ترجم النص عن الإنكليزية حسام موصللي.
١- عن قراءة أعمال غرامشي وترجمتها في سبعينيات القرن العشرين
في أواسط العقد السادس من القرن المنصرم، أطلقَت مجموعةٌ من المثقَّفين اليساريِّين اللبنانيِّين مجموعةً دراسيَّةً ماركسيَّةً حملَت الاسم نفسه لمنشورهم السرّيِّ: لبنان الاشتراكيّ. كان يطمحون إلى استخدام النظريَّة الماركسيَّة في إنتاج معرفة عن المجتمع والدولة اللبنانيَّين بغرض بناء تنظيمٍ راديكاليّ لِما سيُعرف لاحقاً بـ (اليسار العربيّ الجديد)؛ وهو واحدٌ من بين تنظيماتٍ عديدةٍ انبثقت في العالم العربيِّ وسرعان ما ستحظى بمزيدٍ من الزخم بعد هزيمة الجيوش العربيَّة في شهر حزيران من سنة 1967.
تمحور حيِّزٌ عظيمٌ من نشاطنا الفكريّ حول العودة إلى ماركس-إنغلز-لينين، لكنَّنا قرأنا أيضاً بتحدٍّ أعمال كلٍّ من تروتسكي، وغرامشي، وكولونتي، وروزا لكسمبورغ، وغيرهم من القادة والمثقَّفين الماركسيِّين المنشقين. بيد أنَّنا تلقينا قدراً كبيراً من تعليمنا عن طريق مُترجمين معاصرين؛ على غرار جان بول سارتر، وهنري لوفيفر، ولوي ألتوسير، وإرنست ماندل، بالإضافة إلى إنتاجاتٍ معرفيَّةٍ غزيرةٍ عن التحرُّر على الصعيدين الوطنيِّ والاجتماعيّ؛ من قبيل أعمال ماو تسي تونغ، وفيدل كاسترو، وتشي غيفارا، وفرانتس فانون، وأميلكار كابرال، وسمير أمين، وريجيس دوبريه، … إلخ.
ترجمنا بدورنا أيضاً مجموعةً كبيرةً نسبيَّاً من أعمال أولئك المؤلّفين. فترجمَ كلٌّ من وضَّاح شرارة وعزيز العظمة كتاب (الأمير الحديث) لأنطونيو غرامشي عن اللغتين الفرنسيَّة والإنكليزيَّة (باستخدام الاسمين المُستعارَين زاهي شرفان وقيس الشاميّ، 1970). وفي السنة التي تلتها، ترجمتُ للمؤلِّف نفسه كتابَ (قضايا الماديَّة التاريخيَّة) عن اللغة الإنكليزيَّة؛ استعنتُ في ذلك بترجمة كوينتن هور، وهو صديقٌ وعضوٌ في مجلس تحرير مجلَّة نيو لفت ريفيو. وعلى حدِّ علمي، كانت تلك أولى ترجمات غرامشي إلى اللغة العربيَّة.
استقطب غرامشي اهتمامنا لأسباب عديدة؛ جزءٌ منها كان إعجابنا بالحزب الشيوعيّ الإيطاليّ باعتباره حزباً شيوعيَّاً مُناهضاً للستالينيَّة، لكنَّ السبب الأبرز كان كُلّاً من الإلهام والتحدِّيات التي أغنت حياته وفكره. لقد أكَّدت نظريَّتُه التاريخيَّة على دور الذاتيَّة في مواجهة الحتميَّة التاريخيَّة السائدة؛ وعلى “الاستقلال النسبيّ” للبنية الفوقيَّة والراهن السياسيّ المُناقض للحتميَّة الاقتصاديَّة؛ وعلى التعارض ما بين البنية الفوقيَّة السياسيَّة والقاعدة الاقتصاديَّة، خاصَّةً في المراحل الانتقاليَّة، التي عدّلت جذريا من الوهم الحداثويّ القائل إنَّ الرأسماليَّة دمَّرَت الأنماط ما قبل الرأسماليَّة؛ وعن مهمَّة المثقَّفين الذي برر لنا التزامنا السياسي كمثقفلن. ولا بدَّ أن أضيف المفاهيم التي طوَّرها غرامشي عن السلطة الطبقيَّة والتمثيلات الطبقيَّة؛ والهيمنة والصراع الثقافيّ، وتصوُّرَه بصدد أنَّ الأفكار الجديدة، و”الرؤى العالميَّة” الجديدة، تبدأ بنقد القديم، … إلخ. ستُكتشَف تلك المفاهيم الأخيرة بالتدريج.
