هوامش - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/tag/هوامش مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:43:24 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png هوامش - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/tag/هوامش 32 32 في وداع السيد: بخار من مجد https://rommanmag.com/archives/21658 Sat, 28 Sep 2024 13:55:23 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%af-%d8%a8%d8%ae%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d9%86-%d9%85%d8%ac%d8%af/ تسمرت سوريا بأكملها، سنة 2006، على الشاشات، تتابع خطابات حسن نصر الله. انتشرت صوره في الشوارع، والمحال، وعلى السيارات، بجانب صور آل الأسد، أو الخميني. فتح السوريون قلوبهم، وأرواحهم، وبيوتهم، ومدارسهم، للقادمين من لبنان. تحولت سوريا إلى قاعة موسيقية، تنتظر السيد كي يطربها، ويغازلها، ويطريها.  تأسس حزب الله كي يواجه إسرائيل. لا معنى آخر لوجوده. […]

The post في وداع السيد: بخار من مجد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تسمرت سوريا بأكملها، سنة 2006، على الشاشات، تتابع خطابات حسن نصر الله. انتشرت صوره في الشوارع، والمحال، وعلى السيارات، بجانب صور آل الأسد، أو الخميني. فتح السوريون قلوبهم، وأرواحهم، وبيوتهم، ومدارسهم، للقادمين من لبنان. تحولت سوريا إلى قاعة موسيقية، تنتظر السيد كي يطربها، ويغازلها، ويطريها. 

تأسس حزب الله كي يواجه إسرائيل. لا معنى آخر لوجوده. وبقي الحزب يهجس بدولة العدو. ومنذ البداية، كان يحوّل كل خلاف معه إلى خلاف مع إسرائيل. أصبحت إسرائيل معنى وجوده، ومعنى وجود لبنان، ومعنى مقتل الحسين، ومعنى التشيّع. لم يسمح الحزب لنفسه بالخروج من إسرائيل. واجه شبان الجنوب بشجاعة استثنائية أشرس قوة عسكرية في المنطقة، ونجحوا في صدها. أصبحت إنجازاتهم علامة عالمية على معنى المقاومة، على القدرة على الرفض، على الكرامة. وصولاً إلى الانسحاب المخزي من الجنوب، حيث سجّل الحزب واحدة من الانتصارات القليلة في تاريخ المستضعفين الحديث. 

ومنذ البداية، كان تأسيس الحزب مرتبطاً بدولة الولي الفقيه، ورؤاه، ومشاريعه. مجلس القيادة يضم إيرانيين أكثر مما يضم لبنانيين. ضحى الحزب بعلاقاته مع محيطه: اغتال المفكرين اليساريين، وفجّر مطاعم تحتفل برأس السنة، وصولاً إلى السيطرة على المقرات الرئيسة لحليفه الأول، حركة أمل. في نهاية الثمانينيات، أوقفه الجيش السوري عند حده، في اشتباكات متعددة، انتهت بموافقة الحزب وإيران على تقاسم المهام في لبنان مع النظام السوري. 

تابع الحزب في التسعينيات توسيع سيطرته، ودخل في الحكومة. انقسم لبنان بين مشروعين غير منطقيين: مشروع رفيق الحريري السعودي، ومشروع حزب الله اللبناني، في ظل سيطرة الجيش السوري على البلد بأكمله. بعد تحرير الجنوب، لم ينتبه حزب الله، أو الإيرانيون، إلى أن معنى الحزب تخلخل جدياً، في أعين مناصريه، وخصومه: ما الذي يعنيه الحزب، وسلاحه، في ظل الانتصار؟ وبغضون سنوات قليلة، سيغتال حزب الله وسوريا الحريري، وسيجتاح مقاتلون شيعة بيروت والجبل. وفي النهاية، سيتحول مقاتلو الحزب إلى قوة احتلال في سوريا المجاورة، التي لطالما دعم أهلها الحزب، بكل جوارحهم، وطيبتهم، ومحبتهم. 

عاش حسن نصر الله حياته كلها مهووساً بإسرائيل، محارباً من أجل الولي الفقيه وحده. تحوّل الربيع العربي في نسخته السورية، الذي كان من المفترض أن يكون، أخلاقياً، السليل الروحي لتحرير الجنوب، لتكريس كرامة الناس، للدفاع عن المستضعفين، إلى العدو الألد لحسن نصر الله. انكسرت كل قيم التعاضد، والتفاهم، والكرامة. مقاتلون للدفاع عن الجنوب أصبحوا مرتزقة ومجرمين للدفاع عن الطغيان. وأصبحت كلمة حصار، تستحضر “مضايا” أكثر مما تستحضرها “بيروت”. كل ما حمله الحزب من تناقضات منذ بداياته الإيرانية انفجر في وجهه، وجهنا، وجه لبنان الشقي. 

اغتالت إسرائيل السيد في حارة حريك. والسيد من مواليد بيروت، في برج حمود، من أولئك الشيعة الذين قدموا إلى بيروت هاربين من فقرهم المدقع في الجنوب في الخمسينيات والستينيات. عاد السيد إلى ضيعته في البازورية، من قضاء صور، مع اشتعال الحرب الأهلية، ومال سريعاً إلى الجانب الأكثر تديناً في المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي، وانخرط في حركة أمل. ثم تحوّل إلى جناح حزب الله فيها، قبل الانشقاق، الذي أسس الحزب. سافر إلى إيران، حيث درس، وعاد قبيل اغتيال إسرائيل لعباس الموسوي، الأمين العام الثاني للحزب. ثم انتُخب أميناً عاماً، ولم تسمح إيران بإجراء أية انتخابات أخرى بعد ذلك. استُشهد ابنه هادي في معركة مع إسرائيل، وقُتلت ابنته معه البارحة. عاش حياته متخفياً، بعيداً عن الأعين، ليمثّل كل ما لا تريده إسرائيل، وكل ما يعيقنا نحن عن فهم أنفسنا، عن التصالح مع الحاضر، عن ثورتنا على ماضينا. تربع السيد على عرش الحزب لأكثر من ثلاثين سنة، ليترهّل الحزب، والفكر، والمقاومة. 

بعيد اغتيال السيد، قامت القوات الإسرائيلية بقصف البازورية، قرية حسن نصر الله، بوحشية وعنف غير مسبوقين. عشرات القتلى في القرية الآمنة، الفقيرة، الوادعة. كما دكت إسرائيل، بالسلاح الأمريكي، بعلبك، والبقاع، ومعظم قرى الجنوب. ثم قصفت كامل الضاحية الجنوبية، معقل الحزب، والشيعة. أكبر عملية قصف في حرب 2023-2024؛ وربما، أكبر عملية عسكرية في القرن الحادي والعشرين. مئات القتلى، وآلاف الجرحى، ومئات آلاف المدنيين في الشوارع تائهين. وما سيتذكره الناس طويلاً، التعليق الطبي الأخير: “لا يوجد الكثير من الجثث، فقد تبخر الناس”.

مجدٌ من رماد، لبيروت. تقول فيروز. 

مجدٌ من بخار. 

مجدٌ من تراب: من قانا إلى مضايا. مجدٌ من دماء. 

واليوم، وغداً، وفي الأمس: وحدها القلوب شعلةٌ. 

والمجد لبيروت. 

The post في وداع السيد: بخار من مجد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نسائم ضجرة https://rommanmag.com/archives/21646 Thu, 12 Sep 2024 19:06:18 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%85-%d8%b6%d8%ac%d8%b1%d8%a9/ ملّ أبو العلاء دنيانا؛ ملّ تلك الساعات التي يركبها، مجبراً، كالمطايا، إلى حتفه. كانت حياته في محابسه الثلاثة- العمى، والبيت، والجسد- قلقةً، وادعةً، زاهدة. اتسم عصره بعنف شديد، لا سيما في سوريا، التي تقاسمها الفاطميون والعباسيون والبيزنطيون – والسلاجقة الأتراك على الأبواب؛ والحكام المحليون يتبعون الأقوى. صراعات طائفية ودينية، بين الشيعة والسنة وكنيسة القسطنطينية؛ والمعرة، […]

The post نسائم ضجرة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ملّ أبو العلاء دنيانا؛ ملّ تلك الساعات التي يركبها، مجبراً، كالمطايا، إلى حتفه. كانت حياته في محابسه الثلاثة- العمى، والبيت، والجسد- قلقةً، وادعةً، زاهدة. اتسم عصره بعنف شديد، لا سيما في سوريا، التي تقاسمها الفاطميون والعباسيون والبيزنطيون – والسلاجقة الأتراك على الأبواب؛ والحكام المحليون يتبعون الأقوى. صراعات طائفية ودينية، بين الشيعة والسنة وكنيسة القسطنطينية؛ والمعرة، وجارتها الكبرى حلب، في قلب المعمعة. ولكن الناس، على الرغم من كل ذلك، تابعت حياتها، وتجارتها، ودراستها. وشاعرنا، بخبث لا مثيل له، من محابسه، اطّلع على ما تخبّئه قلوبهم:

 

إِذا فَزِعنا فَإِنَّ الأَمنَ غايَتُنا                وَإِن أمنّا فَما نَخلو مِنَ الفَزَعِ

وَشيمَةُ الإِنسِ مَمزوجٌ بِها مَلَلٌ            فَما نَدومُ عَلى صَبرٍ وَلا جَزَعِ

 

والضجر يُرجعه النقاد الغربيون إلى عالمهم المغلق، ويجعلون بطله بودلير، الذي استنبت أزهار الشر منه، كأن الحداثة وحدها اخترعته. ولكن شيخنا يعرف الإنسان أعمق منهم، ورأى -ببصيرته الإلهية- الضجر كصفة إنسانية أصيلة، لا محيد عنها:

 

نَقضي المآربَ، والسّاعاتُ ساعيَةٌ،                كأنّهنَ صِعابٌ، تحتَنا، ذُلُلُ

وقتٌ يَمُرُّ، وأقدارٌ مُسبَّبةٌ،                          منها الصّغيرُ، ومنها الفادحُ الجَلَل

وما فتئتُ، وأيّامي تُجَدّدُ لي،                       حتى مَلَلتُ، ولم يَظهَرْ بها مَلَل

 

ما الذي فعله بوقته الثمين، في ضجره المديد؟ 

كتب الشعر، وتسلى. حوّل خوفه، وملله، وحيرته، وتشاؤمه، إلى مجموعة مدهشة من الأشعار؛ فغدا ضجره من دنياه مسلياً جداً، ومثمراً، ومتألقاً. في اللزوميات، يعيد شيخنا تعريف معنى الشعر والأدب: محاولةٌ مستمرة، متواصلة، أزلية، لطرح أسئلة عن معنى الكون، والحياة، والموت، والكتابة. تترابط الرؤى الميتافيزيقية، والتعدد الديني، والأبعاد السياسية المتوحشة، في أسئلته: يتحول الشعر إلى ساحةٍ تتصارع فيها الأجوبة، وتتصالح. 

ضجره يجعله يعود مراراً إلى الموت/معنى الحياة. يصيغ المعري رؤاه بطرق مبتكرة، دقيقة، نافذة. وفي كل منها، يستشعر المرء أمران متلازمان: ملله وكراهيته للحياة، مع محبته لفكرة الشعر القادر على رسم صور ناصعة لذلك الملل. 

يستعير المعري صوراً قديمة، ليعيد تأويلها وتجسيدها بجدّة جسورة؛ فيعكسها لتصبح الحياة هي المشكلة، وليس الموت. 

