العلاقة بين المدينة والريف في النهضة القومية وفي البنيان القومي (أنطونيو غرامشي)

من الغلاف

فواز طرابلسي

كاتب من لبنان

ان العلاقة بين المدينة و الريف هي نقطة الإنطلاق الضرورية لدراسة القوى الدافعة الأساسية للتاريخ الإيطالي،  للنقاط البرنامجية التي يجب على ضوئها ان نعالج و نحاكم سياسات حزب العمل خلال النهضة القومية. و الحصيلة اقرب الى هذه الترسيمة المبسطة: ١. القوة المدينية الشمالية؛ ٢. القوة الريفية الجنوبية؛ ٣. القوة الريفية الشمالية الوسطى؛٤. القوة الريفية لصقلية؛ ٥. قوة ساردينيا.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

26/12/2017

تصوير: اسماء الغول

فواز طرابلسي

كاتب من لبنان

فواز طرابلسي

أستاذ جامعي ومؤرخ لبناني، ورئيس تحرير مجلة "بدايات" التي ننقل عنها مقالاته بالاتفاق معه. رابط المجلة: http://www.bidayatmag.com

الفصل الثالث من كتاب «في الوحدة القومية الإيطالية» لأنطونيو غرامشي، ترجمه فواز طرابلسي وصدر عن منشورات المتوسط.

لا تجري العلاقات بين سكان الريف وسكان المدن على مجرى واحد مبسّط، خاصة في ايطاليا. لذا يتوجَب علينا ان نثبَت ما الذي نعنيه بـ”مديني” و ما الذي نعنيه بـ”ريفي” في المدينة الحديثة. كذلك يتوجب علينا ان نعيَن مختلف التركيبات الناجمة عن حقيقة ان أشكالاً مفوَتة ومتخلَفة لا تزال مستمرة في التركيب العام للسكان، اذا ما درسناه – التركيب – من منظار درجة كثافته النسبية. فنعثر احيانا ًعلى مفارقة ان النمط الريفي هو اكثر تقدمية من النمط الذي يدعي الإنتساب للمدينة.

تكون المدينة “الصناعية” اكثر تقدمية دوماً من الريف الذي يرتبط عضوياً بها. لكن ليست كل مدن ايطاليا مدناً “صناعية”، بل ان المدن الصناعية النموذجية بينها قليلة جداً. هل ان المدن الإيطالية “المائة” مدنٌ “صناعية”؟(١) هل ان احتشاد السكان في مراكز غير ريفية، بنسبة الضعف ما هي عليه الحال في فرنسا، مثلاً دليل على ان التطور الصناعي في ايطاليا يوازي ضعف التطور الصناعي في فرنسا؟

الواقع ان “التمدن” في ايطاليا لا يمكن اعتباره ظاهرة صافية، ولا “مميزة” من ظواهر التطور الرأسمالي او حتى من تطور الصناعة الكبيرة. فنابولي التي كانت لفترة طويلة اكبر مدن ايطاليا والتي لا تزال من اكبرها، ليست مدينة صناعية، ولا هو الحال كذلك بالنسبة الى لروما، التي هي الآن أكبر المدن الإيطالية قاطبة. على انه في هاتين المدينتين من النمط القرأوسطي توجد ايضاً نوى سكانية صلبة من النمط المديني الحديث. ولكن ما هم موقعها النسبي على وجه التحديد؟ انها مغمورة ومقهورة ومسحوقة من قبل الطرف الآخر، الطرف الذي لا ينتمي الى النمط الحديث والذي تتشكل منه الأكثرية السكانية. تلك هي مفارقة “مدن الصمت”(٢).

توجد في هذا النمط من المدن، توجد وسط كافة الفئات الاجتماعية، وحدة/عصبية ايديولوجية مدينية ضد الريف، وحدة لا يشذ عنها حتى أحدث النوى من حيث الوظيفة المدنية (ومثل هذه النوى موجود). يسود حقد وازدراء تجاه “الفلاح” وتنتظم جبهة مشتركة ضمنية ضد مطالب الريف – وهي مطالب إن تحققت تجعل وجود مثل تلك المدن مستحيلاً. وفي المقابل يسود الريف نفور تجاه المدينة بكافة فئاتها مجتمعة، ليساقل تجدراً ولا اقل اتقاداً، وإن يكن حقداً بالسليقة generic. والواقع انها علاقة غاية في التعقيد، تظهر باشكال قد تبدو متناقضة على السطح، وقد اكتسبت أهمية حاسمة ابان الصراعات المرافقة للنهضة القومية، عندما بدت على نحو اكثر اطلاقاً وفاعلية مما هي عليه في ايامنا هذه.

يمكن دراسة اول وابرز مثال على هذه التناقضات الظاهرية خلال حقبة الجمهورية البارثينوبية سنة ١٧٩٩(٣) حيث نجح الريف المنضوي في عصابات الكاردينال روفّو في سحق المدينة سحقاً لسبب مزدوج. فالجمهورية في طورها الأرستقراطي الأول وفي طورها البرجوازي التالي كانت قد اهملت الريف إهمالاً كاملاً. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالجمهورية، إذ فرضت الحَجْر على قيام إنتفاضة من النمط اليعقوبي تصادر ممتلكات الملاك العقاريين، الذين كانوا ينفقون مداخيلهم الزراعية في نابولي، حارمة بذلك سواد السكان من موارد دخلهم ومعاشهم، ان تلك  الجمهورية لم تحصد غير اللامبالاة من سكان نابولي، إن لم نقل انها حصدت عداءهم الصريح.