كان اهتمامُنا بالغاً أيضاً بـ (القضيَّة الجنوبيَّة) التي ساعدتنا على التفكير مُعمَّقاً في مسألة بروز جنوب لبنان كمنطقةٍ تابعة، ومحرومةٍ اجتماعيَّاً، وأقلّ نموَّاً، ودخولها إلى الحياة السياسيَّة باعتبارها منطقةً حدوديَّةً مع فلسطين المحتلَّة؛ وخصوصاً أنَّ كثيراً منَّا، ومن الجيل الأصغر من اليساريِّين، جاؤوا في الأصل من تلك المنطقة.
٢- دَين شخصيّ
عشتُ مع مفاهيم غرامشي وأفكاره بعد حقبة لبنان الاشتراكيّ (1965-1970)، ولا أزال كذلك. وكان مفهوماه عن “السيطرة” و”النفوذ الثقافي (الهيمنة)” ملهمَين لكتابي عن ميشال شيحا؛ المصرفيِّ، والصحفيّ والمثقَّف العضويّ، والبرجوازيِّ الماليّ التجاريّ اللبنانيّ، ومهندس نظامي التجارة الحرَّة والطائفيّة إبَّان مرحلة ما بعد الاستقلال (صدرَ الكتاب بعنوان: «صلات وصل- ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانيَّة»، في سنة 1990). وأمَّا مفهوَماه “الوطنيَّة الشعبيَّة و”الحسّ السليم”، فقد وجَّها بحثي بصدد الرؤى العالميَّة الراسخة في التراث والثقافة الشعبيَّين. درست في كتابي عن المسرح الغنائيّ اللبنانيّ، المعنون بـ «فيروز والرحابنة- مسرح الغريب والكنز والأعجوبة» الصادر في سنة 2006، تمثيل التحوُّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في لبنان من خلال تحليل مجموعةٍ من الأعمال الميلودراميَّة التي قدّموها بالاستناد إلى التراث والثقافة الشعبيَّين، وذلك أثناء مرحلةٍ انتقاليَّةٍ ما بين حربين أهليَّتين (1958-1975)؛ مرحلةٍ تميَّزت بتغلغل رأس المال الماليِّ والتجاريِّ في الريف، وموجات الهجرة الواسعة من الريف إلى المدن. وضمَّ كتاب «إن كان بدَّك تعشَق- كتاباتٌ في الثقافة الشعبيَّة»، الصادر في طبعتين (2004، و2019)، مجموعة مقالاتٍ تناولت فيها بعض جوانب الثقافة الشعبيَّة؛ على غرار دور نساء جبل لبنان في صناعة الحرير إبَّان القرن التاسع عشر، وطقوس الخصوبة والتضامن في رقصة الدبكة- الرقصة الشعبيَّة في لبنان والمشرق العربيّ، والاحتفالات الريفيَّة التقليديَّة في عيد البربارة (القديسة بربارة) وإعادة التمثيل الدمويّة لها في المدينة إبَّان الحرب الأهليَّة في سنة 1975؛ بالإضافة إلى مُعجمٍ وجيزٍ بحكم وأمثالٍ مأثورةٍ، ودراستها باعتبارها من مكوِّنات الحكمة والفلسفة الشعبيّتين.
