يصادف هذا الصيف مناسبتين ضاغطتين على الذاكرة العربيّة هما خمسينيّة هزيمة حزيران / يونيو ١٩٦٧والذكرى الخامسة والثلاثون للغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢. ويأتي هذا الصيف في عام سباعيّ يصادف مئويّة سايكس بيكو وإعلان بلفور ١٩١٦-١٩١٧ وذكرى تقسيم فلسطين ١٩٤٧.
ما يتعدّى النّقد الذاتي والمؤامرة
تحكّمت ثنائيّة نقد ذاتي / مؤامرة خارجيّة، أو استبطان الذنب / تحويل الذنب، بالتفسيرات المعطاة لهزيمة ١٩٦٧ ولا تزال تتحكّم بها إلى أبعد حدّ. من المحاولات القليلة لتجاوز تلك الثنائيّة مساهمة الراحل ياسين الحافظ وفْق منظور «الهزيمة الحافز»، في مواجهة ما سمّاه «الأيديولوجيا المهزومة». سعى الحافظ إلى تجاوز النّقد الذاتي السائد الذي يحمّل الهزيمة (العسكريّة) إلى قيَمٍ وأفكار ومعتقدات أو إلى مكوّنات «العقل العربي» أو خصال «الشخصيّة العربيّة» أو إلى بُنى اجتماعيّة تلمّها كلّها تسمية «التخلّف».
أعاد الحافظ الاعتبار إلى العلاقة بين العوامل الداخليّة والعوامل الخارجيّة لنكسة العام ١٩٦٧ بوضعها في موقعها من الصراع بين شعوب المنطقة وحركات تحرّرها الوطنيّ والديمقراطيّ والاجتماعيّ وبين الأمبرياليّة الأميركيّة وإسرائيل ليحرّر القوى والعوامل الخارجيّة المتدخّلة في النّزاع من صفة المؤامرة ويقدّمها على انها نزاعات ناجمة عن تضارب في المصالح والأهداف والتطلّعات بين الطرفين المتنازعين.
على مسافة نصف قرن من الحدث، يجدر التذكير بأنّ حرب الأيّام الستّة وقعت في فترة كانت فيها الولايات المتحدة الأميركيّة تقود الردّات المضادّة لحركات التحرّر ودول الحياد الإيجابيّ والأنظمة الديمقراطيّة، في امتداد الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي، على امتداد العالم، ومن محطّاتها القريبة التصفية الدمويّة لنظام سوكارنو والحركة الشيوعيّة في إندونيسيا العام ١٩٦٦ وانقلاب الجنرالات على الديمقراطيّة في اليونان في العام ١٩٦٧. وإنّه لمعبّر جدّاً في تلك المواجهة أنّ عبد النّاصر، فشل في تحييد أميركا في صراعه مع إسرائيل حول مضائق تيران واكتشف في اللحظة الأخيرة الحقيقة التي أعلنها في خطابة الأشهَر «إسرائيل هي أميركا وأميركا هي إسرائيل». وإذا كان جمال عبد النّاصر، ومعه حكّام سورية والأردن، قد خسر الأرض لإسرائيل إلّا أنّه خسر نظامه وثورته لأميركا، أي سياسة الحياد الإيجابي، والتّحالف مع الاتحاد السوفياتي، وتجذير عمليّة البناء الداخليّ، وقتال جيشه إلى جانب الجمهوريّة اليمنيّة ضدّ الهجوم السعوديّ لإسقاطها، وتأييده متعدّد الأشكال للثّورة الجزائريّة إلخ. بعبارة أخرى، حقّقت الولايات المتّحدة بالواسطة الإسرائيليّة العام ١٩٦٧ ما عجزتْ عن تحقيقه بريطانيا وفرنسا بالواسطة ذاتها وبالتدخّل المباشر العام ١٩٥٦. وإنّه لمعبّر جدّاً أن يعلن حاكم مصر، المهزوم في الحرب الوطنيّة، أنّ «الثورة» المصريّة انتهت وأنّ مهمّته باتت الحفاظ على الدّولة.