بالإضافة الى ذلك فخلال النهضة القومية، ولد جنين العلاقة التاريخية بين الشمال والجنوب، وهي علاقة شبيهة بالعلاقة بين مدينة كبيرة وريف شاسع. ولما لم تكن تلك العلاقة علاقة عضوية طبيعية بين مقاطعة ريفية وعاصمة صناعية، وانما قامت بين مساحتين شاسعتين تتميزان بتقاليد مدنية وثقافية شديدة الإختلاف، فقد احتدمت من جراء ذلك ملامح وعناصر الإصطراع بين القوميات. ومن أبرز وقائع فترة النهضة القومية ان الجنوب كان السبّاق الى المبادرة دوماً في الأزمات السياسية: نابولي سنة ١٧٩٩، پاليرمو ١٨٢١-١٨٢٠، مايسّينا وصقلية سنة ١٨٤٧، وصقلية ونابولي ١٨٤٨-١٨٤٧. اما الواقعة البارزة الأخرى فهي الطابع الممّيز الذي اكتسبته كل من هذه الحركات في ايطاليا الوسطى، وهي الأشبه بمحطة بين الشمال الجنوب. فقد استمرت فترة المبادرة الشعبية (او المبادرة الشعبية النسبية) من سنة ١٨١٥ الى سنة ١٨٤٩ وبلغت ذروتها في توسكانا والدول البابوية (ينبغي النظر دوماً الى رومانيا ولونيجيانا على انهما تنتميان الى الوسط الإيطالي). وقد تكررت هذه المميزات لاحقاً: أحداث حزيران (يونيو) ١٨١٤ التي بلغت ذروتها في بعض مناطق الوسط (رومانيا ومارتشي) والأزمة التي نشبت في صقلية سنة ١٨٩٣ ثم انتشرت في الجنوب ولونيجيانا وبلغت ذروتها في ميلانو سنة ١٨٩٨؛ و في سنة ١٩١٩ كان اجتياح اراضي الجنوب وصقلية؛ وفي سنة ١٩٢٠ قامت حركة احتلال المصانع في الشمال(٤). ان هذا التزامن والتناغم النسبيين انما يؤكدان على انه كانت توجد في ايطاليا، منذ العام ١٨١٥، بنية سياسية – اقتصادية متجانسة مثلما يؤكد ان على ان القطاع الأضعف والأكثر هامشية كان اول القطاعات مبادرة زمن الأزمات.

يمكن دراسة علاقة المدينة والريف، فيما يخص علاقة الشمال والجنوب، من خلال التغاير في مفاهيمها الثقافية ومواقفهما الذهنية ايضاً. سبقت الإشارة الى ان كروتشي وفورتوناتو قد تزعما، في مطلع القرن، حركة ثقافية عبَرت عن نفسها من خلال مجابهتها، بهذا الشكل او ذاك، للحركة الثقافية في الشمال (المثالية في مقابل الوضعية؛ والكلاسيكية في مقابل النزعة المستقبلية).

وتجدر الإشارة الى ان صقلية قد تميزت عن الجنوب، بما في ذلك على الصعيد الثقافي. فاذا كان يجوز اعتبار كريسپي ممثلاً للنزعة الصناعية الشمالية، فإن پيراندللو يبقى الأقرب الى تمثيل المدرسة المستقبلية. ثم ان جنتيلي والمدرسة الراهنية actualism اقرب الى الحركة المستقبلية هو ايضاً (هذا اذا فهمنا المستقبلية بمعناها الأشمل بما هي حركة معارضة للمدرسة الكلاسيكية التقليدية، اي بما هي لون من الوان الرومنطيقية المعاصرة ٥).

يختلف مثقفو الشمال عن مثقفي الجنوب من حيث التكوين والإنحدار (الإجتماعي). فنمط المثقف السائد في الجنوب لا يزال المحامي المخادع الذي يتوسط بين جماهير الفلاحين من جهة وملاك الأرض وجهاز الدولة من جهة أخرى. في حين ان النمط السائد في الشمال هو “التقني” في المصنع الذي يلعب دور صلة الوصل بين جماهير العمال وإدارة المصنع. اما الصلة بالدولة فكانت من نصيب التنظيمات النقابية والحزبية التي تقودها فئة من المثقفين جديدة كل الجدة (فالنقابية الحكومية الراهنة – (٦) التي ادت الى الإنتشار المنهجي لهذا النمط الإجتماعي على النطاق القومي بشكل أشد تماسكاً وفاعلية مما كان ممكناً ايام النقابات القديمة – تشكَل، بمعنى ما، اداة توحيد اخلاقي – سياسي).

ويمكن دراسة هذه العلاقة المركَبة بين المدينة والريف من خلال البرامج السياسية العامة التي كانت تسعى لفرض نفسها قبل ان يسيطر الفاشيون على الحكم. فقد كان برنامج كل من جيوليتي(٧) و الديمقراطيين الليبراليين يهدف الى إنشاء جبهة “مدينية” (من الصناعيين والعمال) في الشمال تشكل ركيزة لنظام من الحماية الإقتصادية، تعزَز الإقتصاد الشمالي والهيمنة الشمالية في آن معاً.

وهكذا تقلَص دور الجنوب الى سوق شبه كولونيالية، تشكل مصدراً للمدخرات والضرائب، جنوب يجري تأديبه بإجراءات من نوعين: إما بالإجراءات البوليسية الصرفة، اي القمع بلا هوادة لكل حركة شعبية، وما يتخلله من مجازر دموية ضد الفلاحين؛ و إما ان يتم التأديب بالإجراءات السياسية – البوليسية، اي التنفيعات الشخصية لشريحة من “المثقفين”، على شكل الوظائف في الإدارة الحكومية، وإلقاء الحبل على غاربه لنهب الإدارة المحلية بلا عقاب او محاسبة، والتطبيق المتسامح للتشريعات الإكليركية خلافاً لما هو الحال في سائر أنحاء ايطاليا، ما يترك مساحات كبيرة من الأوقاف في يد رجال الدين، الخ.. وهذا النوع الثاني يعني الإستيعاب “الفردي” للعناصر الجنوبية الأشد حيوية في جهاز الدولة القائد، حيث يتمتعون بامتيازات “قانونية” و بيرقراطية خاصة، الخ.

