو “مشترك”). والحقيقة ان بعض “وجوه” المسألة القومية كانت متوافرة، ليس كلها ولا حتى الجوهري منها. وأخطر تلك الوجوه هو الموقع الضعيف للقوى المدينية الجنوبية في علاقتها بالقوى الريفية، وهي علاقة مختلة، كانت تتخذ احياناً شكل إخضاع المدينة عملياً للريف.

والحال ان الصلات الوثيقة بين القوى المدينية الشمالية والقوى المدينية الجنوبية منحت الأخيرة القوة الناجمة عن تمثّل هيبة الأولى، ومكّنتها من مساعدة القوى المدينية الجنوبية على نيل استقلالها وعلى اكتساب الوعي لوظيفتها القيادية التاريخية على نحو “عياني” وليس فقط على نحو نظري مجرد، مقترحةً عليها الحلول اللازمة للمشكلات الإقليمية الكبرى. فكان طبيعياً ان تنشأ في الجنوب كتلٌ قوية معارضة للوحدة. وفي كل الأحوال، وقع العبء الأكبرفي حسم الوضع على عاتق القوى المدينية الشمالية التي لم يكن عليها ان تقنع “الأخوة” في الجنوب وحسب، و لكن ان تباشر بإقناع نفسها ايضاً بذلك النظام السياسي بما هو كيان قائم بذاته. بناء عليه، انطرحت المسألة عملياً بما هي مسألة وجود مركز قوي للقيادة السياسية، إضطرَت الشخصيات القوية والمتمتعة بالشعبية من الجنوب والجزر على التعاون معه. وهكذا فمسألة تحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمسألة تحقيق التماسك والتضامن بين كافة القوى المدينية على الصعيد القومي، لا بل ان مسألة تحقيق التماسك والتضامن بين تلك القوى استوعب مسألة تحقيق الوحدة (١٩).

بدورها طرحت القوى الريفية في الشمال والوسط سلسلة من القضايا كان على القوة المدينية الشمالية ان تعالجها لكي تستطيع إقامة علاقة طبيعية بين المدينة والريف، ولكي تستبعد التدخلات والتأثيرات ذات المصدر الخارجي في عملية تطور الدولة الجديدة.

ينبغي التمييز بين تيارين داخل تلك القوى الريفية: التيار العلماني، و التيار الإكليركي- النمساوي. كان التيار الإكليركي هو الأقوى في لومبارديا-ڤينيتو كما في توسكانا و جزء من الدولة البابوية. واما القوة العلمانية فكانت الأقوى في پييدمونت ولكن تأثيرها كان متفاوتاً في سائر المناطق الإيطالية ايضاً – ليس فقط في مناطق الوصاية legations البابوية (وبخاصة منطقة رومانيا) بل وايضاً في مناطق أخرى، بما فيها الجنوب نفسه والجُزُر. ولو ان القوى المدينية الشمالية نجحت في حل تلك القضايا المباشرة، لكانت لعبت دور الريادة في حل القضايا المشابهة على الصعيد القومي كله. غير ان حزب العمل فشل فشلاً ذريعاً في التصدي لتلك المجموعة من القضايا كلها والحقيقة انه إقتصرعلى تحويل مسألة الجمعية التأسيسية – التي لا تعدو كونها الإطار السياسي حيث يمكن ان تتركّز فيه   تلك القضايا ويوجد لها حلٌ قانوني – الى مسألة مبدأية والى نقطة جوهرية في برنامجه. على لا يسعنا القول إن “الحزب المعتدل” قد اخفق، طالما ان اهدافه كانت التوسيع العضوي لپييدمونت وتجنيد الجنود في جيش پييدمونت بدلاً من تعميم الإنتفاضات او نشر جيوش الأنصار التي يقودها غاريبالدي على نطاق واسع جداً.

لماذا لم يطرح حزب العمل المسألة الزراعية طرحاً شاملاً؟ كان بديهياً أن لا يطرحها “المعتدلون”: ذلك ان مقاربتهم للمسألة القومية كانت تتطلب تكتيل كافة القوى اليمينية – بما فيها طبقات كبار مالكي الأراضي – حول پييدمونت بما هي دولة وبما هي جيش. واذا بتهديد النمسا بتحل المسألة الزراعية لصالح الفلاحين – وهو تهديد جرى تنفيذه في غاليسيا ضد النبلاء البولونيين ولصالح الفلاحين الروثينيين (٢٠)- ادى الى إرباك جميع الإيطاليين الذين شعروا بان مثل هذا الإجراء يهدد مصالحهم  ما سبّب كل التذبذبات في مواقف الأرستقراطية (أحداث ميلانو في شباط ١٨٥٣ ومبايعة عائلات ميلانو الكبيرة لفرانتس جوزف على أثر إعدامات بلفيوري.) (٢١) وادى ايضاً الى شل “حزب العمل” ذاته، الذي كان يرى الى هذا الأمر رؤية “المعتدلين”، ويعتبر ان “القومي” شأنٌ يعني الأرستقراطية ومالكي الأراضي ولا يعني ملايين الفلاحين. بعد شباط  ١٨٥٣ فقط بدأ ماتزيني يطلق تلميحات متقطعة ذات طبيعة ديمقراطية فعلية (أنظر “مراسلاته” خلال تلك الفترة) الا انه ظل عاجزاً عن تجذير برنامجه المجرَد التجذير الحاسم.

هنا ينبغي دراسة السلوك السياسي لأنصار غاريبالدي في صقلية سنة ١٨٦٠- وهو سلوك سياسي املاه عليهم كريسبي: قمعهم الإنتفاضة الفلاحية ضد البارونات بلا رحمة، وانشاء “الحرس الوطني” المعادي للفلاحين. وأبلغ تعبير عن ذلك السلوك الحملة القمعية التي شنها نينو بيكسيو على منطقة كاتانيا، مسرح اعنف الإنتفاضات الفلاحية. وتجدر الإشارة الى ان حتى ج .س. آبا في كتابه “نوتيريللي” يقدم عناصر تؤكد ان المسألة الزراعية كانت المحرك الأساسي لأوسع الجماهير. يكفي ان نستذكر هنا حديث آبا مع الراهب الذي خرج يستقبل أنصار غاريبالدي عقب إنزال مارسالا (٢٢). وتوفَر بعض اقصوصات ج. فيرغا تصويراً مشاهد حيّة لتلك الإنتفاضات الفلاحية التي أخمدها «الحرس الوطني» بالإرهاب والإعدامات الدموية(٢٣). وجدير بالذكر ان هذا الجانب من حملة “الألف” لم يتعرض للدراسة والتحليل الى الآن.

ادى العجز عن طرح المسألة الزراعية الى شبه استحالة حل المسألة الإكليركية  وعداء البابا للوحدة القومية (٢٤). وكان “المعتدلون” اكثر جرأة بكثير من جماعة حزب العمل في هذا المضمار. صحيح انهم لم يوزّعوا أملاك الإكليروس على الفلاحين، الا انهم استخدموا تلك الاملاك لخلق شريحة جديدة من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي المرتبطين بالوضع السياسي الجديد، ولم يترددوا في مصادرة الملكيات العقارية وإن تكن إقتصرت مصادراتُهم على ملكيات الرهبانيات وحدها. أضف الى ذلك ان حزب العمل كان مشلولاً في مبادرته تجاه الفلاحين بسبب رغبة ماتزيني في القيام بإصلاح ديني. والحقيقة ان هذا لم يكن ليثير اهتمام الجماهير الفلاحية الواسعة، بل على العكس من ذلك، جعل من تلك الجماهير تربة خصبة للذين كانوا يريدون تأليبها ضد الهراطقة الجدد. والثورة الفرنسية مثال ساطع على حقيقة ان اليعاقبة، الذين نجحوا في سحق كل احزاب اليمين بما فيهم الجيرونديين على ارضية المسألة الزراعية، ولم يوفقوا في الحيلولة دون تشكيل تحالف ريفي ضد باريس وحسب، بل وايضاً في مضاعفة أعداد مؤيديهم في الأرياف، ان هؤلاء اليعاقبة الفرنسيين تضرروا يما ضرر من محاولات روبسبيير إستصدار اصلاح ديني، علماً انه كان لذاك الإصلاح راهنيته ودلالته المباشرتين في المسار التاريخي الحقيقي (٢٥).

هوامش الفصل الثالث

(١) يعرَف غرامشي “المدن المائة” في ايطاليا على انها “تكتلات من البرجوازية الريفية في بلدات وتكتل جماهير واسعة من العمال الزراعيين والفلاحين المحرومين من الأرض في قرى فلاحية، في مناطق التواجد الكثيف لملكية الأرض اللاتيفوندية (كما في بوغلييه وصقلية)”.
(٢) «مدن الصمت»: التسمية التي اطلقها دانونزيو على مجموعة من القصائد والأغاني في كتابه “اليترا”. والمدن المعنية يبلغ عددها خمسة وعشرين مدينة (من بينها بيروجيا و بيزا) كان لها جميعها ماض عريق لكنها باتت الآن مدناً ثانوية الأهمية، و بعضها لا يعدو كونه مجرد قرية تنتصب في ساحتها النصب التاريخية التي تشهد على مجدها الدارس.
(٣) أعلنت الجمهورية البارثينوبية في نابولي في يناير ١٧٩٩ فيما كانت قوات نابليون تقترب من المدينة. كانت الجمهورية من صنع برجوازية “يعقوبية” متنورة انحاز اليها قطاع كبير من الأرستقراطية المحلية. على ان القوات الفرنسية ما لبثت ان كبحت الأهداف الثورية لبرجوازية نابولي وحالت دون اتخاذ اجراءات لتقويض النظام الإقطاعي، وهي إجراءات كان بإمكانها ان تؤدي الى كسب تأييد الريف. بدعم من الإنكليز، الّبَ الكاردينال روفو الريف ضد المدينة، وعندما اضطر الفرنسيون الى الإنسحاب نحو الشمال في شهر مارس من ذلك العام تحت وطأة الهزائم العسكرية التي منيوا بها، باتت ايام الجمهورية معدودة. فقد كان النظام البرجوازي بين نارين: هجوم خارجي، و هجوم داخلي يشنه عليها “السانفيديتسي” وهي حركة مناصرة لأسرة البوربون بين البروليتاريا الرثة. فاستسلمت نابولي في يونيو بعد عفو عام كريم أصدره روفو. و ما لبث البوربون ان نقضوا ذلك العفو العام وشنوا حملة قمع لا ترحم، فأعدموا ١٢٩ شخصاً وإعتقلوا ونفوا الألوف من انصار الجمهورية، الأمر الذي أدى الى تبديد الإنتلجنسيا في نابولي، ما دمَر كل قاعدة توافقية لحكم أسرة بوربون.
(٤) كانت احداث يونيو ١٨١٤ سلسلة من الإنتفاضات البرجوازية مرتبطة بمحاولة “مورا” توحيد ايطاليا انطلاقاً من قاعدته في نابولي. هزم مورا على يد النمساويين في تولنتينو وفرَ الى كورسيكا. فشن النمساويون حملة قمع إستهدفت البرجوازيين الليبراليين المتورطين في الإنتفاضة.
في ميلانو، تظاهر العمال ضد ارتفاع الأسعار والنقص في المواد الغذائية، و جرى قمعها قمعاً دموياً على يد الجنرال بافا بيكاريس.
في اوغسطس وسبتمبر ١٩٢٠، شهدت ميلانو حركة واسعة أقدم خلالها العمال على إحتلال المصانع. وسرعان ما امتدت الحركة الى سائر انحاء البلاد. وعلى الرغم من ان الإجراء بدأ كرد فعل على مبادرات هجومية من أرباب العمل الذين هددوا باقفال المصانع، فالحركة بلغت زخماً واتساعاً فاقا تصورات الجميع وشكلت الذروة في الغليان العمالي والفلاحي الثوري الذي شهدته ايطاليا بعيد الحرب. برزت “المجالس العمالية”، التي كان غرامشي قد دعا اليها باكراً على صفحات الأسبوعية “اوردينو نويفو” (العهد الجديد)، واخذت تسيَر الإنتاج في العديد من المصانع والفروع الصناعية و في مدينة تورينو على نحو خاص. وحمل العمال السلاح تحسباً لهجوم معاكس تشنَه الدولة. لم تلجأ السلطة الى العنف، فقد آثر رئيس الوزراء جيوليتي الإنتظار. في تلك الأثناء، كانت الطبقة العاملة تكتشف مدى انعدام استعداد الحزب الإشتراكي الإيطالي لطرح مسألة السلطة. استجابة للشعار الذي طرحه جيوليني عن “المشاركة” العمالية، وقَعّ ممثلو النقابات العمالية، التي أيدت الحركة في مطلعها لكنها سعت لاحتوائها فيما بعد، على وثيقة رسمية يوم ١٩ سبتمبر في روما تقرَ بالمشاركة العمالية في تسيير المعامل. الا ان الوثيقة بقيت حبراً على ورق.
بعد حركة احتلال المصانع، دخلت الحركة الثورية مرحلة الجَزْر. فسارع غرامشي الى التقاط ابرز دروس الفشل: الإفتقاد الى علاقة من نمط  جديد بين الحزب و الجماهير على الصعيد العام، و هو القاعدة النظرية التي سوف تبنى عليها الأكثرية في الحزب الإشتراكي موقفها فتطرد الأقلية و تؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي في مؤتمر الحزب في ليفورنو مطلع سنة ١٩٢١. من جهة ثانية، سوف يتزايد العطف في اوساط البرجوازية و السلطة على الحزب الفاشي بقيادة موسوليني.
(٥) كان كريسبي وجنتيلي وپيرانديللو جميعهم صقليين. اسس مارينيتي الحركة المستقبلية في “البيان المستقبلي” الذي اصدره سنة ١٩٠٩ و حيَا فيه حيوية العصر الجديد خاصة في تقدمه التقني الذي توسم مارينيتي فيه قوة سوف تكنَس العهد القديم. في رده على استفسار من تروتسكي الذي طالبه بمعلومات عن المستقبلية لكتابه “الأدب والثورة”، وصف غرامشي كيف ان العمال كانوا قبل الحرب العالمية الأولى يرون الى المستقبلية “عناصر نضال ضد الثقافة الأكاديمية الإيطالية القديمة، المحنَطة والمعادية للجماهير الشعبية…”. على ان المستقبليين اتخذوا خلال الحرب مواقف داعية الى التدخل الإستعماري ثم اخذت مواقفهم تلتقي مواقف الفاشيين من جهة ومواقف دانونزيو القومية من جهة ثانية. اخيراً، ترشَح مارينيتي على لائحة الحزب الفاشي في انتخابات سنة ١٩١٩.
(٦) اي “الإتحادات المهنية” التي جعل النظام الفاشي الإيطالي الإنتساب اليها إلزامياً على العمَال.
(٧) طغت شخصية جيوفاني جيوليتي (١٩٢٨-١٨٤٢) على الحياة البرلمانية السياسية الإيطالية بين ١٩٠٠ و ١٩١٤ و قد شغل رئاسة الحكومة خلال الفترات: ١٨٩٣-١٨٩٢، ١٩٠٩-١٩٠٦، ١٩١٤-١٩١١ و ١٩٢١-١٩٢٠ حيث واجه حركة احتلال المصانع وشجَع الفاشيين ليجابه بهم تنامي نفوذ الإشتراكيين.
(٨) كان الجناح المتشدد في الحزب الإشتراكي الإيطالي معارضاً لأي تعاون، ولو غير مباشر، مع الحكومة البرجوازية، ما جعل استمرار التحالف بين جيوليتي والقادة الإصلاحيين في الحزب الإشتراكي مستحيلاً. وكان موسوليني، رئيس تحرير صحيفة “آفانتي” (الى الأمام)، هو الناطق الرئيسي بإسم الجناح المتشدد الى حين مغادرته الحزب سنة ١٩١٤. يشرح غرامشي، ان صحيفة “كورييري ديلا سييرا”، لسان حال الصناعيين اللومبارديين، كانت تبحث عن إمكانية تحالف جديد مع “الكتلة الجنوبية” يحلَ محل سياسة جيوليتي الخائبة، القائمة على تشكيل كتلة مع القادة الإصلاحيين للطبقة العاملة الشمالية.
(٩) في انتخابات سنة ١٩١٣، و ي الإنتخابات الأولى في ظل نظام الإقتراع العام، عقد جيوليتي اتفاقاً مع الكونت جنتيلوني، رئيس “الإتحاد الإنتخابي الكاثوليكي في ايطاليا” يقضي بان يصوَت الناخبون الكاثوليكيون لصالح المرشحين الحكوميين لوقف تقدَم الإشتراكيين.
(١٠) تسلَم لويجي البرتيني (١٩٤١-١٨٧١) رئاسة تحرير “كورييري ديلا سيرا” سنة ١٩٠٠ و تمكن من تحويلها الى الصحيفة الأولى بين الصحف البرجوازية في ايطاليا. كان ليبراليا محافظاً، يشجّع على التدخل في الحرب الا انه كان معادياً للفاشية. أزيح عن رئاسة تحرير الصحيفة سنة ١٩٢٥ لتنضوي ال”كورييرا” بعدذاك تحت لواء النظام الفاشي.
(١١) انطونيو سالاندرا (١٩٣١-١٨٥٣) سياسي برجوازي يميني، شغل منصب رئيس للحكومة في ١٩١٥-١٩١٤ و اضطر الى الإستقالة تحت ضغط “الحياديين” بسبب من تأييده التدخل في الحرب. عاد فرئس الحكومة في ١٩١٦-١٩١٥ بعد الإنتصار الإنتخابي الذي ابرزه مؤيدو التدخل المعركة.
فرانسيسكو نيتي (١٩٥٣-١٨٦٨) عالم إقتصادي و سياسي ينتمي الى الوسط رئيس الحكومة في ١٩٢٠-١٩١٩.
(١٢) ينبغي النظر الى اهل ساردينيا على حدة. فقد استأثروا دائماً بحصة الأسد في كافة الوزارات من سنة ١٨٦٠ فصاعداً، و كان لهم عدد من رؤساء الوزراء، على عكس الجنوبيين الذين كان سالاندرا اول زعمائهم يشغل ذلك المنصب. يعود تفسير هذا “الإجتياح” الصقلَي الى سياسة الإبتزاز التي مارستها أحزاب الجزيرة، التي ظلت تضمر روحاً “إنفصالية” سرّية لصالح انكلترا. فكان إتهام كريسبي، مع انه صيغ في قالب غير مناسب، التعبير عن قلق كان يسيطر فعلاً على الجناح الأكثر حساسية و مسؤولية في الفئة الحاكمة الوطنية.
(١٣) حركة استقلالية ساردينية نشأت بعيد الحرب العالمية الأولى. تأسس “حزب العمل الساردي” سنة ١٩٢٠ الا انه ما لبث ان انشق مع مجيء الفاشيين للحكم. فإنضم جناح منه الى الحزب الفاشي، فيما انضم الجناح الآخر، بقيادة إميليو لوسو، الى المعارضة “الافانتينية” فنفي قادته الا انهم عادوا فأحيوا الحزب خلال فترة المقاومة (١٩٤٥-١٩٤٣).
(١٤) بدأ ايفانو بونومي (١٩٥٢-١٨٧٣) حياته السياسية كإشتراكي إصلاحي. طرد من الحزب الإشتراكي الإيطالي مع بيسولاتي سنة ١٩١٢ الا انه احتفظ بمقعده البرلماني بصفته سياسياً وسطياً مستقلاً، وشغل منصب رئيس الوزراء سنة ١٩٢٢-١٩٢١.
(١٥) لا ينبغي فهم “مثقفين” هنا على انهم الشريحة المقصودة عادة بهذا المصطلح، وانما على انهم جماع الفئة الإجتماعية التي تمارس وظيفة تنظيمية بالمعنى العام للكلمة، اكان ذلك في ميدان الإنتاج، او في ميدان الثقافة او في الإدارة السياسية. والمثقفون يشبهون بذلك ضباط الصف وصغار الضباط في الجيوش او حتى الضباط الكبار عندما يكون هؤلاء خارجين من القواعد لا متخرَجين من الكليات الحربية.
(١٦) راجع نص غرامشي “تكوين المقفين” في : غرامشي “قضايا المادية التاريخية”، ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت ١٩٧١، ص ١٣٧-١٢٧ [ملاحظة الترجم].
(١٧) كانت ١٨٢١-١٨٢٠ سنة الموجة الأولى من الثورات “الكاربونارية” في ايطاليا وفرنسا واسبانيا واليونان، الخ. وحدها الثورة اليونانية حققت انجازات دائمة، غير ان الإنتفاضات حققت نجاحات نسبية في مختلف الدول الإيطالية وبخاصة في پييدمونت ونابولي. اندلعت الموجة الثانية من الإنتفاضات الكاربونية سنة ١٨٣١ و مسّت مودينا وپارما والدولة البابوية بنوع خاص.
(١٨) سنة ١٨٧٦ شكَل “اليسار” في البرلمان أول حكومة له.
(١٩) ينطبق هذا التحليل على المناطق الجنوبية الثلاث: ناپولي والبر الايطالي، وصقلية وساردينيا.
(٢٠) سنة ١٨٤٥ انتفض نبلاء وبرجوازيو غاليسيا ضد النمساويين، فأخمد هؤلاء الإنتفاضة بعد تعبئة الفلاحين الروثينيين في المنطقة واعدين اياهم بالأرض لكسب تأييدهم.
(٢١) بالنسبة لإنتفاضة شباط ١٨٥٣، راجع الهامش ٥٢ ص ٨٢. جدير بالذكر  ان النمساويين اقدموا، اواخر ذلك العام، على اعدام عدد من انصار ماتزيني في وادي بالفيوري قرب فيرونا.
(٢٢) في كتاب جيوسيبي آبا “نوتيريللي دي اونو داي ميللي”، يروي المؤلف كيف ان راهباً جاء يستقبل انصار غاريبالدي وروى لهم في حديث بليغ عطش الفلاحين للأرض.
(٢٣) وبخاصة رواية “الحرية” (لبيرتا) وهي تقرير عن المجزرة بحق وجهاء محليين  ارتكبها سكان احدى القرى ممن ألهبت حماستهم فكرة ان غاريبالدي قد حمل اليهم الحرية والمساواة. بعد المجزرة، إكتشف الفلاحون انهم لا يستطيعون تدبير امورهم بدون “آبناء الذوات” – وهو موضوع آخر عند فارغا صاحب الإتجاه الشعبوي المحافظ – فسيقوا الى السجن في المدينة وهم ليسوا يدرون اي ذنب قد إرتكبوا. تختتم الرواية فيما يعلن احد السجناء الذين صدر بحقهم الحكم: “الى اين أنتم ذاهبون بي؟ الى السجن؟ لماذا؟ لماذا؟ لم يكن لي ولو ذراع ارض واحدة؟ الم يقولوا ان الحرية قد حلّت علينا؟”.
(٢٤) المقصود رفض البابا القبول بنهاية ولايته الزمنية على الدول البابوية، ومعارضته اللاحقة للوحدة الإيطالية قبل قيام النهضة القومية ورفضه التصالح مع الدولة الإيطالية بعدها، وصولاً الى عقد اتفاق “الكونكوردا” سنة ١٨٢٩.
(٢٥) من الضروري ان ندرس بعناية السياسات الزراعية للجمهورية الرومانية والطابع الحقيقي للمهمة القمعية التي أوكلها ماتزيني الى فيليشي أورسيني في منطقتي رومانيا ومارتشي. ففي تلك الفترة والى سنة ١٨٧٠ (بل الى ما بعدها ) كان مصطلح “لصوصية” يعني دائماً حركات الشغب الفوضوية التي تتخللها اعمال عنف يحاول بها الفلاحون الإستيلاء على الأرض.