على صعيد آخر، تميّزت مساهمات ياسين الحافظ، ومعه الراحل إلياس مرقص، بالدفاع عن الجيوش العربيّة والدعوة إلى إعادة تأهيلها في وجه رواج موجة «إسقاط» الجيوش وتقديم العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وأساليب الحروب الغواريّة وحروب التحرير الشعبيّة طويلة المدى بديلاً منها ومن الحروب النظاميّة. فإلى جانب الحجّة البديهيّة عن الحاجة إلى الجيوش للدفاع الوطنيّ، و«تصفية آثار العدوان»، رأى الحافظ الجيوش في بلدان العالم الثالث على أنّها حاضنات الحداثة لما يتطلّبه العلم والتخطيط والقيادة العسكريّة من عقلانيّة وتقانة عالية. بنفس الهمّ الحداثويّ، مارَس الحافظ نقداً جذريّاً لما سمّاه «عمارة المجتمع العربي»، ليضع يده على إحدى وسائل تحويل الهزيمة إلى حافز حضاريّ، داعياً إلى إعلاء قيمة العمل ضدّ عادات وتقاليد الكسل واحتقار العمل اليدويّ، وضدّ التنبلة الاستهلاكيّة.
لم تعرف نكسة حزيران نتاجات لافتة في هذه الذكرى الخمسينيّة. المحاولة الجديرة بالاهتمام هي المساهمة التنقيحيّة للمؤرّخ المصريّ خالد فهمي عن العلاقة بين القيادة العسكريّة والقيادة السياسيّة، ونمط الخطط العسكريّة المعَدّة لاحتمالات الحرب، خلال الأزمة المؤدّيّة إلى اندلاع حرب الأيّام الستّة (راجعها في هذا العدد). لكنْ لا عجب أن تتراجع ذكرى حرب وطنيّة، على ضخامتها، في غمرة طوفان النزاعات والحروب الأهليّة وحروب التدخّل العسكريّ الإقليميّة والدوليّة. والانتقال من هذا النّمط من الحروب إلى ذاك هو بالتحديد ما ننوي التطرّق له في هذه المقالة.
الموضوع الذي يستحقّ التوقّف عنده والتأمّل وفي هذا العام ٢٠١٧، هو تحديداً التساؤل عن العلاقة بين نتائج هزيمة ١٩٦٧ وبين اندلاع الحروب الأهليّة العربيّة، أي بين ١٩٦٧ و١٩٨٢ و٢٠١١. كيف انقلبت حروب وطنيّة، والحشد والتعبئة لها، إلى حروب أهليّة؟ كيف جرى الانتقال من قتال العدوّ الآخر إلى القتال ضدّ الأخ، بل إلى قتل الأخ. تسعى هذه المقالة إلى إثارة الموضوع واقتراح بعض نقاط استدلال عليه.
غلبة الجيوستراتيجيا
قلبتْ نكسة صيف ١٩٦٧ ميزان القوى في المنطقة على نحو جذريّ لصالح أوليغارشيّات النّفط وعلى رأسها العربيّة السعوديّة ومعها الأنظمة الموالية للغرب. وما لبث هذا الانقلاب أن تعزّز بالفورة النفطيّة مطلع السبعينيّات مفتتحاً دور العربيّة السعوديّة الإقليمي متعدّد الأوجه المدعّم بقوّة المال وبالدّعم الأميركيّ: التدخّل في اليمن بشطريه، تمويل انقلاب أنور السّادات على النظام الناصريّ وعلى التّحالف المصريّ – السوفياتيّ، تزويد النّظام السوريّ بالريوع السياسيّة تعويضاً على خسارة الجولان، التدخّل في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تمويل الردّات المضادّة للثّورات وصولاً إلى أميركا اللاتينيّة، وغيرها. إلى ذلك سوف تفتتح فترة ما بعد ١٩٦٧ عهدا جديداً في تسييس الإسلام واستنباط وتشجيع الحركات الإسلاميّة الجهاديّة على امتداد العالم، بدعم وتشجيع أميركيّين هنا أيضاً، بدأ بتمويل السعوديّة الجهاديّين العرب في حرب أفغانستان، بالتّعاون مع السي آي إي، ولم ينته فصولاً إلى الآن.