وهكذا فان الشريحة الإجتماعية التي كانت مرشحة لتنظيم وتقنين التذمر الجنوبي الدائم، تحولت بدلاً من ذلك الى اداة للسياسة الشمالية، الى نوع من جهاز شرطة احتياطي. ولم ينجح تذمر الجنوبيين في ن يعبَر عن نفسه بالشكل السياسي المألوف لإفتقاده الى القيادة. فاذا بتجليات ذاك التذمر، التي لا تعبَر عن نفسها الا على شاكلة اضطرابات فوضوية، يجري تقديمها “كقضايا من اختصاص الشرطة” و المحاكم. و الحقيقة ان امثال كروتشي وفورتوناتو، في مفهومهم الصنمي للوحدة (القومية) قد شجعوا على هذا النمط من الفساد وإن يكن على نموٍ سلبي و غير مباشر.

ثمت عامل سياسي – أخلاقي لا يجوز إغفاله هو حملة التهويل التي شنَت ضد كل توكيد، مهما كان موضوعياً، على وجود اسباب للنزاع بين الشمال والجنوب. هنا يمكننا ان نستذكر خلاصة التحقيق الذي اجراه بايس – سييرا عن ساردينيا بعد الأزمة التجارية لفترة ١٩٠٠-١٨٩٠، و ايضاً التهمة السالفة الذكر التي اطلقها كريسبي ضد فاشيي صقلية بانهم عملاء للإنكليز. و قد كان هذا الشكل من النزعة الوحدوية المهووسة سائداً بين مثقفي صقلية بنوع خاص (نتيجة الضغط الجبار الذي كان يمارسه الفلاحون على اراضي النبلاء وايضاً بسبب شعبية كريسپي المحلية) حتى انها تجلت اخيراً في الهجوم الذي شنه ناتولي ضد كروتشي بسبب إشارة لا ضرر فيها الى نزعة الإنفصال الصقلية بالنسبة لمملكة ناپولي.

تضافرَ عاملان على “إرباك” برنامج جيوليتي:

١) بروز الجناح المتصلب في الحزب الإشتراكي بقيادة موسوليني وسعيه الى مغازلة الجنوبيين (التبادل الإقتصادي الحر، انتخابات مولفاتا، الخ.) الأمر الذي قوَض الجبهة  المدينية الشمالية (٨)؛

٢) إقرار مبدأ الإقتراع العام، الذي وسَع القاعدة الإنتخابية للجنوب بطريقة لا سابق لها، وتقييد الرشوة الفردية (والحقّ ان زيادة عدد الناخبين قد صَعَب من عملية الرشوة، من هنا بروز ظاهرة القبضايات السياسيين).

لجأ جيوليتي، رداً على ذلك، الى تغيير تحالفاته، فأحل “معاهدة جنتيلوني” محل “الجبهة المدينية” (او بالأحرى واجه الأولى بالثانية، من اجل الحيلولة دون الإنهيار النهائي لجبهته العتيدة. (٩) و بفضل هذه المعاهدة تكونت جبهة جديدة بين الصناعة الشمالية ومزارعي الريف “العضوي العادي” (و الواقع ان القوى الكاثوليكية الإنتخابية كانت تتطابق جغرافياً مع قوى الإشتراكيين، اي انها كانت منتشرة في المناطق الشمالية والوسطى). وقد نالت الجبهة الجديدة دعماً إضافياً من أهالي الجنوب، على الأقل بما يكفيها لأن “تعدَل”، على نحو مقبول، من نتائج توسيع جمهور الناخبين.

اما البرنامج الآخر، اي الموقف السياسي العام الآخر، فهو ذلك الذي حملته صحيفة “كورييري ديلا سييرا” و رئيس تحريرها لويجي البرتيني(١٠) و يمكن النظر اليه على انه حصيلة تحالف بين شريحة من صناعيي الشمال (بقيادة اصحاب مصانع النسيج و القطن و الحرير، و كانوا من المصدَرين اي من دعاة التبادل الحر) وبين الجبهة الجنوبية الريفية. و قد دعمت ال”كورييري” سالفيميني ضد جيوليتي في انتخابات مولفينا سنة ١٩١٣ كما دعمت وزارة سالاندرا و بعدها وزارة نيتي،(١١) اي انها دعمت اول حكومتين شكلهما الساسة الجنوبيون(١٢).

وكان توسيع حق الإقتراع العام سنة ١٩١٣ قد ارهص باولى معالم تلك الظاهرة التي سوف تبلغ ذروتها خلال فترة ١٩٢٢-١٩٢١-١٩٢٠ كنتيجة للخبرة السياسية- التنظيمية التي اكتسبتها الجماهير الفلاحية خلال الحرب، اي الإنهيار النسبي للكتلة الريفية الجنوبية، وانفصال الفلاحين عن كبار الإقطاعيين بقيادة قطاع من المثقفين كانوا ضباطاً خلال الحرب. و هكذا ولدت الدعوة الساردينية (سارديزمو) (١٣) و قام الحزب الإصلاحي الصقلَّي (او ما يسمى بكتلة بونومي والنواب الصقليين الإثنين وعشرين) (١٤) بجناحها الإنفصالي المتطرف الذي تمثله “سيسيليا نووفا” (صقلية الجديدة).

وكذلك نشأت في الجنوب مجموعة “رينوفامِنتو”- التجديد – من قدامى المحاربين التي حاولت ان تؤسس احزاب عمل إقليمية على غرار الحزب السارديني. في هذه الحركة، تضاءلت إستقلالية الجماهير الفلاحية تدريجياً، من ساردينيا الى صقلية مروراً بالجنوب، تبعاً للقوة المنظمة و السمعة و الضغط الإجتماعي الذي كان يمارسه الملاك العقاريون. في صقلية، بلغ هؤلاء الذروة في التنظيم و الوحدة، اما في ساردينيا فكانوا اقل شأناً نسبياً. ان الإستقلال النسبي لشرائح المثقفين المعنيين يتغيَر وفق منطق مماثل- اعني، طبعاً، وفق تناسب عكسي مع الإستقلال النسبي لملاك الأراضي(١٥).