The post العلاقة بين المدينة والريف في النهضة القومية وفي البنيان القومي (أنطونيو غرامشي) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
١٩٦٧، ١٩٨٢، ٢٠١٧… الآلة الجهنمية: من الحروب الوطنية إلى الحروب الأهلية https://rommanmag.com/archives/18880 Thu, 31 Aug 2017 13:13:02 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%a1%d9%a9%d9%a6%d9%a7%d8%8c-%d9%a1%d9%a9%d9%a8%d9%a2%d8%8c-%d9%a2%d9%a0%d9%a1%d9%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84/ المقالة الافتتاحية للعدد الأخير من مجلة «بدايات»

The post ١٩٦٧، ١٩٨٢، ٢٠١٧… الآلة الجهنمية: من الحروب الوطنية إلى الحروب الأهلية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يصادف هذا الصيف مناسبتين ضاغطتين على الذاكرة العربيّة هما خمسينيّة هزيمة حزيران / يونيو ١٩٦٧والذكرى الخامسة والثلاثون للغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢. ويأتي هذا الصيف في عام سباعيّ يصادف مئويّة سايكس بيكو وإعلان بلفور ١٩١٦-١٩١٧ وذكرى تقسيم فلسطين ١٩٤٧.
 

ما يتعدّى النّقد الذاتي والمؤامرة

 

تحكّمت ثنائيّة نقد ذاتي / مؤامرة خارجيّة، أو استبطان الذنب / تحويل الذنب، بالتفسيرات المعطاة لهزيمة ١٩٦٧ ولا تزال تتحكّم بها إلى أبعد حدّ. من المحاولات القليلة لتجاوز تلك الثنائيّة مساهمة الراحل ياسين الحافظ وفْق منظور «الهزيمة الحافز»، في مواجهة ما سمّاه «الأيديولوجيا المهزومة». سعى الحافظ إلى تجاوز النّقد الذاتي السائد الذي يحمّل الهزيمة (العسكريّة) إلى قيَمٍ وأفكار ومعتقدات أو إلى مكوّنات «العقل العربي» أو خصال «الشخصيّة العربيّة» أو إلى بُنى اجتماعيّة تلمّها كلّها تسمية «التخلّف».

أعاد الحافظ الاعتبار إلى العلاقة بين العوامل الداخليّة والعوامل الخارجيّة لنكسة العام ١٩٦٧ بوضعها في موقعها من الصراع بين شعوب المنطقة وحركات تحرّرها الوطنيّ والديمقراطيّ والاجتماعيّ وبين الأمبرياليّة الأميركيّة وإسرائيل ليحرّر القوى والعوامل الخارجيّة المتدخّلة في النّزاع من صفة المؤامرة ويقدّمها على انها نزاعات ناجمة عن تضارب في المصالح والأهداف والتطلّعات بين الطرفين المتنازعين.

على مسافة نصف قرن من الحدث، يجدر التذكير بأنّ حرب الأيّام الستّة وقعت في فترة كانت فيها الولايات المتحدة الأميركيّة تقود الردّات المضادّة لحركات التحرّر ودول الحياد الإيجابيّ والأنظمة الديمقراطيّة، في امتداد الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي، على امتداد العالم، ومن محطّاتها القريبة التصفية الدمويّة لنظام سوكارنو والحركة الشيوعيّة في إندونيسيا العام ١٩٦٦ وانقلاب الجنرالات على الديمقراطيّة في اليونان في العام ١٩٦٧. وإنّه لمعبّر جدّاً في تلك المواجهة أنّ عبد النّاصر، فشل في تحييد أميركا في صراعه مع إسرائيل حول مضائق تيران واكتشف في اللحظة الأخيرة الحقيقة التي أعلنها في خطابة الأشهَر «إسرائيل هي أميركا وأميركا هي إسرائيل». وإذا كان جمال عبد النّاصر، ومعه حكّام سورية والأردن، قد خسر الأرض لإسرائيل إلّا أنّه خسر نظامه وثورته لأميركا، أي سياسة الحياد الإيجابي، والتّحالف مع الاتحاد السوفياتي، وتجذير عمليّة البناء الداخليّ، وقتال جيشه إلى جانب الجمهوريّة اليمنيّة ضدّ الهجوم السعوديّ لإسقاطها، وتأييده متعدّد الأشكال للثّورة الجزائريّة إلخ. بعبارة أخرى، حقّقت الولايات المتّحدة بالواسطة الإسرائيليّة العام ١٩٦٧ ما عجزتْ عن تحقيقه بريطانيا وفرنسا بالواسطة ذاتها وبالتدخّل المباشر العام ١٩٥٦. وإنّه لمعبّر جدّاً أن يعلن حاكم مصر، المهزوم في الحرب الوطنيّة، أنّ «الثورة» المصريّة انتهت وأنّ مهمّته باتت الحفاظ على الدّولة.

على صعيد آخر، تميّزت مساهمات ياسين الحافظ، ومعه الراحل إلياس مرقص، بالدفاع عن الجيوش العربيّة والدعوة إلى إعادة تأهيلها في وجه رواج موجة «إسقاط» الجيوش وتقديم العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وأساليب الحروب الغواريّة وحروب التحرير الشعبيّة طويلة المدى بديلاً منها ومن الحروب النظاميّة. فإلى جانب الحجّة البديهيّة عن الحاجة إلى الجيوش للدفاع الوطنيّ، و«تصفية آثار العدوان»، رأى الحافظ الجيوش في بلدان العالم الثالث على أنّها حاضنات الحداثة لما يتطلّبه العلم والتخطيط والقيادة العسكريّة من عقلانيّة وتقانة عالية. بنفس الهمّ الحداثويّ، مارَس الحافظ نقداً جذريّاً لما سمّاه «عمارة المجتمع العربي»، ليضع يده على إحدى وسائل تحويل الهزيمة إلى حافز حضاريّ، داعياً إلى إعلاء قيمة العمل ضدّ عادات وتقاليد الكسل واحتقار العمل اليدويّ، وضدّ التنبلة الاستهلاكيّة.

لم تعرف نكسة حزيران نتاجات لافتة في هذه الذكرى الخمسينيّة. المحاولة الجديرة بالاهتمام هي المساهمة التنقيحيّة للمؤرّخ المصريّ خالد فهمي عن العلاقة بين القيادة العسكريّة والقيادة السياسيّة، ونمط الخطط العسكريّة المعَدّة لاحتمالات الحرب، خلال الأزمة المؤدّيّة إلى اندلاع حرب الأيّام الستّة (راجعها في هذا العدد). لكنْ لا عجب أن تتراجع ذكرى حرب وطنيّة، على ضخامتها، في غمرة طوفان النزاعات والحروب الأهليّة وحروب التدخّل العسكريّ الإقليميّة والدوليّة. والانتقال من هذا النّمط من الحروب إلى ذاك هو بالتحديد ما ننوي التطرّق له في هذه المقالة.

الموضوع الذي يستحقّ التوقّف عنده والتأمّل وفي هذا العام ٢٠١٧، هو تحديداً التساؤل عن العلاقة بين نتائج هزيمة ١٩٦٧ وبين اندلاع الحروب الأهليّة العربيّة، أي بين ١٩٦٧ و١٩٨٢ و٢٠١١. كيف انقلبت حروب وطنيّة، والحشد والتعبئة لها، إلى حروب أهليّة؟ كيف جرى الانتقال من قتال العدوّ الآخر إلى القتال ضدّ الأخ، بل إلى قتل الأخ. تسعى هذه المقالة إلى إثارة الموضوع واقتراح بعض نقاط استدلال عليه.
 

غلبة الجيوستراتيجيا

 

قلبتْ نكسة صيف ١٩٦٧ ميزان القوى في المنطقة على نحو جذريّ لصالح أوليغارشيّات النّفط وعلى رأسها العربيّة السعوديّة ومعها الأنظمة الموالية للغرب. وما لبث هذا الانقلاب أن تعزّز بالفورة النفطيّة مطلع السبعينيّات مفتتحاً دور العربيّة السعوديّة الإقليمي متعدّد الأوجه المدعّم بقوّة المال وبالدّعم الأميركيّ: التدخّل في اليمن بشطريه، تمويل انقلاب أنور السّادات على النظام الناصريّ وعلى التّحالف المصريّ – السوفياتيّ، تزويد النّظام السوريّ بالريوع السياسيّة تعويضاً على خسارة الجولان، التدخّل في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تمويل الردّات المضادّة للثّورات وصولاً إلى أميركا اللاتينيّة، وغيرها. إلى ذلك سوف تفتتح فترة ما بعد ١٩٦٧ عهدا جديداً في تسييس الإسلام واستنباط وتشجيع الحركات الإسلاميّة الجهاديّة على امتداد العالم، بدعم وتشجيع أميركيّين هنا أيضاً، بدأ بتمويل السعوديّة الجهاديّين العرب في حرب أفغانستان، بالتّعاون مع السي آي إي، ولم ينته فصولاً إلى الآن.

في المقابل، كرّست نكسة ١٩٦٧ الطابع العسكريّ للسّلطات القائمة في مصر وسورية والعراق وما التحق بها وماثَلَها (في ليبيا والسودان واليمن). باسم «إزالة آثار العدوان» أعيد تأهيل الجيوش وتوسعتها حتى باتت تبتلع حصصاً متزايدة من الموازنات الوطنيّة، وفرضت الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، رافقتها عسكرة التعليم والشباب، وأطبقتْ أجهزة الاستخبارات والأمن المتورّمة والمتكاثرة على الحياة الخاصّة والعامّة للمواطنين إذ انتقل الوزن الأكبر لدورها من مكافحة التجسّس إلى التجسّس على المواطنين إضافة الى دورها في التجسّس والرقابة داخل الجيوش ذاتها. ولمّا لم يكْف ذلك للسيطرة على الجيوش، أنشأتْ الجيوش الموازية (سرايا الدّفاع وسرايا الصّراع في سورية والحرس الجمهوريّ والحرس الجمهوريّ الخاصّ في العراق، إلخ).