في تسعينيَّات القرن المنصرم، ترجمتُ عن الإنكليزيَّة أيضاً كتاب غرامشي «في الوحدة الإيطاليَّة»، الصادر في سنة 2018.
٣- نحو مُعجمٍ نيوليبراليّ:
فيما تبقَّى من هذه المداخلة، أودُّ أن أشارككم بعض الأفكار عن عملي الآن مع عددٍ من الزملاء، ما بين جمع وتحليل معجمٍ بالمصطلحات النيوليبراليَّة التي تنتشر في كلٍّ من “الحسّ السليم” و”الثقافة الشعبيَّة”. ليست الدول، والطبقات الحاكمة، والسياسيُّون، والمثقّفون، من يسهم في ترويج هذه المصطلحات فحسب، بل أيضاً وعلى نحوٍ خاصٍّ كلٌّ من الهيئات الماليَّة والإنمائيَّة التابعة للأمم المتّحدة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، والإعلام، والمنظَّمات غير الحكوميَّة. وأودُّ عبر استخدام أمثلةٍ من الكلمات، والمصطلحات، والمفاهيم، التي تُخاطب (الدول النامية)، بيان أنَّ هنالك لغةً تمحو أخرى أقدَم منها، وتُبدِّل مصطلحاتها، وتحظرُ مفرداتٍ وتعمِّم أخرى، وتُغطِّي ظاهرةً اجتماعيَّة بثانية، وتخترع مفرداتٍ جديدة، وتُغيِّر معاني المفردات القديمة، … إلخ. والنتيجة هي أنَّنا لم نعد نتعامل مع كيفيَّة تسرُّب الأيديولوجيا إلى اللغة، مثلما حاول غرامشي أن يثبِت، وإنَّما مع تكوين لغةٍ جديدةٍ وفرضها.
ثقافويَّة
“يزعم دعاة البَعد حداثيَّة أنّهم معارضون لجميع أنواع السرديَّات الكبرى، إلَّا أنَّهم يرفعون إحدى تلك السرديَّات -الثقافة- إلى مصافي السرديَّة الكبرى” (إيغلتن 2007، ص. 17-18). عند نهاية الحرب الباردة، قدَّم صاموئيل هنتنغتن نموذجاً فكريَّا جديداً للعصر الجديد يستند إلى الحجَّة الآتية: لقد انتهت الماركسيَّة، ومعها ما سمَّاه بـ “التفسير الاقتصاديّ”، بانهيار الاتحِّاد السوفييتيّ؛ وانتهت مذاهب التحرُّر الوطنيِّ بحصول الشعوب المستعمَرة على استقلالها؛ ولم يتبقَّ سوى النموذج الفكريّ الممكن الوحيد: ألا وهو الثقافة. لقد ارتُقي بالثقافة إلى رتبة قيمةٍ عالميَّةٍ مُطلقة، برغم أنَّ السبب وراء كونها البديل الممكن الوحيد غير واضح. وتحوَّل هذا النموذج الفكريّ الجديد، الذي ينبغي أن نُسميَّه بـ “الثقافويَّة”، إلى “تفسيرٍ للحياة والظواهر المجتمعيَّة وسلوك البشر بناءً على جواهر ثابتة وهويات راسخة عادةً ما تكون منبثَّة في الدين واللغة”. علمًا بأن هذا التعريف السابق يتعارض كليَّاً مع ما تعنيه الثقافة عموماً؛ أي من إنتاج، ونمو، وتنوُّع، وابتكار، … إلخ. وعلى الرغم من ذلك، “ينسب الآباء المؤسِّسون للثقافويَّة … (ومن بينهم المستشرق برنارد لويس) إلى المجتمعات والجماعات جواهر ثقافيَّة وهويَّات متفرِّدة تستدعي دوماً … تمايزات وفوارق”.. تكمن المفارقة هُنا في أنَّ يبدأ باعتباره ثقافيَّاً يتحوَّل إلى جيو-سياسيّ، إنْ لم نقل جيوستراتيجيّ. نرى من خلال نظريَّة هنتنغتن عن “صراع الحضارات”، وعبر منظورٍ جيوسياسيّ، أنّ “الحضارات” التي ترتكز في الأصل على الدين تُعتبر تحدِّياً، وخطراً، في وجه الهيمنة الأميركيَّة أحاديَّة الجانب على