الحياة حلم، صورة موجودة منذ حضارات الرافدين الأقدم، وشغلت البشرية كثيراً. يستعيدها المعري، بمهارة لئيمة، ليغير معنى الحلم إلى سهاد: 

 

وَمَوتُ المَرءِ نَومٌ طالَ جِدّاً              عَلَيهِ، وَكُلُّ عيشَتِهِ سُهادُ

 

وصورة الحياة كجسر بين عدمين -المتداولة منذ أيام الزارداشتيين والغنوصيين- ينقضها، ليجعل الحياة فقداً بين الجسور:

 

حَياةٌ كَجِسرٍ بَينَ مَوتَينِ أَوَّلٍ              وَثانٍ، وَفَقدُ الشَخصِ أَن يُعبَرَ الجِسرُ

 

أيضاً، يجعلنا المعري أنفاساً للأرض، تستردها بعد فترة قصيرة، لتكون حياتنا برهة عابرة: 

 

أَرى الناسَ أَنفاسَ التُرابِ فَظاهِرٌ                         إِلَينا، وَمَردودٌ إِلى الأَرضِ راجِعُ

 

أو نكون زرعاً، ينبت، ثم يُحصَد:

 

وَابيَضَّ ما اخضَرَّ مِن نَبتِ الزَمانِ بِنا                     وَكُلُّ زَرعٍ إِذا ما هاجَ مَحصودُ

 

أو نكون ركاب المطايا، والساعات تركض بنا:

 

مَطِيَّتِيَ الوَقتُ الَّذي ما اِمتَطَيتُهُ                         بِوِدّي، وَلَكِنَّ المُهَيمِنَ أَمطاني

 

أو سفن لا تصل الشطآن:

 

تَسيرُ بِنا هَذي اللَيالي كَأَنَّها                               سَفائِنُ بَحرٍ ما لَهُنَّ مَراسي

 

والحياة حربٌ، كلنا قتلاها:

 

وَالعَيشُ حَربٌ لَم يَضَع أَوزارَها                      إِلّا الحِمامُ، وَكُلُّنا أَوزارُ

 

لذا، يحتفي شيخنا بالموت، وينتظره. فالحياة، عموماً، أسرٌ؛ أما الموت، فحرية:

 

يا رَبِّ عيشَةُ ذي الضَلالِ خَسارُ             أَطلِق أَسيرَكَ فَالحَياةُ إِسارُ

 

فحبسنا كحبس الخمر كي تعتّق، لا بدّ أن تُشترى يوماً:

 

وَأَرواحُنا كَالراحِ إِن طالَ حَبسُها                  فَلا بُدَّ يَوماً أَن تَكونَ سِباءُ

 

أو كعصافير في قفصٍ:

 

يا طائِراً مِن سُجونِ الدَهرِ في قَفَصٍ           لتُذبَحَنَّ فَلا سِجنٌ وَلا شَرَكُ

 

بل هذه الحياة صيام طويل، والموت إفطار بهي:

 

أَنا صائِمٌ طولَ الحَياةِ وَإِنَّما                      فِطري الحِمامُ وَيَومَ ذاكَ أُعَيِّدُ

 

مرة واحدةً، وبعنف يتسم برقة، يتفاءل المعري بما بعد الموت- بعد أن يشبّهنا بالبدر، والزرع، والمسك:

 

المَرءُ كَالبَدرِ بيِّناً لاحَ كامِلَةً                           أَنوارُهُ عادَ لِلنُقصانِ فَامتَحَقا

وَالناسُ كَالزَرعِ باقٍ في مَنابَتِهِ                           حَتّى يَهيجَ وَمَرعيٌّ وَما لَحِقا

عَلّ البِلى سَيُفيدُ الشَخصَ فائِدَةً                         فَالمِسكُ يَزدادُ مِن طيبٍ إِذا سُحِقا

 

ولكن، ما الذي يفعله المعري في دنياه؟ كيف يدبّر أموره، بين السفن والمطايا والزرع والجسور، وكلها تؤدي إلى موت يخافه ويرهبه ويتمناه؟ كيف عاش، في دنيا لا تقدّم له إلا الحروب، والخداع، والكذب؟

يتمنى لو أنه لا يحس، أو لو عاش كالطير: 

 

فَيا لَيتَني حَجَرٌ لا يُحِسْ                      سُ بِالخَطبِ أَو طائِرٌ ما احتَكَر

إِذا ما أَنارَ صَباحٌ غَدا                           وَإِن جنَّ ليلٌ عَلَيهِ وَكَر

وشيخنا، الذي خبر الحياة، لا يطلب المجد، ولا الشهرة، ولا الثروة؛ ويهرب من كل ما تعرضه عليه الدنيا، من كل ما يجعل الناس تكذب وتسرق وتخدع:

 

فَعِش وادِعاً وَاِرفُق بِنَفسِكَ طالِباً                      فَإِنَّ حُسامَ الهِندِ ينهكهُ الصَقلُ

 

يمتلئ قلب شيخ المعرة بالرحمة: يطالب كل الناس بأن يعيشوا مثله، بألا يلتفتوا إلى ما تعرضه عليهم الدنيا من دناءات، ومكر، وأطماع. بل في قصيدة عجيبة، متفائلة وحزينة في آنٍ، يجعل المغلوبين أصحاب الحق، والمعرفة، واليقين. كأنه، في ظلمته الطويلة، قرر، لمرة، أن يبتسم لنا، في قصيدة لا تناسب لزومياته وشخصيته وقناعاته كثيراً، ولا شعره المتناقض، المتصارع مع نفسه، الكاره لذاته: 

 

بِعالِجٍ باتَ هَمُّ النَفسِ يَعتَلِجُ                        فهَل أَسيتَ لِعَينٍ حينَ تَختَلِجُ

قَد عِيلَ صَبرُكَ وَالظَلماءُ داجِيَةٌ                    فَاِصبِر قَليلاً لَعَلَّ الصُبحَ يَنبَلِجُ

لا يَعرِفُ الدَهرَ إِلّا مَعشَرٌ غُلبوا                   فَما استَكانوا، وَلَم يُزهَوا وَقَد فلجوا

الأَلمَعِيونَ إِن ظَنّوا وَإِن حَدَسوا                            ظَننتَهم بِيَقينٍ واضِحٍ ثَلجوا

 

(في بعض النسخ، نجد المحققون يثبتون: “إلا معشرٌ غَلَبوا”، كأنها قصيدة فخر. وهذا يعارض الجملة التالية: “فما استكانوا”، التي تصبح ثقيلة، وأقرب إلى الشعراء التقليديين، لو صحّ قول المحققين. ويعارض بقية البيت، الذي يوضّح المعنى أكثر، لأنه يطرح الاحتمال الثاني: لا يزهون بأنفسهم حين يفلجون، أي يحصلون على مرادهم. كما يعارض الأبيات السابقة في القصيدة؛ والأهم، يعارض كل فكر المعري. يبدو لي أن معشر المعري لا يستكينون عندما يُغلبون، ولا يزهون عندما يَغلبون. وليسوا أولئك الذين يغلبون دوماً، لأنهم يسايرون الدنيا ويرفعون سيوفهم، ويمثّلون كل ما حاربه المعري طيلة حياته!)

والمعري يشفّ في تلك الحياة: حروب، وأطماع، ونصابون، وفقهاء وقسس وفلاسفة، لا تترك للمرء مثقال ذرة من راحة. يشف في تلك الحياة، ذلك الذي رسمها بصدق، وصراحة، وروعةٍ شجية: 

 

عَزَزتَ وَربُّ الناسِ أَعطاكَ عِزَّةً                      وَأَصبَحتُ هَيناً كُلُّ شَيءٍ يَعُزُّني

(يعُزّه الثانية، بضم العين: إذا غلبه)

كَنَبتٍ ضَعيفٍ لَم يُؤازِرهُ غَيرُهُ                           فَأَيُّ نَسيمٍ هَبَّ فَهوَ يَهُزُّني

 

ربما، كل الأدب لزوم ما لا يلزم، أو هكذا يخيّل لي. حوّلتْ بصيرةُ شيخ المعرة الملل والتشاؤم إلى جمال شعري، إلى لعب، إلى تسلية، إلى صورٍ حسية وبصرية: وكل هذا، لزوم ما لا يلزم. كأن تهزّ نسائم ضجرة أرواحَنا، نحن المغلوبين، ويقينُنا يختلجُ: وهذا، أيضاً، لزوم ما لا يلزم. 

The post نسائم ضجرة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
النثر الأخرق https://rommanmag.com/archives/21597 Sun, 14 Jul 2024 19:31:23 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ab%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d9%82/ (1) حتى قوس القزح له جسدٌ مصنوعٌ من رذاذ المطر وعمارته مشيّدةٌ  من ذرّات متلألئة تتعالى، تتعالى مع ذلك، لا يمكنك لمسه بيدك، كلا، ولا حتى ببصيرتك. د. ه. لورنس   (2) معظم الاقتباسات من روايات نجيب محفوظ (ليس كلها) ضعيفة ومملة، ولا تعكس على الإطلاق إنجاز الكاتب الحكيم الخبيث. وهذا، في الحقيقة، يسجل لصالح […]

The post النثر الأخرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
(1)

حتى قوس القزح له جسدٌ

مصنوعٌ من رذاذ المطر

وعمارته مشيّدةٌ 

من ذرّات متلألئة

تتعالى، تتعالى

مع ذلك، لا يمكنك لمسه بيدك،

كلا، ولا حتى ببصيرتك.

د. ه. لورنس

 

(2)

معظم الاقتباسات من روايات نجيب محفوظ (ليس كلها) ضعيفة ومملة، ولا تعكس على الإطلاق إنجاز الكاتب الحكيم الخبيث. وهذا، في الحقيقة، يسجل لصالح محفوظ، وليس ضده.

درس محفوظ الفلسفة في الجامعة، وكتب عدة مقالات فلسفية في بدايات شبابه، تعريفية وتبسيطية، عميقة وثاقبة، وفيها بعض الآراء التي تستحق الوقوف عندها. سريعاً، تخلى عن الفلسفة، وتفرغ للأدب.

بقيت الفلسفة موجودة في كتبه: يكاد محفوظ يكون الروائي العربي الوحيد الذي تحتوي أعماله أبعاداً ميتافيزيقية، بالمعنى الفلسفي الكامل، بل ودينية، في رواياته الواقعية وغير الواقعية. ويسجل للرجل قدرةٌ ساحرة على تجسيد الحيرة البشرية، قدرةٌ لم تتوفر للأجيال اللاحقة: أقصد الواقعيين وغير الواقعيين، الذين يلتزمون برؤى علمية وماركسية وليبرالية أو ما بعد حداثية، ترفض الميتافيزيقيا جملة وتفصيلاً- وبالتالي، لا تعرف الحيرة، بل تكتفي بواقعية فجة، أو بالتسليم بالعبث واللامعنى؛ وكلا الأمرين رفضه حكيمنا المصري.
على أن محفوظ، على الرغم من رؤاه الفلسفية الناضجة، يعرف أن النثر (بشقيه الرواية والقصة) ليس مسرحاً لاستعراض قدرات فلسفية ولغوية والتفوه بآراء مريعة على شكل حكمة عقيمة يعجب بها من يعتقد أن الأدب منبع الحكمة: على العكس تماماً، محفوظ يترك القصة، والرواية، والحبكة، والشكل، والشخصيات، وغيرها، لتقول الحكمة. كأنه يعرّف نثره الأدبي بأنه محاولة فهم النفس البشرية، عن طريق التساؤل والحوار والبلبلة. وهذا، في حقيقة الأمر الجليّة، رأس الحكمة. 

بالإضافة إلى مقدرته الروائية الخارقة، وحكمته عن هشاشة البشرية، تمتّع محفوظ بمقدرة لغوية ناصعة. قد يكون حظّنا الطيب أن مؤسس الرواية العربية هو نفسه أحد مؤسسي النثر العربي الحديث، ومصلح اللغة الفصحى. في عالم ما قبل محفوظ، كانت اللغة العربية ثقيلة، تترنح بين محاولات إحياء عصر الجاحظ وبين صحافة مملة. أتى محفوظ برؤية سحرية، وبحلّ عبقري: اللغة البسيطة، القريبة من القلب، الأليفة، الطيبة، الرصينة. هذا سيمتّن رؤيته عن الحكمة، ويترابط معها، بطريقة ساحرة: ليست اللغة العالية منبع الحكمة، ولا التباهي بها: بل، مرة أخرى، القصة وما تقوله! 

تذكرتُ محفوظ وحكمته، عندما طُلب مني اقتباسٌ من إحدى مجموعاتي القصصية. وشرط الاقتباس أن يكون صالحاً للتداول، يوحي بالعمق والفذلكة، ويوهم القارئ بأن النص بأكمله سيطير به إلى عالم صوفي مختلف، باللغة التي تسحر وتسمر. وافقتُ على الفور، طمعاً بالشهرة في موقع ثقافي ناجحٍ؛ لتبدأ رحلة البحث، التي اعتقدتُ أنها ستكون قصيرة بسيطة. ولكن، بعد ساعات، اكتشفتُ أنني قراتُ المجموعة أربع مرات، ولم أجد أي اقتباس يصلح للتداول بين الناس!