تزامن هذا التضْخيم في الطابع العسكريّ للسلطات، في الأقطار المعنيّة أكثر من سواها بالنّزاع العربيّ الإسرائيليّ، مغلّبةً العوامل الجيوسياسيّة والجيوستراتيجيّة على حساب العوامل والمصالح الداخليّة، في ظلّ «عمليّة السلام» العربيّ الإسرائيليّ، برعاية الولايات المتحدة الأميركيّة، خصوصاً بعد حرب تشرين ١٩٧٣. باتت الأدوار الإقليميّة والخارجيّة لتلك الأنظمة، ركناً أساساً في «شرعيّتها» الخارجيّة، تعترف بها الولايات المتحدة والقوى الغربيّة الأخرى بما هي «قوى إقليميّةً»، بديلاً من شرعيّةٍ شعبيّةٍ لم تسعَ إليها أصلاً. بل جرى توظيف تلك الأدوار الخارجيّة، وما تدرّه من مالٍ وسلاحٍ ومساعدات ونفوذ، بما هي قوّة إضافيّة للتسلّط والسيطرة على شعوبها.

مهّدت معادلة هنري كيسنجر الشهيرة «لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سورية» الطريق أمام طرد الخبراء السوفيات من مصر، وتنفيذ المسار الموصل إلى كامب ديفيد والنّزاع على الوصاية على منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وشكّلت المعادلة ذاتُها الأساس في سياسة الممانعة السوريّة، وواسطة استدرار الريع الخليجيّ باسم الجولان، وشرعنَت لحافظ الأسد التدخّل العسكريّ في لبنان العام ١٩٧٦ للإمساك بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وإعادة التدخّل العام ١٩٨٩واكتساب تفويضٍ لحلّ الأزمة اللبنانيّة إلى العام ٢٠٠٦. وباسم الدفاع عن نفط الخليج في وجه الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، شنّ صدّام حسين حربه المدمّرة ضدّ إيران قبل أن يتوهّم بأنّ انتصاره في تلك الحرب يخوّله ضَمّ الكويت، يشجّعه غموضٌ أميركيّ متواطئٌ لم يلبث أن ارتدّ عليه في حربَين لم تكونا أقلّ ضراوة من سابقتهما، إلخ.

هكذا تبدو الحرب الإسرائيليّة على لبنان صيف ١٩٨٢ كأنّها مرحلة انتقاليّة في هذا المسار المتشابك من زمن الحروب الوطنيّة إلى زمن الحروب الأهليّة. لم يقتصر الأمر على حصار الجيش الإسرائيليّ لعاصمة عربيّة واحتلالها، ولو لأيّام معدودة. جاء الغزو الإسرائيليّ وسط حرب أهليّة استدعت قوى التدخّل الخارجيّة على اختلافها، وأحدث شرخاً في التماسُك الوطنيّ اللبنانيّ حيث قاتل لبنانيّون إلى جانب العدوّ الإسرائيليّ، وارتكبوا بدعمه وتغطيته إحدى أبشع المجازر، والأهمّ أنّه تمّ تنصيب رئيس للجمهوريّة في ظلّ الدّبّابات الإسرائيليّة وبدعمٍ أميركيٍّ وسعوديّ.
 

من العنف الوطنيّ إلى العنف الأهليّ

 

بعد مخاضٍ ليس بالقصير أطلقت المجتمعات العربيّة من صلبها كلّ ما كانت تختزنه من احتقانٍ سياسيّ واجتماعيّ ومظلوميّات جَمَعية عبّرت عن نفسها في انتفاضات شعبيّة عارمة، تحملها قوّتان مختلفتان ومتزامنتان، ترمي الأولى إلى تغيير السلطة القائمة باتّجاهٍ حديث ينحو منحى الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وتتكوّن الثّانية من الإخوان المسلمين خصوصاً، وتعمل على إعادة هيكلة الدولة والمجتمع وفق الشريعة الإسلاميّة. وقد سنح لتلك القوّة الثانية الحكم من خلال الانتخابات (في مصر وتونس والمغرب وفي اليمن). في المقابل، انطلقت ردّات مضادّة للثورة تتراوح بين الأنظمة الساعية إلى الاحتفاظ بسلطاتها وبين حركات ردّة جهاديّة مسلّحة رفدتها ودعمتها كلّ القوى المتدخّلة في المنطقة، مع دورٍ أبرز للعربيّة السعوديّة وقطر وتركيا، تتوّجت بالدولة الإسلاميّة (داعش) ابنة الغزو الأميركيّ للعراق التي نقلت الأمميّة الإرهابيّة لتنظيم القاعدة إلى مهمّة إستراتيجيّة أكثر جذريّة ودمويّة نجحت في احتلال المدن وإقامة حكم الدولة الإسلاميّة عليها في العراق وسورية.

وإذا كان الاحتلال الأميركيّ ارتكب جريمة العصر بحلّ الجيش العراقيّ، فإنّ إعادة بنائه على قواعد مذهبيّة واستشراء الفساد فيه ما لبثت أن أدّت إلى تَفكّكه وانسحابه من الموصل أمام هجوم لبضعة آلاف من مقاتلي داعش. هكذا انطلق جيشٌ موازٍ هو «الحشد الشعبيّ»، أضيف إلى الجيوش الموازية والمليشيات تمثّل جميعها «المكوّن الشيعي» العراقيّ، وإلى المليشيات غير العراقيّة، أبرزها وحدات من الجيش النظاميّ ومن الحرس الثوريّ الإيرانيّين. من جهة ثانية، تمخّض الغزو الأميركيّ للعراق عن تكوين جيش كرديّ، في إطار إقليم كردستان، ما لبث أن تجاوز حدوده نحو كركوك والموصل في أعقاب احتلال داعش لهذه الأخيرة.

ولقد انكسر الجيش السوريّ عندما قرّر الحاكم استخدامه لقمع تظاهراتٍ سلميّة بدأت بالمطالبة برفع حالة الطوارئ المفروضة من العام ١٩٦٧، ونحّى قائده، وما لبث عجزُ النّظام عن احتواء الانتفاضة المتعسكرة، لجأ إلى استدعاء التدخّل الخارجيّ الإقليميّ والدوليّ وإلى مليشياتٍ عربيّة وغير عربيّة.

وانكسر الجيش اليمنيّ عندما تفاقمت النزاعات داخل الحكم حول نيّة علي عبد الله صالح توريث السلطة لأحد أبنائه، فانشقّ أحد أركان النظام والمرشّحين للوراثة، قائد اللواء الأوّل المدرّع علي محسن الأحمر، وانضمّ إلى الانتفاضة الشعبيّة السلميّة. وما لبثت «المبادرة الخليجيّة» الكسيحة أصلاً أن كرّست انقسام الجيش بين وحدات موالية لحكومة عبد ربّه منصور هادي والرئيس السابق علي عبد الله صالح، وإلى استقطابٍ أهليّ بين مليشيا «أنصار الله» ومليشيات «الحراك الجنوبيّ». وبالمثل، استدعى النزاع اليمنيّ التدخّل العسكريّ الإيرانيّ والسعوديّ والإماراتيّ.

أودّ الخلوص من كلّ ما سبق إلى الآتي:

أوّلاً، انطلقت الانتفاضات من مركّب من العوامل أتى في مقدّمتها تفاقم الطّابع الاستبداديّ العسكريّ الأمنيّ القمعيّ للأنظمة المعنيّة بـ«عمليّة السلام»، مع الاهتراء المتزايد لشرعيّتها وتقلّص قواعدها الاجتماعيّة الداخليّة، جرّاء تخلّيها المتزايد عن التنمية والتوزيع الاجتماعيّ وتفاقم البطالة والفقر والفروقات الطبقيّة والمناطقيّة واحتدام المسائل والنزاعات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة.

على أنّ الآليّة التي سمحت، بل أوجبت، هذا التحوّل زمن الحروب الوطنيّة إلى عهد الحروب الأهليّة، هي ابنة التحوّل الجذريّ في بنية السلطة والجيش في البلدان المعنيّة واستخدامه المتزايد في مهمّات القمع والضّبْط الداخليّين، حتى انكسرت الجيوش المعنيّة تحت وطأتهما.

وإنّه لمعبّر أنّ البلديَن اللذين عرفا انتفاضات ثوريّة وسلماً مع ذلك من الاقتتال الأهليّ مصر وتونس هما البَلدان حيث امتنع الجيش فيهما عن التصدّي بالقوّة والعنف للانتفاضات الشعبيّة.

ثانياً، في معمعان تلك النزاعات والحروب، شكّل التحاق الأنظمة المعنيّة بالحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب أكبر وسيلة من أجل تجديد شرعيّتها في مواجهة شعوبها العاصية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، بعدما تناوبت جميعاً على استخدام تنظيم القاعدة والنصرة وداعش في حروبها الداخليّة والخارجيّة قبل الارتداد إلى تأجير جيوشها في «الحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب» بما استوجبته من معْسٍ لكلّ مصالح ومطالب وتطلّعاتٍ داخليّة ومن دمار وتوظيف المليشيات المذهبيّة المتقابلة فيها.
 

تدمير المدن

 

ما يستحقّ النقد والنقد الذاتيّ إذا بقي للأخير من معنى هو هذا الديالكتيك الجهنّمي الذي به نقلب العداء للغرب إلى العداء للأخ، في حين يستمرّ الإصرار على إبراز جرائم ذاك الغرب وإدانتها في مقابل التستّر على ما يرتكبه الأخوة الأعداء واحدهم بالآخر حتى لا نقول تبريرها والتغنّي بها.

بيروت صيف ١٩٨٢: دمّر الطيران والبحريّة والمدفعيّة الإسرائيليّة أجزاء منها وغطّت قوّات الاحتلال على مجزرةٍ ارتكبها لبنانيّون بحقّ فلسطينيّين (ولبنانيّين) في مخيّمي صبرا وشاتيلا، بعدما تناوب مقاتلو السنوات الأولى من الحرب الأهليّة على تدمير وسطها التجاريّ.

وفي معرض التدمير فقط، أين تدمير / دمار بيروت ١٩٨٢ من دمار / تدمير الموصل، التي اعتبرت أضخم عمليّة حربيّة منذ معركة ستالينغراد في الحرب العالميّة الثانية؟ وأين منه «تحرير حلب»، التي يقدّر البنك الدولي بأنّ عمليّة رفع أنقاضها وحدها سوف تستغرق ستّ سنوات؟ وأين هذا وذاك من تدمير / دمار القصف السعوديّ المتواصل على صنعاء، ومن تدمير / دمار القصف المدفعيّ والصاروخيّ لقوّات علي عبد الله صالح و«أنصار الله» على تعزّ المحاصرة والمجوّعة بدعم من الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة؟ عداك عن تدمير / دمار بنغازي التي أُنبئنا أخيراً بـ«تحريرها».

عندما سُئل قائدٌ سابق لسلاح الجوّ الإسرائيليّ عن شعوره عندما يقصف مدنيّين بينهم أطفال فلسطينيّون وعرب، قال «أشعر برجفة خفيفة في جناح الطائرة».

كم عدد الطيارين ومساعدي الطيارين والملّاحين الجوّيّين العرب – من السعوديّة والإمارات والعراق وقطر واليمن ومصر وسورية وليبيا وغيرها وغيرها – ممّن شارك في ضرب بنات وأبناء بلدهم أو بلد عربيّ آخر بالقنابل والصواريخ والبراميل المتفجّرة؟ وكم منهم خطر له أن يعبّر عن شعوره تجاه ما فعل، ولو مجرّد تعبير؟
 

سجونهم وسجوننا

 

كثيرون منّا أيّدوا بحماسة، وعن كلّ الحقّ، إضراب السجناء الفلسطينيّين عن الطعام وحيّوا انتصارهم الذي حقّقوه بذكاء قيادتهم والتفاف شعبهم وأجزاء حيويّة من الرّأي العامّ العربيّ حولهم. حقيقة الأمر أنّ الأسرى الفلسطينيّين التقطوا إحدى الثغرات في نظام القتل والتبرير الإسرائيليّ. تنازلت السلطات الإسرائيليّة لأنّها لم تنجح بعد في العثور على طريقة تحتمل فيها تساقط سجناء موتى بسبب الإضراب عن الطعام في سجونها والمعتقلات أو تبرّر ذلك تبريراً. أجاز لها المجتمع الدوليّ ودولُه الكبرى والمتوسّطة والصغرى أن تقتل باسم ما تقرر أنّه «يهدّد أمن إسرائيل»، بل أن تقتل استباقاً، ولو كان المهاجِم الفلسطينيّ لجنديّ يحمل سكّين مطبخ يمكن شلّه واعتقاله وتقديمه للمحاكمة! لكنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تنجح إلى الآن في أن تقدّم إضراب سجناء عن الطعام احتجاجاً على ظروف اعتقالهم ومحاكمتهم وشروط الحياة في السجن على أنّه عمل عدوانيّ ضدّ أمن دولة إسرائيل أو أنّه يعرّض حياة جنود جيش الدفاع الإسرائيلي للخطر، ما يبرّر القتل والإعدام الاستباقيّ.

لم يخطر ببال الأخوات والإخوة الفلسطينيّين الأسرى في سجون الاحتلال توجيه ولو تحية تضامن لزميلات وزملاء لهم في السجون العربيّة لا يحظى أعداد منهم بشرف الإضراب عن الطعام لأنّهم يقضون جوعاً. ولا فطن المتضامنون معهم إلى أنّ إخوةً وأخواتٍ لهم يقبعون في سجون بلدهم أو في سجون هذا العالم العربيّ الكبير ويعانون ما هو أبشع وأقسى وأكثر إهانة وإذلالاً وتعذيباً وقتلاً من سجون الاحتلال الإسرائيليّ.

لنعترف: إنّنا نعرف عن حال المعتقلين في سجون العدوّ قدر ما نجهل أو نتجاهل القلّة من الوثائق المصوّرة والتقارير الدامغة عن قتل الآلاف من المعتقلين في السجون السوريّة إعداماً وتعذيباً وتجويعاً.

لنقارن بين ما نعرفه عن التعذيب في سجن أبو غريب ٢، زمن الاحتلال الأميركيّ للعراق، مع ما نعرفه عن سجن أبو غريب ١، زمن صدّام حسين!

ولنقارن بين أصوات الاستنكار والإدانة لاغتصاب المعتقلات العراقيّات على يد سجّانين أميركيّين في سجن أبو غريب مقابل خفوت الحديث أو كتمه أو حتى الخرَس عندما يتعلّق الأمر بمصيرهنّ عند إطلاق سراحهن، حيث تنتظرهنّ، في أحيان كثيرة، سكّين الأخ أو الأب أو العمّ ذبحاً لغسل شرف العائلة.

ولنعترف بأنّ استفتاءً عن اسم السجن الأكثر ألفة لدى قطاع واسع من مستخدمي وسائل الاتّصال الاجتماعيّة سوف يفوز به سجن غوانتنامو الأميركيّ، على الأرض الكوبيّة، أمام أسماء السجون العربيّة في المزّة والحائر وعدرا وذهبان وصيدنايا وأبو غريب وطرّة وأبي زعبل ووادي النطرون وسجن الحوض الجافّ وفرع فلسطين والقنطرة وتزمامرت وسجون دولة الإمارات العربيّة في عدن وحضرموت بجنوب اليمن التي لم نتعرّف بعد على أسمائها والأعداد غير المحصيّة من المعتقلات والسجون السرّية!

أعترفُ بخجل أنّي أعرف أسماء بعض تلك السجون والمعتقلات ولكنّي أنزلت الباقي من على محرّك البحث «غوغل».

المقالة الافتتاحية للعدد الأخير من مجلة بدايات، ننشرها بالاتفاق مع فواز طرابلسي.

The post ١٩٦٧، ١٩٨٢، ٢٠١٧… الآلة الجهنمية: من الحروب الوطنية إلى الحروب الأهلية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
القتل من السماء… تاريخ موجز للطيران الحربي ضد المدنيين https://rommanmag.com/archives/18632 Fri, 07 Apr 2017 04:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%aa%d9%84-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%85%d9%88%d8%ac%d8%b2-%d9%84%d9%84%d8%b7%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84/ كلّف المهندس السوري خالد ملص، بتجهيز الجناح السوري في «بينال البندقيّة الإيطاليّة للعمارة» صيف ٢٠١٤. شاركه في هذا العمل جنى طرابلسي وألفريد طرزي وسليم القاضي. اتخذت المجموعة اسم فريق «سجل» وعنونوا تجهيزهم «حفريات في السماء»١. انطلقوا من الطيران الميكانيكي الثقيل نموذجاً لتجربة حداثويّة للسيطرة على الأرض وتخصيصاً دور السماء في ما سمّوه «إنتاج الأرض». وقدّموا […]

The post القتل من السماء… تاريخ موجز للطيران الحربي ضد المدنيين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كلّف المهندس السوري خالد ملص، بتجهيز الجناح السوري في «بينال البندقيّة الإيطاليّة للعمارة» صيف ٢٠١٤. شاركه في هذا العمل جنى طرابلسي وألفريد طرزي وسليم القاضي. اتخذت المجموعة اسم فريق «سجل» وعنونوا تجهيزهم «حفريات في السماء»١.