العالم: الحضارة الكونفوشيَّة (التهديد الاقتصاديّ الصينيّ)، والمسيحيَّة الأرثوذكسيَّة (القوَّة العسكريَّة الروسيَّة)، والمسيحيَّة الكاثوليكيَّة (الهجرة الأميركيَّة اللاتينيَّة إلى الولايات المتّحدة)، والحضارة الإسلاميَّة (مُكافحة للأصوليَّة و”الإرهاب” الإسلامَّيَّين). وهنالك مفهومٌ آخر لهنتنغتن يتعلَّق بفرادة الغرب وتفوُّقه، وفي ذلك مقولته “الغرب والآخرون”؛ ومفادُها أنَّ الآخرين يفتقرون بالضرورة إلى الخصائص التي يتميَّز بها الغرب.
أوجه نقص ثقافيَّة/ إصلاحات اقتصاديَّة
في تسعينيَّات القرن الماضي، أنتج برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيّ مقاربةً جديدةً في التنمية تحت مسمَّى التنمية البشريَّة، والتي اعتُبِرت أكثر كفاءةً من مقياس الناتج المحليّ الإجماليّ. وفي سنة 2002، أطلَق البرنامج سلسلةً تقارير التنمية الإنسانيَّة العربيَّة التي حرَّرتها مجموعةٌ من الخبراء العرب؛ حدث ذلك بُعيد الهجوم الإرهابيِّ الذي استهدف برجي مركز التجارة العالميّ في نيويورك في التاسع من أيلول لسنة 2001، واحتلال كلٍّ من أفغانستان في تشرين الأوَّل لسنة 2001، والعراق في آذار لسنة 2003. كان الموضوع الرئيسيُّ لتلك التقارير السبعة تصوُّراً مفاده أنّ العالم العربيّ “متخلِّف” عن ركب التنمية، ويعاني من أوجه نقصٍ ثقافيَّة، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بحقوق الإنسان، والديمقراطيَّة، والوصول إلى مجتمع المعرفة، وتمكين النساء.
غنيٌّ عن البيان، من خلال منعطفٍ استشراقيّ كلاسيكيّ، تحوّل العالم العربيّ إلى كتلةٍ أساسيَّةٍ واحدة تضمُّ 370 مليون شخص بـ”ثقافة” واحدة. لكن ما يثير اهتمامنا في هذا السياق بصفةٍ خاصَّةٍ هو كيفيَّة انزلاق التقدُّم الثقافيّ إلى تعديلات هيكليَّةٍ وإصلاحات نيوليبراليَّة.
في شهر آذار من سنة 2004، نظَّم برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائي مع عددٍ من المنظَّمات العربيَّة والدوليَّة مؤتمراً في الإسكندريَّة حضَرَه قرابة 250 مثقَّفاً، بناءً على دعوةٍ من الرئيس المصريّ السابق حسني مبارك. واللافت في الميثاق المنبثق عن ذلك المؤتمر هو مدى توغُّله في النيوليبراليَّة لإصلاح أوجه النقص الثقافيَّة. فتحت شعار الالتحاق بركب “مجتمع المعرفة”، دعَت توصيات المؤتمر إلى مزيدٍ من “التعديلات الهيكليَّة” و”الإصلاحات” النيوليبراليَّة: على غرار دمج الاقتصادات العربيَّة في الاقتصاد العالميّ، وفتحها على الاستثمارات الأجنبيَّة المباشرة، واعتماد اقتصادات سوق حرَّة تنافسيَّة، ووضع القطاع الماليّ في صدارة الاقتصادات العربيَّة؛ وبناء مؤسَّسات مصرفيَّة ضخمة؛ وتحرير التجارة في الخدمات (لماذا في الخدمات فقط؟)؛ والتحوُّل إلى الخصخصة؛ وإنهاء الاحتكارات الحكوميَّة… إلخ. الجدير بالذكر أنَّه بعد أقلّ من عقدين من تطبيق هذه الإجراءات، يخبروننا أنَّ اقتصاداتنا أصبحَت “ريعيَّة”، وأنَّه ينبغي علينا بناء اقتصاداتٍ إنتاجيَّة!