شعرت بحزن عميق، لأن كل زملائي الكتاب وزميلاتي الكاتبات عندهم اقتباسات جميلة جداً ومثيرة؛ بل تمتلئ صفحات كتبهم، وصفحات المعجبين والمعجبات، بها. واضطررتُ في النهاية إلى أن أقدّم اقتباساً لا يصلح حتى للنشر على حبل غسيل. وقد وبّخني الصحفي، والمحرر، ومدير الموقع؛ فاعتذرتُ مراراً لكل منهم، وحاولتُ الشرح بأن الاقتباسات الحكيمة لا تُغني النثر، بل تهينه وتسفهه وتُدميه. 

يتعلّق الأمر، إذن، بروح النثر: يعتقد البعض أن النصوص الروائية والقصصية مسرح لاستعراض المعلومات والمقدرات اللغوية، كأنها موسوعة في السياسة والتاريخ والجغرافيا والدين، مع أحكام قاطعة صارمة نهائية عن المعنى، في حبكةٍ بوليسية مثيرة للأعصاب كسيرك صيني. تمتلئ هذه النصوص بجملٍ تصلح للاقتباس في كل الأوقات والظروف والأماكن، كمشروب غازي أو وجبة شاورما. في حين يعتقد آخرون، وأنا منهم، بأن النثر أخرق في طبعه وأصله. ألم تكتب كل الأمم أساطيرها المبكرة شعراً، ثم أتى النثر بعدها، كي يخفف حمل الحياة علينا، كي ينطلق الصوت باتجاهات أخرى، لا تحركه الرؤى السماوية المتماوجة الموسيقية الموزونة بإيقاعات الآلهة والجن؟

الأقوال الحكيمة، إذن، يختص بها الشعراء، والأنبياء، والفلاسفة، والجدّات والأجداد، والأطفال في لحظات الإلهام القصيرة جداً، وكسيرو القلوب، والأغاني التراثية، والمحاصَرون، والمتزوّجون في لحظات الصلح عقب الشجار المرير. ولكن ليس الروايات والقصص، حيث تتجلى الحكمة بطريقة أخرى تماماً، تميّز النثر عن الشعر بشكل نهائي. 

وفي النهاية، الحكمة في النثر، كما في الحياة، تتجلّى بالفعل، لا بالقول. وقد استشهد لودفيج فتجنشتين بحكيم روسيا الأشهر ليون تولستوي، كي يدافع عن فكرته هذه. بحسب فتجنشتين، ما يميز أدب تولستوي هو أن الحكاية تقول ما يُقال؛ وهذا سرّه الرهيب. وبشكل مماثل، في الحياة، الأفعال وحدها تجسّد الأخلاق. تتوازى الحكاية -بأشكالها المتعددة جداً- وما تحمله مع الفعل في الحياة الواقعية، بل يتطابقان. الخاسر الوحيد هو القول الحكيم، ذلك القول الذي ينجح فيه الشعر ويفشل فيه النثر. 

الحكمة في الحياة تكون بالفعل؛ وفي النثر في الحكاية نفسها، في البناء، فيما لا يقال علناً، لا على لسان الأبطال، ولا بقلم الناثر. 

فيما لا يُعلن، يكمن ذلك الذي نبحث عنه. 

The post النثر الأخرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جذورٌ مفقودة https://rommanmag.com/archives/21578 Wed, 12 Jun 2024 10:48:35 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d8%b0%d9%88%d8%b1%d9%8c-%d9%85%d9%81%d9%82%d9%88%d8%af%d8%a9/ (1) “… فإذا هو بأسد يفترس من صيران الجنة وحسيلها، فلا تكفيه هُنيدةٌ ولا هندُ، أي مائةٌ ولا مائتان. فيقول في نفسه: “لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء فيقيم عليها الأيام، لا يطعم سواها شيئًا.” فيُلهِم اللهُ الأسدَ أن يتكلم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: “يا عبد الله! أليس أحدكم في الجنة تُقدَّم له الصحفة وفيها البَهَطّ […]

The post جذورٌ مفقودة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
(1)

“… فإذا هو بأسد يفترس من صيران الجنة وحسيلها، فلا تكفيه هُنيدةٌ ولا هندُ، أي مائةٌ ولا مائتان. فيقول في نفسه: “لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء فيقيم عليها الأيام، لا يطعم سواها شيئًا.” فيُلهِم اللهُ الأسدَ أن يتكلم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: “يا عبد الله! أليس أحدكم في الجنة تُقدَّم له الصحفة وفيها البَهَطّ والطِّرْيَم مع النهيدة، فيأكل منها مثل عُمر السموات والأرض، يلتذ بما أصاب، فلا هو مُكْتَفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا أفترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفر ولا ناب، ولكن تجد من اللذة كما أجد، بلطف ربها العزيز.”

أبو العلاء. رسالة الغفران

(2)

لا أعرف نباتيين في تراثنا. أبو العلاء المعري وصادق هدايت فقط، وفي الحالتين، الرفق بالحيوان كان صادقاً وأصيلاً ورحيماً إلى درجة غريبة، غير مترابط مع إيمان ديني، بل مع عقلانية علمانية عميقة. وقد كتبا في الحيوان بعض أجمل أعمالهما وأقربها إلى القلب. تستقلّ الحيوانات بحيواتها ومشاعرها وهمومها، ولا تعيش فقط كي تخدم بني البشر. ولكن ترافقت الرأفة والرحمة مع تشاؤم عميق، ميتافيزيقي، شامل. يبدو الكون بأكمله مجرّد مسرحية بشعة مؤلمة ظالمة تافهة. أكثر من ذلك، نظرا إلى البشر -على العكس من الحيوان- نظرة سوداوية مُحتقِرة، ولكن مُشفِقة رحيمة، في نفس الوقت. وضرب التشاؤم أعماقهما، فاعتزل المعري الناسَ في سجونه الثلاث، وانتحر هدايت في باريس في سن السادسة والأربعين. 

كذلك، أتباع النبي ماني كانوا نباتيين، ولكنهم لم ينطلقوا من الرأفة والمحبة، بل من قرف واحتقار للجسد: أكل الحيوان يجعلهم يرتبطون أكثر بهذا العالم القذر، منطلقين من نظرية ماورائية في النور (الروح) والظلام (المادة) – سيستعيدها لاحقاً المتصوفة الشيعة، ليحوّروها جذرياً كي تتناسب مع الإسلام. ذلك القرف من الجسد والمادة ساد كل المذاهب الغنوصية (ومنها المانوية) وبعض أشكال المسيحية المبكرة. العالم المادي من صنع الشيطان، والروح وحدها تنتمي إلى الله. على الأغلب، يُعزى فشل المانوية والغنوصية إلى هذه النظرة، بالإضافة إلى إيمانهم بأن قلة من الناس ستنجو، أي المختارين سلفاً. المسيحية، بالمقابل، وسّعت دائرة الخلاص، لتشمل كل المهتدين العاديين. 

اشتُهِر الهنود بأنهم يقدّسون الحيوانات ولا يأكلون اللحوم. وعلى الأغلب، تغلغل مذهب النباتيين في الفكر الهندي من الخارجين على العقيدة الفيدية، أي الجانية والبوذية، الذين انتقدوا التمسك بالشكليات وبالذبائح (كما فعل المسيحيون الأوائل) وربما من أفكار أقدم من حضارة وادي السند المندثرة. اعتبر الهندوس لاحقاً كلاً من الجانية والبوذية هرطقات، ولكن الهندوسية نفسها -ليس كل مدارسها- امتصت أفكاراً رئيسة من الهراطقة، ومنها تحريم اللحم. نجد ذلك القرف من الجسد والمادة أيضاً هنا، ولكن بصورة مختلفة، باعتدال أحياناً وبمبالغة أحياناً أخرى: أكثرهم تطرفاً الجانية، ولكنهم أيضاً الأكثر رأفة بعالم الحيوان، ومحبة ورقةً للإنسان. الكاماسوترا، بالمقابل، تعترف بحقوق الجسد، وهذا ما سيفعله معظم الهندوس. تبدو الهندوسية كلها منشطرة بين النقيضين: بين الاعتناء بالجسد وبين مطالب الروح؛ كما هو حال معظم الأديان في الحقيقة.  البوذية اعتبرت نفسها الطريق الوسطي بين الجانية والهندوسية؛ ولكنها، بالنسبة لنا، نحن أتباع الأديان الإبراهيمية، أقرب إلى نفي العالم سعياً وراء الفناء. 

على العكس تماماً من الغنوصية والمانوية والمسيحية المبكرة، لم يكن الزاردشتيون واليهود والمسلمون معادين للعالم المادي، بل رحبوا به وقبلوه وعاشوا فيه. مارسوا جميعاً شعائر الذبح والتضحية، احتفاء بالآلهة، وبالحياة. كذلك الفلسفات (أو الأديان؟) الصينية احتفت بالعالم، سواء في وجهها الكونفوشي أو الطاوي، بل وحتى البوذية الصينية.

لا يبدو أصل الاختلافات هذه جغرافياً، ولا عرقياً: تتوزع المذاهب على أماكن مختلفة، وأزمان متعددة. وفي الحركات الصوفية، الإسلامية والمسيحية، تعود بعض أفكار الغنوصية للظهور، بأشكال مُقنّعة أو سافرة. بل ستصبح كراهية العالم المادي معضلة في أشكال الدين السائدة: الإمام الغزالي نفر من دراسة العالم ودعا إلى الاكتفاء بالفقه وما يرتبط به، كما فعل فلاسفة العصور الوسطى المسيحيون الكاثوليك. 

مع النهضة الأوروبية، ثم التنوير، طالب الفلاسفة والمفكرون بالاحتفاء بالعالم المادي: إذ، وحده الحقيقي. صعود العلم والديمقراطية ترافق مع هذا الاحتفاء. وفي رسالة شهيرة، شنّ فولتير حملة عنيفة على مواطنه المتشائم باسكال: يرى فولتير في الحياة وفي الجسد وفي الحاضر ما يجب أن نعيش له ومنه وفيه. ومن هذا المبدأ انطلقت الثورة العلمية وما تبعها من تطورات هائلة: من تأمل العالم الواقعي المباشر. على أن النتائج اليوم متناقضة جداً، من استعمار رأسمالي لنصف الكوكب، إلى الاحتباس الحراري، وصولاً إلى الفردانية المطلقة الحزينة وغياب المعنى في دول الشمال الأوروبي. وهذا ما يجعل العودة إلى مذاهب شرقية، مشوّهة شكلاً ومضموناً، رائجاً في الغرب اليوم. 

تبدو موضة النباتية في الغرب غريبة عن الأصول الغنوصية-المانوية أو الهندية، فقد قامت على الاحتفاء بالجسد بعد الثورة الجنسية في الستينيات -احتفاء قد يكون مبالغاً به، ويقودها شبابٌ لا يرون العالم معاناة، كما ادّعى بوذا والجانية والمانويون. على العكس تماماً، يبدو النباتيون اليوم أقرب إلى مذاهب اللذة منهم إلى مذاهب الزهد: انقلب العالم رأساً على عقب، فانتشرت مذاهب قديمة بدون جذورها. 

أفكر كثيراً بأن أصبح نباتياً، لأسباب بيئية، أولاً، إذ نأكل من اللحوم أضعاف ما أكله أجدادنا، وندمّر الكوكب لتأمين مراعي للحيوانات المقتولة. وثانياً، لاقتناعي بالرأفة التي تطفح من كلمات المعري وهدايت، وبأن الثورة الصناعية حوّلت الحيوانات إلى مجرد عنصرٍ جامدٍ يعاني العذاب في ماكينتها الجهنمية، وهذا يختلف كلياً عن الذبح العادي في المسالخ قبلها. لستُ مقتنعاً، بعدُ، بالأخوّة بيننا وبينهم. إذ أعرف أن الإنسان لاحمٌ، وهذا متجذّرٌ في جسدنا وفي طبيعتنا وفي شجرة التطوّر التي ننتمي إليها: لولا أكل اللحم، لم تتطوّر أدمغتنا من أشباه الإنسان إلى الإنسان العاقل في إفريقيا. كما أنني أضعف من أن اتخذ قراراً سيجعل حياتي الصعبة أصعب. بين فشلي المادي والمهني والاجتماعي، والاكتئاب والأرق، وتنقّلي غير المبرر بين بلدان لا تريدني، وهيامي الشرِه باللحوم المشوية على اختلاف أنواعها، يبدو مثل هذا القرار ترفاً أوربياً للشباب البيض الذين يقلّصون الصراعات الكبرى إلى قضايا فردية شخصية صغرى.  