انطلقوا من الطيران الميكانيكي الثقيل نموذجاً لتجربة حداثويّة للسيطرة على الأرض وتخصيصاً دور السماء في ما سمّوه «إنتاج الأرض». وقدّموا تجهيزهم عن دور السماء في انتاج الأرض بين تحت عناوين العناصر الأربعة.

الهواء: يروي قصّة أوّل عهد المشرق العربي بالطائرات.

في الأوّل من آذار/مارس ١٩١٤ حطّت في مرجة دمشق الخضراء (موقع معرض دمشق لاحقاً) أوّل طائرة حربيّة عثمانيّة يقودها الطيّار اليوزباشي أركان حرب محمد فتحي بك قائد ومعاونه الملازم أوّل المدفعي سليم صادق. أرادت السلطات العثمانيّة بتلك الرحلة استعراض قوّة وهيبة بعد هزائمها في ليبيا والبلقان. تجمّعت جماهير حاشدة للتفرّج على الطائرة (من صنع ألماني) وتبارى أعيان دمشق في تكريم الطيّارين وضيافتهما. بعد يومين، واصل الطائر الحديديّ رحلته إلى القاهرة، إلّا أنّ الطائرة سقطت بعد إقلاعها في قرية سمخ قرب بحيرة طبريّة بفلسطين، فقتل الطيّار ورفيقه سليم ونقلت رفاتهما إلى دمشق لتدفن، وسط تشييع شعبيّ مهيب، إلى جانب ضريح صلاح الدين الأيّوبي.

كان الشاعر اللبناني فوزي المعلوف في الخامسة عشرة حين وقعت الحادثة، فرثى فتحي بك بقصيدة عمرها في عمر ناظمها: يا من سموتَ إلى العلي عهادها/ وسبقتَ أسراب الطيور طرادا /

خفقتْ ضلوع الريح تحتك والتوتْ/فَرقاً وكم فطرتْ عليك فؤادا/ حتى كَبَتْ أختُ النسور كليلةً فهويتَ لا جُبناً ولا إرعادا/لكنْ علاؤك ما ارتضى بطنَ الثرى/مثوىً فآثر في العلاء رقادا.

سوف تؤثر الحادثة أيّما تأثير في ذهن فوزي المعلوف، فبعد أن غادر الوطن بالطائرة إلى البرازيل ألّف مطوّلة عن الطائرة بعنوان «على بساط الريح».

النار: قصف الطيران الحربي الفرنسي لدمشق لقمع انتفاضة العام ١٩٢٥.

ومن آثاره حريق الحيّ السكني الدمشقي الذي لا يزال يعرف باسم «حريقة». والقصف غمضت ذكراه بعض الشيء وإن بقي له أثر في الشعر في قصيدة أحمد شوقي الشهيرة «نكبة دمشق» التي لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب: سلام من صبا بردى أرقّ ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق/ إذا عصفَ الحديدُ احمرّ أفقٌ على جنباته واسودّ أفقُ/ دمُ الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنّه نورٌ وحقّ/وللحرّيّة الحمراء بابٌ بكلّ يدٍ مضرّجة يُدَقُ.

وخاطب سعيد عقل دمشق يذكّرها بالحدث في قصيدة أنشدتها فيروز من ألحان الأخوين رحباني: ذكّرتكِ الخمسَ والعشرين ثورتها/ذاك النفير إلى الدّنيا أنْ اضطربي/ فُكّي الحديدَ يواعِدْكِ الألى جَبَهوا لدولة السيف سيفاً في القتال رَبِي.

التراب: نظرات من المساء على الأرض يلقيها رائد الفضاء السوري المقدّم محمد فارس المشارك في محطّة «مير» السوفييتيّة العام ١٩٨٧ وحديث من الفضاء للأرض مع الرئيس حافظ الأسد يصف المقدّم محمّد فارس لقائده سورية من الجوّ ويعبّر عن حبّه للوطن وولائه للقائد. جدير بالذّكر أن المقدّم محمّد فارس انشقّ من الجيش السوري لأسباب «جوّيّة»، احتجاجاً على قصف طيران النّظام لمدينة حلب في آب/أغسطس ٢٠١٣.

الماء: أخيراً روى كرّاس «تنقيب في السماء» قصّة رجل مُسنّ من بلدة سرمين ينتحب إثر تدمير برميل متفجّر للمرحاض الخارجي لبيته ويرثي المرحاض في قصيدة بِرازية من وحي المناسبة.

شاركتُ بمداخلة في ندوة ضمن فعاليّات الجناح السوري في المعرض عن حروب السماء على الأرض. حاولت أن أتتبّع الوسائل المستجدّة في قتل المدنيّين من السماء التي بدأتها في مقال سابق «غيرنيكا لكلّ حروب العرب». ما سيلي ليس نصّ المداخلة وإنّما هو تجميع لملاحظات تحضيريّة للمداخلة التي ألقيت شفهيّاً. انطلقت ممّا ذكّرتني به حادثة قصف الطيران الفرنسي لدمشق العام ١٩٢٥ من ضرورة تصحيح معلوماتي التي تقول بأنّ قصف الطيران النازي الألماني لبلدة غيرنيكا الباسكية العام ١٩٣٧ هو أوّل حادثة إستخدام للطيران الحربي ضدّ مدنيّين. الصحيح أنّ قصف غيرنيكا شكّل تلك السابقة بالنسبة إلى العالم الغربي. حقيقة الأمر أنّ القوى الاستعماريّة جرّبت الحروبَ الجوّيّة ضدّ المدنيّين في منطقتنا قبل أنْ تصدّرها إلى بلادها.

الاختراع البريطاني

تشير الأدلّة التاريخيّة إلى أنّ الريادة في استخدام الطيران الحربي ضدّ المدنيّين في المنطقة العربيّة هي لبريطانيا. وأنّ ونستون تشرشل هو صاحب النظريّة عندما كان وزير الحرب والطيران في الحكومة البريطانيّة وهو مَن وضعها موضع التنفيذ بمساعدة هيو تْرِنشارد، قائد «الطيران الملكي البريطاني». كان ذلك بُعيد الحرب العالميّة الأولى. ونقطة الانطلاق الدرس الذي استخرجه ترانشارد من تجربة الحرب العالميّة الأولى من أنّ «الطائرة سلاح هجوميّ وليست سلاحاً دفاعيّاً».

لعلّ أوّل مرّة استُخدم فيها الطيران الحربيّ البريطانيّ ضدّ المدنيّين هو خلال قمع انتفاضة العام ١٩٢٠ الوطنيّة في العراق وقد دارت أبرز حوادثها في جنوب البلاد. طلب تشرشل من ترنشارد استخدام الطيران للتخفيف من كلفة وجود المشاة على الأرض علماً أنّه كان يوجد على أرض العراق حينها لا أقلّ من١٤ ألف جنديّ بريطانيّ نظاميّ يُضاف إليهم حوالى ٨٠ ألف جنديّ هنديّ، قدرت كلفتهم بـ ١٤ مليون جنيه إسترليني سنويّاً.

ولم يقتصر الأمر على قمع ثورة العشرين. على سبيل اختبار تأثير الطيران الحربي على المدنيّين، اجتهد تشرشل بأنّ الغازات السامّة في القصف الجوّي «أرحم على المدنيّين» من المتفجّرات. مع أنّه ليس واضحاً إطلاقاً ولا هو مقنع أبداً، لماذا الموت اختناقاً أرحم من الموت تشظّياً. لعلّ تشرشل كان يرى هنا أيضاً، وخصوصاً أنّ «القتل الرحيم» للمدنيّين بالغازات السامّة أقلّ كلفة من قتلهم بالقنابل. فاقترح على ترانشارد اختبار غاز الخردل على أهالي جنوب العراق. وجدير بالذّكر أنّه تكريماً لدور الطيران الحربيّ الملكيّ البريطانيّ في إخماد ثورة العشرين، سلّمته سلطات الانتداب المسؤوليّة العسكريّة عن العراق.

عن فاعليّة القصف الجوّيّ ضدّ المدنيّين العراقيّين، في تلك الفترة، تباهى آرثر هاريس، الضابط الذي سوف يُشرف على تدمير المدن الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية، بأنّه كان بإمكان الطيران محو قرية كبيرة من الوجود في غضون ٤٥ دقيقة وتحويل جميع سكانها إلى قتلى أو جرحى٢.

خلال تلك الفترة استخدم غاز الخردل ايضاً لقمع عرب المشرق والأكراد والأشوريّين في الشمال العراقي على حدّ سواء. وكان لسلاح الجوّ البريطاني استخدامات شتّى في المنطقة قبيل الحرب العالميّة الثانية وأثناءها وبعدها. فقد استخدم الطيران الملكي مثلاً للدفاع عن عرش عبد الله، أمير شرقيّ الأردن ضدّ غارات آل سعود، واستخدم تكراراً في فلسطين منذ العام ١٩٢٤ ولعب دوراً أساسيّاً في قمع الثورة الفلسطينيّة الكبرى ١٩٣٦-٣٩.

بعد العراق، وربّما في الوقت ذاته، استخدم البريطانيّون الطيران الحربيّ في مستعمرة عدن والمحميّات. أسّسوا مطاراً وقاعدة جويّة للطيران الملكي في ضاحية خور مكسر. وفي اليمن، نشأت فكرة «شرطة الجوّ» في العشرينيّات من القرن الماضي أيضاً. نظّم الطيران الملكيّ دوريّات جوّيّة لمراقبة القبائل وترهيبها وردعها عندما تقاتل ولقمعها وتأديبها عندما تتمرّد. والفكرة السائدة أنّ الطائر المعدنيّ الجبّار كفيل ببثّ الرّعب في السكّان المحلّيّين فيوقفوا الاحتراب فيما بينهم أو يتخلّوا عن العصيان على السلطات البريطانيّة٣. لاحقاً، استُخدِم الطيران البريطاني بكثافة ضدّ انتفاضة ردفان وحرب الاستقلال في جنوب اليمن في الستينيّات من القرن الماضي. لم ينجح القصف تماماً في قمع الانتفاضة الوطنيّة ضدّ الاحتلال، لكنّه مكّن البريطانيّين من تمديد بقائهم في مستعمرة عدن ومحميّات جنوب اليمن، لبضع سنوات إضافيّة، قبل أن يضطرّ الجيش البريطانيّ إلى الانسحاب في أعقاب خمس سنوات من الكفاح المسلّح بقيادة حركة التحرير الوطنيّ اليمنيّة (١٩٦٢-١٩٦٧).

حرب الاغتيال من السماء

هذا بعض ما تجمّع لديّ عن العقاب الجمعيّ على مستوى قبيلة أو قرية أو مدينة. غير أنّ الموت الذي يزخّ من السماء ما لبث أن بدأ يستهدف الأفراد بما هم أفراد.

متى بدأت الطائرات تقنص الأفراد؟

في حصار بيروت طاردت طائرات حربيّة إسرائيليّة ياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة، لقنصه بصاروخ جوّ-أرض. لم توفّق به مع أنها نجحت في تدمير بناية كان يستخدمها بقنبلة فراغية. وفي غزّة بدأت أولى الاغتيالات ضدّ الأفراد بواسطة صواريخ إفراديّة من طوّافة أو طيّارة بدون طيّار. من ضحاياها الشيخ أحمد ياسين، مؤسّس حركة حماس، وأبو علي مصطفى، الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.

هنا تبدأ قصّة الطائرة بدون طيّار. الاسم بالإنكليزيّة في القاموس العسكريّ UAV- Unmaned Arial Vehicle أي «مركبة جوّيّة بلا طيّار» أو Drone والدرون بالإنكليزية هو ذَكَر النحل تأكيداً على دقّة اللسعة القاتلة المفترضة. بدأ عهد جديد في الحروب لم يقتصر على توفير ماديّ في كلفة الطائرة وفي كلفة الطيّار. افتتحت الطائرة بدون طيّار عهد الاغتيالات من السماء.

كانت أولى الطائرات بدون طيار طائرة توم كات Tom Cat التي استخدمها الجيش الأميركي لأغراض الاستطلاع خلال حربه على فيتنام. ثمّ خدمت لأغراض التجسّس على كوبا في العام ١٩٦٤. غير أنّ التطوّر الكبير جاء مع طائرة «المفترس» Predator ، التي اخترعها المهندس العسكري إبراهيم كريم، الذي ولد في بغداد ابناً لتاجر يهوديّ، وهاجر إلى الولايات المتّحدة حيث ما لبث أن تخصّص في صناعة هذا النّوع من الطائرات٤. وقد طوّر كريم طائرة GNAT75 التي استخدمها سلاح الجو الأميركي لأغراض الاستطلاع فوق البوسنة ابتداء من فبراير/شباط ١٩٩٤. وفي السبعينيّات كان كريم قد باشر بناء طائرات بدون طيّار لسلاح الجوّ الإسرائيلي. وفي العام ١٩٨٠ حازت إسرائيل على أولى الطائرات وطوّرت من جانبها طائرة «الرائد» Pioneer التي استخدمتها في قتال القوّات السوريّة فوق سهل البقاع بلبنان العام ١٩٨٢.

في عام ٢٠٠١ تحوّلت طائرة «المفترس» Predator الأميركيّة إلى طائرة قاتلة. والطائرة من إنتاج وكالة الاستخبارات الأميركيّة الـ«سي آي إي». وفي أيلول/سبتمبر من ذلك العام، أجازت وزيرة الخارجيّة كوندوليسا رايس تسليح «المفترس» فزوّدت بصاروخ «نار الجحيم» Hell Fire. بناءّ عليه، صارت الوكالة تضع على مكتب الرئيس بوش الابن لائحة بأهداف قتل ذات أولويّة لإجازة ضربها، وما لبثت أن استصدرت من الرئيس السماح لها بالقتل بواسطة الطائرة بدون طيّار دون موافقة مسبقة منه. ومن أولى ضربات «المفترس» اغتيال سنان الحارثي قائد تنظيم القاعدة في اليمن المتّهم بتفجير المدمّرة البحريّة الأميركيّة «يو.إس.إس كول» في ميناء عدن باليمن في ٤ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٠٢.

غير أنّ ازدهار القنص بواسطة الطائرة بدون طيّار ينتمي إلى ولاية باراك أوباما منذ ٢٠١٠. وأوباما هو الرئيس الأميركيّ المهووس بالطائرة بدون طيّار وقد وجد فيها ضالّته حيث شكّل استخدامها الحلّ الوسط بين التدخّل العسكريّ المباشر، الذي تعهّد بعدم اللجوء إليه، والثّبات على الأرض، كما كان الحال عند آل بوش، من جهة، واللاحركة على الأرض والاقتصار على الحركة في السماء، من جهة أخرى. وهكذا في كلّ يوم ثلاثاء يلتقي الرئيس كبار القادة العسكريّين في جلسة لتعيين الأهداف (البشريّة) التي يتعيّن تنفيذ الإعدام بحقّها بواسطة الطائرة بدون طيار.

ولقياس مدى الاهتمام بهذا السلاح الجديد، ارتفعت موازناته من خزينة الدّولة الأميركيّة ارتفاعاً شاهقاً من ٢٨٤ مليون دولار العام ٢٠٠٣ إلى ٣ مليارات دولار بحلول العام ٢٠١٦. وفي عهد أوباما قتلت طائرات الطائرة بدون طيار ٣٩٠٠ هدف بشري في ٤٢٢ ضربة في أفغانستان وحدها تنفيذاً لبرنامج تديره الـ”سي آي إي” منذ العام ٢٠٠٤.

ومنذ العام ٢٠١٣ ووزارة الدفاع الأميركيّة مجهّزة بـ ٢٣٧ طائرة «مفترس» وبـ١١٢ زميلة لها أشدّ فتكاً ودمويّة هي طائرة «الحاصد» Reaper؛ وبنهاية ٢٠١٥ استخدمت طائرات بدون طيّار ٥٠٠ مرّة لمهمّات التعقّب والقتل وقتلت ٣،٩٢٢ هدفاً بشريّاً خارج ميادين القتال التقليديّة، معظمهم في باكستان واليمن.