أليس في كلِّ ما سبق مثالٌ واضحٌ عن مبدأ غرامشي الذي ينصّ على أنّ “القضايا السياسيَّة (والاقتصاديَّة) تصبح مستحيلة الحلِّ حين تتخفَّى بلبوسٍ ثقافيٍّ!”
عندما تتحوَّل القضايا كلُّها إلى ثقافةً، يغدو الإرهاب (بتخصيصٍ أو بدونه) مُنتَجاً ثقافيَّاً-دينيَّاً، ويصير حلُّه هو: تشجيع “الإسلام الوسطيّ”. وأمَّا بالنسبة إلى “تمكين” النساء (تحرير النساء، أو الحقوق المتساوية للنساء، في السابق)، فتتحول في مقررات مؤتمر الإسكندرية ذاته إلى “تغيير ثقافة النساء”؛ وكأنَّ لا حاجة إلى تغيير ثقافة الرجال! وأخيراً وليس آخراً، فإنَّ الطريق السريع الملكيَّ إلى “مجتمع المعرفة” هو: الترجمة (اللغة مرَّة أخرى!). وهُنا لا يتخلَّف العالم العربيّ تخلُّفاً حادَّاً عن بقيَّة العالم ببضع مئات من الترجمات سنويَّاً فحسب، وإنَّما هو متخلّف بالمقارنةً بعصره الذهبيِّ؛ حين أشرف خليفةٌ عباسيٌّ واحد على ترجمة مئة ألف كتاب. ولعلَّ الرقم الأخير بدا صاخباً، فقُلِّص في تقرير التنمية الإنسانيَّة العربيَّة اللاحق إلى عشرة آلاف كتاب!
رأسماليَّة متعذِّرٌ تحقيقها
مثلما هي الحال في اللوحة المعروفة “ليس هذا غليوناً” لرينينه مارغريت -حيثُ لا نرى فيها لوحةً فنيَّة، لكن تمثيلاً لغرضٍ على قطعة قماش- فإنَّه مطلوبٌ منَّا الإيمان بأنَّ كلَّ تجليَّات الرأسماليَّة ليس هي الرأسماليَّة. في المقام الأوَّل، المصطلح نفسه نادر الاستخدام، ويحلُّ محلَّه “الاقتصاد السياسيّ” أو “اقتصاد السوق”. والدول النامية تُعاني من أوجه نقصٍ ثقافيَّة، وبالقدر نفسه أيضاً من أوجه نقصٍ اقتصاديَّةٍ. لكن مختلف أشكال الرأسماليَّة المتوقَّع وجودها في الجنوب العالميّ ليست ناجمةً عن “الرأسماليَّة”، بل قد تعاني من “رأسماليَّة المحاسيب” (الأعمال الحرَّة في السوق التي تعرقلها السلطة السياسيَّة)، والباترومونياليَّة، والنيوباترومونياليَّة أو الإرثية والإرثية الجديدة (أي غلبة البُنى البدائيَّة التي تتحكَّم بالسلطة السياسيَّة)، والاقتصادات الريعيَّة (وهي ليسَت اقتصاداتٍ مُنتِجة)، والرأسماليَّة الاحتكاريَّة (التي تنتهك قوانين المنافسة). “هذا إقطاع!” هكذا تصيح بك مجموعةٌ غاضبة من أبرز الاقتصاديِّين الماليِّين اللبنانيِّين-الأميركيِّين الذين يبحثون بدقَّةٍ في الأزمة الماليَّة لبلادهم. بل حتَّى أنَّ وزير الماليَّة اليونانيّ السابق، يانيس فاروفاكيس، قد قدَّم المساعدة إلى هذا التيَّار الإنكاريّ إذ صاغ مصطلح “الإقطاع التكنولوجيّ” لوصف الرأسماليَّة المعاصرة (أو المتأخرة). ويبدو هُنا أيضاً أنَّ هذه ليست رأسماليَّة لأنَّ الأخيرة لا تنطبق إلَّا على اقتصاد السوق الحرّ التنافسيّ. بيد أنَّ السيِّد فاروفاكيس، بحكم معرفته بأنَّ الأسواق التنافسيَّة تُولِّدُ احتكاراتٍ ضخمة -على غرار مايكروسوفت، وأمازون، وجنرال إلكتريك، وإكسون موبيل، ونستله، … إلخ- يؤكِّد على جدارة حجَّته بالقول – توخيّا للدقة – إنَّ مايكروسوفت وأخواتها “تبتلع” السوق.
