لا مجازفة في القول بأنّ «سايكس بيكو» كانت المفردة الأكثر استخداماً في المنطقة وعن المنطقة خلال السنوات الأخيرة، والموضوع الذي أثار أكبر مقدار من المقالات والتعليقات والنبذات الإلكترونية، خصوصاً بعد ظهور داعش عبر الحدود العراقية ــ السورية. جرت معظم ردود الفعل على النمط إياه من الأسطرة الذي اكتسبته تلك اللحظة التأسيسيّة والمأسوية في تاريخ العرب الحديث: بناء الأحداث والتطوّرات على مجهول يفعل فينا تجزئةً وسيطرة، توقّعات استراتيجية عن أشكال مختلفة من إعادة رسم خريطة العام ١٩١٦ إياها، والبداهة في بيان «مشاريع» لا تني تتكرّر، مع تغييرات في الأسماء، (آخرها مشروع الشرق الأوسط الجديد)، إلخ. ولمّا كانت الأساطير لا تعرف التناقض، فنحن أمام سايكس ــ بيكو جديد سوف يتولّى تجزئة المجزّأ، ونحن في الوقت ذاته أمام مؤامرة سايكس ــ بيكو المستمرّة، وأمام سايكس ــ بيكو العائد، بعد أن كنّا أمام نهاية سايكس ــ بيكو التي يبشّر بها محلّلون استراتيجيّون عندنا وفي الخارج.
ترمي هذه المقالة إلى إلقاء نظرة نقدية تنقيحيّة إلى الحدث، بما هو مسار تاريخيّ، في إطاره من النزاع البريطاني ــ الفرنسي خلال وبُعيد الحرب العالميّة الأولى لوراثة السلطنة العثمانية، نظرة تعيد الاعتبار للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية الاستعماريّة، وتقيم الصلة بين اتفاقية سايكس ــ بيكو ووعد بلفور، التي أحدثت تعديلات جذرية في الاتفاقية ذاتها، وتختم بتسجيل ملاحظات على الثنائيات الأثيرة في خطاب «سايكس ــ بيكو»: الوحدة/التجزئة، الطبيعي/الاصطناعي، الدولة القومية/الحكم الأقلّي.
سايكس بيكو: الوثيقة والخريطة
منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، تداولت حكومتا بريطانيا وفرنسا مشاريع تدخّل عسكري ضدّ السلطنة العثمانية في عقر دارها بتركيا كما في ولاياتها الأوروبية والعربية. تناول البحث دعم انتفاضات يشنّها مسيحيّون في جبل لبنان، وعلويّون في جبال النصيريّة، أو يقودها أحد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري. كان الاقتراح الأثير عند الفرنسيين إنزالاً عسكرياً لقوات «الائتلاف» في الإسكندرون. عارضته بريطانيا لأنّه سوف يضعف الجبهة الرئيسة لعمليّات قوات «الائتلاف» عند مضائق البوسفور حيث تدور رحى معارك طحنت عشرات الألوف من جنود «الائتلاف» وسوف تختتم بهزيمة قواه في معركة غاليبولي أمام الجيش التركي بقيادة الضابط مصطفى كمال الذي سوف يعرف لاحقاً باسم «كمال أتاتورك». وكان أبرز المسؤولين الفرنسيين المحليّين عن مشاريع الانتفاضات جورج بيكو، قنصل فرنسا في بيروت، الذي أدّى إهماله إتلاف وثائق سرّية حين غادر المدينة إلى اكتشافها من قبل الأجهزة التركية وتسليم عدد من الوطنيين اللبنانيّين والسوريين إلى مشانق جمال باشا خلال عامي ١٩١٥- ١٩١٦.
على الصعيدين السياسي والديبلوماسي، كان الغرض الأول للدولتين انتزاع اعتراف عصبة الأمم بوراثة السلطنة العثمانية في السيطرة على شعوب المنطقة عن طريق التحايل على مبدأ تقرير المصير الذي كان مبرّر وجود المؤسّسة الدوليّة المنذورة لتحقيق «سلام ما بعده سلام». والحجّة الأثيرة التي استنبطتها باريس ولندن هي حماية الأقليّات الدينيّة. شدّد الفرنسيون منذ البداية على حماية المسيحيّين والدروز والعلويين والشيعة. كان جورج بيكو ينفي وجود قوميّة عربيّة أو وحدة عربيّة داعياً إلى ضبط الفوضى العاصفة بالمنطقة عن طريق «توحيد القبائل حول الرافعة الدينيّة» (Vincent Cloarec, La France et la question de Syrie, 1914-1918, 1998, p. 143-4). إذا كان الإنكليز قد غلّبوا بادئ الأمر التعريف الإثني ــ القومي لسكان المنطقة بما هم عرب، فلم يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يخرجوا ملفّ حمايتهم يهودَ السلطنة الذي فرضه رئيس الوزراء بالمرستون كأمر واقع على السلطان العثماني العام ١٨٤١.