باكراً استخدمت الطائرات بدون طيّار الأميركيّة لعمليّات ضدّ متّهمين بالانتماء إلى تنظيم القاعدة في اليمن. وباكراً أسقطت أعداداً لا يستهان بها من المدنيّين. تمّ الأمر بتسهيل من الحاكم علي عبد الله صالح لقاء مساعدات ماليّة وغضّ النظر الأميركيّ عن قمعه ضدّ شعبه وفساده، وخرقه كلّ بند من بنود حقوق الإنسان. وتقدّر منظّمة «هيومان رايتس ووتش» أنّ مناطق مختلفة من اليمن تعرّضت لنحو ٨٠ عمليّة قنص بواسطة الطائرات بدون طيّار منذ العام ٢٠٠٩. في واحدة من العمليّات المبكّرة في ١٧ كانون الأوّل/ديسمبر من ذلك العام، أطلقت الطائرات بدون طيّار صواريخها على مخيّم للبدو قتلت فيه ١٤ مشتبهاً بالانتماء إلى «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربيّة»، ولكنّها قتلت معهم ٤١ مدنياً خلال النوم، معظمهم من النساء والأطفال.

وفي ١٢ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٣، قصفت طائرات أميركيّة بدون طيّار قافلة سيّارات متوجّهة إلى عرس في منطقة رداع، تضمّ٦٠ إلى ٧٠ شخصاً، فقتلت ١٢ منهم وجرحت، ١٥ كلّهم مدنيّون٥.

«إنّهم فقط يَقتُلون. إنّهم لا يعرفون ما الذي تسبّبه صواريخهم!».

القول لوالد أحد ضحايا المدنيّين بضربة لطائرة بدون طيّار في حضرموت، بجنوب اليمن، في أغسطس/آب ٢٠١٣، نقلت حديثه رضيّة المتوكّل، رئيسة منظّمة «مواطنة لحقوق الإنسان» اليمنيّة، في شهادتها يوم ٣ يوليو/تموز، ٢٠١٦ أمام البرلمان الأوروبيّ عن أثر الطائرات بدون طيّار على السكّان المدنيّين في بلادها. أشارت المتوكّل إلى أنّ أغلب المناطق التي طاولتها الهجمات مناطق نائية وفقيرة حيث يقول السكّان بسخرية حزينة إنّ أحدث صواريخ العالم وصلتهم قبل أن تصلهم الكهرباء! ومن الحالات الّتي استمع إليها البرلمانيّون الأوروبّيون حالة صاروخين وجّهتهما طائرة بدون طيّار على سيّارة في مديريّة ولد دبيع بمحافظة البيضاء بوسط اليمن. كان ذلك، يوم ٢ سبتمبر/أيلول ٢٠١٢ والسّيّارة تسير في الشارع العام وفيها ١٤ شخصاً عائدين من السوق. قتلت الطائرة بدون طيار١٢ شخصاً على بعد أمتار من حاجز للجيش. لقد قرّرت أميركا قتلهم من دون محاكمة، يقول أهل الضحايا. ودون ممارسة حقّهم في الدفاع. وتحدّثت المتوكّل عن أنّ الطائرات تزرع الرّعب فتسهم في هجرة الأهالي، واستطردت عن عدم الاعتراف الحكومي بالضّحايا المدنيّين وعدم التعويض عليهم في معظم الحالات، وختمت عن فشل القتل كوسيلة لمحاربة الإرهاب مشيرة إلى أنّ عناصر القاعدة و”داعش” في اليمن أكثر عدداً وأوسع انتشاراً من ذي قبل، ومن أسباب قوّتهم غضبة النّاس على الطائرات بلا طيّار.

في ختام مداخلتها، لم تغفل رضيّة المتوكّل الإشارة إلى أنّ سماء اليمن منذ مارس/آذار ٢٠١٥ عرفت وسائط قتل أخرى ضدّ المدنيّين: الطائرات الحربيّة للتحالف العربيّ بقيادة السعوديّة، ومدافع وصواريخ أطراف الحروب المحليّة (قوّات الحوثيّين وعلي عبد الله صالح من جهة، والقوّات التابعة لحكومة عبد ربّه منصور هادي من جهة ثانية) وهذه وتلك مسؤولة عن آلاف القتلي بين المدنيّين.

قد تبدو أرقام الضحايا المدنيّين لصواريخ الطائرات بدون طيّار الأميركيّة متواضعة بالقياس إلى ما كان مسموحاً به في عهد بوش الابن. فبناءً على قواعد تشغيل تلك الطائرات، يجاز استخدام القتل لـ«هدف عالي القيمة»، شرط ألّا يتجاوز تقدير عدد الضحايا المدنيّين الذين سوف يسقطون جرّاء العمليّة ٢٩ ضحيّة، أمّا إذا صار العدد المقدّر ٣٠ ضحيّة، فلا بدّ من أخذ موافقة دونالد رامسفيلد أو جورج بوش بالذّات٦.

تبقى الإشارة إلى الانقلاب النوعيّ في الوجه الشرعيّ والقانونيّ لعمليّات الطائرات بدون طيّار. في ردّ فعل على هجوم تنظيم القاعدة على برجي مركز التجارة العالميّ في نيويورك، طالب الرئيس الأميركيّ جورج بوش حركة الطالبان بتسليم زعيم التنظيم أسامة بن لادن إلى القضاء الأميركيّ لمحاكمته بتهمة تنظيم هجوم يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ٢٠٠١. ولمّا امتنعت قيادة حركة الطالبان عن تسليمه، أعلن بوش أنّه سوف يتعقّب بن لادن عبر العالم للقبض عليه وسَوْقه إلى المحكمة. انقلب الأمر رأساً على عقب مع إعلان حالة حرب لا نهاية لها سُمّيت «الحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب». انتهى دور التحقيق، والأدلّة الجنائيّة، والقضاء، والقانون الدوليّ، وقرارات الأمم المتّحدة، وافتراض البراءة، والحق في الدّفاع، وسواها ممّا يشكّل الحدّ الأدنى من منظومة دولة القانون واستقلال القضاء وعدالته. غلبت التّهمة الاستباقيّة والقتل الاستباقيّ: يريدون قَتلنا، قرّرنا قتلهم، هي المعادلة الّتي وردت في إحدى خطب الرئيس أوباما. وهو نوع القرارات التي يتّخذها كلّ يوم ثلاثاء في مكتبه بالبيت الأبيض بواشنطن.

أمّا الضّحايا من المدنيّين الذين يعترف لهم بأنّهم قضوا نتيجة «خطأ» ارتكبته طائرة من دون طيّار، فيتلقّى ذووهم تعويضاً يبلغ في أفغانستان، مثلاً، خمسة آلاف دولار ومعزاة.

حرب الاغتيال الإسرائيليّة

يستخدم الطيران الإسرائيلي الطائرة بدون طيّار منذ العام ١٩٧٠، وقد جرى تصنيعها محلّيّاً ابتداءً من العام ١٩٧٤ ويجري تصديرها منذ الثمانينيّات إلى ٢٤ من أصل ٧٦ بلداً تستخدم الطائرة بدون طيّار، وتشكّل صادرات الطائرة بدون طيّار الإسرائيليّة ١٠٪ من إجماليّ قيمة صادراتها العسكريّة. وإسرائيل هي في طليعة مصدّري ذلك النّوع من الطائرات في العالم حسب تقرير للعام ٢٠١٣. الغرض الأوّل من الطائرة بدون طيّار هو تخفيف المخاطرة وتقليص الخسائر في العنصر البشريّ في الطيران الحربي بإخراج الطيّارين من الميدان.

بسبب تعقيد تجهيزاتها وحذلقتها الإلكترونيّة، تملك الطائرة بدون طيّار مجسّات وكاميرات تجمع معلومات وتمارس «وظائف أمر وسيطرة» وتختار الأهداف وتطلق الصواريخ والقذائف على بُعد مئات، وأحياناً آلاف الكيلومترات من الأهداف البشريّة. وقد جرى تشبيه تشغيل الطائرة بدون طيار بألعاب الفيديو. يستخدم المشغّل العصا الإلكترونيّة وكبسة زرّ لإطلاق قذائف ضدّ أهداف ظاهرة على شاشة الكمبيوتر أمامه في اليمن أو أفغانستان وهو قابع في مكتبه المبرّد في قاعدة نيلليس الجوّية في جوار مدينة لاس فيغاس الأميركيّة.

بدأ استخدام الطائرات بدون طيّار في المنطقة في عمليّات استطلاع ضدّ مصر العام ١٩٧١، وصولاّ إلى حرب تشرين/أكتوبر ١٩٧٣.

وعلى الرغم من أنّ إسرائيل تنفي استخدام الطائرة بدون طيّار لأغراض القتل، فإنّها تمارس القتل بواسطتها باستمرار. ومن أوائل تلك الاستخدامات اغتيال السيّد عبّاس الموسوي، الأمين العام لحزب الله، في موكب سيّارات مع عدد من أفراد أسرته في ١٦ فبراير/شباط ١٩٩٢ بواسطة طائرة بدون طيّار إسرائيليّة من طراز «كشّاف» Scout . مع أنّ المؤكّد أنّ الطائرة بدون طيار تولّت عمليّة الاستكشاف، يبدو أنّ الاغتيال تمّ بواسطة صواريخ موجّهة من طوّافات. في فلسطين، أدلّة على استخدام الطائرة بدون طيّار لتوجيه ضربات على أفراد، منها عمليّة في ٢٤ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٠٤ ضدّ مقاتلين من الجهاد الإسلامي في خان يونس هما الأخَوان زياد وعمر أبو مصطفى، وكانا في العشرينيّات من العمر.

واستخدمت الطائرة بدون طيّار أيضاً، خلال الحرب على لبنان صيف ٢٠٠٦ لتحديد الأهداف ونقلها إلى الطوّافات للتعقّب والضرب، بشهادة تقارير دوليّة وأميركيّة. وقد جهّزت الطائرات بدون طيّار بصاروخ «حربة رافائيل» وقدّرت «هيومان رايتس ووتش» أنّ ما لا يقلّ عن ٢٥ لبنانيّاً قتلوا في ٩ ضربات لطائرات بدون طيّار إسرائيليّة خلال تلك الحرب.

واستُخدمت الطائرة بدون طيار على نطاق واسع في الاعتداءات على غزة «الرصاص المصهور» ٢٠٠٨-٩. قد اقتحمت القوّات الإسرائيليّة غزّة تتقدّمها الطائرات بدون طيّار بـ٥٠٠ ياردة تطلق نيران صواريخها المضادّة للدبّابات والقنابل المضادّة للأفراد، وتولّت قيادة تقدّم القوّات ببثّ معلومات عن الطرق الآمنة ليسلكها المشاة.

في العام ٢٠١٠ ابتكرت مصانع السّلاح الإسرائيليّة طائرة بدون طيّار مختصرة زوّدوا بها القادة الميدانيّين بحيث توفّر لهم المطلوب من المعلومات فلا يضطرّوا إلى الاتّكال على سلاح الطيران. وثمّة أدلّة على استمرار عمليّات الاغتيال الإسرائيليّة بواسطة الطائرة بدون طيّار في العامين ٢٠١٢ و٢٠١٣ حسب مصادر «هيومان رايتس ووتش» ذاتها حيث نفّذت ١٨ ضربة في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢. وقد اغتيل آنذاك درّاج يدعى هيثم مشعل، ٢٩ سنة، وأحد حرّاس مستشفى الشّفاء. وعلى الرغم من أنّه لا دليل قاطعاً على أنّ طائرة بدون طيّار اغتالت بالصواريخ الشيخ المقعد أحمد ياسين وهو في طريقه إلى الجامع للصّلاة على كرسيّه المتحرك، فالراجح أنّها كانت توجّه الطّوّافة التي تولّت تلك المهمّة. لكنّنا نعلم في المقابل أنّ عمليّة «عمود الدفاع» ضدّ غزّة في العام ٢٠١٢ بدأت بتولّي طائرة بدون طيّار من طراز «هيرمس ٤٥٠» توجيه صاروخ مضادّ للدروع على أحمد الجعبري، قائد الجناح العسكريّ لتنظيم حماس. عموماً، تستحوذ العمليّات بواسطة الطائرات بدون طيّار على ٦٥٪ من إجماليّ العمليّات الحربيّة الجويّة للجيش الإسرائيلي.

وثمّة أخبار تفيد بأنّ الطيران الإسرائيلي استخدم طائرات بدون طيّار لتوجيه عدّة ضربات ضدّ أهداف بشريّة في سيناء «بمباركة الطغمة العسكريّة» في مصر حسبما يتباهى عسكريّون اسرائيليّون٧.

ذروة النّفاق في استخدام الجيش الإسرائيلي للطائرة بدون طيّار هو الادّعاء بأنّها تسمح بتنفيذ «عمليّات حربيّة بدقّة جراحيّة». كيف لا و«درون» بالإنكليزيّة هو ذَكَر النحل تأكيداً على دقّة اللسعة القاتلة. هذه هي نتائج «الدقّة الجراحيّة» لعمليّة «الرصاص المصهور» على غزّة: ٣٥٣ طفلاً قتيلاً و٨٦٠ جريحاً، ١١٦ منهم ضحايا ضربات طائرات بدون طيّار٨. علماً بأن ٥١٩ هو مجموع عدد الأطفال الذين قتلوا من مجموع ضحايا الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة البالغ عددهم ٢١٩٢.

مقاومة الأرض

في مواجهة القتل الذي يزخّ من السماء، لجأ الفلسطينيّون إلى الأرض.

للفلسطينيين علاقة حميميّة بالأرض. تعلّموا بالتجربة، أنّه عندما يسيطر الذين سلبوا الأرض على السماء، تجب مقاومتهم من الأرض، وعندما تتعذّر المقاومة من فوق الأرض، تجب مقاومتهم من تحت الأرض. يحفرون الأنفاق في بطن الأرض.

افتتح مقاومو غزّة حرب الأنفاق. قبلهم بادرت المقاومة الإسلاميّة في لبنان إلى استخدام موسّع لتكتيك الأنفاق في استلهام للتّجربة الفيتناميّة. وليس سرّاً أنّ منطقة الشريط الحدوديّ بين لبنان وفلسطين المحتلّة مخترَقة بأعداد كبيرة من الأنفاق يتوغّل بعضها تحت المستوطنات الإسرائيليّة. بعد حرب غزّة، بدأ جنرالات إسرائيل ومحلّلوها الحربيّون يطرحون السؤال: ما الذي سوف يجري إذا أخذ الفلسطينيّون وسائر العرب يحفرون الأنفاق تحت إسرائيل على طول الحدود مع الدولة العبريّة؟ يحارون جواباً. في الانتظار: إنّ باطن الأرض هو الخاصرة الهشّة للذين يسلبون الأرض.

أنين الطيّارين

في واحدة من لمعاته الاستباقيّة، كتب محمد الماغوط: «أشعر بزَهْو الجلاد/بأنين الطيّار الذي يضرب وطنَه بالقنابل» (محمد الماغوط، مصافحة في أيار).

قائد سابق لسلاح الجوّ الإسرائيليّ عندما سئل عن شعوره عندما يقصف مدنيّين، بينهم أطفال فلسطيّنيون وعرب، قال «أشعر برجفة خفيفة في جناح الطائرة».

ما شعور الطيارين العرب وهم يضربون وطنهم وأهلهم بالقنابل؟

كم عدد الطّيارين ومساعدي الطيارين والملّاحين الجوّيين العرب – من السعوديّة والإمارات والعراق وقطر واليمن ومصر وسورية وليبيا وغيرها وغيرها – الذين صدر عنهم أنين أو ما يشبه الأنين، وهم يضربون أبناء وبنات وطنهم بالقنابل والصواريخ والبراميل المتفجّرة؟

البراميل المتفجّرة

الطوّافة السوريّة التي ترمي البراميل المتفجّرة لها طيّار. لها طيّار ومعاون طيّار. ولا يستطيع هذا أو ذاك أن يدّعي أنّه لم يشعر إلّا برجفة في جناح الطائرة حين تسقط قنابله أو حين ينفصل صاروخ عن جناح. ولا الادّعاء بأنّه يعاين الهدف على شاشة إلكترونيّة بحيث لا يتطلّب الأمر منه إلّا أن يكبس على زرّ لقصفه. فلا عين ترى ولا قلب يوجع.

هنا يتمّ كلّ شيء بالعَين المجرّدة. تستطيع الطوّافة التحليق على علوّ معقول لعدم توافر دفاعات أرضيّة معادية تهدّد سلامتها. وعند الوصول فوق الهدف، يتولّى معاون الطيّار زحلقة برميل المتفجّرات إلى حافّة الطوّافة وركله بقدمه ليسقط على الهدف الذي غالباً ما يكون حيّاً سكنيّاً.

لا علاقة بين البرميل المتفجّر والطائرة بدون طيّار من حيث دقّة التصويب. تكمن العلاقة بينهما في الهدف: المدنيين.