من اجل تحليل الوظيفة الإجتماعية- السياسية للمثقفين، من الضروري ان نستعيد وان نتفحص موقفهم النفساني تجاه الطبقات الأساسية التي يتوسطون بينها في شتى الميادين (١٦). هل كان موقفهم موقفاً “ابوياً” تجاه الطبقات الوظيفية؟ ام كانوا يحسبون انفسهم تعبيراً عضوياً عنها؟ و هل كان لهم موقف “تبعي” من الطبقات الحاكمة، ام كانوا يحسبون انفسهم قادة لتلك الطبقات و جزاء عضوياً منها؟    

خلال النهضة القومية، كان لحزب العمل موقف ابوي، فلم يحرز غير نجاح محدود جداً في إقامة الصلة بين الجماهير الشعبية العريضة و بين الدولة. فلم تكن النزعة التحويلية (الترانسفورميزمو) غير التعبير البرلماني عن استيعاب حزب العمل، بطريقة جزئية، من قبل “المعتدلين” و عن كون الجماهير الشعبية محرومة من القيادة بدلاً من ان تكون مستوعبة في حضن الدولة الجديدة.

ان العلاقة بين المدينة و الريف هي نقطة الإنطلاق الضرورية لدراسة القوى الدافعة الأساسية للتاريخ الإيطالي،  للنقاط البرنامجية التي يجب على ضوئها ان نعالج و نحاكم سياسات حزب العمل خلال النهضة القومية. و الحصيلة اقرب الى هذه الترسيمة المبسطة:

١. القوة المدينية الشمالية؛ ٢. القوة الريفية الجنوبية؛ ٣. القوة الريفية الشمالية الوسطى؛٤. القوة الريفية لصقلية؛ ٥. قوة ساردينيا.

حافظت القوة الأولى على وظيفتها كـ”قاطرة” في كل الأحوال، فكان المطلوب بالتالي البحث عن “أجدى” تركيبة لـ”قطار” يتقدم عبر التاريخ باقصى سرعة ممكنة. في تلك الأثناء، كانت القوة الأولى تعاني اصلاً من مشكلاتها الداخلية الخاصة-، المشكلات التنظيمية، كيفية مفصلة عناصر تماسكها الداخلي ومشكلة قيادتها السياسية- العسكرية (هيمنة پييدمونت، العلاقات بين ميلانو و تورينو، الخ.). على ان الثابت في الأمر ان هذه القوة بلغت درجة من الوحدة والجاهزية القتالية، بحيث انها اخذت تمارس آلياً وظيفة قيادية “غير مباشرة” على القوة الأخرى.

ثم يبدو ان الموقف المتصلب الذي اتخذته تلك القوة في النضال ضد السيطرة الأجنبية، على امتداد مراحل النهضة القومية المختلفة، قد ادى الى تحريك القوى التقدمية الجنوبية. من هنا كان التزامن النسبي، لا التطابق الزمني، الذي نشأ بين الحركات في سنوات ١٨٢١-١٨٢٠ و ١٨٣١ و ١٨٤٨(١٧). و في سنة ١٨٦٠-١٨٥٩ بلغت هذه “الآلية” التاريخية السياسية ذروة فاعليتها، حين بادر الشمال الى إطلاق النضال، فانحاز اليه الوسط سلمياً (او بطريقة شبه سلمية) فيما انهارت دولة البوربون في الجنوب تحت وطأة إندفاعة قوات غاريبالدي (المحدودة الزخم). حصل ذلك لأن حزب العمل (غاريبالدي) تدخّل في الوقت المناسب، بعد ان كان “المعتدلون” (كافور) قد نظموا الشمال والوسط، اي ان تنسيق التزامن النسبي لم يكن من فعل قيادة واحدة (“المعتدلون” و حزب العمل”)، بل كان من فعل التعاون (الآلي) بين قيادتين اثنتين نجحتا في تحقيق التكامل والإندماج بينهما.

لذا كان على القوة الأولى ان تعالج مشكلة استقطاب القوى المدينية التابعة للقطاعات القومية الأخرى حولها وخصوصاً في الجنوب. كانت تلك هي المشكلة الأصعب، تحف بها التناقضات والتيارات الجوفية التي تطلق سيولاً من الأهواء (و شكَل ما سمي بثورة ١٨٧٦ البرلمانية الحل الهزلي لتلك التناقضات) (١٨). على ان حلَ تلك التناقضات، لهذا السبب بالذات، امسي واحداً من محكات تطور الأمة.

ان النوى المدينية منسجمة إجتماعياً، لذا يتعين ان تحتل مواقع على قدم المساواة التامة فيما بينها. كان ذلك صحيحاً من الناحية النظرية، اما من الناحية التاريخية، فكانت المسألة مطروحة على نحو مختلف. فمن البيَن ان القوى المدينية الشمالية كانت على رأس قطاعها القومي، على ان هذا لم يكن يصح على القوى الجنوبية، او انه لم يكن يصح بالمقدار ذاته من الصحة. لذا كان على القوى المدينية في الشمال ان تقنع نظيراتها الجنوبيات بأن وظيفتها القيادية ينبغي ان تقتصر على تأمين “زعامة” الشمال على الجنوب في اطار العلاقة العامة بين المدينة والريف. بعبارة أخرى، فإن الوظيفة القيادية للقوى المدينية الجنوبية لم تكن إلا لحظة ملحقة من لحظات الوظيفة القيادية الأشمل التي يمارسها الشمال.

تولدت اعنف التناقضات عن مسلسل الوقائع هذا. فلم يكن يُنظر الى القوة المدينية الجنوبية كقوة بذاتها، مستقلة عن القوة الشمالية. على أن طرح المسألة على هذا النحو كان سيعني التمهيد سلفاً لإحداث شدخٍ “قومي” غير قابل للالتآم – شدخ من الخطورة بحيث يتعذَر علاجه و لو بحل فيدرالي. و كان سيعني ايضاً التوكيد على وجود أمم مختلفة، لم يتحقق فيما بينها ما يتعدى التحالف الدبلوماسي – العسكري ضد عدو مشترك هو النمسا. (وهذا يعني باختصار ان عنصر الإجتماع و التضامن لا يتعدى وجود عدو “مشترك”). والحقيقة ان بعض “وجوه” المسألة القومية كانت متوافرة، ليس كلها ولا حتى الجوهري منها. وأخطر تلك الوجوه هو الموقع الضعيف للقوى المدينية الجنوبية في علاقتها بالقوى الريفية، وهي علاقة مختلة، كانت تتخذ احياناً شكل إخضاع المدينة عملياً للريف.