بعد سنة من تبادل الرسائل بين مسؤولين في خارجية البلدين، كلّفت الحكومة البريطانية مسؤولاً جديداً للتفاوض المباشر مع الطرف الفرنسي. كان نظير جورج بيكو الفرنسي هو السير آرثر سايكس، النائب المحافظ في مجلس العموم، والعائد من مهمّة استطلاع عن المصالح البريطانيّة في مصر والعراق حيث تقدّم بمشروع طموح لربط بغداد بساحل المتوسط عن طريق خطّ سكّة حديد إلى حيفا، أو يعبر الصحراء السورية مباشرة إلى قناة السويس. وسايكس، الكاثوليكيّ المؤمن، من أوائل الداعين إلى إنشاء منطقة يهوديّة في فلسطين، يرى إلى احتلال بريطانيا للقدس انتقاماً من الحروب الصليبيّة. وقد استخلص من المجازر التركية ضدّ الأرمن أنّه لا يؤتمن للأتراك بالنسبة إلى الأقليّات.
الخط الذي رسمه آرثر سايكس وجورج بيكو بجرّة قلم على خريطة المنطقة من عكا على ساحل المتوسط إلى كركوك شمال ما بين النهرين، قسّم الولايات العربية من السلطنة العثمانية بين منطقة نفوذ بريطانية جنوبية حمراء ومنطقة نفوذ فرنسية شمالية زرقاء.
وأكّدت وثيقة الاتفاقية التي عرفت لاحقاً باسم الديبلوماسيَّين «استعداد الدولتين للاعتراف بدولة عربيّة مستقلّة أو بكونفيدرالية حكومات عربية في المنطقتين (أ) و(ب) في ظل سيادة قائد عربي» على أن تتمتّع فرنسا وبريطانيا في كل من المنطقتين بأفضليّات في العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة والاستثمار وتقديم المستشارين والموظفين الأجانب للدولة العربية أو لكونفيدراليّة الدول العربيّة.
من جهة ثانية، منحت الاتفاقيةُ فرنسا في المنطقة الزرقاء التي ترقى من شمال عكّا على طول الساحل السوري لتشمل لواءَي الإسكندرون وكيليكيا، وبريطانيا في المنطقة الحمراء التي تمتدّ من جنوب كركوك إلى الخليج بمحاذاة إيران وشطّ العرب، الحقّ في إنشاء إدارة مباشرة أو غير مباشرة أو حكم مباشر أو غير مباشر بالاتفاق مع الدولة العربية أو كونفيدرالية الدول العربيّة. اقتصادياً، اتّفق الطرفان البريطاني والفرنسي على تبادل التسهيلات والتخفيضات الجمركيّة في المرافئ التابعة لكلّ منهما، وعلى حقّ بريطانيا في بناء خطّ سكّة حديد بين بغداد وحيفا.
لم تحسم الاتفاقية النزاع الدائر على حدود سورية شمالاً وجنوباً وساحلاً، وخصوصاً على مصير الأراضي الفلسطينية حول القدس حيث كانت فرنسا تعتبر المنطقة بأسرها «سورية الجنوبية»، فاتّفق الطرفان مؤقتاً على تلوين تلك البقعة من الخريطة باللون البُنّي ووضعها تحت إدارة دوليّة. وظلّ الطرف الفرنسي متحفّظاً على التدويل.
الشريك الثالث
وقّع بيكو وسايكس الاتفاقية في ٩ أيار/مايو ١٩١٦ ولكن بعد أن زارا سان بطرسبرغ لإبلاغ الخارجية القيصرية بالاتفاق وتثبيت دور روسيا فيه على اعتبار أنّها سوف تقتطع المضائق على الضفتين الأوروبية والآسيوية لتركيا وبحر مرمرة ومنطقة إسطنبول. طالب الطرف الروسي بالحضور في إدارة شؤون القدس، فاشترط بيكو الاعتراف الروسي المسبق بحقّ فرنسا في فلسطين. وانتهى الأمر بتسوية يقرّ فيها الطرف الفرنسي باقتطاع الأراضي التركية لروسيا مقابل تعهّد روسي بالموافقة على مطالبة فرنسا بالقدس إذا تمّت الموافقة البريطانيّة عليها.
وهي مناسبة للتذكير بأنّ مشاريع التقاسم الأنكلو ــ فرنسي للمنطقة شملت كامل تركيا وبلاد البلقان. وقد كان الحلفاء يوزّعون الأراضي جنوباً وشمالاً بقصد استجلاب الدول للمشاركة بالحرب أو تعويضها على دورها فيها.
المصالح الاقتصادية: «المَنهبة الكبرى»
«المَنهبة الكبرى» ــ ذلك هو الاسم الذي أطلقه المسؤولون البريطانيّون والفرنسيّون على الولايات العربية من السلطنة العثمانية خلال الحرب العالميّة الأولى. ولمّا كان الشاغل الغالب باتفاقية سايكس بيكو يكاد أن يُختزل بثنائي وحدة/تجزئة، فغالباً ما تجري التعمية على حقيقة أنّ السيطرة على المنطقة وتقاسمها انطوت على عمليّة نهب واستغلال استعمارية متكاملة لعبت المصالح الاقتصادية والستراتيجية دوراً حاسماً فيها.
في رأس الأغراض الاقتصاديّة السيطرةُ على تجارة المنطقة. كانت أوروبا لا تزال تحتاج إلى المشرق العربي كمورد للموادّ الخام والمنتجات الزراعية والحبوب. في المقابل كان المطلوب أن تبقى أسواق المنطقة مفتوحة أمام السلع الأوروبية من أقمشة ومنسوجات ومحروقات ومعادن وآلات ومنتجات صناعية، تتولّى حركة المبادلات شركات نقل وتأمين بَحرية فرنسيّة وبريطانيّة.