وأصدقائي الأوربيون التقدميون يسألون أحياناً عن ذلك، لأجيبهم بتمتمة غامضة غير مفهومة. خصوصاً صديقَين مقرّبين، من أوروبا الشرقية، ولأنهما نباتيان، في كل مرة يشتريان فيها الفلافل من المطعم الإسرائيلي القريب، يعتذران لي، متذرّعين بقربه الجغرافي. وأنا أسأل نفسي عما يجب أن أقوله لهما: فقيران مغتربان مثلي، يتعاطفان مع فلسطين القصية، مخترعة الفلافل والحمّص، اللتين اجتاحتا أوروبا على يد الإسرائيليين، في لحظة مفصلية تحول فيها التقدميون إلى نباتيين، لإنقاذ الكوكب، متجاهلين الفلسطينيين وحقوقهم، وكل التراث الثوري السياسي، ليقتصر الصراع على سندويشة مسائية، تذكرني بدمشق، وأنا أتابع مشاهد قصف غزة المحاصرة المتكررة كأنها وهمية أو من كابوس لا ينزاح كلكله، أو أخبار سوريا التي تترنّح على حافة المجاعة، صامتاً، حائراً، لا أجيب على السؤال الذي لم يعد له معنى تقريباً: 

هل ستصبح نباتياً، إذن؟

The post جذورٌ مفقودة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
زنابق الفصح https://rommanmag.com/archives/21491 Mon, 01 Apr 2024 06:40:56 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b2%d9%86%d8%a7%d8%a8%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b5%d8%ad/ في الشوارع، والبيوت، ومحلات الزهور، والحدائق، والبقاليات، وسلاسل السوبرماركت، ينتشر في السويد نوعٌ شائعٌ من أزهار الربيع، يُسمّى بالسويدية زنبق الفصح. يشتريه الناس احتفالاً بالربيع، ويرعونه، ويتفاءلون به. ولكنه ليس زنبقاً، بل نرجس أصفر، واسمه الشائع بالإنكليزية، النرجس البري، على الرغم من أنه ليس برياً فقط؛ أما اسمه العلمي، فالنرجس الكاذب، على الرغم من أنه […]

The post زنابق الفصح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الشوارع، والبيوت، ومحلات الزهور، والحدائق، والبقاليات، وسلاسل السوبرماركت، ينتشر في السويد نوعٌ شائعٌ من أزهار الربيع، يُسمّى بالسويدية زنبق الفصح. يشتريه الناس احتفالاً بالربيع، ويرعونه، ويتفاءلون به. ولكنه ليس زنبقاً، بل نرجس أصفر، واسمه الشائع بالإنكليزية، النرجس البري، على الرغم من أنه ليس برياً فقط؛ أما اسمه العلمي، فالنرجس الكاذب، على الرغم من أنه نرجس حقيقي. ينحني زهره، ليحدّق في الأرض؛ لا يسمو عالياً، كالتوليب والأقحوان والورد. ويبدو تاجه الشهير، داخل بتلاته، مكتفياً بذاته، راضياً، وادعاً. البتلات، والتاج الذي يميز النرجس، والأَسْدية، كلها صفراء، بتدرجات خفيفة. لا أعرف كيف اقتنص لنفسه اسماً لا يشبهه ولا يعنيه. هل لأن اسماً، مثل نرجس الفصح، لن يكون شاعرياً، كزنبق الفصح؟ لا يبدو أن السويديين يسألون أنفسهم ذلك السؤال، بل يكتفون بنشر أريجه في كل مكان، حتى يصبح الأصفر لونَ الفصح، لون المسيح، لون الربيع. 

وعيد الفصح، في جوهره، يمثّل عودة الإله القتيل، كما في عودة تموز وأدونيس وبعل، كي تحيا الأرض، وتخضوضر الروح. ولكن المسيح، على العكس من تلك الآلهة، بعد أن قام للمرة الأولى (الغنوصيون لم يؤمنوا بذلك) سيعود في آخر الزمن كي ينهي كل الأزمان، وينهي دورة الفصول. وعلى أية حال، يطابق الاحتفال السنوي بالفصح الاحتفالات القديمة في شرقنا، ويقتبس منها. في بعضها، يجلد الناس أنفسهم بقسوة، مستذكرين مقتل إلههم؛ قسوة سيستعيدها بعض الكاثوليك والشيعة بأشكال مختلفة في احتفالاتهم ومهرجاناتهم. وليس من الضروري أن يكون العيد مترافقاً مع القتل. عيد النوروز، أو رأس السنة الفارسية، أحد أشكال الاحتفال بعودة الربيع، بدون آلهة مذبوحين أو مختفين، وقد انتشر بين الفرس والكورد وقبائل الترك وغيرهم من شعوب المنطقة. كمعظم سكان مشروع دمر، ودمر البلد، وقدسيا، أتذكر جيداً رائحة إطارات السيارات المحترقة، وطلقات نارية متفرقة، تأتي من “جبل الرز”، حيث يتجمع فقراء الأكراد القادمين إلى العاصمة دمشق من الجزيرة السورية، في محاولاتهم السنوية للاحتفال بالعيد، والشرطة تحاصر مداخل الجبل ومخارجه، عاجزةً أمام روائح الحريق وأصوات الأغاني. 

وبقي الناس يحتفلون بالربيع، حتى مع تغير معتقداتهم. عندما اطلع الغربيون على حضارات الشرق القديم، في بدايات القرن التاسع عشر، من خلال آثارنا المتناثرة في الصحارى، هالهم ما قدمته بقايا الأحجار البريئة. فقد اكتشفوا قيامات الآلهة تلك، بل أن العهد القديم بأكمله قائم على الأساطير السومرية والبابلية والأوغاريتية والفرعونية والزارداشتية: الطوفان، وولادة موسى، والتوحيد، ونشيد الأنشاد، وغيرها. بهذا تفكك العالم الذي آمنوا به كلياً: بعد كوبرنيكوس وغاليليو، ثم داروين، وأخيراً أساطير الوثنيين القدامى. ومن خلال كل ذلك، اتضح أن اليهود شكلوا أحد فروع الكنعانيين المتجدّدة بعد انهيار العصر البرونزي، المتلاحمة مادياً وفكرياً مع محيطها الواسع. وقد دعانا الشاعر الفلسطيني زكريا محمد لربطهم مع ذلك المحيط، ولتمييزهم بوضوح عن الصهيونية. سيتلقف العرب الأساطير القديمة، ليفخروا بها ليل نهار، وليجادلوا بأنهم مهد الحضارة. يتشكك المرء كثيراً في صلتنا اليوم بأجدادنا، وفي فكرة القومية التي تستند على التاريخ العريق الموغل في القدم. وقد استوطن النرجس أراضي أواسط آسيا وحوض المتوسط منذ أقدم العصور، ومنها انتشر شمالاً وشرقاً وغرباً، كما انتشرت منها الأحرف الأبجدية، واستخدام الحديد، وفكرة الدولة. 

النرجس الأصفر لا يشبه النرجس الأبيض، الأكثر انتشاراً في سوريا؛ الثاني محتشمٌ رزين. وقد أحب الشاعر الألماني غوته اللون الأصفر، وتعلّق به، لون الشمس والنور والضياء، وتبعه في ذلك الرسام الإنكليزي جوزيف تيرنر. تكاد لوحاته تصبح ما ورائية، رمزية، تجريدية، خصوصاً في مرحلته الأخيرة. ولكنها ليست كذلك. في الحقيقة، رسم ما رآه: أصفر يغطي كل شيء. وهذا سرها، هذا ما يميزها عن حداثة القرن العشرين المجرّدة. في حين وصف فاتح المدرس اللون الأصفر، في الوثائقي المدهش الذي أعدّه ثلاثة مخرجين معاً – عمر أميرلاي، ومحمد ملص، وأسامة محمد-، باللون “الشرشوح”؛ ومال إلى الأزرق، والأحمر. العفوية والصدق فيه تكاد تعيد تعريف فكرة الوثائقي: دردشة طويلة، بلا ادعاء، عن سوريا، والألوان، والعائلة، في بيته في مشروع دمر. كذلك هوكوساي الياباني أولع بالأزرق، تحديداً تلك الدرجة الجديدة منه القادمة من هولندا البعيدة وتقنياتها الأوروبية. زميله الأصغر سناً، ومنافسه، هيروشيغه، فضّل الأحمر. ويظهر يسوع في بعض اللوحات الهندية باللون الأزرق، كإلههم الأصلي فيشنو؛ وفي إفريقيا، أسود؛ وفي الغرب، أشقر؛ وفي بدايات الفن المسيحي، متأثراً بفنون الفراعنة أو الآراميين أو اليونان، يظهر بكل الأشكال التي احتفى بها هؤلاء. إذ يتلوّن المسيح بحسب مشاعر المؤمنين به. ولإليا ريبين، الرسام الروسي الأشهر، الذي ولد في أوكرانيا وتوفي في فنلندا، لوحة ساحرة عن قيامة يسوع بعنوان “الجلجثة”: لا يظهر فيها إلا الصليب الفارغ، وكلبان يلعقان الدم على الأرض. على العكس من كل لوحات يسوع، التي تصوّره في عذابه، أو في شبابه الغض، يبدو غيابه أكثر قدرةً على الوصول إليه: كأن الغياب قيامةٌ، أو موتٌ، أو أي شيء آخر، يهجس به المتلقّي. بالمقابل، لم يظهر النبي محمد في الرسوم، إلا في بعض المنمنمات الفارسية والعثمانية. لا يبدو فيها وجهه واضحاً، ولا تتميز ملامحه عن الآخرين؛ فقد جرت الأعراف ألا يهتم فنانو المنمنمات بالوجوه، بل بالأحداث وحركات الجسد وتركيب اللوحة وألوانها.

أدندن لنفسي، مع حسين نعمة، في برد الربيع: “عمي يا بياع الورد”. للأسف، لا يوجد الكثير من شعر الطبيعة في تراثنا، إذ لم يكن شعراؤنا مولعين بها، بل بالفخر والهجاء وسخافات أخرى. حتى المعري وأبو نواس لم يلتفتوا إليها. لدينا حفنة أبيات شهيرة، عن الربيع وزهره، خطها البحتري وابن زيدون وابن الرومي، فقط لا غير. ولكن بيرم التونسي قدّم رؤيته الباهرة للبنفسج، التي ترجمها رياض السنباطي لصوت صالح عبد الحي، في أغنية لا تشبه شيئاً مما اعتدنا عليه في علاقة العرب بالطبيعة، أو بالأغاني؛ كأنهم قرروا أن يجسدوا ذلك البعد التراندستالي للفن، البعد الذي يخرق أسوار العالم المادي، بحسب كنط وشوبنهاور: “والعين تتابعك، وطبعك، محتشم ورزين”. أما النرجس البري، فليس محتشمٌ تماماً، ولكنه أقل ادعاءً من الورد الجوري، المنتشر في سوريا، الذي غنّى له صباح فخري: “الورد الليليّ اللون في الحي الوادع، والزنبق…”. وقد سمّى بيتهوفن سوناتا الكمان والبيانو رقم خمسة بسوناتا الربيع. وفي سمفونيته الرعوية، تكاد تنطق النسمات. لا يشبه هذا ما اشتُهر به، من عالمه الشخصي الفردي، وارتباطه بالتنوير والثورة الفرنسية، ومشاعره الجياشة العاصفة؛ ولكنه يقترب من الرومانسية، التي شكل الموسيقار العبقري حدها الفاصل عن الكلاسيكية. عادت الرومانسية إلى الطبيعة، واختلطت هذه العودة مع كراهية العلم والعقل والتنوير. وفي اليابان، طبعوا دواوين أشعار الهايكو مقسمة إلى فصول السنة. بالطبع، الربيع يحتل المكانة الأولى، والأهم. ولكن، على الدوام، يكون سريعاً، مارقاً. يستشعر المرء أن موهبتهم تتجلى في قصائدهم الخريفية، لا الربيعية. في قصيدة هايكو، يلخّص الشاعر بوسون كل احتفالات البشرية بعودة الحياة الدورية:

في غسق الربيع، 

بعيداً عن درب البيت

ناسٌ يسرحون. 