البرميل المتفجّر اختراع محلّيّ. ومخترعه إنْ هو إلّا اللواء جميل الحسن، قائد الاستخبارات الجوّية، الفرع الأكثر قسوة من فروع الاستخبارات السورّية. يبدو أنّ أدوات القتل، من مثل الطائرة القاتلة بدون طيّار والبرميل المتفجّر، لا تخرج إلّا من مخيّلة الأمنيّين. وميزة الاختراع أنّ كلفة البرميل الواحد لا تقارَن بكلفة قذيفة مدفع أو صاروخ أرض-أرض أو جوّ-أرض: ١٥٠ دولاراً للبرميل، مقابل نصف مليون دولار للصاروخ المجنّح. بل إنّ مخترع البرميل المتفجّر يتباهى بأنّ الطاقة التدميريّة لبرميله تفوق طاقة الصاروخ المجنّح. وهذه مواصفاته:

    •    الحاوية: برميل نفط أو حاوية شبيهة

    •    الطول:٠،٩-١،٢ متر، العرض ٦،. متر

    •    الزعانف: يجري تلحيمها على جوانب البرميل لتساهم في توجيه البرميل

    •    بحيث يرتطم عموديّاً حيث صاعق الصدم

    •    محتويات البرميل: خردة معدنيّة ممزوجة بمتفجّرات من نوع «ت.ن.ت.»

    •    السعة: يمكن أن تصل سعة البرميل إلى أكثر من ٩٠٠ كيلوغرام من مادة «ت.ن.ت.»

    •    صاعق الصدم: عندما يُدفع نحو الأعلى يستخدم حبلَ التفجير لإشعال الـ«ت.ن.ت.».

البرميل المتفجّر سلاح من الأسلحة المضادّة لحروب الغوار (العصابات). يعمل بناءً على القاعدة المعروفة: إفراغ الماء لقتل السمكة. وظيفته العسكريّة تحييد المناطق التي لا يستطيع الجيش النظاميّ احتلالها أو السيطرة عليها، إمّا للكلفة الباهظة لاقتحام أماكن مبنيّة وإمّا لعدم توافر قوّات اقتحام مضمونة أو عدد كاف من قوّات التثبّت. ليس من مهامّ البرميل إصابة قوّات المعارضة المسلّحة حيث يستطيع هو أو غيره أن يصلها، إنّما تكمن وظيفته الأساسيّة في ترويع السكّان وتدمير الأبنية فوق رؤوسهم، ودفعهم إلى الهجرة، أو إلى الضغط على المسلّحين للمغادرة، أو لعقد اتفاقات وقف إطلاق نار أو هدن مع القوّات النظاميّة. وغالباً ما تكون المنطقة المعرّضة للقصف مطوّقة بواسطة القوّات النظاميّة أو المليشيات الداعمة لها، ما يزيد من فاعليّة الضغط عليها بواسطة القصف الجوّي البرميلي.

منذ العام ٢٠١٣ أدانت الأمم المتّحدة استخدامه دون أن تتّخذ أيّ إجراء عقابيّ جرّاء الاستمرار في استخدامه. حسب الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، قذفت مروحيّات النظام السوري ٩٩٦ برميلاً في أيار/مايو ٢٠١٦ أدّت إلى مقتل ٥٧ مدنيّاً بينهم ١٨ طفلاً و١٠ نساء٩.

وبناءً على المصدر ذاته، تعرّض ألف موقع في حلب للقصف بواسطة البراميل المتفجّرة في أيار/مايو ٢٠١٥ ما أدّى إلى ٢٥٦٧ ضحية بين قتيل وجريح من المدنيّين، بينهم ٢٥٪ من الأطفال، وفي الشهر ذاته تعرّضت مدينة درعا إلى ٤٥٠ قصفاً بالبراميل أوقع ٦٠٩ ضحايا ثلثهم من الأطفال١٠.

البرميل المتفجّر سلاح حِرَفي يصنع محلياً قليل الكلفة عميق الأثر، لكنّه يستثير أحياناً ردّ فعل انتقاميّاً من الطرف المقابل الذي يلجأ إلى ابتكارات حِرَفيّة هو أيضاً بتحويل عبوات الغاز المنزلي إلى قذائف ترمى على مواقع القوّات النظاميّة والأحياء السكنيّة التي تسيطرعليها. كلا السلاحين أعمى أو ضعيف التصويب، يقتل مدنيّين ولا يميّز بين مدنيّ ومسلّح.

ونحن من طرفنا حريّ بنا ألّا نميّز، أو نفاضل، بين ضحيّة وضحيّة بناءً على نوع السلاح الذي ضحّى بها، أو الفريق الذي انتمت إليه. التمييز الوحيد بين البرميل المتفجّر وعبوات الغاز المنزليّ تطلق من «مدافع جهنّم» هو في الطاقة التدميريّة وعدد الضحايا فقط. كلّ الضحايا بشر وكثرتهم مدنيّون. وبينهم نسب عالية من الأطفال. ولا يحقّ لأحد التمييز بين مدنيّ قتيل ومدنيّ قتيل، وبين طفل ضحيّة وطفل ضحيّة. التمييز بين قتيل وقتيل والمفاضلة بين طفل قتيل وطفل قتيل، بذاته فعل قتل، بل يمكن أن يصل أحياناً إلى حجم جريمة حرب.

والناس مستمرّون في مقاومة البراميل المتفجّرة ولا تخلو مقاومتهم من الشِعر: «لو أصبح القمر برميلًا لن نعود عن ثورتنا»، يقول هذا القَسَم لأهالي الزبداني، مهما يكن المعنى الذي يلبسونه للثورة!

عودة إلى تجهيز بيينال البندقيّة. الحفريات في السماء ما لبثت أن انتهت بحفريات في الأرض. ذلك فعل مقاومة أيضاً، مارس فيه المهندس خالد ملص وفريق «سجلّ» المهمّة الأولى للمعمار والعمارة: حفر الأرض بحثاً عن الماء. جمعوا مبلغاً من المال لتمويل حفر بئر للماء في إحدى قرى محافظة درعا بالتعاون مع مجلسها المحلّي. ردّ أهالي درعا على براميل القتل السماوي الزاخّة عليهم، بتفجير المياه من الأرض ليجعلوا «من الماء كل شيء حيّ»!

        ١.
فصل من كتاب يصدر قريبا عن دار رياض الريس للكتب والنشر بعنوان «دم الاخوَين. العنف في الحروب الاهلية»

        ٢.
Geoff Simons, Iraq from Sumer to Post Saddam, 2004, p 21.

        ٣.
استخدم سلاح الجوّ البريطانيّ الشرطة الجويّة مثلاً لقمع قبيلة آل السيار وانتفاضة بن عبدات في الأربعينيّات لعلاقة تلك القبيلة بدول المحور، في منطقة الغُرفة، ومن بين أبناء تلك القبيلة الذين تعاونوا مع دول المحور يونس البحري، المذيع الشهير في إذاعة برلين باللغة العربيّة من خلال برنامج «حيّ العرب!».

        ٤.
راجع مقالة شارلز غلاس في مدوّنته: Charles Glass, “Nagmachons:, Charles Glass.net, April 6, 2016. وكتاب آندرو كوبُرنأ أدقّ وأغنى بحث في ولادة وتطور وعمليات حرب الاغتيالات بواسطة الطائرات بدون طيّار. Andrew Cockburn, Kill Chain: The Rise of High-Tech Assassins, London, Verso, 2015.

        ٥.
5راجع تقرير مبعوثة هيومان رايتس واتش الى اليمن، ليتّا تايلر، ا٢ شباط/فبراير٢٠١٤. ومقالها Letta Tayler, “The Truth about the U.S. Drone Program”, Policy Review, March 24, 2014.

        ٦.
كوبُرن، المصدر ذاته، ص ١٣٩.

        ٧.
Jason Ditz, in Anti War, July 11, 2016

        ٨.
Mary Dobbins and Chris Cole, Israel and the Drone Wars. Examining Israel’s production, use and proliferation of UAVs, Drone Wars UK, Oxford, 2010.

        ٩.
http://www.creativememory.org/?p=129518

        ١٠.
https://aininfographic.com/project/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%85%…

نشرت في العدد ١٥ – خريف ٢٠١٦ من مجلة بدايات، وفي كتاب «دم الأخوين» لفواز طرابلسي والصادر حديثاً عن دار رياض الريس.

The post القتل من السماء… تاريخ موجز للطيران الحربي ضد المدنيين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مئوية سايكس بيكو: الخرائط والتاريخ https://rommanmag.com/archives/18476 Thu, 12 Jan 2017 02:08:54 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%a6%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%b3%d8%a7%d9%8a%d9%83%d8%b3-%d8%a8%d9%8a%d9%83%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d8%b7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae/ لا مجازفة في القول بأنّ «سايكس بيكو» كانت المفردة الأكثر استخداماً في المنطقة وعن المنطقة خلال السنوات الأخيرة، والموضوع الذي أثار أكبر مقدار من المقالات والتعليقات والنبذات الإلكترونية، خصوصاً بعد ظهور داعش عبر الحدود العراقية ــ السورية. جرت معظم ردود الفعل على النمط إياه من الأسطرة الذي اكتسبته تلك اللحظة التأسيسيّة والمأسوية في تاريخ العرب […]

The post مئوية سايكس بيكو: الخرائط والتاريخ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

لا مجازفة في القول بأنّ «سايكس بيكو» كانت المفردة الأكثر استخداماً في المنطقة وعن المنطقة خلال السنوات الأخيرة، والموضوع الذي أثار أكبر مقدار من المقالات والتعليقات والنبذات الإلكترونية، خصوصاً بعد ظهور داعش عبر الحدود العراقية ــ السورية. جرت معظم ردود الفعل على النمط إياه من الأسطرة الذي اكتسبته تلك اللحظة التأسيسيّة والمأسوية في تاريخ العرب الحديث: بناء الأحداث والتطوّرات على مجهول يفعل فينا تجزئةً وسيطرة، توقّعات استراتيجية عن أشكال مختلفة من إعادة رسم خريطة العام ١٩١٦ إياها، والبداهة في بيان «مشاريع» لا تني تتكرّر، مع تغييرات في الأسماء، (آخرها مشروع الشرق الأوسط الجديد)، إلخ. ولمّا كانت الأساطير لا تعرف التناقض، فنحن أمام سايكس ــ بيكو جديد سوف يتولّى تجزئة المجزّأ، ونحن في الوقت ذاته أمام مؤامرة سايكس ــ بيكو المستمرّة، وأمام سايكس ــ بيكو العائد، بعد أن كنّا أمام نهاية سايكس ــ بيكو التي يبشّر بها محلّلون استراتيجيّون عندنا وفي الخارج.
ترمي هذه المقالة إلى إلقاء نظرة نقدية تنقيحيّة إلى الحدث، بما هو مسار تاريخيّ، في إطاره من النزاع البريطاني ــ الفرنسي خلال وبُعيد الحرب العالميّة الأولى لوراثة السلطنة العثمانية، نظرة تعيد الاعتبار للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية الاستعماريّة، وتقيم الصلة بين اتفاقية سايكس ــ بيكو ووعد بلفور، التي أحدثت تعديلات جذرية في الاتفاقية ذاتها، وتختم بتسجيل ملاحظات على الثنائيات الأثيرة في خطاب «سايكس ــ بيكو»: الوحدة/التجزئة، الطبيعي/الاصطناعي، الدولة القومية/الحكم الأقلّي.
 
سايكس بيكو: الوثيقة والخريطة
منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، تداولت حكومتا بريطانيا وفرنسا مشاريع تدخّل عسكري ضدّ السلطنة العثمانية في عقر دارها بتركيا كما في ولاياتها الأوروبية والعربية. تناول البحث دعم انتفاضات يشنّها مسيحيّون في جبل لبنان، وعلويّون في جبال النصيريّة، أو يقودها أحد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري. كان الاقتراح الأثير عند الفرنسيين إنزالاً عسكرياً لقوات «الائتلاف» في الإسكندرون. عارضته بريطانيا لأنّه سوف يضعف الجبهة الرئيسة لعمليّات قوات «الائتلاف» عند مضائق البوسفور حيث تدور رحى معارك طحنت عشرات الألوف من جنود «الائتلاف» وسوف تختتم بهزيمة قواه في معركة غاليبولي أمام الجيش التركي بقيادة الضابط مصطفى كمال الذي سوف يعرف لاحقاً باسم «كمال أتاتورك». وكان أبرز المسؤولين الفرنسيين المحليّين عن مشاريع الانتفاضات جورج بيكو، قنصل فرنسا في بيروت، الذي أدّى إهماله إتلاف وثائق سرّية حين غادر المدينة إلى اكتشافها من قبل الأجهزة التركية وتسليم عدد من الوطنيين اللبنانيّين والسوريين إلى مشانق جمال باشا خلال عامي ١٩١٥- ١٩١٦.
على الصعيدين السياسي والديبلوماسي، كان الغرض الأول للدولتين انتزاع اعتراف عصبة الأمم بوراثة السلطنة العثمانية في السيطرة على شعوب المنطقة عن طريق التحايل على مبدأ تقرير المصير الذي كان مبرّر وجود المؤسّسة الدوليّة المنذورة لتحقيق «سلام ما بعده سلام». والحجّة الأثيرة التي استنبطتها باريس ولندن هي حماية الأقليّات الدينيّة. شدّد الفرنسيون منذ البداية على حماية المسيحيّين والدروز والعلويين والشيعة. كان جورج بيكو ينفي وجود قوميّة عربيّة أو وحدة عربيّة داعياً إلى ضبط الفوضى العاصفة بالمنطقة عن طريق «توحيد القبائل حول الرافعة الدينيّة» (Vincent Cloarec, La France et la question de Syrie, 1914-1918, 1998, p. 143-4). إذا كان الإنكليز قد غلّبوا بادئ الأمر التعريف الإثني ــ القومي لسكان المنطقة بما هم عرب، فلم يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يخرجوا ملفّ حمايتهم يهودَ السلطنة الذي فرضه رئيس الوزراء بالمرستون كأمر واقع على السلطان العثماني العام ١٨٤١.
بعد سنة من تبادل الرسائل بين مسؤولين في خارجية البلدين، كلّفت الحكومة البريطانية مسؤولاً جديداً للتفاوض المباشر مع الطرف الفرنسي. كان نظير جورج بيكو الفرنسي هو السير آرثر سايكس، النائب المحافظ في مجلس العموم، والعائد من مهمّة استطلاع عن المصالح البريطانيّة في مصر والعراق حيث تقدّم بمشروع طموح لربط بغداد بساحل المتوسط عن طريق خطّ سكّة حديد إلى حيفا، أو يعبر الصحراء السورية مباشرة إلى قناة السويس. وسايكس، الكاثوليكيّ المؤمن، من أوائل الداعين إلى إنشاء منطقة يهوديّة في فلسطين، يرى إلى احتلال بريطانيا للقدس انتقاماً من الحروب الصليبيّة. وقد استخلص من المجازر التركية ضدّ الأرمن أنّه لا يؤتمن للأتراك بالنسبة إلى الأقليّات.
الخط الذي رسمه آرثر سايكس وجورج بيكو بجرّة قلم على خريطة المنطقة من عكا على ساحل المتوسط إلى كركوك شمال ما بين النهرين، قسّم الولايات العربية من السلطنة العثمانية بين منطقة نفوذ بريطانية جنوبية حمراء ومنطقة نفوذ فرنسية شمالية زرقاء.
وأكّدت وثيقة الاتفاقية التي عرفت لاحقاً باسم الديبلوماسيَّين «استعداد الدولتين للاعتراف بدولة عربيّة مستقلّة أو بكونفيدرالية حكومات عربية في المنطقتين (أ) و(ب) في ظل سيادة قائد عربي» على أن تتمتّع فرنسا وبريطانيا في كل من المنطقتين بأفضليّات في العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة والاستثمار وتقديم المستشارين والموظفين الأجانب للدولة العربية أو لكونفيدراليّة الدول العربيّة.
من جهة ثانية، منحت الاتفاقيةُ فرنسا في المنطقة الزرقاء التي ترقى من شمال عكّا على طول الساحل السوري لتشمل لواءَي الإسكندرون وكيليكيا، وبريطانيا في المنطقة الحمراء التي تمتدّ من جنوب كركوك إلى الخليج بمحاذاة إيران وشطّ العرب، الحقّ في إنشاء إدارة مباشرة أو غير مباشرة أو حكم مباشر أو غير مباشر بالاتفاق مع الدولة العربية أو كونفيدرالية الدول العربيّة. اقتصادياً، اتّفق الطرفان البريطاني والفرنسي على تبادل التسهيلات والتخفيضات الجمركيّة في المرافئ التابعة لكلّ منهما، وعلى حقّ بريطانيا في بناء خطّ سكّة حديد بين بغداد وحيفا.
لم تحسم الاتفاقية النزاع الدائر على حدود سورية شمالاً وجنوباً وساحلاً، وخصوصاً على مصير الأراضي الفلسطينية حول القدس حيث كانت فرنسا تعتبر المنطقة بأسرها «سورية الجنوبية»، فاتّفق الطرفان مؤقتاً على تلوين تلك البقعة من الخريطة باللون البُنّي ووضعها تحت إدارة دوليّة. وظلّ الطرف الفرنسي متحفّظاً على التدويل.
 