تركزت مصالح بريطانيا في قطاع النفط المكتشف حديثاً في إيران والموصل وفتح أسواق المنطقة أمام منتجاتها الصناعية، وهي المصدّر الأول للمنطقة، وتنمية استثماراتها، وتأمين وصْل العراق ومصر وساحل المتوسط بخطّ سكّة حديد حسب توصيات سايكس. وكانت أبرز المصالح البريطانية الاقتصادية ــ الإستراتيجية هي طبعاً قناة السويس التي سوف يلعب النزاع عليها دوراً حيويّاً في تلك الفترة.
ومثلما أرسلت بريطانيا آرثر سايكس لاستطلاع الموارد القابلة للاستثمار والاستغلال في العراق ومصر، كذلك أوفدت غرفة تجارة مارسيليا بعثةً علميّة في أيار / مايو – أيلول / سبتمبر ١٩١٩ برئاسة بول هوفلان (١٨٧٣ ــ ١٩٢٤) أستاذ تاريخ القانون في جامعة ليون. أصدرت البعثة تقريراً ذا عنوان معبّر جداً ــ «ما قيمة سورية؟» ــ الذي أبان الفوائد والأرباح المقدّر أن تجنيها فرنسا من السيطرة على الموارد والمعادن ومصادر المياه والمنتجات الزراعية (قطن الجزيرة السورية وحرير جبل لبنان، مثلاً) وحماية وتوسيع الاستثمارات الفرنسية في معامل حلّ الحرير ومرفأ بيروت وطريق العربات بين بيروت ودمشق وسكّة حديد دمشق حماه ومتفرّعاتها. واوصت البعثة بتنمية دور فرنسا التعليمي لإنتاج موظفين قادرين على خدمة تلك المصالح. وقبل أن يغادر الجنرال غورو لاحتلال سورية ولبنان، أقامت غرفتا تجارة ليون ومارسيليا حفل عشاء على شرفه، حيث رفع خلاله كأسه ليعلن: «أيها السادة، إنّ الصفقة سوف تكون مُربِحة!».
سايكس ــ بيكو ووعد بلفور
يجري التعاطي غالباً مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور بشيء من الانفصال والتوازي أو توزيع العمل بين الحدثين: «الاتفاقية» للتجزئة والسيطرة، و«الوعد» للمسؤوليّة البريطانية عن قيام دولة إسرائيل. وهي نظرة إلى وعد بلفور تكتب تاريخ الحدث من نهايته وترسم خطاً بيانياً حتمياً بين الوعد وتحقيقه.
الأطروحة التي نودّ الدفاع عنها هنا هي الدور الأساسي لوعد بلفور في انتزاع فلسطين من المطالبة الفرنسية بها على اعتبارها «سورية الجنوبية»، وانتزاع حقّ الانتداب عليها بعد نزع شرعيّة الحكم العربي والشعبي عنها، واستخدام الاستيطان اليهودي ضد الأكثريّة العربيّة فيها على طريقة الاستراتيجيّات الاستعمارية الاستيطانية المعهودة في سائر المستعمرات البريطانية. وليس من دليل أبلغ على هذا الدور لوعد بلفور من ردّ فعل جورج بيكو عندما أبلغه سايكس في ١٣ آذار/ مارس ١٩١٥ عن نيّة بريطانيا «تقديم فلسطين لليهود»، فكان ردّ بيكو «لن توافق فرنسا أبداً على أن تصير فلسطين بريطانيّة» (Cloarec, 153).
بعبارة أخرى، لم يكن الغرض من رسالة اللورد بلفور إلى اللورد روثتشايلد، في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمير ١٩١٦، إزاحة فرنسا عن المطالبة بفلسطين لمنح اليهود «وطنهم القومي». كان المطلوب منح اليهود وعداً بوطن قوميّ من أجل إزاحة فرنسا عن فلسطين ونيل بريطانيا الانتداب عليها.
وكانت المصلحة الأمبراطوريّة البريطانيّة في السيطرة على فلسطين حاسمة الحيويّة والوضوح: السيطرة على الضفّة الشماليّة من قناة السويس، وتحويل فلسطين إلى منطقة عازلة بين منطقة النفوذ الفرنسي في سورية وقناة السويس، وقد تزايدت تلك الضرورة جرّاء الكلفة الضخمة التي تكبّدتها بريطانيا لصدّ هجوم جمال باشا، قائد الجيش الرابع العثماني، على القناة. وقد اقتضى الأمر نحو سنتين قبل أن تتمكّن القوّات الحليفة، بقيادة الجنرال أللنبي، من دفع القوّات المهاجمة إلى التراجع عن كامل سيناء في نهاية العام ١٩١٦.