الجو ماطر، والربيع هنا باردٌ متكّلف ممل. مع ذلك، تمتلئ مسرحيات أوغست ستريندبرغ وأفلام إنغمار برغمان بإشارات لقدوم الربيع، كأنهما آمنا فعلاً بأن الحياة دوراتٌ لا تنتهي من فصول تتعاقب. هل يتعلق الأمر فقط بحساسيتنا للطقس؟ أليست هذه الإشارات خادعة مخاتلة؟ احتفت المجتمعات الزراعية ما قبل الصناعية بعودة الربيع، لأن الحياة، مهما كان شكلها، قائمة على الحصاد. تأتي جيوش، وتختفي أخرى. تُرتكب مجازر باسم الدين والحضارة، ويتبارى أباطرة وملوك وسلاطين على مجد زائف. كل هذا يجري في الخفاء؛ لا تراه الطبيعة، والأرياف تعود إلى حياتها مباشرةً بعد أن ينقشع غبار المعارك. ولكن، بعد الثورة الصناعية، أصبحنا بيادق في أيدي الرأسمالية: لا الفصح، ولا عيد الأضحى، ولا رأس السنة الصينية، سيخرجنا مما نحن فيه.

في الشوارع، والبيوت، والمقاهي، ومداخل البنايات، والمحلات، ينتشر النرجس الأصفر. على مدخل بنايتي، عشرات منها. أدنو إليها. أتفحصها. أتذكر جدتي. كانت تفرح بالفصح، كأنها طفلةٌ في بيت جدها. قالت لي إن بيض الفصح لم يكن من عاداتهم في طفولتها. جلبه الانتداب الفرنسي، مع أشياء أخرى، إلى سوريا. أتردد. هل أقطف زهرةً؟ قالت إن الأعياد كانت أبسط، أجمل، أكثر حميمية. تهتز الزهرة. الريح قوية هذا الصباح. خلفي طفلان يراقبانني. لم تأخذني إلى الكنيسة إلا مرتين أو ثلاث. كانت تدرك جيداً أنني مسلمٌ. أنحني مرة أخرى. ألمسها. الأصفر ليس من ألواني المفضلة. يقترب الطفلان. يتهامسان باللغة السويدية. ولكن جدتي فعلت كل ما بوسعها كي أفرح بالفصح. أقف، وأنظر إلى الشجرة أمامي. صفصاف. أغصانها خضراء مصفرّة، كأن مصيرها لم يتقرر بعد. أحبت جدتي الفصح لأنها أحبتنا؛ أحبت العائلة، والأطفال، والمرح. هذه قيامة يسوع، بالنسبة لها. يقطف الطفل الأصغر زهرة. تنهره أمه من بعيد. دائماً أزرو الكنائس، للسياحة، في أسفاري؛ ومرات نادرة، في المدينة التي أعيش فيها. وبمناسبة الفصح، اشتريتُ أرنب شوكولا كبير، رخيص الثمن، منصاعاً لعادات السوق، كما يفعل الجميع في هذه البلاد. حبّات بَرَد تبدأ بالتساقط، تجلد الأرض بقسوة. يركض الطفلان إلى أمهما، وأنا أسرع الخطى إلى بيتي. هذه السنة، أيضاً، سأمضي الفصح بعيداً عن أهلي. صوت رعد يهزّ السماوات المصمتة البعيدة؛ ولكن لا برق، لا برق في الأفق! 

يرمي الطفلُ النرجسَ الكاذب على الأرض، يدوس عليه؛ يضحك. ثم يختفي، تحت وابل المطر والبَرَد والريح…

The post زنابق الفصح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
المتصوفة جاني: مقشة الرب https://rommanmag.com/archives/21485 Tue, 19 Mar 2024 18:32:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d8%b5%d9%88%d9%81%d8%a9-%d8%ac%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d9%85%d9%82%d8%b4%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a8/ الباختي حركة صوفية هندية، نشأت جنوب الهند. ولكنها تجذّرت وتوسّعت شماله ووسطه عقب فتح المسلمين للهند. هزّ الفاتحون المسلمون المجتمع الهندي، سواء بحكمهم الذي لا يشبه البلاد، أو يدينهم المختلف. في غضون عقود، اختلط الإسلام بالهندوسية تماماً، في بعض أشعار الباختي، وكان الشاعر كبير، والقديس نانك مؤسس المذهب السيخي، مسلمين وهندوس، في آن معاً.  أحد […]

The post المتصوفة جاني: مقشة الرب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الباختي حركة صوفية هندية، نشأت جنوب الهند. ولكنها تجذّرت وتوسّعت شماله ووسطه عقب فتح المسلمين للهند. هزّ الفاتحون المسلمون المجتمع الهندي، سواء بحكمهم الذي لا يشبه البلاد، أو يدينهم المختلف. في غضون عقود، اختلط الإسلام بالهندوسية تماماً، في بعض أشعار الباختي، وكان الشاعر كبير، والقديس نانك مؤسس المذهب السيخي، مسلمين وهندوس، في آن معاً. 

أحد أكثر مظاهر الإسلام إثارةً في القارة الهندية، كانت المساواة. على العكس من مجتمع الطبقات المتأصّل هناك، تميّز الإسلام بمساواة صارمة. والإمبراطوريات الإسلامية أفسحت للأفراد الفرصة لبلوغ مناصب اجتماعية وسياسية عُليا بناءً على مواهبهم، على النقيض من الإقطاع الأوروبي الطبقي بامتياز، والهندي الديني. رغب معظم شعراء الباختي بالتخلص من نظام الطبقات، وبالاحتفاء بالإخوة بين المسلمين والهندوس. 

شعراء الباختي، عموماً، أميون أو شبه-أميين. علاقتهم مباشرة، إذن، مع الناس، والأشياء، والآلهة/الله. استخدموا اللغات المحلية، وغنّوا، واختلفوا مع الفلاسفة والبراهمة والفقهاء. وقد تُرجمت بعض أعمال كبير ونانك إلى العربية، ولكن بقية الحركة وتفرعاتها وأهميتها ما زالت غائبة. 

القديسة جانابي (1259-1350)، Sant Janābāi، أو جاني، كما تدعو نفسها في أشعارها، قدّمت أحد أكثر أشكال التصوف تطرفاً، ومضت في وحدة الوجود وحضور الله في الطبيعة والكون إلى أقصاهما: جعلت الله حاضراً في كل شيء، كما يريد المتصوفة في كل زمان ومكان. ولكن، في حالة جاني، غدا حضوره حرفياً: في الغسيل، وفي الحب، وفي الشارع، وفي العائلة. أصبح الرب (تحديداً فيتوبا، أحد تجليات فيشنو) خليلاً، وصديقاً، وفرداً في مجتمعها الصغير الريفي. 

وصلت الحركة الصوفية إلى ذرى لا مثيل لها في حركة الباختي، وأصبحت شعبية تماماً، واصطدمت مع التقاليد الهندوسية والإسلامية، صداماً ما زال قائماً، بأشكال مختلفة. 

 

أنا آكل الرب

 

أنا آكل الرب

أشرب الرب

أنام 

بجانب الرب

 

أنا أشتري الرب

أعدّ الرب

أتاجر

مع الرب

 

الرب هنا

الرب هناك

ليس الخلاء

خالياً من الرب

 

تقول جاني:

الرب بداخلنا

الرب خارجنا

بل وأكثر

هناك رب فائض

 

رؤية الفراغ

 

أرى الفراغ

فوق الفراغ

على قمته

فراغٌ آخر

 

الفراغ الأول

أحمر

اسمه

الفراغ السفلي

 

الفراغ الأعلى

أبيض

الفراغ الأوسط

رمادي

 

ولكن الفراغ الأعظم 

أزرق

لا يحتوي

إلا ذاته

 

جاني شُدِهتْ

مذهولةً

عندما سمعت

رنين الجرس الصامت

 

عزيزي الرب

 

عزيزي الربّ

اعمل معروفاً واقتل حماتي

 

سأشعر بالوحدة عندما ترحل

ولكنك ستكون رباً طيباً بالتأكيد

وستقتل حماي

 

سأشعر بالسعادة عندما يرحل

ولكنك ستكون رباً طيباً بالتأكيد

وستقتل أخت زوجي

 

سأصبح حرةً عندما ترحل

سأحمل وعاء التسوّل

وأهيم في الطرقات

 

دعهم يسقطون موتى تقول جاني

عندها سنبقى وحدنا

فقط أنت وأنا

 

مقشّة التنظيف

 

جاني تكنس بالمقشة

الرب يجمع القمامة

يحملها في سلةٍ على رأسه

يلقيها في مكب بعيد

 

واقعٌ تماماً تجت رحمة الباختي

لينفّذ أتفه المهام

تقول جيني لفيتوبا

كيف يمكنني أن أرد جمائلك؟

 

محبّة الرب

 

بين نباتات الريحان البريّة

تفك جاني خصلات شعرها:

الرب يدلّك رأسها برقّة

بزيوت في راحة يده.

“لا أحد يكترث بجاني إلّاي!”

يفكّر وهو يصبّ الماء. 

تقول جاني لكل الناس:

“خليلي غسلني.”

The post المتصوفة جاني: مقشة الرب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تحدّي الكتب الوحيد https://rommanmag.com/archives/21458 Thu, 15 Feb 2024 14:13:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%91%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ad%d9%8a%d8%af/ يبدو تحدّي الكتب جزءاً من عالم رأسمالي تنافسي بامتياز: الغلبة للكمية، لتراكم رأس المال، لعدد المشاهدات والقراءات والتعليقات في المواقع الإلكترونية الإعلامية والثقافية، لأطول برج، وأعلى مأذنة، وأكبر جامع، وأضخم كنيسة، وأطول سندويشة فلافل، وأغلى لوحة، وأكثر الرجال والنساء إثارة، وأكثر الناس تأثيراً في العالم بحسب استطلاعات رأي مزيفة في صحف أمريكية شعبوية تدّعي الموضوعية، […]

The post تحدّي الكتب الوحيد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يبدو تحدّي الكتب جزءاً من عالم رأسمالي تنافسي بامتياز: الغلبة للكمية، لتراكم رأس المال، لعدد المشاهدات والقراءات والتعليقات في المواقع الإلكترونية الإعلامية والثقافية، لأطول برج، وأعلى مأذنة، وأكبر جامع، وأضخم كنيسة، وأطول سندويشة فلافل، وأغلى لوحة، وأكثر الرجال والنساء إثارة، وأكثر الناس تأثيراً في العالم بحسب استطلاعات رأي مزيفة في صحف أمريكية شعبوية تدّعي الموضوعية، ولمن يقرأ أكثر. 

ولكن القراءة، مثل الحب والغيرة والطيبة وثرثرة الأطفال وبطء العجائز، لا يمكن رقمنتها وقياسها وتكميمها. نقرأ الكتب لأسباب كثيرة، متعددة، مختلفة، بعضها غامض، وبعضها غير مُقنع، وبعضها عاطفي-شخصي، أو سخيف، أو بسيط ساذج- وبكل الأحوال، المنافسة مع الآخرين في القراءة ليست من هذه الأسباب. فعل القراءة، على العكس من بقية الأفعال البشرية، جديدٌ نسبياً، وقد انتشر بعد اختراع الكتابة في سومر؛ أو، للدقة، بعد انتشار الأحرف الأبجدية من الساحل الكنعاني لتستبدل الهيروغليفية والمسمارية؛ أو، لدقة أعلى، بعد انتشار الطباعة، إذ قبلها كانت الكتب غالية الثمن نادرة. القراءة فعلٌ يرتبط بتطور التكنولوجيا، وليست عادةً أصيلة في وجودنا البشري. 