الشريك الثالث
وقّع بيكو وسايكس الاتفاقية في ٩ أيار/مايو ١٩١٦ ولكن بعد أن زارا سان بطرسبرغ لإبلاغ الخارجية القيصرية بالاتفاق وتثبيت دور روسيا فيه على اعتبار أنّها سوف تقتطع المضائق على الضفتين الأوروبية والآسيوية لتركيا وبحر مرمرة ومنطقة إسطنبول. طالب الطرف الروسي بالحضور في إدارة شؤون القدس، فاشترط بيكو الاعتراف الروسي المسبق بحقّ فرنسا في فلسطين. وانتهى الأمر بتسوية يقرّ فيها الطرف الفرنسي باقتطاع الأراضي التركية لروسيا مقابل تعهّد روسي بالموافقة على مطالبة فرنسا بالقدس إذا تمّت الموافقة البريطانيّة عليها.
وهي مناسبة للتذكير بأنّ مشاريع التقاسم الأنكلو ــ فرنسي للمنطقة شملت كامل تركيا وبلاد البلقان. وقد كان الحلفاء يوزّعون الأراضي جنوباً وشمالاً بقصد استجلاب الدول للمشاركة بالحرب أو تعويضها على دورها فيها.
 
المصالح الاقتصادية: «المَنهبة الكبرى»
«المَنهبة الكبرى» ــ ذلك هو الاسم الذي أطلقه المسؤولون البريطانيّون والفرنسيّون على الولايات العربية من السلطنة العثمانية خلال الحرب العالميّة الأولى. ولمّا كان الشاغل الغالب باتفاقية سايكس بيكو يكاد أن يُختزل بثنائي وحدة/تجزئة، فغالباً ما تجري التعمية على حقيقة أنّ السيطرة على المنطقة وتقاسمها انطوت على عمليّة نهب واستغلال استعمارية متكاملة لعبت المصالح الاقتصادية والستراتيجية دوراً حاسماً فيها.
في رأس الأغراض الاقتصاديّة السيطرةُ على تجارة المنطقة. كانت أوروبا لا تزال تحتاج إلى المشرق العربي كمورد للموادّ الخام والمنتجات الزراعية والحبوب. في المقابل كان المطلوب أن تبقى أسواق المنطقة مفتوحة أمام السلع الأوروبية من أقمشة ومنسوجات ومحروقات ومعادن وآلات ومنتجات صناعية، تتولّى حركة المبادلات شركات نقل وتأمين بَحرية فرنسيّة وبريطانيّة.
تركزت مصالح بريطانيا في قطاع النفط المكتشف حديثاً في إيران والموصل وفتح أسواق المنطقة أمام منتجاتها الصناعية، وهي المصدّر الأول للمنطقة، وتنمية استثماراتها، وتأمين وصْل العراق ومصر وساحل المتوسط بخطّ سكّة حديد حسب توصيات سايكس. وكانت أبرز المصالح البريطانية الاقتصادية ــ الإستراتيجية هي طبعاً قناة السويس التي سوف يلعب النزاع عليها دوراً حيويّاً في تلك الفترة.
ومثلما أرسلت بريطانيا آرثر سايكس لاستطلاع الموارد القابلة للاستثمار والاستغلال في العراق ومصر، كذلك أوفدت غرفة تجارة مارسيليا بعثةً علميّة في أيار / مايو – أيلول / سبتمبر ١٩١٩ برئاسة بول هوفلان (١٨٧٣ ــ ١٩٢٤) أستاذ تاريخ القانون في جامعة ليون. أصدرت البعثة تقريراً ذا عنوان معبّر جداً ــ «ما قيمة سورية؟» ــ الذي أبان الفوائد والأرباح المقدّر أن تجنيها فرنسا من السيطرة على الموارد والمعادن ومصادر المياه والمنتجات الزراعية (قطن الجزيرة السورية وحرير جبل لبنان، مثلاً) وحماية وتوسيع الاستثمارات الفرنسية في معامل حلّ الحرير ومرفأ بيروت وطريق العربات بين بيروت ودمشق وسكّة حديد دمشق حماه ومتفرّعاتها. واوصت البعثة بتنمية دور فرنسا التعليمي لإنتاج موظفين قادرين على خدمة تلك المصالح. وقبل أن يغادر الجنرال غورو لاحتلال سورية ولبنان، أقامت غرفتا تجارة ليون ومارسيليا حفل عشاء على شرفه، حيث رفع خلاله كأسه ليعلن: «أيها السادة، إنّ الصفقة سوف تكون مُربِحة!».
 
سايكس ــ بيكو ووعد بلفور
يجري التعاطي غالباً مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور بشيء من الانفصال والتوازي أو توزيع العمل بين الحدثين: «الاتفاقية» للتجزئة والسيطرة، و«الوعد» للمسؤوليّة البريطانية عن قيام دولة إسرائيل. وهي نظرة إلى وعد بلفور تكتب تاريخ الحدث من نهايته وترسم خطاً بيانياً حتمياً بين الوعد وتحقيقه.
الأطروحة التي نودّ الدفاع عنها هنا هي الدور الأساسي لوعد بلفور في انتزاع فلسطين من المطالبة الفرنسية بها على اعتبارها «سورية الجنوبية»، وانتزاع حقّ الانتداب عليها بعد نزع شرعيّة الحكم العربي والشعبي عنها، واستخدام الاستيطان اليهودي ضد الأكثريّة العربيّة فيها على طريقة الاستراتيجيّات الاستعمارية الاستيطانية المعهودة في سائر المستعمرات البريطانية. وليس من دليل أبلغ على هذا الدور لوعد بلفور من ردّ فعل جورج بيكو عندما أبلغه سايكس في ١٣ آذار/ مارس ١٩١٥ عن نيّة بريطانيا «تقديم فلسطين لليهود»، فكان ردّ بيكو «لن توافق فرنسا أبداً على أن تصير فلسطين بريطانيّة» (Cloarec, 153).
بعبارة أخرى، لم يكن الغرض من رسالة اللورد بلفور إلى اللورد روثتشايلد، في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمير ١٩١٦، إزاحة فرنسا عن المطالبة بفلسطين لمنح اليهود «وطنهم القومي». كان المطلوب منح اليهود وعداً بوطن قوميّ من أجل إزاحة فرنسا عن فلسطين ونيل بريطانيا الانتداب عليها.
وكانت المصلحة الأمبراطوريّة البريطانيّة في السيطرة على فلسطين حاسمة الحيويّة والوضوح: السيطرة على الضفّة الشماليّة من قناة السويس، وتحويل فلسطين إلى منطقة عازلة بين منطقة النفوذ الفرنسي في سورية وقناة السويس، وقد تزايدت تلك الضرورة جرّاء الكلفة الضخمة التي تكبّدتها بريطانيا لصدّ هجوم جمال باشا، قائد الجيش الرابع العثماني، على القناة. وقد اقتضى الأمر نحو سنتين قبل أن تتمكّن القوّات الحليفة، بقيادة الجنرال أللنبي، من دفع القوّات المهاجمة إلى التراجع عن كامل سيناء في نهاية العام ١٩١٦.
وما لا يُذكر إلّا فيما ندر أنّ مهندس وعد بلفور إن هو إلّا آرثر سايكس ذاته، الذي حاول استصدار أول تصريح حكومي بريطاني لصالح وطن قومي يهودي في فلسطين في العام ١٩١٥. وهي المحاولة التي تحدّث عنها سايكس لبيكو أعلاه. لقي الاقتراح معارضة الوزراء اليهود ووجهاء الجالية اليهودية معاً. وقد اقتضى الأمر انتظار أواخر ١٩١٦ ومجيء لويد جورج إلى رئاسة الحكومة وآرثر بلفور إلى وزارة الخارجية، ليعاود سايكس الكرّة، وقد رقّي إلى مساعد سكرتير «حكومة الحرب» المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط. حينها انعقد توافق داخل الحكومة على أنّ وظيفة الاستيطان الصهيوني سوف تمهّد لاستعمار فلسطين وتوفير قاعدة سكانيّة له.
من أجل تثبيت الحقّ البريطاني في استعمار فلسطين، اقتضى الأمر أن تنصّ الرسالة أولاً بأول، على حرمان عرب فلسطين من صفة الشعب وبالتالي من الحقّ في تقرير المصير أي في إقامة دولة مستقلة خاصة بهم. تم نزع صفة الشعب عن عرب فلسطين وحرمانهم الحق في تقرير المصير بالاستبدال. مُنِح اليهود، وعددهم في فلسطين لا يتجاوز الستين ألفاً، صفة الشعب، والحق في إقامة دولة قومية لهم (دولة ــ أمّة) مفتوحة أمام كل من يرغب من يهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وحرم، في الآن ذاته، أكثر من ٧٠٠ ألف عربي (أكثر من ٩٠٪ من السكان) من الحق في تقرير المصير وبناء الدولة القوميّة.
ولتأكيد ذلك، كان لا بدّ من تعريف هويّة سكان فلسطين التعريف الديني ــ الإثني بين يهود و«غير يهود». فإذا التعهد بعدم إساءة إنشاء «الوطن القومي اليهودي» إلى الحقوق «المدنيّة والدينية» للجماعات غير اليهودية، يزيد الطين بلّة لأنه يكرّس حرمان عرب فلسطين من كامل حقوقهم السياسيّة في بناء دولة والاستقلال وتقرير مصير وإدارة شؤونهم بأنفسهم، بل وحتى حقّهم في التمثيل السياسي والمشاركة السياسية. من هنا فإنّ عدم ذكر «دولة يهودية» بدل «الوطن القومي اليهودي» في رسالة اللورد بلفور لم يكن من قبيل التورية، قدر ما كان للتأكيد أنّ فلسطين سوف تكون «بريطانيّة»، تماماً كما فهم جورج بيكو باكراً.
تأكيداً على أنّ الغرض الأوّل لرسالة بلفور كما لاتفاقية سايكس بيكو، كان حرمان العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، من حق تقرير المصير، رفضت بريطانيا وفرنسا المشاركة في بعثة كينغ كراين التي دعا الرئيس ولسن فرنسا وبريطانيا للانضمام إليها من أجل استطلاع رغبات سكان الولايات العربية السابقة. كتب بلفور في مذكرة سريّة إلى الحكومة البريطانية العام ١٩١٩: «هل نعني، في حالة سورية، استطلاع رغبات السكان بدرجة رئيسية؟ إنّنا لسنا نعني شيئاً من هذا القبيل… وهكذا فأياً تكن رغبات السكان، سوف يحصلون على فرنسا [قوة منتدبة عليهم] بالتأكيد. … وسوف يكون التناقض بين الميثاق [ميثاق عصبة الأمم] وسياسة الحلفاء فاقعاً في حال [الحديث عن] «أمّة فلسطين المستقلّة»… ذلك أنّنا لسنا نقترح في فلسطين استشارة رغبات سكان البلد الحاليين ولو من حيث الشكل».
J M N, Jeffries, «Analysis of the Balfour Declaration», in Khalidi, Walid, (ed.) From Haven to Conquest، Institute for Palestine Studies, Beirut 1971, pp. 173-4.

الظرفي والإستراتيجي
كثيرة هي الاعتبارات الظرفية التي اعتمدت لاحقاً تفسير دوافع الحكومة البريطانية في تقديم وعد لليهود بوطن قوميّ في فلسطين. ثمّة عربون وفاء لأثرياء اليهود الذين موّلوا المجهود الحربي البريطاني أو مكافأة حاييم وايزمان على اختراعه مادة الآسيتون اللازمة لفتائل المتفجّرات. وثمّة تفسيران متناقضان لدوافع الساسة البريطانيين، أحدهما هو عداؤهم لليهود (لا سامية)، والثاني دافع بروتسطانتي توراتي متعاطف مع مطلب العودة إلى أرض الميعاد. ومن ضمن الاعتبارات المتعلّقة بسير معارك الحرب ذاتها، تُذكر الحاجة إلى تشجيع الرئيس ولسن على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء باسترضاء أبرز مستشاريه من اليهود الصهيونيين براندايس وفرانكورتر، أو الحاجة المماثلة لإقناع روسيا الجمهورية بقيادة كرنسكي بالبقاء في الحرب، بالتأثير على اليهود في قيادة الثورة الروسية. ومن أواخر الحجج تلك التي تتحدّث عن استباق بريطانيا لألمانيا في كسب تأييد اليهود الأوروبيين بناءً على معلومات نقلها وايزمان بواسطة سايكس بأنّ الحكومة الألمانية تنوي إصدار تعهّد بدعم وطن قومي لليهود في فلسطين مقابل لعب وجهاء اليهود الألمان دور الوسيط مع قوى «الائتلاف» من أجل إنهاء الحرب.
Scott Anderson, Lawrence in Arabia: War, Deceit, Imperial Folly and the Making of the Middle East, 2013, pp. 348-9.
غير أنّ هذه الاعتبارات الظرفية، على أهمّيتها، تنضوي في إطار المصلحة الأبرز لبريطانيا في تأمين قناة السويس بالسيطرة على ضفّتيها. وقد توسّلت بريطانيا لإزاحة فرنسا عن فلسطين وانتزاع الانتداب عليها المنطق نفسَه الذي شرعنت به فرنسا حججها لاستعمار سائر الولايات العربيّة: منطق حماية الأقليّات.

سايكس بيكو الثانية: التعديلات
مع إطلالة العام ١٩١٧ كانت التصريحات البريطانيّة قد بدأت تتنصّل من سايكس ــ بيكو. وصف سايكس الاتفاقية بأنّها مجرّد مشروع وضعه جورج بيكو لا يمكن للحكومة البريطانية قبوله دون تعديلات عميقة. وصرّح لويد جورج بأنّ بريطانيا أقدر على حماية الأراضي المقدّسة من أي كان وجزم، ربّما لأوّل مرّة، بأنّ موضوع فلسطين الفرنسية «ليس وارداً أصلاً» (بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، ١٨٤).
كان لويد يتحدّث من موقع الشريك الاستعماري الأقوى. فبريطانيا هي التي قادت عمليّاً قوى «الائتلاف» خلال الحرب الكونية وقدّمت العدد الأكبر من القتلى. وهي التي هزمت حملة جمال باشا لاحتلال قناة السويس، إضافة إلى أنّ قوّاتها باتت تحتّل القدس بقيادة الجنرال أللنبي في كانون الأول/ ديسمبر ١٩١٧ الذي فرض الحكم العسكري على فلسطين ضدّ إرادة جورج بيكو المطالِب بإدارة مدنيّة مشتركة، ولم يترك للفرنسيين غير المشاركة في إدارة الأماكن المقدّسة في القدس. وفي شباط/ فبراير ١٩١٨ رضخت فرنسا للأمر الواقع وأيّدت وعد بلفور بعد أن كانت القوّات البريطانية قد سيطرت عمليّاً على كامل فلسطين. وفي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر ١٩١٨، دخلت قوات بريطانيّة ومعها وحدات من «الجيش العربي» دمشق، فتولّى أللنبي، بصفته الحاكم العسكري لسورية وفلسطين، إبلاغ الأمير فيصل بأنّ سورية «له» ولكنْ دون فلسطين ولبنان. ولمّا اعترض الأمير على منحه مملكةً لا منفذ لها على البحر، ذكّره أللنبي بأنّه تحت إمرته عسكرياً وعليه أن ينفّذ الأوامر العسكريّة.
بناءً عليه، أمكن للويد جورج أن ينتزع من كليمنصو آخر مغانم الحرب في المنطقة في حوار شديد الدلالة جرى في السفارة الفرنسية بلندن عشيّة مؤتمر السلام في كانون الثاني/ يناير١٩١٩:
 
كليمنصو: حسناً، ما الذي سوف نناقشه؟
لويد جورج: بلاد ما بين النهرين وفلسطين.
قل لي ماذا تريد؟
أريد الموصل.
سوف تكون لك … أيّ شيء آخر؟
نعم. أريد القدس أيضاً.
سوف تكون لك، قال كليمنصو مجدّداً.

(جايمس بار، خط في الرمال، بالإنكليزية، ص ٧١-٧٢).
 
المقصود بالقدس طبعاً كل الأراضي الفلسطينيّة الواقعة بين حيفا وجنوب غزّة ١٩١٨. وكان الجيش البريطاني قد احتلّ بغداد نهاية العام ١٩١٧ ودخل كركوك والموصل بعد استسلام الجيش التركي السادس في صيف ١٩١٨. وفرضت بريطانيا ضمّ الموصل إلى المنطقة الحمراء بعد اكتشاف النفط فيها بواسطة شركة النفط الأنكلوــ فارسية وسوف تتلقّى فرنسا مقابل التخلّي عن الولاية حصّة في «شركة نفط العراق».
 