وما لا يُذكر إلّا فيما ندر أنّ مهندس وعد بلفور إن هو إلّا آرثر سايكس ذاته، الذي حاول استصدار أول تصريح حكومي بريطاني لصالح وطن قومي يهودي في فلسطين في العام ١٩١٥. وهي المحاولة التي تحدّث عنها سايكس لبيكو أعلاه. لقي الاقتراح معارضة الوزراء اليهود ووجهاء الجالية اليهودية معاً. وقد اقتضى الأمر انتظار أواخر ١٩١٦ ومجيء لويد جورج إلى رئاسة الحكومة وآرثر بلفور إلى وزارة الخارجية، ليعاود سايكس الكرّة، وقد رقّي إلى مساعد سكرتير «حكومة الحرب» المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط. حينها انعقد توافق داخل الحكومة على أنّ وظيفة الاستيطان الصهيوني سوف تمهّد لاستعمار فلسطين وتوفير قاعدة سكانيّة له.
من أجل تثبيت الحقّ البريطاني في استعمار فلسطين، اقتضى الأمر أن تنصّ الرسالة أولاً بأول، على حرمان عرب فلسطين من صفة الشعب وبالتالي من الحقّ في تقرير المصير أي في إقامة دولة مستقلة خاصة بهم. تم نزع صفة الشعب عن عرب فلسطين وحرمانهم الحق في تقرير المصير بالاستبدال. مُنِح اليهود، وعددهم في فلسطين لا يتجاوز الستين ألفاً، صفة الشعب، والحق في إقامة دولة قومية لهم (دولة ــ أمّة) مفتوحة أمام كل من يرغب من يهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وحرم، في الآن ذاته، أكثر من ٧٠٠ ألف عربي (أكثر من ٩٠٪ من السكان) من الحق في تقرير المصير وبناء الدولة القوميّة.
ولتأكيد ذلك، كان لا بدّ من تعريف هويّة سكان فلسطين التعريف الديني ــ الإثني بين يهود و«غير يهود». فإذا التعهد بعدم إساءة إنشاء «الوطن القومي اليهودي» إلى الحقوق «المدنيّة والدينية» للجماعات غير اليهودية، يزيد الطين بلّة لأنه يكرّس حرمان عرب فلسطين من كامل حقوقهم السياسيّة في بناء دولة والاستقلال وتقرير مصير وإدارة شؤونهم بأنفسهم، بل وحتى حقّهم في التمثيل السياسي والمشاركة السياسية. من هنا فإنّ عدم ذكر «دولة يهودية» بدل «الوطن القومي اليهودي» في رسالة اللورد بلفور لم يكن من قبيل التورية، قدر ما كان للتأكيد أنّ فلسطين سوف تكون «بريطانيّة»، تماماً كما فهم جورج بيكو باكراً.
تأكيداً على أنّ الغرض الأوّل لرسالة بلفور كما لاتفاقية سايكس بيكو، كان حرمان العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، من حق تقرير المصير، رفضت بريطانيا وفرنسا المشاركة في بعثة كينغ كراين التي دعا الرئيس ولسن فرنسا وبريطانيا للانضمام إليها من أجل استطلاع رغبات سكان الولايات العربية السابقة. كتب بلفور في مذكرة سريّة إلى الحكومة البريطانية العام ١٩١٩: «هل نعني، في حالة سورية، استطلاع رغبات السكان بدرجة رئيسية؟ إنّنا لسنا نعني شيئاً من هذا القبيل… وهكذا فأياً تكن رغبات السكان، سوف يحصلون على فرنسا [قوة منتدبة عليهم] بالتأكيد. … وسوف يكون التناقض بين الميثاق [ميثاق عصبة الأمم] وسياسة الحلفاء فاقعاً في حال [الحديث عن] «أمّة فلسطين المستقلّة»… ذلك أنّنا لسنا نقترح في فلسطين استشارة رغبات سكان البلد الحاليين ولو من حيث الشكل».
J M N, Jeffries, «Analysis of the Balfour Declaration», in Khalidi, Walid, (ed.) From Haven to Conquest، Institute for Palestine Studies, Beirut 1971, pp. 173-4.
الظرفي والإستراتيجي
كثيرة هي الاعتبارات الظرفية التي اعتمدت لاحقاً تفسير دوافع الحكومة البريطانية في تقديم وعد لليهود بوطن قوميّ في فلسطين. ثمّة عربون وفاء لأثرياء اليهود الذين موّلوا المجهود الحربي البريطاني أو مكافأة حاييم وايزمان على اختراعه مادة الآسيتون اللازمة لفتائل المتفجّرات. وثمّة تفسيران متناقضان لدوافع الساسة البريطانيين، أحدهما هو عداؤهم لليهود (لا سامية)، والثاني دافع بروتسطانتي توراتي متعاطف مع مطلب العودة إلى أرض الميعاد. ومن ضمن الاعتبارات المتعلّقة بسير معارك الحرب ذاتها، تُذكر الحاجة إلى تشجيع الرئيس ولسن على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء باسترضاء أبرز مستشاريه من اليهود الصهيونيين براندايس وفرانكورتر، أو الحاجة المماثلة لإقناع روسيا الجمهورية بقيادة كرنسكي بالبقاء في الحرب، بالتأثير على اليهود في قيادة الثورة الروسية. ومن أواخر الحجج تلك التي تتحدّث عن استباق بريطانيا لألمانيا في كسب تأييد اليهود الأوروبيين بناءً على معلومات نقلها وايزمان بواسطة سايكس بأنّ الحكومة الألمانية تنوي إصدار تعهّد بدعم وطن قومي لليهود في فلسطين مقابل لعب وجهاء اليهود الألمان دور الوسيط مع قوى «الائتلاف» من أجل إنهاء الحرب.