قد يقرأ المرء الكتاب ذاته عدة مرات. هذا ما نفعله مع الكتب المقدسة والأشعار. قرأتُ القرآن الكريم، للمرة الأولى، في مراهقتي؛ قرأته كاملاً، من البداية إلى النهاية. بعدها، قرأتُ سوراً محددة، في أزمانٍ متباعدة. هذه الأيام، أقرأ آياتٍ قصيرةٍ لأتدبّر معانيها وألفاظها وموسيقاها. أعود إلى الباجافاد جيتا، وإلى إنجيل يوحنا، بنفس الطريقة. وكذلك إلى اللزوميات، وقصائد إميلي ديكنسون، وشيمبورسكا. تبدو لي هذه الكتب كأنها تتغلغل في الحياة، وتتماوج فيها: تخيط التاريخ بالحاضر بقلقي الفردي عن المعنى. ولا أخبر أحداً عن تلك الأمواج التي أحدس بها أحياناً، بل وأراها جليةً، في أحلامي عن دمشق، وفي جولاتي في ريف مالمو، وشوارع المدن الكبرى الأوروبية، وحارات المدن المشرقية؛ أمواج من كلمات الكتب، تتهادى فيها الأضواء والظلال أمامي، كأن…

وهناك الكلاسيكيات الحديثة، التي تحتلّ منزلة خاصةً عند القرّاء. يجب أن يقرأها المرء في عشرينياته. ستفقد قدرتها على رسم شخصيتنا لو قرأناها بعد العشرينيات، أو قبلها. دوستويفسكي وتولستوي، أولاً. نجيب محفوظ، ثانياً. ثم لدينا الأسئلة عن توزيعها: معظمها، للأسف، غربي. لا بأس من العبث قليلاً بترتيبها. فلنجعل ياسوناري كاواباتا ثالثاً. وفلوبير رابعاً. خامساً كافكا. ماذا عن ماركيز، وسارتر، وت. إس. إليوت؟ هل أصبحوا كلاسيكيات؟

وبالطبع، الكتب التي تخصّ مجالنا. على سبيل المثال، لا يقرأ معظمُ الناس أساتذتي في القصة القصيرة. أما أنا، فأبجّلهم وأوقّرهم. وغالباً، أميل إلى الفاشلين منهم، مادياً معنوياً: سعادات حسن مانتو، وأوسامو دازاي، وإسحق بابل. 

ولدينا الارتباك أمام بعض الكتّاب: حسين البرغوثي ودعد حداد، على سبيل المثال. بعض الصور مكررة، الكليشيهات موجودة، البنية ضعيفة هنا وهناك. وهذا كله، بمعنى ما، غير هام: تطفح الكتابات بالصدق، لتختفي أقنعة الكتابة وتسقط كلها.

وأكثر ما يثير حيرتنا العجز عن تقييم عام أمام المنجَز ومعناه وما يبقى منه: أفكر في سليم بركات ولغته النبوية وبلاغته الإلهية، في أدونيس وتثويره للشعر العربي في الستينيات، في نزار قباني وتقريبه للشعر واللغة من الناس والحياة والعادي اليومي؛ وأفكر في عجزي عن قراءة معظم أشعارهم هذه الأيام. 

وبالطبع، صعوبة فصل الأعمال الممتازة عن الأعمال الأقل أهمية، لكاتب عظيم. فيرجيينا وولف نموذجٌ هنا. لا شيء يضاهي “السيدة دالواي”، و”غرفة تخص المرء وحده”. ولكن، ماذا عن باقي الأعمال؟ أو، فكّر بالملل الكبير من تكرار الأفكار وغياب الأحداث في “إغواء القديس أنطونيوس” لفلوبير، أو “عصر الحب” و”قلب الليل” لمحفوظ، أو “القلعة البيضاء” لأورهان باموك؛ وعشرات القصائد الضعيفة لبدر شاكر السياب، وأمل دنقل؛ وكل أعمال تولستوي في شيخوخته: كلها مباشرة، دعوية، مليئة بالغضب والوعظ؛ وكلها، مع ذلك، تغلي بعنفوان غريب غير-فني.

وأحياناً، تبقى في ذاكرتنا قراءات أيام الشباب: ميلان كونديرا وحنا مينة. وأذكر صعوبة الوصول إلى كتاب “الأسد” لبارتيك سيل، أو كل كتب سليم بركات التي تداولناها سرّاً في دمشق. لا أستطيع أن أنقد بموضوعية هذه الأعمال، مع معرفتي تماماً بأن قيمتها تتفاوت كثيراً، ولكن مشاعري لا تتفاوت فيها. 

وأحياناً، نقرأ لأسباب خاصة، تتعلق باللذة: كل ما خطّه قلم ديفيد هيوم، وكل مراجعات شيمبورسكا للكتب، وكل قصائد إيسا- ذلك الهايكو الشخصي المترابط مع الطبيعة. 

وفوق كل ذلك، نقرأ أحياناً للأصدقاء: لا حاجة هنا لنقد قاسٍ، أو لرؤى عميقة. كما نقرأ لكتّاب محليين، لأننا نحمل همومهم: دمشقيون أو زوّار دمشق، سوريون أو محبّون لها أو دارسون لتاريخها وحاضرها. 

وهناك صعوبات وأسئلة لا إجابات عليها: 

أولاً، صعوبة تقييم التراث: لا يجوز أن يكون المرء مأخوذاً بالتراث كجمال الغيطاني، إذ سيكرر أسلوب القدامى الممل. معظم كتبهم أدب قصور وأمراء، دبجوها لتسلية الحكّام، باستثناء رسائل المعري في الغفران وصاهله وشاحجه. هل سنقرأهم بجدية كاملة، أم بقلب ثقيل كأننا أمام واجب مدرسي؟

وتصبح الأمور معقدة جداً، مع كتّاب النهضة العرب، في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ترجمات مربكة، ومحاولات جادة نصف-ناجحة مثيرة غير مُقنعة. نقرأ هؤلاء لأسباب كثيرة، منها فهم أنفسنا، وفهم تاريخنا، وفهم اللحظات المحورية في التغيير والثورة على الذات. 

ولدينا، بالطبع، الادّعاء والتعالي: البعض يقرأ ديريدا وما بعد الحداثة، ويقول إنه يفهم ويقدّر ما يقومون به. طيب، أنا لا أفهم شيئاً من هؤلاء. والبعض يقرأ سيوران المتشائم الكاره للبشر. آخرون يحبون نيتشه، المغرور المحتقِر للعامة. البعض يقرأ كتب الصوفية، وهي تدور حول فكرة وحيدة مكررة عن الفناء في الله، وأغلبهم يُعجبون بنرجسية ابن عربي الذي يدعي أنه في أيام مراهقته لقّن الشيخ ابن رشد العظيم درساً، وبأنه القطب الذي تدور حوله حياة الكون أجمع. وهناك من يقولون إنهم يتذوقون الشعر الجاهلي، الذي لا يحوي صراعات نفسية أو اجتماعية. وهناك من يعجبون بالهجاء المقذع والفخر الأجوف والمدح المتذلل في أشعار العرب. لا أعلم هل يتعلّق الأمر بذوقي الشخصي، أم أن هذه الكتب فعلاً تستحق القراءة؟ 

على أية حال، لا تصلح الكتب للتحدي. تقوم الرأسمالية على مفهوم واحد وحيد، هو المنافسة: المنافسة بين البشر للوصول إلى الخيرات، والمال، والمتعة الجنسية، والمجد، والتحكم بالطبيعة وبالبشر. التحدّي الوحيد في القراءة، هو الخروج من العالم الرأسمالي. في هذا، تنجح الكتب -دوماً- في جعلنا أقرب إلى الآخرين، وأكثر عطفاً ورقة وتفهماً للاختلاف، وتجعلنا ندرك ارتباكنا أمام الكثير من الأسئلة النظرية والعملية، وتجعلنا نتردد في إصدار الأحكام على الممارسات المختلفة والغريبة- أو حتى القريبة منا. تنجح القراءة في رسم صورةٍ أمينة عن العالم: عالمٍ غائمٍ لا نفهمه كلياً، ونسعى لتغييره، ونخفق كثيراً، ونختلف في تفسير معظم ما يطرحه علينا. تجعلنا الكتب وحيدين، كئيبين، حزانى: ننظر إلى العالم بعيون مفتوحة متعطّشة مرتعدة. وفي كل هذا، تجعلنا، بالضبط، خارج المنافسة: في هذا فقط، في الخروج من المنافسات كلها، يكمن التحدي، التحدي الوحيد الذي يستحق أن نأخذه بجدية كاملة. 

The post تحدّي الكتب الوحيد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
شمعةٌ في الماء https://rommanmag.com/archives/21438 Thu, 18 Jan 2024 09:39:49 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b4%d9%85%d8%b9%d8%a9%d9%8c-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%a1/ في محاولة شخصية جداً، لاسترجاع القليل من التوازن في علاقتي مع الأدب، وفهم جدواها المشكوك فيها، أعدتُ قراءة بعض القصص القصيرة التي جعلتني أميل إلى القصة (وليس الرواية أو الشعر أو المسرح) قبل عشرين سنة، لتشخيوف وموباسان وكاواباتا. لطالما أردتُ أن أعيد قراءة الكلاسيكيات، ولكنني دائماً أجد نفسي مشدوداً إلى مواضيع أخرى، جديدة، إلى رغبة […]

The post شمعةٌ في الماء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في محاولة شخصية جداً، لاسترجاع القليل من التوازن في علاقتي مع الأدب، وفهم جدواها المشكوك فيها، أعدتُ قراءة بعض القصص القصيرة التي جعلتني أميل إلى القصة (وليس الرواية أو الشعر أو المسرح) قبل عشرين سنة، لتشخيوف وموباسان وكاواباتا. لطالما أردتُ أن أعيد قراءة الكلاسيكيات، ولكنني دائماً أجد نفسي مشدوداً إلى مواضيع أخرى، جديدة، إلى رغبة بالمعرفة لا تني تتوسع، وتتعاظم؛ وبدلاً من التركيز والتخصص الذي يقتضيه العصر الحديث، أنساح كسطح ماءٍ تتوسع دوائره بعد أن قذف فيه طفل عابث حصاةً صغيرة. مؤخراً، أقرأ القليل عن العمارة العثمانية والصفوية، وفن الحدائق الياباني، وتاريخ بيزنطة. كل هذا، كي أفهم نفسي. فجأةً، شعرتُ بالأسى والعجز الكاملين، أمام نفسي، وأمام شلالات الدم المشرعة لأعين الفضوليين مائة يوم، كأنها مهرجان ترفيه يستعرض فيه العالم نفسه في مرآته. فقررت أن أعود إلى البداية، بداية اكتشافي لفن القصة القصيرة، بداية سقوط الحصى. 

بدأتُ بموباسان، وهو الأسبق زمنياً. تشيخوف تأثّر كثيراً بموباسان، بل وتمنى أن يعيد ترجمة كل أعماله إلى الروسية. قد لا يبدو ذلك جلياً، للوهلة الأولى. تشيخوف أكثر محبة وقرباً من شخصياته ومن قرائه، وأقل اهتماماً بالحبكة. كلاهما لا يعتمد على ما يدرّسه أساتذة الأدب عن فن القصة القصيرة، وما تعتمده الجوائز، والمراجعات النقدية، أي تحويل فن القصة إلى مهرجان لإثارة القارئ، عمادها المفارقة، الهزيلة دوماً وأبداً، بالضرورة. كلا، بل يعتمدان على تقاليد واقعية ثقيلة: الأبطال، ليسوا أبطالاً، بل ناس عاديون. في “السيدة صاحبة الكلب”، البطل ممل، ومتعجرف، وزير نساء. والبطلة بريئة، تائهة، غير طموحة، وحزينة بدون أسباب. بمعنى ما، قصة حب رومانسية تقليدية، أو حتى إعادة صياغة عجيبة لرواية آنا كارنينيا. في الحقيقة، أسوأ من رواية تولستوي، لأن الحب قد ينتصر عند تشيخوف. ولكننا لسنا متأكدين. التفاصيل الصغيرة التي لا يتحكم بها البطلان، والحيرة التي تعتريهما طيلة الوقت، والحزن الشجي الذي يغلّف عالم تشيخوف، يجعلنا نصدّق بأن هذه القصة الرومانسية الواقعية قد حصلت فعلاً، وما زالت تتكرر: الإيمان بعالم أفضل، من قبل أولئك الذين لا يملكون إلا هذا العالم القبيح القاسي، ولا يعرفون الالتزام الإيديولوجي الثابت العميق. 