تقسيم سورية
هكذا أعادت اتفاقيّة سايكس ــ بيكو المعدّلة رسم حدود «سورية التاريخيّة»، بعد أن انتزعت منها كيليكيا والموصل شمالاً وفلسطين جنوباً.
أخلى البريطانيون المنطقة (أ) عسكرياً وتركوا الفرنسيين يتفاوضون والأمير فيصل حول سورية. اقترح كليمنصو مملكةً عربيّة تحت الانتداب الفرنسي عاصمتها دمشق وتكون حلب مركز إقامة المفوض السامي الفرنسي، وكان فيصل ميّالاً لقبول الاقتراح، لكنّ العروبيين المحيطين به رفضوا مصرّين على الاستقلال التام. سقطت حكومة كليمنصو وحلّت محلّها حكومة يمين استعماريّ قرّرت احتلال سورية، فكان إنذار غورو الشهير وتقدّم قوّاته لاحتلال دمشق قبل انتظار ردّ الحكومة العربية، وبعد مبارزة يائسة في ميسلون بين مشاة وخيّالة وطيران ودبّابات، وكانت نهاية مملكة فيصل العربية في حزيران/ يونيو ١٩٢٠.
تفاوتت اقتراحات القيادة الفرنسية حول تقسيم سورية. دعا جورج بيكو إلى إنشاء عشرة كيانات لكسر قوى المعارضة السورية وتشتيتها. لكن غورو كان واثقاً «بإمكان السيطرة على سورية بتقسيمها إلى أربعة أو خمسة كيانات» على حدّ قوله (انظر: فواز طرابلسي «تاريخ لبنان الحديث. من الإمارة إلى اتفاق الطائف»، ٢٠١٠). وهكذا صار. فُصِل «لبنان الكبير» عشية الأول من أيلول ١٩٢٠، ومعه القسم الأكبر من الساحل، عن سائر أجزاء سورية، وأنشِئت الكونفيدرالية السورية من الدولة العلوية في الشمال الغربي والدولة الدرزية في الجنوب وبينهما دولتا دمشق وحلب. مع إقرار الدستور السوري عام ١٩٢٦ وحّدت سلطات الاحتلال دولتي حلب ودمشق. ثم ضمّتْ إليهما دولة العلويين والدولة الدرزية خلال مفاوضات الاستقلال العام ١٩٣٦ لتنشأ الجمهورية السورية أخيراً. ولم تتكرّس الحدود بين لبنان وسورية إلّا في مفاوضات استقلال البلدين العام ١٩٣٦. وفي تعديل أخير على ما تبقّى من «سورية التاريخية»، تخلّى الانتداب الفرنسي عن الإسكندرون ومدينة أنطاكية لتركيا أتاتورك لتأمين حيادها في الحرب العالمية الثانية.
 
تحجيم الوطن القومي اليهودي
ما إن أمّنت بريطانيا فلسطين ضمن ممتلكاتها حتى أجرت تعديلين على خريطة فلسطين، وبالتالي على خريطة «الوطن القومي اليهودي» كما وضعتها المنظمة الصهيونية، وضُمّت إلى صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم. تضع الخريطة الصهيونية الحدود الشمالية للوطن القومي اليهودي جنوبي نهر الليطاني إذ ينعطف بين صيدا وصور ليصبّ في البحر الأبيض المتوسط، ثمّ ينعطف خطّ الحدود جنوبي دمشق ليشمل الجولان قبل أن يعود ليسير في موازاة خط سكّة حديد الحجاز على الضفّة الشرقية من نهر الأردن وصولاً إلى العقبة، ومنها يصعد في خطّ مستقيم إلى جنوب رفح على المتوسّط.
حصل التعديل الأوّل خلال المفاوضات الطويلة التي أجرتها لجنة نيوكومب ــ پوليه لترسيم الحدود بين منطقتي الانتداب الفرنسية والبريطانية خلال الأعوام ١٩٢٠ــ١٩٢٣. دار النزاع بين الحكومتين مدار السيطرة على الموارد المائية بالدرجة الأولى. رفضت الحكومة الفرنسية استئثار بريطانيا بنهر الأردن وبروافده، فرُسِمت الحدود انطلاقاً من الناقورة شمال عكّا، بحيث بقيت منابع نهر الأردن وروافده في منطقة الانتداب الفرنسي بما فيها هضبة الجولان، في مقابل استئثار بريطانيا بنهر الأردن ومجراه وببحيرتي الحُولة وطبريّا.
أدّى التعديل الثاني إلى تقليص حدود فلسطين إلى الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن. فحُذفتْ من خريطة «الوطن القومي اليهودي» أراضٍ عرضها حوالي ٣٠ كيلومتراً على طول الضفّة الشرقيّة لنهر الأردن وصولاً إلى البحر الميت حيث ترقى الحدود في خطّ مستقيم إلى ميناء العقبة. هكذا نشأت إمارة شرق الأردن العام١٩٢١ تحت الحماية البريطانية، واعترفت بها عصبة الأمم في العام ذاته. وقد عارضت المنظّمة الصهيونيّة هذا التعديل وظلّت تطالب بشرق الأردن على اعتباره جزءاً من «فلسطين التاريخية». وعندما أسّس زئيف جابوتنسكي، الأب التاريخي لليمين الصهيوني، «حزب الإصلاح» العام ١٩٢٧ دعا إلى استعادة تلك الأراضي لفلسطين الانتدابيّة والسماح بالاستيطان اليهودي شرقي النهر.

بعثة كينغ كراين
لم يطبّق الرئيس ولسن مبدأه في تقرير المصير على الولايات العربية الخارجة من تحت السيطرة العثمانية. ورد في النقطة ١٢ من نقاطه الـ١٤ الشهيرة دعم الولايات المتحدة لتركيا كـ«دولة ذات سيادة»، أمّا باقي «القوميّات» فنصيبها صيغة مبهمة عن ضرورة «ضمان أمن الحياة فيها بالتأكيد، و[منحها] فرصة مطْلقة لنموّ الحكم الذاتي دون أيّ تدخّل».
أظهرت نتائج الاستطلاعات والاستفتاءات التي أجرتها لجنة كينغ ــ كراين على نحو حاسم أنّ سكّان المنطقة يرفضون وعد بلفور رفضاً قاطعاً ويرغبون في العيش في مملكة عربيّة واحدة مستقلّة، وأنّهم عند تخييرهم بين الدول المنتدبة عليهم، رجّحوا أميركا على حساب بريطانيا وفرنسا. ومع ذلك، كان الفارق كبيراً بين ما اكتشفته اللجنة وما أوصت به. بديلًا من الاستقلال والوحدة، اقترحت تقسيماً آخر للمنطقة تحت انتدابات أنكلو ــ أميركيّة. اقترحت اللجنة تدويل منطقة إسطنبول الأوروبية والآسيوية حول المضائق وانتداباً أميركيّاً على الجسم الرئيسي لتركيا، حظيت إزمير فيه بموقع «منطقة شبه حكم ذاتي»، أرمينيا: انتداب أميركيّ، كردستان: انتداب أميركيّ أو تبقى داخل العراق في ظل انتداب أميركيّ أو بريطانيّ، سورية بما فيها «لبنان» كـ«منطقة شبه حكم ذاتيّ» وفلسطين وصولاً إلى حدود صحراء سيناء: انتداب أميركي أو بريطاني أيضاً وأيضاً.
 
المقاومة
يتبيّن مما عرضناه أعلاه أنّ ما يسمّى اتفاقية سايكس ــ بيكو هو مسار استغرق أكثر من عقدين من الزمن على صياغته وتنفيذه وقد تعرّض لكمّ لا يُحصى من المراجعات والتعديلات، ومن أبرز محطّاته مؤتمرا باريس وسان ريمو والعام ١٩٢٦ وتكريس الانتدابات في عصبة الأمم، وإقرار الدساتير، وصولاً إلى العام ١٩٣٦واتفاقيات استقلال سورية ولبنان التي ما لبثت أن تراجعت فرنسا عن تنفيذها.
ويجدر التذكير بأنّ فرض الانتدابات واجهتْه انتفاضات شعبية ومسلّحة منذ الأيام الأولى لذاك العام التأسيسي، العام ١٩٢٠ الذي سمّي «عام النكبة» وعرفت المقاومة ثلاث دورات من الانتفاضات الشاملة للمشرق العربي، من معالمها البارزة ثورة العشرين في العراق، والثورة السورية الكبرى في جبل الدروز وانتفاضة المدن السورية والاشتباكات بين الأهالي والمستوطنين اليهود في فلسطين العام ١٩٢٥، وبلغت ذروتها في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى فترة ١٩٣٦ــ ١٩٣٩. ويمكن القول إنّ مرحلة أولى من فرض اتفاقية سايكس ــ بيكو ووعد بلفور على شعوب اختتمت مع إخماد تلك الانتفاضة.
 
تجزئة، توحيد أم إعادة تشكيل؟
دار قسم كبير من الجدل حول تلك المرحلة التاريخية التأسيسية مدار عدد من الثنائيات المانعة الواحدة منهما للأخرى: تجزئة/وحدة، كيان طبيعي/كيان اصطناعي، أمّة ــ دولة/كيان طائفي ــ إثني، إلخ. وهي مناسبة لوضع بعض النقاط على حروف تلك الثنائيّات.
هل كانت عمليّة سايكس ــ بيكو مجرّد عمليّة تجزئة؟ وبأيّ معنى؟ وإذا صحّ القول فما الذي جزّأته؟ وبالقياس إلى أية وحدة؟
إذا كانت التجزئة قد تمّت بالقياس إلى وحدة السلطنة العثمانية، فما هي وحدة السلطنة؟ وأين هي؟ في الفترة التي نحن بصددها، وقد تقلّصت إلى تركيا والولايات العربية المشرقية. أمّا إذا كان المقصود تجزئة التقسيمات الإدارية العثمانية، فالأحرى الحديث عن عمليّات ضمّ وفرز نشأت بموجبها كيانات جديدة: نشأ العراق بدمج ثلاث ولايات عثمانيّة سابقة في كيان واحد (كانت الخرائط العثمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر تدمجها تحت تسمية «العراق العربي»)، وتكوّنت فلسطين بضمّ سناجق عكا ونابلس والقدس، ونشأ شرق الأردن بدمج القسم الجنوبي من سنجق حوران وسنجق معان، ووُلدت الفيدرالية السورية، التي ضمّت أجزاء من ولاية الشام وأجزاء من ولاية بيروت، وأخيراً لبنان الذي قام على ضمّ أجزاء من ولاية بيروت وأربعة أقضية من ولاية الشام إلى متصرّفية جبل لبنان، التي تمتّعت بقدْر من الحكم الذاتي بين ١٨٦١و ١٩١٥.
غير أنّ السجال حول الوحدة والتجزئة ليس يقتصر على مثل هذا الاعتبار الإداري. إنّه يستدعي دلالات للوحدة تقرنها بالقوّة مثلما تقرن السلطة المركزية بالوحدة والقوة، وتضفي على الوحدة واجب الالتزام بالجماعة، وعدم الخروج عليها، خصوصاً عندما يجري تعيين الجماعة بما هي «الأمّة» فيصير المساس بـ«الوحدة» يعادل «الفتنة».
 
طبيعي أم اصطناعي؟
ما «الطبيعي» وما «الاصطناعي» في كيانات سايكس ــ بيكوــ بلفور؟
عندما يتحدّث قوميوّن عرب أو قوميون سوريّون عن «سورية الطبيعية» وعندما يطالب قوميّون لبنانيّون بعودة لبنان إلى «حدوده الطبيعية»، ماذا يعنون بـ«الطبيعي»؟
أجازف بالجواب أنّهم يقصدون الكيان «المتخيَّل» والحدود المتخيّلة، بالمعنى الذي يقصده بنديكت أندرسن في كتابه عن الأمم بما هي تلك «الجماعات المتخيّلة» التي تتجاوز القرية، التي يعتبرها أندرسن «جماعة عضويّة» عمّمت الدعوة إليها «رأسماليّة الطباعة». لذا كانت «سورية الطبيعيّة» هي تلك التي تخيّلها بطرس البستاني في مقالته الشهيرة «مركزنا» أو الأب لامنس البلجيكي اليسوعي في كتابه «سورية» الصادر عشيّة الانتداب الفرنسي على سورية، يحدّها حاجزان طبيعيّان ــ جبال طوروس شمالاً والصحراء جنوباً ــ منحها صفة التمايز الحضاري عن الصحراء وبالتالي عن «العرب»، أو تلك التي عيّنها الشريف حسين من مرسين إلى جنوب الجزيرة العربية باستثناء عدن (المستعمرة البريطانيّة منذ ١٨٣٤).
هكذا صار «الطبيعيّ» ليس ما هو كائن وواقع وإنّما هو منوّعات ممّا يجب أن يكون. وصار «المصطنع» هو ما يحيد عن تلك الرغبات وما أنتجته تطبيقات سايكس بيكو وبلفور.
 
دول قومية أم حكمُ أقلّيات؟
عندما يجري الحديث الآن عن اتفاقية سايكس بيكو، يقترن البحث بكونها أغفلت حقوق الأقلّيات بما يوحي أنّ الكيانات التي تأسّست ابتداءً من العام ١٩٢٠ كانت تطبيقاً محلّياً لنموذج الدولة ــ الأمّة الأوروبيّة، أي إنها مبنيّة على قوميّة واحدة تشكّل أكثريّة السكّان. تجاهلت اتفاقيّة سايكس ــ بيكو حقوق عدد من الإثنيّات والطوائف في المنطقة، كان الكرد أبرزَ ضحاياها. لكنّ القاعدة في تطبيقات سايكس ــ بيكو وبلفور أنّها تجاهلت حقوق الأكثريّات وأرست السلطات وأنظمة الحكم على أقلّيات في لبنان وفلسطين والعراق.
 
الهندسة الكولونياليّة
في الخلاصة، يمكن القول إنّ الهندسة الكولونياليّة لكيانات المنطقة تميّزت بخاصتين نادراً ما تلحظهما معظم الأدبيّات عن الموضوع.
أوّلاً، البناء على مقتضيات ومصالح التغلغل والتراكم الرأسماليّين في المنطقة وأهميّة الموارد القديمة (الأنهر)، والجديدة (النفط والغاز) وتطوّر المدن وأهميّة المرافئ والتبدّلات في خطوط التجارة والمواصلات كما أفضت إليها التطوّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعمرانيّة والسكانيّة في الحقبة العثمانيّة الأخيرة. وقد استتبع ذلك بناءُ الكيانات حول مراكز مدينيّة اكتسبت ثقلها بسبب تلك التطوّرات: محور يافا ــ القدس في فلسطين، محور بغداد في العراق، محور بيروت ــ دمشق في سورية ــ لبنان.
ثانياً، حاول كلّ طرف التوفيق بين مصالحه الاقتصاديّة والإستراتيجيّة من جهة وبين استخدامه الانقسامات الإثنيّة والدينيّة والعشائريّة لانتزاع الاعتراف الدوليّ بالانتداب وتمكين سيطرته من جهة أخرى.
ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فمن مفارقات الهندسة الكولونياليّة في سورية مثلاً، أنّ مصلحة الانتداب الفرنسيّ السياسيّة التي قضت بفصل لبنان عن سورية سياسيّاً وإداريّاً، تباينت مع مَصالحه الاقتصادية والإستراتيجيّة، الأمر الذي أدّى الى توحّيد الكيانين اقتصاديّاً وماليّاً، على أساس عملة واحدة ومصرف إصدار واحد ونظام جمركيّ واحد ومرفأ وعاصمة اقتصاديّة واحدة هي بيروت. ومن مفارقات الأنظمة الاستقلاليّة، بل من مآسيها، أنّ ما وحّده الاستعماريّون الفرنسيّون العام ١٩٢٠ قسّمه الاستقلاليّون السوريّون واللبنانيّون في القطيعة الجمركيّة الاقتصاديّة التي وقعت بين البلدين العام ١٩٥٠.
على الأقلّ نحن هنا أمام بادرة تقسيم واحدة لا يمكن أن يُلقى اللوم فيها على سايكس ــ بيكو! وللبوادر تتمّات عندما يُدرَس تاريخ القرن من منظار المسؤوليّات المحليّة والخارجيّة عن تركة سايكس ــ بيكو.

ننشرها بالاتفاق مع فواز طرابلسي، كاتب المقالة ورئيس تحرير مجلة بدايات التي أخذنا المقالة عنها
 

الخارطة حسب اتفاقية سايكس-بيكو

The post مئوية سايكس بيكو: الخرائط والتاريخ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>