Scott Anderson, Lawrence in Arabia: War, Deceit, Imperial Folly and the Making of the Middle East, 2013, pp. 348-9.
غير أنّ هذه الاعتبارات الظرفية، على أهمّيتها، تنضوي في إطار المصلحة الأبرز لبريطانيا في تأمين قناة السويس بالسيطرة على ضفّتيها. وقد توسّلت بريطانيا لإزاحة فرنسا عن فلسطين وانتزاع الانتداب عليها المنطق نفسَه الذي شرعنت به فرنسا حججها لاستعمار سائر الولايات العربيّة: منطق حماية الأقليّات.
سايكس بيكو الثانية: التعديلات
مع إطلالة العام ١٩١٧ كانت التصريحات البريطانيّة قد بدأت تتنصّل من سايكس ــ بيكو. وصف سايكس الاتفاقية بأنّها مجرّد مشروع وضعه جورج بيكو لا يمكن للحكومة البريطانية قبوله دون تعديلات عميقة. وصرّح لويد جورج بأنّ بريطانيا أقدر على حماية الأراضي المقدّسة من أي كان وجزم، ربّما لأوّل مرّة، بأنّ موضوع فلسطين الفرنسية «ليس وارداً أصلاً» (بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، ١٨٤).
كان لويد يتحدّث من موقع الشريك الاستعماري الأقوى. فبريطانيا هي التي قادت عمليّاً قوى «الائتلاف» خلال الحرب الكونية وقدّمت العدد الأكبر من القتلى. وهي التي هزمت حملة جمال باشا لاحتلال قناة السويس، إضافة إلى أنّ قوّاتها باتت تحتّل القدس بقيادة الجنرال أللنبي في كانون الأول/ ديسمبر ١٩١٧ الذي فرض الحكم العسكري على فلسطين ضدّ إرادة جورج بيكو المطالِب بإدارة مدنيّة مشتركة، ولم يترك للفرنسيين غير المشاركة في إدارة الأماكن المقدّسة في القدس. وفي شباط/ فبراير ١٩١٨ رضخت فرنسا للأمر الواقع وأيّدت وعد بلفور بعد أن كانت القوّات البريطانية قد سيطرت عمليّاً على كامل فلسطين. وفي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر ١٩١٨، دخلت قوات بريطانيّة ومعها وحدات من «الجيش العربي» دمشق، فتولّى أللنبي، بصفته الحاكم العسكري لسورية وفلسطين، إبلاغ الأمير فيصل بأنّ سورية «له» ولكنْ دون فلسطين ولبنان. ولمّا اعترض الأمير على منحه مملكةً لا منفذ لها على البحر، ذكّره أللنبي بأنّه تحت إمرته عسكرياً وعليه أن ينفّذ الأوامر العسكريّة.
بناءً عليه، أمكن للويد جورج أن ينتزع من كليمنصو آخر مغانم الحرب في المنطقة في حوار شديد الدلالة جرى في السفارة الفرنسية بلندن عشيّة مؤتمر السلام في كانون الثاني/ يناير١٩١٩:
كليمنصو: حسناً، ما الذي سوف نناقشه؟
لويد جورج: بلاد ما بين النهرين وفلسطين.
قل لي ماذا تريد؟
أريد الموصل.
سوف تكون لك … أيّ شيء آخر؟
نعم. أريد القدس أيضاً.
سوف تكون لك، قال كليمنصو مجدّداً.
(جايمس بار، خط في الرمال، بالإنكليزية، ص ٧١-٧٢).
المقصود بالقدس طبعاً كل الأراضي الفلسطينيّة الواقعة بين حيفا وجنوب غزّة ١٩١٨. وكان الجيش البريطاني قد احتلّ بغداد نهاية العام ١٩١٧ ودخل كركوك والموصل بعد استسلام الجيش التركي السادس في صيف ١٩١٨. وفرضت بريطانيا ضمّ الموصل إلى المنطقة الحمراء بعد اكتشاف النفط فيها بواسطة شركة النفط الأنكلوــ فارسية وسوف تتلقّى فرنسا مقابل التخلّي عن الولاية حصّة في «شركة نفط العراق».
تقسيم سورية
هكذا أعادت اتفاقيّة سايكس ــ بيكو المعدّلة رسم حدود «سورية التاريخيّة»، بعد أن انتزعت منها كيليكيا والموصل شمالاً وفلسطين جنوباً.
أخلى البريطانيون المنطقة (أ) عسكرياً وتركوا الفرنسيين يتفاوضون والأمير فيصل حول سورية. اقترح كليمنصو مملكةً عربيّة تحت الانتداب الفرنسي عاصمتها دمشق وتكون حلب مركز إقامة المفوض السامي الفرنسي، وكان فيصل ميّالاً لقبول الاقتراح، لكنّ العروبيين المحيطين به رفضوا مصرّين على الاستقلال التام. سقطت حكومة كليمنصو وحلّت محلّها حكومة يمين استعماريّ قرّرت احتلال سورية، فكان إنذار غورو الشهير وتقدّم قوّاته لاحتلال دمشق قبل انتظار ردّ الحكومة العربية، وبعد مبارزة يائسة في ميسلون بين مشاة وخيّالة وطيران ودبّابات، وكانت نهاية مملكة فيصل العربية في حزيران/ يونيو ١٩٢٠.