وللمرة الأولى، أنتبه إلى أن شهرة موباسان بُنيت على قصصه المبكرة عن الحرب، حرب 1870 التي خسرتها فرنسا. بين “كرة الشحم” و”الآنسة فيفي”، يختار موباسان العاهرات ليرسم صورة كاملة عن الهزيمة، والمجتمع المتفكك، والطيبة. لا شيء آخر يعبّر عن الناس أكثر من العاهرات في زمن الحرب. وموباسان، على العكس من تشيخوف الإنساني الأصيل الطيب، لا يحمل أية إيديولوجيا واضحة. كره الديمقراطية والعامة، واحتقر النخبة والأرستقراطية والبرجوازية، وكان هو نفسه زير نساء، وحيداً، متشائماً، مرحاً، ذكورياً -ولكن قصصه المبكرة تميل إلى نسوية شبه-مباشرة. كلما تقدم في السن، زادت حيرته وابتعاده عن البساطة والطيبة التي طبعت قصصه الأولى. 

كاواباتا، أيضاً، يستعيد الحرب، وبالضبط مثل موباسان، من خلال الناس العاديين. وفي قصةٍ من أجمل ما كتب على الإطلاق، “الثلوج الأولى على جبل فوجي”، تتبدّى الحرب كحدث بعيد، حاضر، خيالي. الخسارة الكبرى تترافق مع هزائم صغرى. حسية كاواباتا الاستثنائية، مع الجبل والشجر والجسد- نصف الشهوانية والمشككة بوحدة الوجود، تتواشج مع محاولة فهم الحب. ولكن كل شيء يمضي، ويتغير، ولا يموت تماماً. الثلوج الأولى، التي ينتظرها اليابانيون بشغف، تعود كل سنة، لتذوب في الربيع سريعاً. الحب يذوي، أيضاً، تاركاً أثراً، كعبق البنفسج الزائل. 

في أعمال هؤلاء الثلاثة، انحياز ميّز الواقعية منذ بداية نهوضها في القرن التاسع عشر: انحياز إلى الناس، الذين ليسوا أبطالاً، ولا مناضلين؛ وليسوا مجرد ضحايا، أيضاً. الواقعية بهذا المعنى خيارٌ لا يكتفي بأن يكتب الواقع، بل يختار من هذا الواقع ما هو أكثر واقعية، كما في في لوحات ديغا وتولوز-لوتريك، الانطباعيين اللذين رسما البشر، وليس الطبيعة التي بهرت كلود مونيه وبيسارو تماماً، ولكنها لم تستول على قلوب ديغا وتلميذه، اللذين اختارا واقعاً بشرياً يقع على الحد الفاصل: بين الهزء، والبؤس. 

لم أكن يوماً ميّالاً إلى أدب الاستثنائيين الشجعان: أدب الحرب، أو أدب السجون، أو أدب النضال، الذي يرافق الثورات المنتصرة، والمهزومة. وقد يكتب المرء عن كل ذلك، ولكن بمرح وبطريقة فنية مقنعة، كما فعل إميل حبيبي، على سبيل المثال، أو إسحق بابل. الخروج من أسر الأدب السائد الدعائي، ممكن وسهل. أعادتني قراءة الكلاسيكيات القصصية إلى نقطة البداية: كما يحصل للمرء عندما يعود إلى سورة الرحمن، أو معلقة زهير بن أبي سلمى، أو براءات وليم بليك، أو طقطوقات صالح عبد الحي. لا يبدو لي أنني أتطور، أو أتجاوز أساتذتي. ولا يبدو أن هذا التجاوز، بالأصل، مرغوب أو معقول أو مطلوب. تتراكب العلاقات مع المعلمين بطريقة أقرب إلى تفرع الكائنات الحية المستمر والدائم حسب داروين، ليحتفظ الأحفاد بأهم خواص الأجداد، مهما تغيّروا وتعدّلوا جينياً؛ وليست كانفصال الأطفال نفسياً عن الأبوين في مراهقتهم، ليعاني الطرفان من آثار تروما لا تزول.  

في النهاية، لا تستطيع الكتابة إنقاذنا من العجز والشلل. كلا. على الأقل، ليس في أوقات الذروة، عندما تستسلم حتى الملائكة، تختبئ في السماوات خوفاً وذعراً. كلا. فقط العمل السياسي المباشر والصريح والكامل يستطيع ذلك، “الانخراط” في القضايا، على ما يقول المتفلسفون. ولكنها محاولة شخصية جداً، كي أتأكد من معنى الأدب، ومن المشروع الذي كرّستُ له روحي المتقلقلة، أي القصص القصيرة والمقالات الأدبية. والمعنى يكمن في الخسارة، أو في جوهر الخسارة: في الضعف البشري المقيم فينا. تنتهي القصص كلها بالخسارات، من “كرة الشحم” لموباسان إلى “عاشق الحيوان” لكاواباتا وصولاً إلى “عنبر رقم 6” لتشيخوف. 

نجيب محفوظ، سليل تلك الواقعية، في مقابلة تلفزيونية، دافع عن التشاؤم السائد في الواقعية بطريقة مبتكرة: ربما، نكتب عن ذلك لأننا لا نريد له أن يتكرر؛ ولكن هذا، بكل سوداويته، ما عاشه الناس، وما يعيشونه اليوم. تنتهي رواياته المبكرة بكوارث مكتملة: “زقاق المدق” و”بداية ونهاية” و”القاهرة الجديدة”. ولكن هذا ليس التشاؤم الذي امتلأ به أدب الغرب الحديث في القرن العشرين، حيث يغيب المعنى عن الحياة والكتابة، بل يتجلّى في واقعية محفوظ المعنى الأصيل الأصلي للكتابة، الأقرب إلى القرن التاسع عشر الأوروبي الواقعي، الذي يغتني ويُغني الحياة والكتابة، من خلال الواقع. 

في القصص القصيرة الكلاسيكية الواقعية، التي سحرتني قبل عشرين سنة، لا يوجد بطولة، ولا أمل كذاب، ولا محاولة لقلب العالم رأساً على عقب؛ لا يوجد أفكار كبرى، ولا تاريخٌ يُستعاد، ولا فلسفة أو تصوف أو علمانية تخنق القارئ بحبالها الغليظة؛ ولا طقوس فولكلورية تُعرض أو عذابات تُوثّق؛ ولا يوجد تفاصيل مملة أو شاعرية ملحقة على النص، ولا يوجد رسائل أو دروس مستفادة، ولا يوجد إدانة للشر أو احتفاء بالحق. 

مع ذلك، هناك القليل من دفء المحبة التي يخرج بها المرء ظافراً، مرتبكاً، حائراً، قلقاً، ساخطاً؛ القليل من دفء المحبة الذي يتوهج وهناً، على الرغم من كل شيء، كشمعةٍ في خيمة!

The post شمعةٌ في الماء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
روح الأرواح https://rommanmag.com/archives/21392 Fri, 01 Dec 2023 10:50:25 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d9%88%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d9%88%d8%a7%d8%ad/ {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قرآن كريم   في منتصف القرن التاسع عشر، وجّه الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان اتهامات متعددة للإسلام، أهمها هو أن المسلمين يتواكلون على الله، ويسلّمون بكل شيء، بدون رغبة في العمل، أو التغيير، أو التفكير. كان ذلك في ذروة بناء الإمبراطوريات […]

The post روح الأرواح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

قرآن كريم
 

في منتصف القرن التاسع عشر، وجّه الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان اتهامات متعددة للإسلام، أهمها هو أن المسلمين يتواكلون على الله، ويسلّمون بكل شيء، بدون رغبة في العمل، أو التغيير، أو التفكير. كان ذلك في ذروة بناء الإمبراطوريات الفرنسية والإنكليزية، عندما كان الفكر الاستشراقي يبرر التوسع على الأرض، وبوعي أو بدونه، لما يقترفه الجنود وقادتهم.

ردّ الأستاذ الإمام محمد عبده على رينان، وبقيت ردوده، ورؤاه، بشكل عام، محورية لفهم أنفسنا: واحدة من الصدامات العديدة بين الشرق والغرب، قادها الإمام الذي تتلمذ على يديه الليبراليون مثل طه حسين والسلفيون مثل رشيد رضا. اتسم فكر عبده بنفس سلْمي علمي هادئ، يجمع الناس من كل الأطراف، ويحاور الغرب والعلم والتراث، في إنجازٍ لم يكتمل ولم يكن عميقا بما فيه الكفاية في أكثر الأحيان، ولكن روحه وقّادة صادقة تنير الدرب، وسنفتقده طويلاً بعد غيابه.

يبقى انتقاد رينان مؤرقاً: الإسلام، في واحدة من تعريفاته الجوهرية، يقتضي التسليم لله: وهذا التسليم شامل، وكامل، للإله القادر القدير. انتقاد رينان يتردد صداه في كتابات استشراقية كثيرة؛ وبشكل غريب، يتحوّر ليوجّهه الغربيون للهندوس والبوذيين، وأحياناً، للشرق بأكمله.

في الحقيقة، قدّمت الرواقية قراءة تكاد تتطابق مع المفهوم الإسلامي للقبول بالقدر، وقد رفضها بشكل قاطع أنطون تشيخوف في عنبر رقم 6. خشي تشيخوف أن تؤدي إلى التسليم بالشر، خصوصاً حين تقول لنا إن كل شيء زائل، وأن الأفكار أعمق من الأحاسيس. ربما، بطل تشخيوف يشوّه الرواقية، وربما لا. تاريخياً، كرّست الرواقية قراءة دينية واسعةً في العالم الروماني، ستؤثر في المسيحية، وستوازي قراءات مماثلة في الشرق. أيضاً، شنّ عليها الأبيقوريون والشكاك حملات متعددة، لم تثمر. في النهاية، ابتلعت المسيحية الصاعدة كل الفلسفات الهلنستية، الرواقية والأبيقورية والشكاكة، بالعنف وبالإقناع، ولم يبق منها إلا ما انتخبته هذه المسيحية نفسها.

قبل عقدين من الزمن، كنتُ مقتنعاً بالانتقادات تلك. كنتُ شاباً، أؤمن بقدرة الإنسان على التحدي، والتغيير، والثورة. وجدت هذه العواطف مكانها في الربيع العربي. اعتقدتُ أن أسوأ ما قد يفعله الإنسان، هو أن يكون رواقياً، أن يسلّم للأديان -السماوية أو الأرضية (هل هذا هو اللفظ المناسب؟)- بقدره ومصيره ومستقبله. كنتُ أقرب إلى الماركسية، وإلى علمانية متشددة، وتنوير قاسي -ولكن صادق- يجب أن يتغلغل في أعماق الناس، بدل القبول والخنوع. 

تدريجياً، اكتشفتُ، مع توسيع قراءاتي، ورغبتي بفهم أعمق للمشكلة في حد ذاتها تجريدياً، وللإسلام أيضاً، بأن مذهب الحتمية والقدرية لا حلّ له، وحرية الإنسان مشروع فلسفي مفتوح أكثر مما هو شيءٌ ثابت ومفهوم. في أعمق ما قدّمته الفلسفة الغربية، اضطرّ إمانويل كنط إلى تشكيل مملكة موازية لعالمنا، هي مملكة الحرية، التي تخرج عن قوانين الفيزياء الحتمية، كي يحمينا من القدرية. 

كما ابتدأت أفهم أن التسليم، والرغبة بالمصالحة مع الكون، قد تكون من أفضل ما قدّمه البوذيون والمسلمون. ربما، هزيمة الثورة السورية، وفشلي الكامل على المستوى الشخصي المادي والمعنوي والمهني، وتقدّمي بالعمر، وحقيقة أني الآن أبٌ لطفل أخاف عليه حتى من نسيم الربيع- لا سلطة لي على الأمراض الخفيفة التي تصيبه ولا الأحزان الصغيرة التي تنتابه، واغترابي الطويل جداً عن أهلي، جعلني أفهم أكثر ذلك الهدوء الذي طبع حياة الإمام الحسن البصري، أو ابن حنبل، على سبيل المثال. 