والحال ان الصلات الوثيقة بين القوى المدينية الشمالية والقوى المدينية الجنوبية منحت الأخيرة القوة الناجمة عن تمثّل هيبة الأولى، ومكّنتها من مساعدة القوى المدينية الجنوبية على نيل استقلالها وعلى اكتساب الوعي لوظيفتها القيادية التاريخية على نحو “عياني” وليس فقط على نحو نظري مجرد، مقترحةً عليها الحلول اللازمة للمشكلات الإقليمية الكبرى. فكان طبيعياً ان تنشأ في الجنوب كتلٌ قوية معارضة للوحدة. وفي كل الأحوال، وقع العبء الأكبرفي حسم الوضع على عاتق القوى المدينية الشمالية التي لم يكن عليها ان تقنع “الأخوة” في الجنوب وحسب، و لكن ان تباشر بإقناع نفسها ايضاً بذلك النظام السياسي بما هو كيان قائم بذاته. بناء عليه، انطرحت المسألة عملياً بما هي مسألة وجود مركز قوي للقيادة السياسية، إضطرَت الشخصيات القوية والمتمتعة بالشعبية من الجنوب والجزر على التعاون معه. وهكذا فمسألة تحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمسألة تحقيق التماسك والتضامن بين كافة القوى المدينية على الصعيد القومي، لا بل ان مسألة تحقيق التماسك والتضامن بين تلك القوى استوعب مسألة تحقيق الوحدة (١٩).

بدورها طرحت القوى الريفية في الشمال والوسط سلسلة من القضايا كان على القوة المدينية الشمالية ان تعالجها لكي تستطيع إقامة علاقة طبيعية بين المدينة والريف، ولكي تستبعد التدخلات والتأثيرات ذات المصدر الخارجي في عملية تطور الدولة الجديدة.

ينبغي التمييز بين تيارين داخل تلك القوى الريفية: التيار العلماني، و التيار الإكليركي- النمساوي. كان التيار الإكليركي هو الأقوى في لومبارديا-ڤينيتو كما في توسكانا و جزء من الدولة البابوية. واما القوة العلمانية فكانت الأقوى في پييدمونت ولكن تأثيرها كان متفاوتاً في سائر المناطق الإيطالية ايضاً – ليس فقط في مناطق الوصاية legations البابوية (وبخاصة منطقة رومانيا) بل وايضاً في مناطق أخرى، بما فيها الجنوب نفسه والجُزُر. ولو ان القوى المدينية الشمالية نجحت في حل تلك القضايا المباشرة، لكانت لعبت دور الريادة في حل القضايا المشابهة على الصعيد القومي كله. غير ان حزب العمل فشل فشلاً ذريعاً في التصدي لتلك المجموعة من القضايا كلها والحقيقة انه إقتصرعلى تحويل مسألة الجمعية التأسيسية – التي لا تعدو كونها الإطار السياسي حيث يمكن ان تتركّز فيه   تلك القضايا ويوجد لها حلٌ قانوني – الى مسألة مبدأية والى نقطة جوهرية في برنامجه. على لا يسعنا القول إن “الحزب المعتدل” قد اخفق، طالما ان اهدافه كانت التوسيع العضوي لپييدمونت وتجنيد الجنود في جيش پييدمونت بدلاً من تعميم الإنتفاضات او نشر جيوش الأنصار التي يقودها غاريبالدي على نطاق واسع جداً.

لماذا لم يطرح حزب العمل المسألة الزراعية طرحاً شاملاً؟ كان بديهياً أن لا يطرحها “المعتدلون”: ذلك ان مقاربتهم للمسألة القومية كانت تتطلب تكتيل كافة القوى اليمينية – بما فيها طبقات كبار مالكي الأراضي – حول پييدمونت بما هي دولة وبما هي جيش. واذا بتهديد النمسا بتحل المسألة الزراعية لصالح الفلاحين – وهو تهديد جرى تنفيذه في غاليسيا ضد النبلاء البولونيين ولصالح الفلاحين الروثينيين (٢٠)- ادى الى إرباك جميع الإيطاليين الذين شعروا بان مثل هذا الإجراء يهدد مصالحهم  ما سبّب كل التذبذبات في مواقف الأرستقراطية (أحداث ميلانو في شباط ١٨٥٣ ومبايعة عائلات ميلانو الكبيرة لفرانتس جوزف على أثر إعدامات بلفيوري.) (٢١) وادى ايضاً الى شل “حزب العمل” ذاته، الذي كان يرى الى هذا الأمر رؤية “المعتدلين”، ويعتبر ان “القومي” شأنٌ يعني الأرستقراطية ومالكي الأراضي ولا يعني ملايين الفلاحين. بعد شباط  ١٨٥٣ فقط بدأ ماتزيني يطلق تلميحات متقطعة ذات طبيعة ديمقراطية فعلية (أنظر “مراسلاته” خلال تلك الفترة) الا انه ظل عاجزاً عن تجذير برنامجه المجرَد التجذير الحاسم.

هنا ينبغي دراسة السلوك السياسي لأنصار غاريبالدي في صقلية سنة ١٨٦٠- وهو سلوك سياسي املاه عليهم كريسبي: قمعهم الإنتفاضة الفلاحية ضد البارونات بلا رحمة، وانشاء “الحرس الوطني” المعادي للفلاحين. وأبلغ تعبير عن ذلك السلوك الحملة القمعية التي شنها نينو بيكسيو على منطقة كاتانيا، مسرح اعنف الإنتفاضات الفلاحية. وتجدر الإشارة الى ان حتى ج .س. آبا في كتابه “نوتيريللي” يقدم عناصر تؤكد ان المسألة الزراعية كانت المحرك الأساسي لأوسع الجماهير. يكفي ان نستذكر هنا حديث آبا مع الراهب الذي خرج يستقبل أنصار غاريبالدي عقب إنزال مارسالا (٢٢). وتوفَر بعض اقصوصات ج. فيرغا تصويراً مشاهد حيّة لتلك الإنتفاضات الفلاحية التي أخمدها «الحرس الوطني» بالإرهاب والإعدامات الدموية(٢٣). وجدير بالذكر ان هذا الجانب من حملة “الألف” لم يتعرض للدراسة والتحليل الى الآن.