عدالةٌ اجتماعيَّة
في معناها المبكّر، اعتُبِرت العدالة الاجتماعيَّة حلَّاً للتفاوتات الاجتماعيَّة وتطبيقاً للحقِّ في المساواة. وأمَّا في المعجم النيوليبرالي الجديد، فقد جُرِّدت من كلِّ إشارةٍ إلى العدل، أو الإنصاف، أو المساواة في توزيع الثروة والدخل والموارد والخدمات العموميَّة وفرص الحياة والعمل، أو تقليص الفوارق الطبقيَّة والإقليميَّة، … إلخ. باختصار، أصبحَ معنى العدالة الاجتماعيَّة اليوم في غاية القرب من معنى نقيضها؛ أي، بحسب نانسي فريزر، الحقّ في الاختلاف، وخاصَّة أنَّها من أكثر المصطلحات استخداماً بمؤدَّى هُويَّاتيّ فيما يتعلَّق بالنسويَّة، والحقوق الجنسيَّة، ومناهضة العنصريَّة. اكتسبَت “العدالة الاجتماعيَّة” أيضاً جملةً من المعاني المستجدَّة، من بينها التعريف الآتي هو هذا الخليط العبثيّ الصادر عن الاتِّحاد الأوروبيّ: “تعزيز دور البرلمان، وحماية حقوق الإنسان، وتشجيع الحوار المجتمعيّ، وتعزيز برامج الوقاية من المخدِّرات والعلاج منها، وتمكين النساء، وإشراك الشباب”.
طبقة
كانت كلمةُ الحروف الخمسة (بالانكليزية) -كما دعاها تشومسكي- محظورةً عمليَّاً إبَّان الحرب الباردة، قبل أن تعود لتحضر بصورةٍ متواضعة، لكن خادعة، في مرحلة لاحقة للنيوليبراليَّة. ومع ذلك، فقد أسهم ظهور طبقة واحدة في إخفاء الطبقات الأخرى والبنية الطبقيَّة بالمجمل. خلال حقبة الحرب الباردة، وحروب التحرُّر الوطنيّ والاجتماعيّ في القارَّات الثلاث، اعتمدَت هيئات الأمم المتّحدة على الإيراد كأداةٍ لقياس التراتب الاجتماعيّ. وبانتصار العولمة والنيوليبراليَّة، منذ ثمانينيَّات القرن المنصرم، أصبحَ الاستهلاك أداة القياس. في هذا السياق، تُعتبر الدراسة التي أجرتها الإسكوا (لجنة الأمم المتَّحدة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لغربي آسيا) في سنة 2014 ونُشرت تحت عنوان ” الطبقة الوسطى في البلدان العربية: قياسها ودورها في التغيير” مثالاً واضحاً عن هذا التحوُّل. هنالك في أسفل الهرم الفقراء (الذين يستهلكون 1-4 دولار أميركيّ في اليوم الواحد؛ أو 12 دولار أميركيّ في اليوم الواحد لنظرائهم في الولايات المتَّحدة)، وفي قمَّته الميسورون الذين تتجاوز دخلهم السنويَّ 40 ألف دولار أميركيّ. وقد استفسر توماس بيكيتي، مؤلِّفُ كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” الصادر في سنة 2014، عن السبب في كلٍّ من تواضُع الأرقام الظاهرة في قمَّة الهرم، أو الحديث عن “اليسر” وليس “الثراء”، فحصل على الجواب الآتي: “لئلَّا نشِّجع على الحسد الاجتماعيّ”.