تفاوتت اقتراحات القيادة الفرنسية حول تقسيم سورية. دعا جورج بيكو إلى إنشاء عشرة كيانات لكسر قوى المعارضة السورية وتشتيتها. لكن غورو كان واثقاً «بإمكان السيطرة على سورية بتقسيمها إلى أربعة أو خمسة كيانات» على حدّ قوله (انظر: فواز طرابلسي «تاريخ لبنان الحديث. من الإمارة إلى اتفاق الطائف»، ٢٠١٠). وهكذا صار. فُصِل «لبنان الكبير» عشية الأول من أيلول ١٩٢٠، ومعه القسم الأكبر من الساحل، عن سائر أجزاء سورية، وأنشِئت الكونفيدرالية السورية من الدولة العلوية في الشمال الغربي والدولة الدرزية في الجنوب وبينهما دولتا دمشق وحلب. مع إقرار الدستور السوري عام ١٩٢٦ وحّدت سلطات الاحتلال دولتي حلب ودمشق. ثم ضمّتْ إليهما دولة العلويين والدولة الدرزية خلال مفاوضات الاستقلال العام ١٩٣٦ لتنشأ الجمهورية السورية أخيراً. ولم تتكرّس الحدود بين لبنان وسورية إلّا في مفاوضات استقلال البلدين العام ١٩٣٦. وفي تعديل أخير على ما تبقّى من «سورية التاريخية»، تخلّى الانتداب الفرنسي عن الإسكندرون ومدينة أنطاكية لتركيا أتاتورك لتأمين حيادها في الحرب العالمية الثانية.
تحجيم الوطن القومي اليهودي
ما إن أمّنت بريطانيا فلسطين ضمن ممتلكاتها حتى أجرت تعديلين على خريطة فلسطين، وبالتالي على خريطة «الوطن القومي اليهودي» كما وضعتها المنظمة الصهيونية، وضُمّت إلى صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم. تضع الخريطة الصهيونية الحدود الشمالية للوطن القومي اليهودي جنوبي نهر الليطاني إذ ينعطف بين صيدا وصور ليصبّ في البحر الأبيض المتوسط، ثمّ ينعطف خطّ الحدود جنوبي دمشق ليشمل الجولان قبل أن يعود ليسير في موازاة خط سكّة حديد الحجاز على الضفّة الشرقية من نهر الأردن وصولاً إلى العقبة، ومنها يصعد في خطّ مستقيم إلى جنوب رفح على المتوسّط.
حصل التعديل الأوّل خلال المفاوضات الطويلة التي أجرتها لجنة نيوكومب ــ پوليه لترسيم الحدود بين منطقتي الانتداب الفرنسية والبريطانية خلال الأعوام ١٩٢٠ــ١٩٢٣. دار النزاع بين الحكومتين مدار السيطرة على الموارد المائية بالدرجة الأولى. رفضت الحكومة الفرنسية استئثار بريطانيا بنهر الأردن وبروافده، فرُسِمت الحدود انطلاقاً من الناقورة شمال عكّا، بحيث بقيت منابع نهر الأردن وروافده في منطقة الانتداب الفرنسي بما فيها هضبة الجولان، في مقابل استئثار بريطانيا بنهر الأردن ومجراه وببحيرتي الحُولة وطبريّا.
أدّى التعديل الثاني إلى تقليص حدود فلسطين إلى الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن. فحُذفتْ من خريطة «الوطن القومي اليهودي» أراضٍ عرضها حوالي ٣٠ كيلومتراً على طول الضفّة الشرقيّة لنهر الأردن وصولاً إلى البحر الميت حيث ترقى الحدود في خطّ مستقيم إلى ميناء العقبة. هكذا نشأت إمارة شرق الأردن العام١٩٢١ تحت الحماية البريطانية، واعترفت بها عصبة الأمم في العام ذاته. وقد عارضت المنظّمة الصهيونيّة هذا التعديل وظلّت تطالب بشرق الأردن على اعتباره جزءاً من «فلسطين التاريخية». وعندما أسّس زئيف جابوتنسكي، الأب التاريخي لليمين الصهيوني، «حزب الإصلاح» العام ١٩٢٧ دعا إلى استعادة تلك الأراضي لفلسطين الانتدابيّة والسماح بالاستيطان اليهودي شرقي النهر.
بعثة كينغ كراين
لم يطبّق الرئيس ولسن مبدأه في تقرير المصير على الولايات العربية الخارجة من تحت السيطرة العثمانية. ورد في النقطة ١٢ من نقاطه الـ١٤ الشهيرة دعم الولايات المتحدة لتركيا كـ«دولة ذات سيادة»، أمّا باقي «القوميّات» فنصيبها صيغة مبهمة عن ضرورة «ضمان أمن الحياة فيها بالتأكيد، و[منحها] فرصة مطْلقة لنموّ الحكم الذاتي دون أيّ تدخّل».