ادى العجز عن طرح المسألة الزراعية الى شبه استحالة حل المسألة الإكليركية  وعداء البابا للوحدة القومية (٢٤). وكان “المعتدلون” اكثر جرأة بكثير من جماعة حزب العمل في هذا المضمار. صحيح انهم لم يوزّعوا أملاك الإكليروس على الفلاحين، الا انهم استخدموا تلك الاملاك لخلق شريحة جديدة من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي المرتبطين بالوضع السياسي الجديد، ولم يترددوا في مصادرة الملكيات العقارية وإن تكن إقتصرت مصادراتُهم على ملكيات الرهبانيات وحدها. أضف الى ذلك ان حزب العمل كان مشلولاً في مبادرته تجاه الفلاحين بسبب رغبة ماتزيني في القيام بإصلاح ديني. والحقيقة ان هذا لم يكن ليثير اهتمام الجماهير الفلاحية الواسعة، بل على العكس من ذلك، جعل من تلك الجماهير تربة خصبة للذين كانوا يريدون تأليبها ضد الهراطقة الجدد. والثورة الفرنسية مثال ساطع على حقيقة ان اليعاقبة، الذين نجحوا في سحق كل احزاب اليمين بما فيهم الجيرونديين على ارضية المسألة الزراعية، ولم يوفقوا في الحيلولة دون تشكيل تحالف ريفي ضد باريس وحسب، بل وايضاً في مضاعفة أعداد مؤيديهم في الأرياف، ان هؤلاء اليعاقبة الفرنسيين تضرروا يما ضرر من محاولات روبسبيير إستصدار اصلاح ديني، علماً انه كان لذاك الإصلاح راهنيته ودلالته المباشرتين في المسار التاريخي الحقيقي (٢٥).

