يبدو تحدّي الكتب جزءاً من عالم رأسمالي تنافسي بامتياز: الغلبة للكمية، لتراكم رأس المال، لعدد المشاهدات والقراءات والتعليقات في المواقع الإلكترونية الإعلامية والثقافية، لأطول برج، وأعلى مأذنة، وأكبر جامع، وأضخم كنيسة، وأطول سندويشة فلافل، وأغلى لوحة، وأكثر الرجال والنساء إثارة، وأكثر الناس تأثيراً في العالم بحسب استطلاعات رأي مزيفة في صحف أمريكية شعبوية تدّعي الموضوعية، ولمن يقرأ أكثر.
ولكن القراءة، مثل الحب والغيرة والطيبة وثرثرة الأطفال وبطء العجائز، لا يمكن رقمنتها وقياسها وتكميمها. نقرأ الكتب لأسباب كثيرة، متعددة، مختلفة، بعضها غامض، وبعضها غير مُقنع، وبعضها عاطفي-شخصي، أو سخيف، أو بسيط ساذج- وبكل الأحوال، المنافسة مع الآخرين في القراءة ليست من هذه الأسباب. فعل القراءة، على العكس من بقية الأفعال البشرية، جديدٌ نسبياً، وقد انتشر بعد اختراع الكتابة في سومر؛ أو، للدقة، بعد انتشار الأحرف الأبجدية من الساحل الكنعاني لتستبدل الهيروغليفية والمسمارية؛ أو، لدقة أعلى، بعد انتشار الطباعة، إذ قبلها كانت الكتب غالية الثمن نادرة. القراءة فعلٌ يرتبط بتطور التكنولوجيا، وليست عادةً أصيلة في وجودنا البشري.
قد يقرأ المرء الكتاب ذاته عدة مرات. هذا ما نفعله مع الكتب المقدسة والأشعار. قرأتُ القرآن الكريم، للمرة الأولى، في مراهقتي؛ قرأته كاملاً، من البداية إلى النهاية. بعدها، قرأتُ سوراً محددة، في أزمانٍ متباعدة. هذه الأيام، أقرأ آياتٍ قصيرةٍ لأتدبّر معانيها وألفاظها وموسيقاها. أعود إلى الباجافاد جيتا، وإلى إنجيل يوحنا، بنفس الطريقة. وكذلك إلى اللزوميات، وقصائد إميلي ديكنسون، وشيمبورسكا. تبدو لي هذه الكتب كأنها تتغلغل في الحياة، وتتماوج فيها: تخيط التاريخ بالحاضر بقلقي الفردي عن المعنى. ولا أخبر أحداً عن تلك الأمواج التي أحدس بها أحياناً، بل وأراها جليةً، في أحلامي عن دمشق، وفي جولاتي في ريف مالمو، وشوارع المدن الكبرى الأوروبية، وحارات المدن المشرقية؛ أمواج من كلمات الكتب، تتهادى فيها الأضواء والظلال أمامي، كأن…
وهناك الكلاسيكيات الحديثة، التي تحتلّ منزلة خاصةً عند القرّاء. يجب أن يقرأها المرء في عشرينياته. ستفقد قدرتها على رسم شخصيتنا لو قرأناها بعد العشرينيات، أو قبلها. دوستويفسكي وتولستوي، أولاً. نجيب محفوظ، ثانياً. ثم لدينا الأسئلة عن توزيعها: معظمها، للأسف، غربي. لا بأس من العبث قليلاً بترتيبها. فلنجعل ياسوناري كاواباتا ثالثاً. وفلوبير رابعاً. خامساً كافكا. ماذا عن ماركيز، وسارتر، وت. إس. إليوت؟ هل أصبحوا كلاسيكيات؟
وبالطبع، الكتب التي تخصّ مجالنا. على سبيل المثال، لا يقرأ معظمُ الناس أساتذتي في القصة القصيرة. أما أنا، فأبجّلهم وأوقّرهم. وغالباً، أميل إلى الفاشلين منهم، مادياً معنوياً: سعادات حسن مانتو، وأوسامو دازاي، وإسحق بابل.
ولدينا الارتباك أمام بعض الكتّاب: حسين البرغوثي ودعد حداد، على سبيل المثال. بعض الصور مكررة، الكليشيهات موجودة، البنية ضعيفة هنا وهناك. وهذا كله، بمعنى ما، غير هام: تطفح الكتابات بالصدق، لتختفي أقنعة الكتابة وتسقط كلها.
وأكثر ما يثير حيرتنا العجز عن تقييم عام أمام المنجَز ومعناه وما يبقى منه: أفكر في سليم بركات ولغته النبوية وبلاغته الإلهية، في أدونيس وتثويره للشعر العربي في الستينيات، في نزار قباني وتقريبه للشعر واللغة من الناس والحياة والعادي اليومي؛ وأفكر في عجزي عن قراءة معظم أشعارهم هذه الأيام.