تتموضع “الطبقة الوسطى” ما بين المجموعتين سالفتي الذكر، وبمقدورك الانضمام إليها إذا رفعت حجم استهلاكِك إلى ما يزيد عن أربعة دولارات أميركيَّة في اليوم الواحد (خارج الولايات المتَّحدة) -وهو مُعدَّل قريب من الحدِّ الأدنى للأجور في لبنان ما قبل 2019- مقابل ألَّا يتجاوز دخلك عتبة الأربعين ألف دولار أميركيّ سنويَّا.
عقب محاولاتٍ فاشلةٍ “للقضاء” على الفقر بحلول سنة 2015، وفقاً لبرنامج الأهداف الإنمائيَّة الألفيَّة، تُقلِّصَ حجم طموحات المشروع عدَّة مرَّاتٍ من “الاستئصال” إلى “الاستهداف” و”التقليص”، قبل الاستقرار على توفير “الحماية الاجتماعيَّة”. لقد حقَّقت إعادة اختراع “الطبقة الوسطى”، بشروط انضمامٍ مُتدنيِّة على النحو السابق، فائدةً إحصائيَّةً عظيمة؛ حيثُ ساعدَت في تضخيم أهميَّة النتائج الهزيلة للمعركة العالميِّة ضدَّ الفقر. وهكذا أصبحَ الوصول إلى الطبقة الوسطى، بتسعيرة أربعة دولارات، ولعاً مزدوجاً، ووعداً مزدوجاً أيضاً: التحرُّر من الفقر من جهة، والترقية اجتماعيَّة للانضمام إلى المجتمع الاستهلاكيّ من جهةٍ أخرى. وليس من المستغرب إذاً أن تستثمر هيئات الأمم المتّحدة جهوداً وأموالاً هائلة في دفع كلٍّ من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة نحو الوصول إلى مرتبة “قارَّة الطبقة الوسطى!” ويبدو أنَّ آسيا في صدارة هذا السباق، حتَّى الآن.
فساد
بلغ الفساد أبعاداً هائلةً في ظلِّ النيوليبراليَّة بقدر ما استُخدِم للتستُّر على مشكلاتٍ اقتصاديَّةٍ-اجتماعيَّة أخرى (الاستغلال محظور آخر، على سبيل المثال)، وللمفارقة، في الضغط من أجل تطبيق المزيد من التدابير النيوليبراليَّة! هي حلقةٌ مُغلقة: ينصبُّ التركيز على “الفاسِدين”-أي السياسيِّين-، في حين يظلُّ “المفسِدون”-رجال الأعمال- خارج دائرة الضوء إلَّا من توصيَّاتٍ تتعلَّق بـ”تعزيز أخلاقيات الأعمال”. ومع أنَّ “تعارُض المصالح” هو إجراءٌ قائمٌ لمكافحة الفساد في القطاع الخاصّ، إلّا أنَّه من النادر ما يظهر-إن ظهر- ضمن تدابير مكافحة فساد الدول والحكومات الصادرة عن البنك الدوليّ. وأمَّا التدابير النمطيَّة الموجَّهة “للبلدان النامية”، فهي “الإصلاحات” النيوليبراليَّة نفسها بغية تحرير قوى السوق: ميزانيَّات صغيرة، وتقليص حجم الخدمة المدنيَّة، وإنهاء الدعم الحكوميّ للسلع الأساسيَّة، وتفكيك القطاعات الخاصَّة وخصخصتها، … إلخ. وهكذا يحار المرء في هُويَّة ضحايا الفساد في الأصل.