هوامش الفصل الثالث

(١) يعرَف غرامشي “المدن المائة” في ايطاليا على انها “تكتلات من البرجوازية الريفية في بلدات وتكتل جماهير واسعة من العمال الزراعيين والفلاحين المحرومين من الأرض في قرى فلاحية، في مناطق التواجد الكثيف لملكية الأرض اللاتيفوندية (كما في بوغلييه وصقلية)”.
(٢) «مدن الصمت»: التسمية التي اطلقها دانونزيو على مجموعة من القصائد والأغاني في كتابه “اليترا”. والمدن المعنية يبلغ عددها خمسة وعشرين مدينة (من بينها بيروجيا و بيزا) كان لها جميعها ماض عريق لكنها باتت الآن مدناً ثانوية الأهمية، و بعضها لا يعدو كونه مجرد قرية تنتصب في ساحتها النصب التاريخية التي تشهد على مجدها الدارس.
(٣) أعلنت الجمهورية البارثينوبية في نابولي في يناير ١٧٩٩ فيما كانت قوات نابليون تقترب من المدينة. كانت الجمهورية من صنع برجوازية “يعقوبية” متنورة انحاز اليها قطاع كبير من الأرستقراطية المحلية. على ان القوات الفرنسية ما لبثت ان كبحت الأهداف الثورية لبرجوازية نابولي وحالت دون اتخاذ اجراءات لتقويض النظام الإقطاعي، وهي إجراءات كان بإمكانها ان تؤدي الى كسب تأييد الريف. بدعم من الإنكليز، الّبَ الكاردينال روفو الريف ضد المدينة، وعندما اضطر الفرنسيون الى الإنسحاب نحو الشمال في شهر مارس من ذلك العام تحت وطأة الهزائم العسكرية التي منيوا بها، باتت ايام الجمهورية معدودة. فقد كان النظام البرجوازي بين نارين: هجوم خارجي، و هجوم داخلي يشنه عليها “السانفيديتسي” وهي حركة مناصرة لأسرة البوربون بين البروليتاريا الرثة. فاستسلمت نابولي في يونيو بعد عفو عام كريم أصدره روفو. و ما لبث البوربون ان نقضوا ذلك العفو العام وشنوا حملة قمع لا ترحم، فأعدموا ١٢٩ شخصاً وإعتقلوا ونفوا الألوف من انصار الجمهورية، الأمر الذي أدى الى تبديد الإنتلجنسيا في نابولي، ما دمَر كل قاعدة توافقية لحكم أسرة بوربون.
(٤) كانت احداث يونيو ١٨١٤ سلسلة من الإنتفاضات البرجوازية مرتبطة بمحاولة “مورا” توحيد ايطاليا انطلاقاً من قاعدته في نابولي. هزم مورا على يد النمساويين في تولنتينو وفرَ الى كورسيكا. فشن النمساويون حملة قمع إستهدفت البرجوازيين الليبراليين المتورطين في الإنتفاضة.
في ميلانو، تظاهر العمال ضد ارتفاع الأسعار والنقص في المواد الغذائية، و جرى قمعها قمعاً دموياً على يد الجنرال بافا بيكاريس.
في اوغسطس وسبتمبر ١٩٢٠، شهدت ميلانو حركة واسعة أقدم خلالها العمال على إحتلال المصانع. وسرعان ما امتدت الحركة الى سائر انحاء البلاد. وعلى الرغم من ان الإجراء بدأ كرد فعل على مبادرات هجومية من أرباب العمل الذين هددوا باقفال المصانع، فالحركة بلغت زخماً واتساعاً فاقا تصورات الجميع وشكلت الذروة في الغليان العمالي والفلاحي الثوري الذي شهدته ايطاليا بعيد الحرب. برزت “المجالس العمالية”، التي كان غرامشي قد دعا اليها باكراً على صفحات الأسبوعية “اوردينو نويفو” (العهد الجديد)، واخذت تسيَر الإنتاج في العديد من المصانع والفروع الصناعية و في مدينة تورينو على نحو خاص. وحمل العمال السلاح تحسباً لهجوم معاكس تشنَه الدولة. لم تلجأ السلطة الى العنف، فقد آثر رئيس الوزراء جيوليتي الإنتظار. في تلك الأثناء، كانت الطبقة العاملة تكتشف مدى انعدام استعداد الحزب الإشتراكي الإيطالي لطرح مسألة السلطة. استجابة للشعار الذي طرحه جيوليني عن “المشاركة” العمالية، وقَعّ ممثلو النقابات العمالية، التي أيدت الحركة في مطلعها لكنها سعت لاحتوائها فيما بعد، على وثيقة رسمية يوم ١٩ سبتمبر في روما تقرَ بالمشاركة العمالية في تسيير المعامل. الا ان الوثيقة بقيت حبراً على ورق.
بعد حركة احتلال المصانع، دخلت الحركة الثورية مرحلة الجَزْر. فسارع غرامشي الى التقاط ابرز دروس الفشل: الإفتقاد الى علاقة من نمط  جديد بين الحزب و الجماهير على الصعيد العام، و هو القاعدة النظرية التي سوف تبنى عليها الأكثرية في الحزب الإشتراكي موقفها فتطرد الأقلية و تؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي في مؤتمر الحزب في ليفورنو مطلع سنة ١٩٢١. من جهة ثانية، سوف يتزايد العطف في اوساط البرجوازية و السلطة على الحزب الفاشي بقيادة موسوليني.
(٥) كان كريسبي وجنتيلي وپيرانديللو جميعهم صقليين. اسس مارينيتي الحركة المستقبلية في “البيان المستقبلي” الذي اصدره سنة ١٩٠٩ و حيَا فيه حيوية العصر الجديد خاصة في تقدمه التقني الذي توسم مارينيتي فيه قوة سوف تكنَس العهد القديم. في رده على استفسار من تروتسكي الذي طالبه بمعلومات عن المستقبلية لكتابه “الأدب والثورة”، وصف غرامشي كيف ان العمال كانوا قبل الحرب العالمية الأولى يرون الى المستقبلية “عناصر نضال ضد الثقافة الأكاديمية الإيطالية القديمة، المحنَطة والمعادية للجماهير الشعبية…”. على ان المستقبليين اتخذوا خلال الحرب مواقف داعية الى التدخل الإستعماري ثم اخذت مواقفهم تلتقي مواقف الفاشيين من جهة ومواقف دانونزيو القومية من جهة ثانية. اخيراً، ترشَح مارينيتي على لائحة الحزب الفاشي في انتخابات سنة ١٩١٩.
(٦) اي “الإتحادات المهنية” التي جعل النظام الفاشي الإيطالي الإنتساب اليها إلزامياً على العمَال.
(٧) طغت شخصية جيوفاني جيوليتي (١٩٢٨-١٨٤٢) على الحياة البرلمانية السياسية الإيطالية بين ١٩٠٠ و ١٩١٤ و قد شغل رئاسة الحكومة خلال الفترات: ١٨٩٣-١٨٩٢، ١٩٠٩-١٩٠٦، ١٩١٤-١٩١١ و ١٩٢١-١٩٢٠ حيث واجه حركة احتلال المصانع وشجَع الفاشيين ليجابه بهم تنامي نفوذ الإشتراكيين.
(٨) كان الجناح المتشدد في الحزب الإشتراكي الإيطالي معارضاً لأي تعاون، ولو غير مباشر، مع الحكومة البرجوازية، ما جعل استمرار التحالف بين جيوليتي والقادة الإصلاحيين في الحزب الإشتراكي مستحيلاً. وكان موسوليني، رئيس تحرير صحيفة “آفانتي” (الى الأمام)، هو الناطق الرئيسي بإسم الجناح المتشدد الى حين مغادرته الحزب سنة ١٩١٤. يشرح غرامشي، ان صحيفة “كورييري ديلا سييرا”، لسان حال الصناعيين اللومبارديين، كانت تبحث عن إمكانية تحالف جديد مع “الكتلة الجنوبية” يحلَ محل سياسة جيوليتي الخائبة، القائمة على تشكيل كتلة مع القادة الإصلاحيين للطبقة العاملة الشمالية.