في المقابل، كرّست نكسة ١٩٦٧ الطابع العسكريّ للسّلطات القائمة في مصر وسورية والعراق وما التحق بها وماثَلَها (في ليبيا والسودان واليمن). باسم «إزالة آثار العدوان» أعيد تأهيل الجيوش وتوسعتها حتى باتت تبتلع حصصاً متزايدة من الموازنات الوطنيّة، وفرضت الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، رافقتها عسكرة التعليم والشباب، وأطبقتْ أجهزة الاستخبارات والأمن المتورّمة والمتكاثرة على الحياة الخاصّة والعامّة للمواطنين إذ انتقل الوزن الأكبر لدورها من مكافحة التجسّس إلى التجسّس على المواطنين إضافة الى دورها في التجسّس والرقابة داخل الجيوش ذاتها. ولمّا لم يكْف ذلك للسيطرة على الجيوش، أنشأتْ الجيوش الموازية (سرايا الدّفاع وسرايا الصّراع في سورية والحرس الجمهوريّ والحرس الجمهوريّ الخاصّ في العراق، إلخ).
تزامن هذا التضْخيم في الطابع العسكريّ للسلطات، في الأقطار المعنيّة أكثر من سواها بالنّزاع العربيّ الإسرائيليّ، مغلّبةً العوامل الجيوسياسيّة والجيوستراتيجيّة على حساب العوامل والمصالح الداخليّة، في ظلّ «عمليّة السلام» العربيّ الإسرائيليّ، برعاية الولايات المتحدة الأميركيّة، خصوصاً بعد حرب تشرين ١٩٧٣. باتت الأدوار الإقليميّة والخارجيّة لتلك الأنظمة، ركناً أساساً في «شرعيّتها» الخارجيّة، تعترف بها الولايات المتحدة والقوى الغربيّة الأخرى بما هي «قوى إقليميّةً»، بديلاً من شرعيّةٍ شعبيّةٍ لم تسعَ إليها أصلاً. بل جرى توظيف تلك الأدوار الخارجيّة، وما تدرّه من مالٍ وسلاحٍ ومساعدات ونفوذ، بما هي قوّة إضافيّة للتسلّط والسيطرة على شعوبها.
مهّدت معادلة هنري كيسنجر الشهيرة «لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سورية» الطريق أمام طرد الخبراء السوفيات من مصر، وتنفيذ المسار الموصل إلى كامب ديفيد والنّزاع على الوصاية على منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وشكّلت المعادلة ذاتُها الأساس في سياسة الممانعة السوريّة، وواسطة استدرار الريع الخليجيّ باسم الجولان، وشرعنَت لحافظ الأسد التدخّل العسكريّ في لبنان العام ١٩٧٦ للإمساك بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وإعادة التدخّل العام ١٩٨٩واكتساب تفويضٍ لحلّ الأزمة اللبنانيّة إلى العام ٢٠٠٦. وباسم الدفاع عن نفط الخليج في وجه الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، شنّ صدّام حسين حربه المدمّرة ضدّ إيران قبل أن يتوهّم بأنّ انتصاره في تلك الحرب يخوّله ضَمّ الكويت، يشجّعه غموضٌ أميركيّ متواطئٌ لم يلبث أن ارتدّ عليه في حربَين لم تكونا أقلّ ضراوة من سابقتهما، إلخ.
هكذا تبدو الحرب الإسرائيليّة على لبنان صيف ١٩٨٢ كأنّها مرحلة انتقاليّة في هذا المسار المتشابك من زمن الحروب الوطنيّة إلى زمن الحروب الأهليّة. لم يقتصر الأمر على حصار الجيش الإسرائيليّ لعاصمة عربيّة واحتلالها، ولو لأيّام معدودة. جاء الغزو الإسرائيليّ وسط حرب أهليّة استدعت قوى التدخّل الخارجيّة على اختلافها، وأحدث شرخاً في التماسُك الوطنيّ اللبنانيّ حيث قاتل لبنانيّون إلى جانب العدوّ الإسرائيليّ، وارتكبوا بدعمه وتغطيته إحدى أبشع المجازر، والأهمّ أنّه تمّ تنصيب رئيس للجمهوريّة في ظلّ الدّبّابات الإسرائيليّة وبدعمٍ أميركيٍّ وسعوديّ.