أظهرت نتائج الاستطلاعات والاستفتاءات التي أجرتها لجنة كينغ ــ كراين على نحو حاسم أنّ سكّان المنطقة يرفضون وعد بلفور رفضاً قاطعاً ويرغبون في العيش في مملكة عربيّة واحدة مستقلّة، وأنّهم عند تخييرهم بين الدول المنتدبة عليهم، رجّحوا أميركا على حساب بريطانيا وفرنسا. ومع ذلك، كان الفارق كبيراً بين ما اكتشفته اللجنة وما أوصت به. بديلًا من الاستقلال والوحدة، اقترحت تقسيماً آخر للمنطقة تحت انتدابات أنكلو ــ أميركيّة. اقترحت اللجنة تدويل منطقة إسطنبول الأوروبية والآسيوية حول المضائق وانتداباً أميركيّاً على الجسم الرئيسي لتركيا، حظيت إزمير فيه بموقع «منطقة شبه حكم ذاتي»، أرمينيا: انتداب أميركيّ، كردستان: انتداب أميركيّ أو تبقى داخل العراق في ظل انتداب أميركيّ أو بريطانيّ، سورية بما فيها «لبنان» كـ«منطقة شبه حكم ذاتيّ» وفلسطين وصولاً إلى حدود صحراء سيناء: انتداب أميركي أو بريطاني أيضاً وأيضاً.
المقاومة
يتبيّن مما عرضناه أعلاه أنّ ما يسمّى اتفاقية سايكس ــ بيكو هو مسار استغرق أكثر من عقدين من الزمن على صياغته وتنفيذه وقد تعرّض لكمّ لا يُحصى من المراجعات والتعديلات، ومن أبرز محطّاته مؤتمرا باريس وسان ريمو والعام ١٩٢٦ وتكريس الانتدابات في عصبة الأمم، وإقرار الدساتير، وصولاً إلى العام ١٩٣٦واتفاقيات استقلال سورية ولبنان التي ما لبثت أن تراجعت فرنسا عن تنفيذها.
ويجدر التذكير بأنّ فرض الانتدابات واجهتْه انتفاضات شعبية ومسلّحة منذ الأيام الأولى لذاك العام التأسيسي، العام ١٩٢٠ الذي سمّي «عام النكبة» وعرفت المقاومة ثلاث دورات من الانتفاضات الشاملة للمشرق العربي، من معالمها البارزة ثورة العشرين في العراق، والثورة السورية الكبرى في جبل الدروز وانتفاضة المدن السورية والاشتباكات بين الأهالي والمستوطنين اليهود في فلسطين العام ١٩٢٥، وبلغت ذروتها في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى فترة ١٩٣٦ــ ١٩٣٩. ويمكن القول إنّ مرحلة أولى من فرض اتفاقية سايكس ــ بيكو ووعد بلفور على شعوب اختتمت مع إخماد تلك الانتفاضة.
تجزئة، توحيد أم إعادة تشكيل؟
دار قسم كبير من الجدل حول تلك المرحلة التاريخية التأسيسية مدار عدد من الثنائيات المانعة الواحدة منهما للأخرى: تجزئة/وحدة، كيان طبيعي/كيان اصطناعي، أمّة ــ دولة/كيان طائفي ــ إثني، إلخ. وهي مناسبة لوضع بعض النقاط على حروف تلك الثنائيّات.
هل كانت عمليّة سايكس ــ بيكو مجرّد عمليّة تجزئة؟ وبأيّ معنى؟ وإذا صحّ القول فما الذي جزّأته؟ وبالقياس إلى أية وحدة؟
إذا كانت التجزئة قد تمّت بالقياس إلى وحدة السلطنة العثمانية، فما هي وحدة السلطنة؟ وأين هي؟ في الفترة التي نحن بصددها، وقد تقلّصت إلى تركيا والولايات العربية المشرقية. أمّا إذا كان المقصود تجزئة التقسيمات الإدارية العثمانية، فالأحرى الحديث عن عمليّات ضمّ وفرز نشأت بموجبها كيانات جديدة: نشأ العراق بدمج ثلاث ولايات عثمانيّة سابقة في كيان واحد (كانت الخرائط العثمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر تدمجها تحت تسمية «العراق العربي»)، وتكوّنت فلسطين بضمّ سناجق عكا ونابلس والقدس، ونشأ شرق الأردن بدمج القسم الجنوبي من سنجق حوران وسنجق معان، ووُلدت الفيدرالية السورية، التي ضمّت أجزاء من ولاية الشام وأجزاء من ولاية بيروت، وأخيراً لبنان الذي قام على ضمّ أجزاء من ولاية بيروت وأربعة أقضية من ولاية الشام إلى متصرّفية جبل لبنان، التي تمتّعت بقدْر من الحكم الذاتي بين ١٨٦١و ١٩١٥.
غير أنّ السجال حول الوحدة والتجزئة ليس يقتصر على مثل هذا الاعتبار الإداري. إنّه يستدعي دلالات للوحدة تقرنها بالقوّة مثلما تقرن السلطة المركزية بالوحدة والقوة، وتضفي على الوحدة واجب الالتزام بالجماعة، وعدم الخروج عليها، خصوصاً عندما يجري تعيين الجماعة بما هي «الأمّة» فيصير المساس بـ«الوحدة» يعادل «الفتنة».