وبالطبع، صعوبة فصل الأعمال الممتازة عن الأعمال الأقل أهمية، لكاتب عظيم. فيرجيينا وولف نموذجٌ هنا. لا شيء يضاهي “السيدة دالواي”، و”غرفة تخص المرء وحده”. ولكن، ماذا عن باقي الأعمال؟ أو، فكّر بالملل الكبير من تكرار الأفكار وغياب الأحداث في “إغواء القديس أنطونيوس” لفلوبير، أو “عصر الحب” و”قلب الليل” لمحفوظ، أو “القلعة البيضاء” لأورهان باموك؛ وعشرات القصائد الضعيفة لبدر شاكر السياب، وأمل دنقل؛ وكل أعمال تولستوي في شيخوخته: كلها مباشرة، دعوية، مليئة بالغضب والوعظ؛ وكلها، مع ذلك، تغلي بعنفوان غريب غير-فني.
وأحياناً، تبقى في ذاكرتنا قراءات أيام الشباب: ميلان كونديرا وحنا مينة. وأذكر صعوبة الوصول إلى كتاب “الأسد” لبارتيك سيل، أو كل كتب سليم بركات التي تداولناها سرّاً في دمشق. لا أستطيع أن أنقد بموضوعية هذه الأعمال، مع معرفتي تماماً بأن قيمتها تتفاوت كثيراً، ولكن مشاعري لا تتفاوت فيها.
وأحياناً، نقرأ لأسباب خاصة، تتعلق باللذة: كل ما خطّه قلم ديفيد هيوم، وكل مراجعات شيمبورسكا للكتب، وكل قصائد إيسا- ذلك الهايكو الشخصي المترابط مع الطبيعة.
وفوق كل ذلك، نقرأ أحياناً للأصدقاء: لا حاجة هنا لنقد قاسٍ، أو لرؤى عميقة. كما نقرأ لكتّاب محليين، لأننا نحمل همومهم: دمشقيون أو زوّار دمشق، سوريون أو محبّون لها أو دارسون لتاريخها وحاضرها.
وهناك صعوبات وأسئلة لا إجابات عليها:
أولاً، صعوبة تقييم التراث: لا يجوز أن يكون المرء مأخوذاً بالتراث كجمال الغيطاني، إذ سيكرر أسلوب القدامى الممل. معظم كتبهم أدب قصور وأمراء، دبجوها لتسلية الحكّام، باستثناء رسائل المعري في الغفران وصاهله وشاحجه. هل سنقرأهم بجدية كاملة، أم بقلب ثقيل كأننا أمام واجب مدرسي؟
وتصبح الأمور معقدة جداً، مع كتّاب النهضة العرب، في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ترجمات مربكة، ومحاولات جادة نصف-ناجحة مثيرة غير مُقنعة. نقرأ هؤلاء لأسباب كثيرة، منها فهم أنفسنا، وفهم تاريخنا، وفهم اللحظات المحورية في التغيير والثورة على الذات.
ولدينا، بالطبع، الادّعاء والتعالي: البعض يقرأ ديريدا وما بعد الحداثة، ويقول إنه يفهم ويقدّر ما يقومون به. طيب، أنا لا أفهم شيئاً من هؤلاء. والبعض يقرأ سيوران المتشائم الكاره للبشر. آخرون يحبون نيتشه، المغرور المحتقِر للعامة. البعض يقرأ كتب الصوفية، وهي تدور حول فكرة وحيدة مكررة عن الفناء في الله، وأغلبهم يُعجبون بنرجسية ابن عربي الذي يدعي أنه في أيام مراهقته لقّن الشيخ ابن رشد العظيم درساً، وبأنه القطب الذي تدور حوله حياة الكون أجمع. وهناك من يقولون إنهم يتذوقون الشعر الجاهلي، الذي لا يحوي صراعات نفسية أو اجتماعية. وهناك من يعجبون بالهجاء المقذع والفخر الأجوف والمدح المتذلل في أشعار العرب. لا أعلم هل يتعلّق الأمر بذوقي الشخصي، أم أن هذه الكتب فعلاً تستحق القراءة؟
على أية حال، لا تصلح الكتب للتحدي. تقوم الرأسمالية على مفهوم واحد وحيد، هو المنافسة: المنافسة بين البشر للوصول إلى الخيرات، والمال، والمتعة الجنسية، والمجد، والتحكم بالطبيعة وبالبشر. التحدّي الوحيد في القراءة، هو الخروج من العالم الرأسمالي. في هذا، تنجح الكتب -دوماً- في جعلنا أقرب إلى الآخرين، وأكثر عطفاً ورقة وتفهماً للاختلاف، وتجعلنا ندرك ارتباكنا أمام الكثير من الأسئلة النظرية والعملية، وتجعلنا نتردد في إصدار الأحكام على الممارسات المختلفة والغريبة- أو حتى القريبة منا. تنجح القراءة في رسم صورةٍ أمينة عن العالم: عالمٍ غائمٍ لا نفهمه كلياً، ونسعى لتغييره، ونخفق كثيراً، ونختلف في تفسير معظم ما يطرحه علينا. تجعلنا الكتب وحيدين، كئيبين، حزانى: ننظر إلى العالم بعيون مفتوحة متعطّشة مرتعدة. وفي كل هذا، تجعلنا، بالضبط، خارج المنافسة: في هذا فقط، في الخروج من المنافسات كلها، يكمن التحدي، التحدي الوحيد الذي يستحق أن نأخذه بجدية كاملة.