من العنف الوطنيّ إلى العنف الأهليّ
بعد مخاضٍ ليس بالقصير أطلقت المجتمعات العربيّة من صلبها كلّ ما كانت تختزنه من احتقانٍ سياسيّ واجتماعيّ ومظلوميّات جَمَعية عبّرت عن نفسها في انتفاضات شعبيّة عارمة، تحملها قوّتان مختلفتان ومتزامنتان، ترمي الأولى إلى تغيير السلطة القائمة باتّجاهٍ حديث ينحو منحى الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وتتكوّن الثّانية من الإخوان المسلمين خصوصاً، وتعمل على إعادة هيكلة الدولة والمجتمع وفق الشريعة الإسلاميّة. وقد سنح لتلك القوّة الثانية الحكم من خلال الانتخابات (في مصر وتونس والمغرب وفي اليمن). في المقابل، انطلقت ردّات مضادّة للثورة تتراوح بين الأنظمة الساعية إلى الاحتفاظ بسلطاتها وبين حركات ردّة جهاديّة مسلّحة رفدتها ودعمتها كلّ القوى المتدخّلة في المنطقة، مع دورٍ أبرز للعربيّة السعوديّة وقطر وتركيا، تتوّجت بالدولة الإسلاميّة (داعش) ابنة الغزو الأميركيّ للعراق التي نقلت الأمميّة الإرهابيّة لتنظيم القاعدة إلى مهمّة إستراتيجيّة أكثر جذريّة ودمويّة نجحت في احتلال المدن وإقامة حكم الدولة الإسلاميّة عليها في العراق وسورية.
وإذا كان الاحتلال الأميركيّ ارتكب جريمة العصر بحلّ الجيش العراقيّ، فإنّ إعادة بنائه على قواعد مذهبيّة واستشراء الفساد فيه ما لبثت أن أدّت إلى تَفكّكه وانسحابه من الموصل أمام هجوم لبضعة آلاف من مقاتلي داعش. هكذا انطلق جيشٌ موازٍ هو «الحشد الشعبيّ»، أضيف إلى الجيوش الموازية والمليشيات تمثّل جميعها «المكوّن الشيعي» العراقيّ، وإلى المليشيات غير العراقيّة، أبرزها وحدات من الجيش النظاميّ ومن الحرس الثوريّ الإيرانيّين. من جهة ثانية، تمخّض الغزو الأميركيّ للعراق عن تكوين جيش كرديّ، في إطار إقليم كردستان، ما لبث أن تجاوز حدوده نحو كركوك والموصل في أعقاب احتلال داعش لهذه الأخيرة.
ولقد انكسر الجيش السوريّ عندما قرّر الحاكم استخدامه لقمع تظاهراتٍ سلميّة بدأت بالمطالبة برفع حالة الطوارئ المفروضة من العام ١٩٦٧، ونحّى قائده، وما لبث عجزُ النّظام عن احتواء الانتفاضة المتعسكرة، لجأ إلى استدعاء التدخّل الخارجيّ الإقليميّ والدوليّ وإلى مليشياتٍ عربيّة وغير عربيّة.
وانكسر الجيش اليمنيّ عندما تفاقمت النزاعات داخل الحكم حول نيّة علي عبد الله صالح توريث السلطة لأحد أبنائه، فانشقّ أحد أركان النظام والمرشّحين للوراثة، قائد اللواء الأوّل المدرّع علي محسن الأحمر، وانضمّ إلى الانتفاضة الشعبيّة السلميّة. وما لبثت «المبادرة الخليجيّة» الكسيحة أصلاً أن كرّست انقسام الجيش بين وحدات موالية لحكومة عبد ربّه منصور هادي والرئيس السابق علي عبد الله صالح، وإلى استقطابٍ أهليّ بين مليشيا «أنصار الله» ومليشيات «الحراك الجنوبيّ». وبالمثل، استدعى النزاع اليمنيّ التدخّل العسكريّ الإيرانيّ والسعوديّ والإماراتيّ.
أودّ الخلوص من كلّ ما سبق إلى الآتي:
أوّلاً، انطلقت الانتفاضات من مركّب من العوامل أتى في مقدّمتها تفاقم الطّابع الاستبداديّ العسكريّ الأمنيّ القمعيّ للأنظمة المعنيّة بـ«عمليّة السلام»، مع الاهتراء المتزايد لشرعيّتها وتقلّص قواعدها الاجتماعيّة الداخليّة، جرّاء تخلّيها المتزايد عن التنمية والتوزيع الاجتماعيّ وتفاقم البطالة والفقر والفروقات الطبقيّة والمناطقيّة واحتدام المسائل والنزاعات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة.
على أنّ الآليّة التي سمحت، بل أوجبت، هذا التحوّل زمن الحروب الوطنيّة إلى عهد الحروب الأهليّة، هي ابنة التحوّل الجذريّ في بنية السلطة والجيش في البلدان المعنيّة واستخدامه المتزايد في مهمّات القمع والضّبْط الداخليّين، حتى انكسرت الجيوش المعنيّة تحت وطأتهما.
وإنّه لمعبّر أنّ البلديَن اللذين عرفا انتفاضات ثوريّة وسلماً مع ذلك من الاقتتال الأهليّ مصر وتونس هما البَلدان حيث امتنع الجيش فيهما عن التصدّي بالقوّة والعنف للانتفاضات الشعبيّة.
ثانياً، في معمعان تلك النزاعات والحروب، شكّل التحاق الأنظمة المعنيّة بالحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب أكبر وسيلة من أجل تجديد شرعيّتها في مواجهة شعوبها العاصية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، بعدما تناوبت جميعاً على استخدام تنظيم القاعدة والنصرة وداعش في حروبها الداخليّة والخارجيّة قبل الارتداد إلى تأجير جيوشها في «الحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب» بما استوجبته من معْسٍ لكلّ مصالح ومطالب وتطلّعاتٍ داخليّة ومن دمار وتوظيف المليشيات المذهبيّة المتقابلة فيها.
تدمير المدن
ما يستحقّ النقد والنقد الذاتيّ إذا بقي للأخير من معنى هو هذا الديالكتيك الجهنّمي الذي به نقلب العداء للغرب إلى العداء للأخ، في حين يستمرّ الإصرار على إبراز جرائم ذاك الغرب وإدانتها في مقابل التستّر على ما يرتكبه الأخوة الأعداء واحدهم بالآخر حتى لا نقول تبريرها والتغنّي بها.
بيروت صيف ١٩٨٢: دمّر الطيران والبحريّة والمدفعيّة الإسرائيليّة أجزاء منها وغطّت قوّات الاحتلال على مجزرةٍ ارتكبها لبنانيّون بحقّ فلسطينيّين (ولبنانيّين) في مخيّمي صبرا وشاتيلا، بعدما تناوب مقاتلو السنوات الأولى من الحرب الأهليّة على تدمير وسطها التجاريّ.
وفي معرض التدمير فقط، أين تدمير / دمار بيروت ١٩٨٢ من دمار / تدمير الموصل، التي اعتبرت أضخم عمليّة حربيّة منذ معركة ستالينغراد في الحرب العالميّة الثانية؟ وأين منه «تحرير حلب»، التي يقدّر البنك الدولي بأنّ عمليّة رفع أنقاضها وحدها سوف تستغرق ستّ سنوات؟ وأين هذا وذاك من تدمير / دمار القصف السعوديّ المتواصل على صنعاء، ومن تدمير / دمار القصف المدفعيّ والصاروخيّ لقوّات علي عبد الله صالح و«أنصار الله» على تعزّ المحاصرة والمجوّعة بدعم من الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة؟ عداك عن تدمير / دمار بنغازي التي أُنبئنا أخيراً بـ«تحريرها».
عندما سُئل قائدٌ سابق لسلاح الجوّ الإسرائيليّ عن شعوره عندما يقصف مدنيّين بينهم أطفال فلسطينيّون وعرب، قال «أشعر برجفة خفيفة في جناح الطائرة».