مناصرة/ تضامن
بينما كانت قطاعاتٌ واسعةٌ من سكَّان العالم تناضل من أجل الحقوق، ومَطالب النقابات العماليَّة، وأهداف التحرُّر الوطنيّ والاجتماعيّ، عنى “التضامن” آصرةً من الوحدة والأخوَّة والمساعدة المتبادلة ضدَّ خصمٍ مشتركٍ وفي سبيل قضيَّةٍ مشتركة. وأمَّا “المناصرة”، التي حلَّت تدريجيَّاً محلَّ مفردة “التضامن”، فإنَّها تنطوي الآن على أنشطة للمجموعات، والجمعيَّات، ومنظَّمات المجتمع المدنيّ، … إلخ، تهدف إلى تأييد قضيَّة، أو مطلَب، أو حقوق، قطاعات سكَّانيَّة غير أنفسهم، والضغط من أجلها؛ وعادةً ما تكون أقليَّات، مهاجرين، شباب، مجموعات مُهمَّشة، وما إلى ذلك.
ناشط/ مُناضِل
“مُناضِل” مُصطلحٌ محوَّرٌ آخر؛ إنَّ المقصود بالمناضِل هو الشخص الذي ينشط في دعم قضيَّة، أو هدفٍ أو برنامج، من الحقوق والمطالب، وهو يحارب في سبيل ذلك السلطات أو المؤسَّسات، وقد يلجأ حتَّى إلى حمل السلاح في وجه الاحتلال الأجنبيّ. اليوم، يحلُّ “الناشط” المحُايد محلَّ المناضل، وهذا الأوَّل إنسانٌ فاعل، بغضِّ النظر عمَّا تفعله أو يفعله، أو الاتِّجاه التي تسير فيه أفعاله/ـا والأهداف الذي تفضي هذه الأفعال إليها. فكلمة السرِّ هُنا هي النشاط؛ هذه هي القيمة بحدِّ ذاتها. وأمَّا مُصطلح “مُناضل” اليوم، فحُمِّل بدلالاتٍ سلبيَّة، ويشير إلى المقاتل المسلَّح جِزافاً سواءٌ أكان جهاديَّاً إرهابيَّاً يتبع لتنظيم الدولة الإسلاميَّة أو مُقاوماً فلسطينيَّاً في وجه الاحتلال. في حين لا يزال يُطلَق على المواطنين الإسرائيليِّين المُسلَّحين الذين يصيحون “الموت للعرب”-وينجحون في قتل البعض- لقب “مستوطنين” بصفةٍ رسميَّة، وهذا بحدِّ ذاته لقبٌ عجيبٌ لمواطني دولةٍ يعتبرون محتلّين غير شرعيِّين لأرض شعب آخر!
أحاول أن أتخيَّل ما سيتعلَّمُه حفيدي عن تشي غيفارا…
ربَّما سيكون شيئاً على غرار الآتي:
إرنستو غيفارا (الشهير بـ تشي): هو ناشطٌ اجتماعيٌّ من الأرجنتين، تقلَّدَ عدداً من المناصب الحكوميَّة في كوبا ما بعد باتيستا، وقُتِل في حادثة درَّاجةٍ ناريَّةٍ في بوليفيا.
وعلى الأرجح لن يتمتَّع حفيدي بتفضيلٍ جماليٍّ عاطفيّ، أو يحتفيَ بتقدير رمزيَّة صورة نزول تشي عن الصليب، لأنَّها ستكون محظورةً بموجب قواعد الصوابيَّة السياسيَّة الصارمة.