طبيعي أم اصطناعي؟
ما «الطبيعي» وما «الاصطناعي» في كيانات سايكس ــ بيكوــ بلفور؟
عندما يتحدّث قوميوّن عرب أو قوميون سوريّون عن «سورية الطبيعية» وعندما يطالب قوميّون لبنانيّون بعودة لبنان إلى «حدوده الطبيعية»، ماذا يعنون بـ«الطبيعي»؟
أجازف بالجواب أنّهم يقصدون الكيان «المتخيَّل» والحدود المتخيّلة، بالمعنى الذي يقصده بنديكت أندرسن في كتابه عن الأمم بما هي تلك «الجماعات المتخيّلة» التي تتجاوز القرية، التي يعتبرها أندرسن «جماعة عضويّة» عمّمت الدعوة إليها «رأسماليّة الطباعة». لذا كانت «سورية الطبيعيّة» هي تلك التي تخيّلها بطرس البستاني في مقالته الشهيرة «مركزنا» أو الأب لامنس البلجيكي اليسوعي في كتابه «سورية» الصادر عشيّة الانتداب الفرنسي على سورية، يحدّها حاجزان طبيعيّان ــ جبال طوروس شمالاً والصحراء جنوباً ــ منحها صفة التمايز الحضاري عن الصحراء وبالتالي عن «العرب»، أو تلك التي عيّنها الشريف حسين من مرسين إلى جنوب الجزيرة العربية باستثناء عدن (المستعمرة البريطانيّة منذ ١٨٣٤).
هكذا صار «الطبيعيّ» ليس ما هو كائن وواقع وإنّما هو منوّعات ممّا يجب أن يكون. وصار «المصطنع» هو ما يحيد عن تلك الرغبات وما أنتجته تطبيقات سايكس بيكو وبلفور.
دول قومية أم حكمُ أقلّيات؟
عندما يجري الحديث الآن عن اتفاقية سايكس بيكو، يقترن البحث بكونها أغفلت حقوق الأقلّيات بما يوحي أنّ الكيانات التي تأسّست ابتداءً من العام ١٩٢٠ كانت تطبيقاً محلّياً لنموذج الدولة ــ الأمّة الأوروبيّة، أي إنها مبنيّة على قوميّة واحدة تشكّل أكثريّة السكّان. تجاهلت اتفاقيّة سايكس ــ بيكو حقوق عدد من الإثنيّات والطوائف في المنطقة، كان الكرد أبرزَ ضحاياها. لكنّ القاعدة في تطبيقات سايكس ــ بيكو وبلفور أنّها تجاهلت حقوق الأكثريّات وأرست السلطات وأنظمة الحكم على أقلّيات في لبنان وفلسطين والعراق.
الهندسة الكولونياليّة
في الخلاصة، يمكن القول إنّ الهندسة الكولونياليّة لكيانات المنطقة تميّزت بخاصتين نادراً ما تلحظهما معظم الأدبيّات عن الموضوع.
أوّلاً، البناء على مقتضيات ومصالح التغلغل والتراكم الرأسماليّين في المنطقة وأهميّة الموارد القديمة (الأنهر)، والجديدة (النفط والغاز) وتطوّر المدن وأهميّة المرافئ والتبدّلات في خطوط التجارة والمواصلات كما أفضت إليها التطوّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعمرانيّة والسكانيّة في الحقبة العثمانيّة الأخيرة. وقد استتبع ذلك بناءُ الكيانات حول مراكز مدينيّة اكتسبت ثقلها بسبب تلك التطوّرات: محور يافا ــ القدس في فلسطين، محور بغداد في العراق، محور بيروت ــ دمشق في سورية ــ لبنان.
ثانياً، حاول كلّ طرف التوفيق بين مصالحه الاقتصاديّة والإستراتيجيّة من جهة وبين استخدامه الانقسامات الإثنيّة والدينيّة والعشائريّة لانتزاع الاعتراف الدوليّ بالانتداب وتمكين سيطرته من جهة أخرى.
ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فمن مفارقات الهندسة الكولونياليّة في سورية مثلاً، أنّ مصلحة الانتداب الفرنسيّ السياسيّة التي قضت بفصل لبنان عن سورية سياسيّاً وإداريّاً، تباينت مع مَصالحه الاقتصادية والإستراتيجيّة، الأمر الذي أدّى الى توحّيد الكيانين اقتصاديّاً وماليّاً، على أساس عملة واحدة ومصرف إصدار واحد ونظام جمركيّ واحد ومرفأ وعاصمة اقتصاديّة واحدة هي بيروت. ومن مفارقات الأنظمة الاستقلاليّة، بل من مآسيها، أنّ ما وحّده الاستعماريّون الفرنسيّون العام ١٩٢٠ قسّمه الاستقلاليّون السوريّون واللبنانيّون في القطيعة الجمركيّة الاقتصاديّة التي وقعت بين البلدين العام ١٩٥٠.
على الأقلّ نحن هنا أمام بادرة تقسيم واحدة لا يمكن أن يُلقى اللوم فيها على سايكس ــ بيكو! وللبوادر تتمّات عندما يُدرَس تاريخ القرن من منظار المسؤوليّات المحليّة والخارجيّة عن تركة سايكس ــ بيكو.
ننشرها بالاتفاق مع فواز طرابلسي، كاتب المقالة ورئيس تحرير مجلة بدايات التي أخذنا المقالة عنها