حتى في شبابي، أثّر بي كثيراً وداع جبران تويني. كان والده غسان تويني الأكثر تماسكاً، وثقةً، وعقلانيةً، وتسليماً. بدا كأنه يمثل كل قيم الإسلام السنّي، بهدوئه، وصفائه. لا نعرف ما الذي دار بخلده بعد الدفن، ولكنه كان يتكلم عن الناس، عن التسامح، عن المستقبل، عن دفن الخلاف، عن الحياة. قتلت المخابرات السورية رفيق الحريري، وبعده سمير قصير، وجورج حاوي، وجبران تويني، وآخرين. كان غسان يعرف القتلة، ولكنه لم يجعل من مأتم ابنه مناسبة للحقد. كان يريد الحقيقة، ولكن لم يرد الدم. كنا ننتظر، في سورية، برعب، مصير لبنان ومصيرنا. لم أكن إلا أحد الشباب السوريين، الصامتين، المتابعين بأسى أخباراً لا تحمل إلا الرعب. فجأة، في قلب الاغتيالات، وجدتُ صوت غسان الدافئ الهرم، الذي حفر فيّ عميقاً، ولكنني نسيتُه بسرعة، بعدها، ولم أتذكره إلا الآن، في نكبة غزة 2023. 

تذكرت الصحفي النبيل غسان، وكل تلك النقاشات داخل نفسي، والخلافات، والعجز عن الفهم، عندما رأيت الجد الغزاوي أبو ضياء يودّع حفيدته ريم، بابتسامة واثقة، مليئة بالمحبة، والحنان، واللوعة، والاندماج مع الموت، والحياة، حتى لتتخلخل الحدود بينهما، حين يفتح عينيها، يقبلهما، بدون أن يرتجف، بدون أن يبكي؛ حين يهمس لنفسه، نفسه الوحيدة في قلب غزة، في قلب الكون، في قلب الله: “وين طارت؟”. فهمتُ ما الذي يعنيه التسليم.

ثم يقول، كأنه يخاطبها، ويخاطب القاتل، ويخاطب كل الناس: “هي روح الروح”.
ويبتسم.

ربما، يستطيع المرء أن يواجه بدون التسليم، ويستطيع أن يرسم دروب الخروج من الحصار والجوع وخيانة الحلفاء والأقارب والليبراليين واليساريين، بدون التسليم. ولكنه سيكون مليئاً بالمرارة، بالحرقة، بالكراهية. سيموت مسموماً، أو، بالأحرى، سيعيش مسموماً. يقتضي التخلي البوذي عن مباهج الحياة، في أحد وجوهه، هذا الصفاء العميق. ويقتضي هذا الصفاء بدوره، أن نعيش مع الموتى، مع المصائب، مع الأطفال الذين غادرونا، بمحبة. 

قد يكون فهمي قاصراً. أجل، بالتأكيد. لم أفهم، ولن أفهم، كيف يغادر الأطفال هذا العالم بهذه الطريقة. ولكنني أتمنى لو استطعتُ أن أودّع الناس، أو أن أستقبلهم، كما فعل ذلك الجدّ الغزاوي. أن أحيا مع تلك الابتسامة، أن أعرف الحصار، والقهر، والهزيمة، وأبقى مسلّماً “للقضاء والقدر، بخيره وشرّه”، بحسب الصيغة الرهيبة، القاسية، غير المُجاملة، التي اعتمدها فقهاء الإسلام. 

قد يكون تفسيري وتأويلي فاسداً، أو ناقصاً، أو منحرفاً، أو باطنياً، أو تجسيمياً. لا يهمّ. ولكنني أعتقد أن هذا التسليم، يقتضي، بالضرورة، شيئاً من التوحد مع الكون، والاندماج فيه؛ يقتضي القبول وليس الرفض. وليعذرني القارئ على الشطحات، ولكنني لا أجد نفسي قادراً على متابعة تأملاتي بدونها: القبول، والاندماج، ووحدة الوجود، تقتضي أيضاً مقداراً أصغر من الكراهية، رغبةً أوسع بالتفاهم، شيئاً من التعالي على الانتقام: أن تفهم خصمك، عدوك: الإسرائيلي على الطرف الآخر، الأوروبي الأبيض الذي يبرر التجويع والتعطيش، الأمريكي الأخرق الذي يقود الحرب إعلامياً واقتصادياً. أعرف كم تثير هذه الأفكار من السخرية، وربما، برأي البعض، الاستسلام. ولكنها أيضاً تثير الرغبة بالمقاومة، الرغبة العميقة والكاملة والأصيلة بالمقاومة، بالضبط، كي لا يتكرر ذلك، لا في غزة، ولا في غلافها، ولا في أي مكان يعيش فيه الأطفال. 

للمرة الأولى، أشعر بأنني أعرف ما يعنيه غاندي، أو طاغور، أو ابن عربي، بأن تكون جزءاً من كل ما يجري، هنا وهناك، في الماضي وفي المستقبل، بشكل واقعي تماماً. الحاج بكوفيته ودشداشته يعرف كل ذلك، بالقلب، عرفانياً، على ما يقول المتصوفة والغنوصيون. أشعر بأن تلك الكلمات الخفيفة البسيطة القليلة، وتلك الابتسامة، ودغدغة اللحية الخشنة البرية للوجه الميت البارد، تحمل أكثر بكثير من مجرد وداع: إنها تجسّد مواجهة كاملة مع الشر، مع الموت، مع “المائة عام من الحرب على فلسطين”، بحسب العنوان الصارم والصادق والدقيق للمؤرخ الفلسطيني رشيدا لخالدي؛ تجسّد حكمة الإسلام بقرونه الطويلة على هذه الأرض، وقدرته على الصمود، والقبول، والمحبة. 

لا تعني هذه الأفكار الاستسلام، ولكنها تقود إلى التسليم بالشر، وبمحاولة مواجهته، في آنٍ معاً: بابتسامة، بقبلة في العين، بوداع غير صاخب ولا ناقم. 

التسليم، كي تبقى قلوبنا صافية، كقلبه، كعينيها، اللتين تفتحتا، للمرة الأخيرة، بدون أن ترياه. 

The post روح الأرواح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
آي تشينغ: فراشات الأمل https://rommanmag.com/archives/21242 Tue, 06 Jun 2023 11:57:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a2%d9%8a-%d8%aa%d8%b4%d9%8a%d9%86%d8%ba-%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%b4%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%84/ آي تشينغ (1910-1996) شاعرٌ صيني اشتُهر مبكّراً بدعمه للشعر الجديد وللاشتراكية. منعته الثورة الثقافية من الكتابة، ثم اعتقلتْه وأجبرته على تقديم اعترافات كاذبة عن “انحرافاته الفكرية”، وأرسلته إلى الأرياف، كي يعمل في أعمال التنظيف والزراعة، وكي “يتعلّم من الناس”، ويتخلّص من “ثقافته البورجوازية”. مع إعادة تقييم ما حصل، عقب وفاة ماو، وتحميل المسؤولية كاملةً لمن […]

The post آي تشينغ: فراشات الأمل appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
آي تشينغ (1910-1996) شاعرٌ صيني اشتُهر مبكّراً بدعمه للشعر الجديد وللاشتراكية. منعته الثورة الثقافية من الكتابة، ثم اعتقلتْه وأجبرته على تقديم اعترافات كاذبة عن “انحرافاته الفكرية”، وأرسلته إلى الأرياف، كي يعمل في أعمال التنظيف والزراعة، وكي “يتعلّم من الناس”، ويتخلّص من “ثقافته البورجوازية”. مع إعادة تقييم ما حصل، عقب وفاة ماو، وتحميل المسؤولية كاملةً لمن أسمتهم القيادةُ الجديدةُ “عصابةَ الأربعة”، أي زوجة ماو ورفاقها، عاد تشينغ للكتابة، لتحتفي بعودته الصين كلها. 

في الغرب، ابنه مشهورٌ جداً، وهو الفنان آي ويوي Ai Weiwei. يفخر الابن بأبيه، ويتذكر جيداً السنوات السوداء التي عاشاها، عندما لم يُسمح للأب حتى بالحصول على أدوات للكتابة. يقول إن فنه يختلف عن فن أبيه، ولكنهما يتفقان كلياً على المعاني الأسمى: كرامة الفرد، والديمقراطية، واحترام الآخر، والمحبة. 

تُرجمتْ بعض أعمال الشاعر إلى العربية، عن المركز القومي للترجمة في مصر؛ ولكنها ترجمة مدرسية وغير شاعرية، في معظمها.

القصائد أدناه مُترجمَة عن الإنكليزية، وقد كُتبتْ بعد محنة الثورة الثقافية؛ فيها يحتفي الشاعر بالأمل، وبالفن، ويتساءل برقّةٍ عن مصيرنا البشري ومعنى حياتنا. 

 

من دفاتر الشاعر

 

لا تجعل قصائدَكً ألغازاً:

لا تجعل القارئ يخلط بين أدائك العاجز الغامض وبين التعقيد. 

فلتذهب عارياً، بدلاً من أن تضع ثياباً لا تلائمُكَ وتخنق أنفاسَكَ. 

إذا كانتْ قصيدةً، ومهما كان الشكل، هي قصيدةٌ.

إذا لم تكن قصيدةً، ومهما كان الشكل، هي ليست قصيدةً. 

 

الأحلام

 

ساعات اليقظة

تكتظّ بالخيالات

بعدها الأحلام

تطرق مضاجعنا.

 

ربما حب الطفولة

أو رفيقٌ قديم يصل من بلاد بعيدة

 

تتقلّب الأحزان على فراش الرفّاص

ومواعيد مُلتهبة على كومة من قش

 

في نوائب الفقر تصلك الهدايا

في أحضان الغنى يسرقك اللصوص

 

قد تكون إنذاراً زائفاً

أو تلميحاً بأن المزيد ناقصٌ.

 

المرآة

 

سطحٌ مستو لا غير،

مع ذلك لا يُدرك غوره

 

تعشق الحقيقة،

ولن تخفيَ عيباً. 

 

صادقةٌ، لو بحثتَ فيها

لوجدتَ نفسكَ دوماً:

 

محمرّ الوجه من الخمر،

منمّش الشعر بالثلج.

 

البعض يستمتع بها،

لأنهم جميلون. 

 

آخرون ينظرون بعيداً،

لأنها صريحةٌ جداً. 

 

وهناك حتى أولئك الذين

يريدون تهشيمها. 

 

الأمل

 

صديق الأحلام

شقيق الخيال

 

هو ظلك بالذات

ولكنه دائماً أمامك

 

كالضوء لا ملامح له

كالريح لا يهدأ أبداً

 

بينكما

يوجد دائماً مسافة ما

 

 يشبه الطيور المحلقة خارج النافذة

ويشبه الغيوم السابحة في السماء

 

 كالفراشات بجانب النهر

ماكرةً وجميلة

 

تقترب منها، تطير مبتعدة

تتجاهلها، تعود إليك

 

وسيبقى دوماً معك

حتى نفسكِ الأخير.

 

السنوات الضائعة

 

ليستْ كضياع حزم ثيابٍ ملفوفة؛

يمكن استعادتها من قسم المفقودات. 

ليس من الممكن حتى

معرفة أين فُقِدتْ-

بعضها تبدّد قطعاً ونتفاً،

وبعضها فُقِد منذ عشر سنين، عشرين،

بعضها في مدنٍ صاخبة،

وبعضها في فيافٍ قصيّة،

بعضها في محطات الباصات بين جموعٍ كثيفة،

وبعضها تحت مصابيح زيتية منعزلة. 

السنوات الضائعة ليست أوراقاً

يمكن لملمتها-

بل ماءً مسفوحاً على الأرض:

تجففها الشمس؛ لا ظلّ يبقى. 

الوقت سائلٌ يجري-

لا غربال يلتقطه، ولا شِباك.

الوقت لا يتجمّد؛

حتى لو أصبح أحافير، وبعد آلاف

السنين تمثّل في الأحجار.

الوقت بخارٌ: دخان يصّاعد

من عربات قطارات السباق!

السنوات الضائعة تشبه صديقاً، بعد

انقطاع الصلات ومضيّ الأحزان،

تصلك أنباؤه فجأةً: صديقك هذا

غادَرَنا منذ زمنٍ طويل!

The post آي تشينغ: فراشات الأمل appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>