كم عدد الطيارين ومساعدي الطيارين والملّاحين الجوّيّين العرب – من السعوديّة والإمارات والعراق وقطر واليمن ومصر وسورية وليبيا وغيرها وغيرها – ممّن شارك في ضرب بنات وأبناء بلدهم أو بلد عربيّ آخر بالقنابل والصواريخ والبراميل المتفجّرة؟ وكم منهم خطر له أن يعبّر عن شعوره تجاه ما فعل، ولو مجرّد تعبير؟
سجونهم وسجوننا
كثيرون منّا أيّدوا بحماسة، وعن كلّ الحقّ، إضراب السجناء الفلسطينيّين عن الطعام وحيّوا انتصارهم الذي حقّقوه بذكاء قيادتهم والتفاف شعبهم وأجزاء حيويّة من الرّأي العامّ العربيّ حولهم. حقيقة الأمر أنّ الأسرى الفلسطينيّين التقطوا إحدى الثغرات في نظام القتل والتبرير الإسرائيليّ. تنازلت السلطات الإسرائيليّة لأنّها لم تنجح بعد في العثور على طريقة تحتمل فيها تساقط سجناء موتى بسبب الإضراب عن الطعام في سجونها والمعتقلات أو تبرّر ذلك تبريراً. أجاز لها المجتمع الدوليّ ودولُه الكبرى والمتوسّطة والصغرى أن تقتل باسم ما تقرر أنّه «يهدّد أمن إسرائيل»، بل أن تقتل استباقاً، ولو كان المهاجِم الفلسطينيّ لجنديّ يحمل سكّين مطبخ يمكن شلّه واعتقاله وتقديمه للمحاكمة! لكنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تنجح إلى الآن في أن تقدّم إضراب سجناء عن الطعام احتجاجاً على ظروف اعتقالهم ومحاكمتهم وشروط الحياة في السجن على أنّه عمل عدوانيّ ضدّ أمن دولة إسرائيل أو أنّه يعرّض حياة جنود جيش الدفاع الإسرائيلي للخطر، ما يبرّر القتل والإعدام الاستباقيّ.
لم يخطر ببال الأخوات والإخوة الفلسطينيّين الأسرى في سجون الاحتلال توجيه ولو تحية تضامن لزميلات وزملاء لهم في السجون العربيّة لا يحظى أعداد منهم بشرف الإضراب عن الطعام لأنّهم يقضون جوعاً. ولا فطن المتضامنون معهم إلى أنّ إخوةً وأخواتٍ لهم يقبعون في سجون بلدهم أو في سجون هذا العالم العربيّ الكبير ويعانون ما هو أبشع وأقسى وأكثر إهانة وإذلالاً وتعذيباً وقتلاً من سجون الاحتلال الإسرائيليّ.
لنعترف: إنّنا نعرف عن حال المعتقلين في سجون العدوّ قدر ما نجهل أو نتجاهل القلّة من الوثائق المصوّرة والتقارير الدامغة عن قتل الآلاف من المعتقلين في السجون السوريّة إعداماً وتعذيباً وتجويعاً.
لنقارن بين ما نعرفه عن التعذيب في سجن أبو غريب ٢، زمن الاحتلال الأميركيّ للعراق، مع ما نعرفه عن سجن أبو غريب ١، زمن صدّام حسين!
ولنقارن بين أصوات الاستنكار والإدانة لاغتصاب المعتقلات العراقيّات على يد سجّانين أميركيّين في سجن أبو غريب مقابل خفوت الحديث أو كتمه أو حتى الخرَس عندما يتعلّق الأمر بمصيرهنّ عند إطلاق سراحهن، حيث تنتظرهنّ، في أحيان كثيرة، سكّين الأخ أو الأب أو العمّ ذبحاً لغسل شرف العائلة.
ولنعترف بأنّ استفتاءً عن اسم السجن الأكثر ألفة لدى قطاع واسع من مستخدمي وسائل الاتّصال الاجتماعيّة سوف يفوز به سجن غوانتنامو الأميركيّ، على الأرض الكوبيّة، أمام أسماء السجون العربيّة في المزّة والحائر وعدرا وذهبان وصيدنايا وأبو غريب وطرّة وأبي زعبل ووادي النطرون وسجن الحوض الجافّ وفرع فلسطين والقنطرة وتزمامرت وسجون دولة الإمارات العربيّة في عدن وحضرموت بجنوب اليمن التي لم نتعرّف بعد على أسمائها والأعداد غير المحصيّة من المعتقلات والسجون السرّية!
أعترفُ بخجل أنّي أعرف أسماء بعض تلك السجون والمعتقلات ولكنّي أنزلت الباقي من على محرّك البحث «غوغل».
المقالة الافتتاحية للعدد الأخير من مجلة بدايات، ننشرها بالاتفاق مع فواز طرابلسي.