(٩) في انتخابات سنة ١٩١٣، و ي الإنتخابات الأولى في ظل نظام الإقتراع العام، عقد جيوليتي اتفاقاً مع الكونت جنتيلوني، رئيس “الإتحاد الإنتخابي الكاثوليكي في ايطاليا” يقضي بان يصوَت الناخبون الكاثوليكيون لصالح المرشحين الحكوميين لوقف تقدَم الإشتراكيين.
(١٠) تسلَم لويجي البرتيني (١٩٤١-١٨٧١) رئاسة تحرير “كورييري ديلا سيرا” سنة ١٩٠٠ و تمكن من تحويلها الى الصحيفة الأولى بين الصحف البرجوازية في ايطاليا. كان ليبراليا محافظاً، يشجّع على التدخل في الحرب الا انه كان معادياً للفاشية. أزيح عن رئاسة تحرير الصحيفة سنة ١٩٢٥ لتنضوي ال”كورييرا” بعدذاك تحت لواء النظام الفاشي.
(١١) انطونيو سالاندرا (١٩٣١-١٨٥٣) سياسي برجوازي يميني، شغل منصب رئيس للحكومة في ١٩١٥-١٩١٤ و اضطر الى الإستقالة تحت ضغط “الحياديين” بسبب من تأييده التدخل في الحرب. عاد فرئس الحكومة في ١٩١٦-١٩١٥ بعد الإنتصار الإنتخابي الذي ابرزه مؤيدو التدخل المعركة.
فرانسيسكو نيتي (١٩٥٣-١٨٦٨) عالم إقتصادي و سياسي ينتمي الى الوسط رئيس الحكومة في ١٩٢٠-١٩١٩.
(١٢) ينبغي النظر الى اهل ساردينيا على حدة. فقد استأثروا دائماً بحصة الأسد في كافة الوزارات من سنة ١٨٦٠ فصاعداً، و كان لهم عدد من رؤساء الوزراء، على عكس الجنوبيين الذين كان سالاندرا اول زعمائهم يشغل ذلك المنصب. يعود تفسير هذا “الإجتياح” الصقلَي الى سياسة الإبتزاز التي مارستها أحزاب الجزيرة، التي ظلت تضمر روحاً “إنفصالية” سرّية لصالح انكلترا. فكان إتهام كريسبي، مع انه صيغ في قالب غير مناسب، التعبير عن قلق كان يسيطر فعلاً على الجناح الأكثر حساسية و مسؤولية في الفئة الحاكمة الوطنية.
(١٣) حركة استقلالية ساردينية نشأت بعيد الحرب العالمية الأولى. تأسس “حزب العمل الساردي” سنة ١٩٢٠ الا انه ما لبث ان انشق مع مجيء الفاشيين للحكم. فإنضم جناح منه الى الحزب الفاشي، فيما انضم الجناح الآخر، بقيادة إميليو لوسو، الى المعارضة “الافانتينية” فنفي قادته الا انهم عادوا فأحيوا الحزب خلال فترة المقاومة (١٩٤٥-١٩٤٣).
(١٤) بدأ ايفانو بونومي (١٩٥٢-١٨٧٣) حياته السياسية كإشتراكي إصلاحي. طرد من الحزب الإشتراكي الإيطالي مع بيسولاتي سنة ١٩١٢ الا انه احتفظ بمقعده البرلماني بصفته سياسياً وسطياً مستقلاً، وشغل منصب رئيس الوزراء سنة ١٩٢٢-١٩٢١.
(١٥) لا ينبغي فهم “مثقفين” هنا على انهم الشريحة المقصودة عادة بهذا المصطلح، وانما على انهم جماع الفئة الإجتماعية التي تمارس وظيفة تنظيمية بالمعنى العام للكلمة، اكان ذلك في ميدان الإنتاج، او في ميدان الثقافة او في الإدارة السياسية. والمثقفون يشبهون بذلك ضباط الصف وصغار الضباط في الجيوش او حتى الضباط الكبار عندما يكون هؤلاء خارجين من القواعد لا متخرَجين من الكليات الحربية.
(١٦) راجع نص غرامشي “تكوين المقفين” في : غرامشي “قضايا المادية التاريخية”، ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت ١٩٧١، ص ١٣٧-١٢٧ [ملاحظة الترجم].
(١٧) كانت ١٨٢١-١٨٢٠ سنة الموجة الأولى من الثورات “الكاربونارية” في ايطاليا وفرنسا واسبانيا واليونان، الخ. وحدها الثورة اليونانية حققت انجازات دائمة، غير ان الإنتفاضات حققت نجاحات نسبية في مختلف الدول الإيطالية وبخاصة في پييدمونت ونابولي. اندلعت الموجة الثانية من الإنتفاضات الكاربونية سنة ١٨٣١ و مسّت مودينا وپارما والدولة البابوية بنوع خاص.
(١٨) سنة ١٨٧٦ شكَل “اليسار” في البرلمان أول حكومة له.
(١٩) ينطبق هذا التحليل على المناطق الجنوبية الثلاث: ناپولي والبر الايطالي، وصقلية وساردينيا.
(٢٠) سنة ١٨٤٥ انتفض نبلاء وبرجوازيو غاليسيا ضد النمساويين، فأخمد هؤلاء الإنتفاضة بعد تعبئة الفلاحين الروثينيين في المنطقة واعدين اياهم بالأرض لكسب تأييدهم.
(٢١) بالنسبة لإنتفاضة شباط ١٨٥٣، راجع الهامش ٥٢ ص ٨٢. جدير بالذكر  ان النمساويين اقدموا، اواخر ذلك العام، على اعدام عدد من انصار ماتزيني في وادي بالفيوري قرب فيرونا.
(٢٢) في كتاب جيوسيبي آبا “نوتيريللي دي اونو داي ميللي”، يروي المؤلف كيف ان راهباً جاء يستقبل انصار غاريبالدي وروى لهم في حديث بليغ عطش الفلاحين للأرض.
(٢٣) وبخاصة رواية “الحرية” (لبيرتا) وهي تقرير عن المجزرة بحق وجهاء محليين  ارتكبها سكان احدى القرى ممن ألهبت حماستهم فكرة ان غاريبالدي قد حمل اليهم الحرية والمساواة. بعد المجزرة، إكتشف الفلاحون انهم لا يستطيعون تدبير امورهم بدون “آبناء الذوات” – وهو موضوع آخر عند فارغا صاحب الإتجاه الشعبوي المحافظ – فسيقوا الى السجن في المدينة وهم ليسوا يدرون اي ذنب قد إرتكبوا. تختتم الرواية فيما يعلن احد السجناء الذين صدر بحقهم الحكم: “الى اين أنتم ذاهبون بي؟ الى السجن؟ لماذا؟ لماذا؟ لم يكن لي ولو ذراع ارض واحدة؟ الم يقولوا ان الحرية قد حلّت علينا؟”.
(٢٤) المقصود رفض البابا القبول بنهاية ولايته الزمنية على الدول البابوية، ومعارضته اللاحقة للوحدة الإيطالية قبل قيام النهضة القومية ورفضه التصالح مع الدولة الإيطالية بعدها، وصولاً الى عقد اتفاق “الكونكوردا” سنة ١٨٢٩.
(٢٥) من الضروري ان ندرس بعناية السياسات الزراعية للجمهورية الرومانية والطابع الحقيقي للمهمة القمعية التي أوكلها ماتزيني الى فيليشي أورسيني في منطقتي رومانيا ومارتشي. ففي تلك الفترة والى سنة ١٨٧٠ (بل الى ما بعدها ) كان مصطلح “لصوصية” يعني دائماً حركات الشغب الفوضوية التي تتخللها اعمال عنف يحاول بها الفلاحون الإستيلاء على الأرض.

الكاتب: فواز طرابلسي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع