مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/ مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Wed, 06 Nov 2024 17:24:51 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/ 32 32 أن نكتب لفلسطين https://rommanmag.com/archives/33564 Tue, 05 Nov 2024 11:12:46 +0000 https://rommanmag.com/?p=33564 في هذه اللحظة من تاريخ فلسطين والعالم، حيث كل صوت وحرف كُتب وقيل عن فلسطين مهدد وموسوم بالإرهاب ومعاداة السامية، تختار “رمان” لنفسها مقولة انطلاقتها الجديدة: “نكتب لفلسطين”. وهذه المداخلة هي محاولة لتأمل تراكبية هذه المقولة وراهنيتها، لا من حيث الإبادة والاحتلال بما هما منظومات مفاهيمية تمتد على/إلى الجسد والمكان والفكرة، إنما بكونهما باتا شكلًا […]

The post أن نكتب لفلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في هذه اللحظة من تاريخ فلسطين والعالم، حيث كل صوت وحرف كُتب وقيل عن فلسطين مهدد وموسوم بالإرهاب ومعاداة السامية، تختار “رمان” لنفسها مقولة انطلاقتها الجديدة: “نكتب لفلسطين”. وهذه المداخلة هي محاولة لتأمل تراكبية هذه المقولة وراهنيتها، لا من حيث الإبادة والاحتلال بما هما منظومات مفاهيمية تمتد على/إلى الجسد والمكان والفكرة، إنما بكونهما باتا شكلًا من أشكال الخطاب والاستعارات التي أثقلت لغاتنا وخيالاتنا، وأوغلت في امتحانها، واستثمرت أكثر وأكثر في مساحات الصمت وإمكانات المحو.

في حرب الإبادة هذه، لم تعد “الكتابة” (فعلًا ومفهومًا) مدركةً ضمنًا كفعل إنساني متجاوز للمادي (الجسدي) بالمادي (الحرف ومرسوماته البصرية)، وهي التي صاحبت الوجود البشري وتاريخه وأثرت فيه وتأثرت به، وشكّلت العالم حوله(1). ولا “فلسطين” كمعنى محصورة في حدود الجغرافيا والمقولة الاستعمارية والنضالية والسياسية، والشعرية والثقافية، فقط. ولم تعد اللغة بكل تكثّف الإبادات الحادثة فيها، قادرة على مواكبة ما يحدث للفلسطينيين والفلسطينيات.

نعتقد أن الأزمة التي أصابت لغاتنا الحديثة وقدرتها على التعبير عن اليومي المعيش في هذا الجزء من العالم، وفي لحظة الإبادة الكثيفة التي نشهدها (ونحن جزء منها)، لم تتوقف عند حدود اللغة بما هي أداة تواصل وتعبير، إنما امتدت إلى مساحات التنظيم والاتفاق والتفاوض على المعاني والرموز بما هي وجه من أوجه مأسسة اللغة بين الجسدي والرمزي، وصولًا إلى مشترك ما جسدي ومادي ورمزي. وعليه، فإننا هنا نشير إلى اللغة بما هي اللّبِنة الأساسية لكل أشكال التنظيم الاجتماعي، وصولًا إلى الدولة الحديثة بما هي مؤسسة لغوية، في أساسها. وعليه، ثانيةً، فإن الأزمة في اللغة لا بد لها أن تنعكس على التنظيم والتفاوض والأفكار المتعلقة بمفهوم الاجتماع والدولة، وانتقالاته بين الشعوب في بوتقة الحداثة، بما هي معانٍ تداولية(2).

وهنا، أصبح الفلسطينيون في مواجهة لا مفر منها مع محوٍ لا يختلف عن المحو الإبادي الحادث في غزة الآن، إذ لم تقم اللغة بالانفتاح والتحديق في مساحات الهدم والمحو والغياب، ومحاولة تفكيكها وإعادة موضعة المحو والهدم والغياب وتركيبها، بما هم أدوات إنتاج وكتابة للذات والعالم فلسطينيًا. لذا نرى أن (الـ)جبهة الأهم لمواجهة إسرائيل كمنظومة استعمارية استيطانية إحلالية، هي الجبهة الإبستيمية (الجامعات والأبحاث وإنتاج المعرفة) والفنية والثقافية (إنتاج الاستعارات والرموز).

إن سؤال “الصحافة الثقافية الفلسطينية”، التي تُكتب بنون الجماعة في هذه اللحظة من الإبادة، هو سؤال مركب، وله راهنية التي لا تنطلق من كثافة الإبادة والحاجة إلى ترك علامة وأثر لحيوات وأجساد ومدن -كانت وبقيت- فحسب، إنما من التساؤل الأساسي بشأن ما هي فلسطين المكتوبة، وما هي الكتابة فلسطينيًا في لحظة فارقة من تاريخ عالمنا. ولعل هذا التحوير في السؤال يدفع به إلى مساحات أكبر من مفهوم الصحافة الثقافية وبنيتها، في لحظة تحدد نفسها بـ: “نكتب لفلسطين”!

ولو انطلقنا من عموم التساؤل: “ما هي الصحافة الثقافية؟”، يمكن القول إن الصحافة الثقافية هي شكل من الإنتاج والعمل الصحافي، يركز على تغطية الأخبار والمواضيع التي تتعلق بالفنون والثقافة والأدب والموسيقى والسينما والعروض المسرحية والكتب، وغيرها. وهي جنس من الكتابة الصحافية، لا تنحصر من حيث التقانة بالصحافة والصحافيين، بل إن أغلب من يحملون أحبار هذه الكتابة، لا يصنّفون أنفسهم صحافيين بالمعنى الدارج للصحافة، الذي بدأ يترسّخ في مخيالاتنا منذ أواسط القرن التاسع عشر.

حين سُئل محرر “رمّان” عن قدرة السينما في وقت الحرب، أجاب: “لا شيء، لا السينما ولا الفنون في عمومها؛ فمن منا يقدر على حمل كتاب ليقرأه أو انتقاء فيلم ليشاهده؟ كلنا مسمّرون أمام شاشات الأخبار”(3). وأكمل: “إن عمل الفنون تراكمي، وليس فوريًا. لها أهمية كبرى، لكن في مرحلة ’الما بعد‘ وليس في زمن الإبادة”(4).

فما الحاجة إذن إلى صحافة ثقافية تدخلنا إلى الـ”مابعد”، ما لم تواجه الآن والهنا؟ لعل هذا هو جوهر راهنية الفاعلية في الصحافة الثقافية، وبالذات في زمن الإبادة: أن تكون حَديةً وحدودية، هي المراكمة للـ “ما بعد”، أي أنها قائمة على قطيعة (ما) بين الآن-هنا بما هي علاقات قوى في منظومة استعمارية ورأسمالية، ساهمت في بناء الحالة الراهنة، والـ “ما بعد (ية)” بما هي خروج عن تلك العلاقة الخاضعة. بكلمات أخرى: الصحافة الثقافية التي لا تشتبك، لا يعوّل عليها، وتلك التي لا تكتب عن فلسطين بما هي قضية عادلة قادرة في هذه اللحظة على إنتاج عالم ما بعد عالمنا الذي نعرفه، فلا معنى لها.

ولفهم دور الصحافة الثقافية الفلسطينية في هذه اللحظة، لا بد لنا أن نؤسس مقاربة ما نظرية لتحوّلات الذات الفلسطينية التي نكتب لها، ومظاهر تآكل ملامحها العامة الجامعة، وما شكل العلاقات التي تنتجها تلك الوضعية بالدرجة الأولى. ولعلنا هنا نستضيء ببعض ما يطرحه عالم الاجتماع الأمريكي مارك غرانوفيتر، في بحثه المعنون: “قوة العلاقات الضعيفة”(5).

إن وضعية الجماعة الفلسطينية على هوامش المجتمع الاحتلالي في فلسطين المحتلة، وأطراف المجتمعات المضيفة في المنافي، إنما يقدم لنا شكل علاقات اجتماعية تتقوى بموقعها الضعيف. وهو ما يشير إليه غرانوفيتر في بحثه المشار إليه، من حيث أن الروابط الضعيفة ليست مهددة بالتفكيك، بقدر ما هو الحال في المجتمعات القوية والتقليدية، حيث الروابط الاجتماعية قوية، وهو ما يمنحها فرادة تتخطى السياسي بشكله النمطي، إلى الثقافي بشكله المفتوح. يمكننا رؤية ذلك في السينما والأدب والنقد الذي أنتجه المثقفون والفنانون الفلسطينيون والفلسطينيات حول العالم. تعمل هذه الروابط الضعيفة على ربط الفلسطينيين حول العالم، من غير الحاجة إلى عصبية حديثة مثّلتها الدولة. وبالتالي، فهي تقوم -على ضعفها- بدور جسور للمعارف والمعلومات والخطابات وأشكال الأداء، التي تتكثف جميعها في الإنتاج الثقافي لتلك الجماعات أينما كانت.

إلّا أن ثمة مشكلة في هذا الشكل من الاجتماع وموقعيته، بالمقارنة بين الجغرافي والتاريخي. طرح بندكت آندرسن مقاربته بشأن دور الصحافة والجرائد والطباعة في ترسيم حدود الجماعة المتخيلة، عبر تشاركية لحظة قراءة الجريدة أو الورق المطبوع، بصريًا، والخبر المشترك في تداوله من حيث هو تمثلات للعالم تتبدى أمام أفراد جماعة ما في لحظة ما مشتركة. إلّا أن تكنولوجيا التواصل الحديث في هذه اللحظة، وسرعة تناقلاها وتشكيلها لحدود الآن والهنا، وإنْ كانت قد قربت بين المجتمعات الفلسطينية في الشتات، وفتحت حدودهم على غيرهم، إلّا أنها قد أنتجت شكلًا من أشكال الاغتراب ما بعد الحداثي، بما هو سمة للحداثة المتأخرة، ساهمت، كما يرى هارتموند روزا، في “تدمير الإيقاع الاجتماعي”(3). وهو ما يعني تغيّرات في الخطاب والأداء وتشكيلات المعرفة والسلطة والمحاكاة وتمثيلات الواقع، ما أدى إلى خضوع الاجتماعي للافتراضي، وهو ما يطمس المشترك ويحصره في ظاهر الافتراضي، ويعزله عن التفاعل الاجتماعي.

ومن هنا تأتي أهمية الاشتباك النقدي مع الثقافة، والكتابة لفلسطين.

أن تكتب لفلسطين هو أن تنظر إلى العالم من فلسطين، وأن ترى فيه شيئًا ما فلسطينيًا.

قد نبالغ في تحميل “رمّان” ما لا تحتمل في مسألة الكتابة لفلسطين، إذ نقول إنها العلاج لواقع اجتماعي متذرر ومدمّر، إلا أنها شكل من أشكال مواجهته والتحديق في فلسطينيته بالكتابة، كما يجب أن تكون الكتابة عن فلسطين. فما تحاول المجلة أن تكونه باختيارها الواضح في هذه اللحظة بالكتابة عن فلسطين، أن تكون هي تحديقنا الفلسطيني في العالم، وتحديق العالم في فلسطينيتنا. ما تحاول “رمّان” قوله: إن الفلسطينيين ليسوا وسائط لتحقق مقولات إعادة التاريخ، وإنهم بجماعيتهم واجتماعياتهم الزمكانية بجغرافيتها وتواريخها  قادرون على تغيير تاريخ العالم، وكسر مركزية السياسي الحداثية الدولانية فيه. فليس من المصادفة في شيء أن يكون الفيلم أو القصة أو الرواية أو الفن التشكيلي أو البحث الأكاديمي، أهم من المنشور السياسي، لأنّ التناقضات تُحرِّك الناس، وتُنتِج سردية مغايرة، ومركبة بشكل يفتح إمكانات النقد والمعارف على تفكيك بنى الهيمنة والسلطة فيها، وبالذات في لحظة تاريخية لا مفر أمام الفلسطينيين فيها من الارتقاء لمسؤوليتهم التاريخية تجاه الهدم والمحو والإبادة، باعتبارهم أدوات تاريخية استعمارية، بدأت مع نكبة مستمرة لم تنته حتى هذه اللحظة، وراكمت كل شيء على عاتقها سببًا فنتيجة.

وعليه، فأن تكتب لفلسطين يعني أن نكون نحن الفلسطينيين واعين لما يعنيه القول أن الصراع/ النزاع مع الاحتلال يساهم في تشكيلنا، وأن هذا التشكيل هو مجال صراع/ نزاع آخر، قد كُتب علينا. فلسطين الفكرة، كما تراها “رمّان”، هي سعي للتماهي مع الحياة والجمال، وبالتالي لا يمكن إلا أن تكون على الطّرف النّقيض تمامًا من الطّغيان والقمع والعسف بكل أشكاله، ومسبباته واستعاراته.

هوامش

١- والتر أونغ، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن عز الدين. سلسلة عالم المعرفة، العدد 182. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1972.  

٢- يظهر ذلك جليًا في الحالة الفلسطينية في الدعاوى لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، بالذات إذا نظرنا إلى موقعها باعتبارها استعارة سردية نضالية في تاريخ النضال الفلسطيني من ناحية، والذي كان يتحرك نضاليًا/ مواجهاتيًا خارج استعارة الدولة (بشكل معلن على الأقل)، وأقرب إلى استعارة المجتمع التحرري، وسرعان ما تمت معيرته Standardization نموذجًا مصغرًا للغة فصائلية أفضت إلى حركة فتح، ومن بعدها إلى لغة مدولنة أفضت إلى سلطة فلسطينية شبيهة بدولة من حيث الجسد واللغة. فلا بقيت الاستعارات السردية النضالية قادرة على خلق لحظة جمعية ومجتمعية تراحمية مشتركة تقوم على استعارات النضال والتحرر، ولا تحولت إلى دولة قادرة على التعايش مع المعيش اليومي للفلسطينيين ولغتهم في مواجهة الاستعمار الاستيطاني وسياساته وإجراءاته، بل أصبحت تفقدها بكل تقارب أو تماهي استعاري بين المنظمة ومنظومة الدولة الحديثة أو الفصائلية، من ناحية. ومن أخرى فقدت تلك اللغة الجمعية للمشترك الفلسطيني إن حاولت العودة لخطاب نضالي. وهو ما يضمن هدمًا آنيًا مشتركًا لقدرة المنظمة اللغوية والخطابية والإجرائية النظرية السياسية.   

٣- لقاء موقع “فارقة معاي”، مع سليم البيك، محرر “رمّان”، بتاريخ 1/2/2024:
https://faraamaai.org/articles/belkhat-alareed/alshaf-althkafy-ozmn-alabad-fy-tgrb-rman-althkafy 

٤- المصدر نفسه.

٥- Mark Granovetter, “The Strength of Weak Ties,” American Journal of Sociology, vol. 78, no. 6 (1973), p. 1366. 

٦- Hartmund Rosa, Social Acceleration: A New Theory of Modernity, Johnathan Trejo-Mathys (trans.) (New York: Columbia University Press, 2015).

The post أن نكتب لفلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله https://rommanmag.com/archives/33066 Mon, 04 Nov 2024 15:55:36 +0000 https://new.rommanmag.com/?p=33066 لنتحدث بصراحة، إذا حدث وقدمت نفسك لشخص ما باعتبارك صحافياً فلسطينياً، فمن المرجح أن يتخيّلك وأنت تغطي الاجتياحات الإسرائيلية، أو تتبع عنف المستوطنين، أو تكتب تحليلات سياسية عميقة. ولكن إذا ذكرت أنك صحافي ثقافي، فقد تشعر وكأن فيك خطب ما: متى أصبحت مراجعة فيلم أو تغطية حفل إطلاق كتاب صحافة “حقيقية”؟ أي نوع من الصحافيين […]

The post الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لنتحدث بصراحة، إذا حدث وقدمت نفسك لشخص ما باعتبارك صحافياً فلسطينياً، فمن المرجح أن يتخيّلك وأنت تغطي الاجتياحات الإسرائيلية، أو تتبع عنف المستوطنين، أو تكتب تحليلات سياسية عميقة. ولكن إذا ذكرت أنك صحافي ثقافي، فقد تشعر وكأن فيك خطب ما: متى أصبحت مراجعة فيلم أو تغطية حفل إطلاق كتاب صحافة “حقيقية”؟ أي نوع من الصحافيين قد تكون لتختار الكتابة عن الأفلام والكتب ومعارض الفن، بدلاً من متابعة الأخبار العاجلة والدراما السياسية؟ في مكان مثل فلسطين، حيث تهيمن الأخبار العاجلة على العناوين الرئيسية، يشعر الصحافيون الثقافيون وكأنهم يسبحون ضدّ التيار. أخبار الثقافة والفنون والأدب عادة ما يتُرك لها ركن صغير من التغطية الإعلامية، وعادة في الصفحة الأخيرة من الصحيفة، أو تُقرأ في نهاية النشرة الإخبارية باعتبارها من الأخبار “الجيدة” لهذا اليوم، وفقط إذا سمح المناخ السياسي بذلك!

خلال دراستي في جامعة بيرزيت، كان أساتذتي –بارك الله فيهم– يؤكدون دوماً على أن تقاريري الصحافية تفتقر الحساسية السياسية، وأن لغتي تميل نحو الثقافة والأدب. أخذت هذا على محمل الجد، وأمضيت سنوات في تجريد تقاريري من أي “ذوق أدبي” أو تأمل شخصي، وجعل لغتي واقعية قدر الإمكان، وحتى عندما سنحت لي الفرصة للاختيار بين كتابة رسالتي الماجستير عن التحوّلات الثقافية بعد اتفاق أوسلو، أو عن دور حماس في عملية السلام، اخترت الخيار الأخير، اعتقاداً مني أن أي شيء آخر سوف يُنظر إليه باعتباره أقل جدية في بلد تبدو السياسة وكأنها القصة الوحيدة الجديرة بالسرد. في فلسطين، من الصعب الهروب من جاذبية السياسة ولغتها وكل ما يدور في محيطها، حتى العمل الثقافي يجب أن يكون مشتبكاً؛ لأن أي شيء آخر قد يُعتبر غير ذي صلة، ومنفصلاً عن السياق الفلسطيني والقصص “الأساسية” عن الاحتلال والمقاومة والبقاء. ضمن هذا السياق، قد يُنظر للصحافة الثقافية بوصفها “ترفاً” لأولئك الذين يعيشون في أماكن أكثر أماناً، وليس في مكان تهيمن عليه آليات عسكرية ونقاط تفتيش، مكان حيث يمكن للمعارض الفنية ومهرجانات الأدب وعروض الأفلام أن تزدهر دون شبح القتل والاعتقال اليومي. 

لكن المشهد السياسي دون ثقافة لا يمثّل سوى جزءاً واحداً من الصورة الكبرى. قد نتفق أن السياسة هي الفيل في الغرفة، لكن الثقافة هي الغرفة نفسها؛ إنها المساحة التي تتقاطع فيها السياسة مع التاريخ والمجتمع. الثقافة هي انعكاس لما نحن، وكيف نفكر، والطريقة التي نعبّر بها عن قِيَمنا ومخاوفنا وآمالنا. الثقافة ليست مجرد رفاهية للمثقفين، ولا هي مراجعات متخصّصة للنخب التي تكتب نقداً فنيّاً لبعضها البعض، إنها تمثّل نبض المجتمع ووسيلة لالتقاط المزاج والمشاعر العامة والنضالات والأحلام والروح الجماعية، بطرق لا يستطيع التقرير السياسي أو الأخبار العاجلة القيام بها. الصحافة الثقافية هي عدسة يمكن من خلالها رؤية الصورة الأوسع بما يتجاوز الوضع السياسي المباشر، ويتعالى عن ضجيج التقارير الإخبارية والسرديات الجيوسياسية.

هناك مشكلة بالطريقة التي نستخف بها بالثقافة في مواجهة السياسة، والاعتقاد العام بأن التعبير الثقافي هو ترف منفصل عن مرارة الواقع. الصحافة الثقافية لا تتجاهل الاحتلال أو العنف والقمع، بل تحاول توسيع الحوار، وإظهار الفلسطينيين ليس فقط ضحايا وشخصيات أحادية البُعد، ولكن بوصفهم أفرادًا معقّدين؛ شعراء، وصنّاع أفلام، وموسيقيون وفنانون. هؤلاء هم الأشخاص الذين يخلقون عوالمَ من المعنى والخيال، عوالم أكثر رحابة تتجاوز الوضع السياسي وتحدياته. 

الفن والموسيقى والأدب هي أدوات تسمح لنا بالتأمل والتعبير عن المشاعر المتناقضة، والتعامل مع الخسارات اليومية التي تأتي مع العيش في بيئة محتلة. ومع ذلك، فعندما تتكشّف الأحداث السياسية الكبرى، غالباً ما تكون الأنشطة الثقافية هي أول ما يُؤجّل أو يُلغى، وكأنّ الثقافة والسياسة موجودتان في عالمين منفصلين. وهذا يعكس فهماً ضيّقاً لما تمثّله الثقافة. الثقافة لا تتطفّل على المشهد أو الوضع السياسي، بل هي ترافقه وتُكمله. في لحظات الاضطراب واللايقين، توفر الثقافة أدوات ومساحة ضرورية للتنفيس والتعبير عن المشاعر والتفاعل مع الواقع السياسي بطرق أكثر شخصية، لا يمكن التقاطها من خلال الأخبار والتحليلات السياسية. تهميش الثقافة لا يشكّل “خدمة سيئة” للفن فقط، ولكن لقدرة المجتمع على التعامل مع التغييرات والصدمات. في بعض الأحيان، قد يكون بيت شعر واحد، أو قطعة موسيقية، أكثر فعّالية في نقل حجم الدمار والخسارة والوجع من ألف تقرير إخباري! ولهذا، قد يكون إلغاء الأحداث الثقافية عند حدوث حدث سياسي هو حرمان الناس من منفذ للتأمل، أو مساحة للتعبير عن عواطفهم وأفكارهم، أبعد من المشاركة في الإضرابات والاحتجاجات. 

تحقيق التوازن بين الأحداث الثقافية في أوقات الحرب هو أمر صعب لا شك، ولكن بدلاً من إلغاء الأحداث الفنية، ربما يجب أن نجد طرقاً لتكييفها مع السياق الحالي وتعديلها لتناسب اللحظة، ما يوفّر مساحة للتواصل خارج الخطاب السياسي. لحظات المشاركة الثقافية، مثل قراءات الشعر والمعارض والأفلام، قد تكون حيوية للشعور بالطبيعية أو للتعبير عن الحزن العام وخلق مساحة يتقاطع بها الفن المشهد العاطفي والنفسي لمجتمع في حالة اضطراب وخسارة. يجب أن لا ننسى الثقافة الفلسطينية كانت دوماً جزءاً لا يتجزّأ من أشكال المقاومة، ووسيلة للحفاظ على الهوية، وتحدّي السرديات وتصوّر مستقبل حر؛ مقاومة لا تتفاعل مع الاحتلال والقمع فقط، بل تتخيّل عالماً يتجاوزه. الثقافة في كثير من الأحيان هي الشكل الأكثر ديمومة للمقاومة، وخاصة عندما يفشل الخطاب والفعل السياسي في تحقيق ذلك، فلطالما كانت الفنون والأدب والموسيقى الفلسطينية أعمال تحدٍّ وتأكيدًا للذات في مواجهة المحو.

لا شك أن هناك شعوراً ملموساً بخيبة الأمل بين العديد من الفلسطينيين في ما يتّصل بمثقفيهم ومؤسساتهم الثقافية، حيث يشعر كثيرون بأن النخبة الثقافية والفكرية بعيدة عن الاحتياجات الملحّة للمجتمع في الوضع الطبيعي، الأمر الذي ترك كثيرين يشككون في أهميتها في أوقات الأزمات. في ظل الانقسامات السياسية العميقة فلسطينياً، هناك كذلك إحباط شعبي، لأن الخطاب الفكري يبدو أكثر تفتّتاً من أي وقت مضى، وهذا التفتّت يُضعف الإرادة الجماعية لمواجهة التحديات الحالية والقادمة. عندما يكافح الناس من أجل البقاء، فإن العمل السياسي الفوري والتضامن يصبحان أكثر إلحاحاً من الخطاب الفكري والجهود الثقافية، وبالتالي، يجب توجيه كل الطاقات نحو ذلك. ولكن هذا التصور –على الرغم من أنه مفهوم– قد يخاطر بتقليل الدور الأوسع الذي يؤديه العمل الفكري والثقافي في التعامل مع الحاضر، وتشكيل رؤية للمستقبل. في حين أن إنهاء الحرب هي الأولوية، فإن التعبير الثقافي يقدّم أدوات أساسية لإعادة بناء الوحدة والشفاء وتصوّر مستقبل ما بعد الحرب. ولهذا، من المهم إعادة صياغة المشاركة الفكرية والثقافية باعتبارها مكوّنات حيوية للنضال ولاستمرارية الروح الفلسطينية، حتى في أصعب الأوقات.

في خضم الحرب المدمّرة على غزة، تؤدي الصحافة الثقافية دوراً مهماً في تضخيم الأصوات الفلسطينية، وسدّ الفجوة بين الخطاب الفكري والحقائق السياسية التي يعيشها الفلسطينيون، وهي وسيلة لمواجهة نزع الصفة الإنسانية عنهم، في الوقت الذي يتعرّض فيه النسيج الثقافي للهجوم؛ “فهذه أيضًا حرب خطابية. حرب تهدف إلى إبراز كلمات معينة، وسرديات معينة، وإسكات أخرى”، كما تقول لينا منذر في مقال لها على موقع مجلة المركز1. الحرب على غزة ليست مادية فقط، بل هي أيضاً معركة للتمثيل والسيطرة على السردية. في ظل التمثيل الخاطئ للفلسطينيين2 في وسائل الإعلام، والمحو المنهجي للتاريخ والثقافة الذي يحدث بالتوازي مع الدمار المادي في غزة، تصبح القدرة على سرد قصة أو رسم لوحة بمثابة عمل من أعمال المقاومة في حدّ ذاتها. 

الصحافة الثقافية ليست وسيلة لصرف الانتباه عن السياسية، ولا مجرد ترفيه –لا يوجد مشكلة أصلاً في كون الثقافة مصدرًا للترفيه-، بل أهميتها أعمق من ذلك بكثير؛ فالمشاريع والأعمال الثقافية هي جزء لا يتجزأ من فهمنا لهويتنا الجماعية، بدونها نفقد أداة نقد أساسية ليس لفهم سياستنا وتفسيرها فقط، بل وإنسانيتنا أيضاً. لا تخبر الصحافة الثقافية العالم بما يحدث حولنا وفي دواخلنا فقط، بل تذكرنا أيضاً بما يستحق النضال من أجله: الروح الدائمة للشعب وثقافته وحقه في الوجود. 

 
  1. Lina Mounzer, “Palestine and the Unspeakable,” The Markaz Review (16\10\2023), at: Palestine and the Unspeakable – The Markaz Review.
  2. UN rights chief warns of ‘dehumanization’ of Palestinians amid West Bank violence as Gaza crisis deepens | UN News.

The post الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أين نحن في السير قدما… https://rommanmag.com/archives/33477 Mon, 04 Nov 2024 08:37:10 +0000 https://rommanmag.com/?p=33477 في الأعوام الأخيرة، خطرت فكرة وتطوّرت بتأنٍّ، استغرقت زمناً تضمَّن العام الأخير الذي بطَّأ الشغل وشتَّت التركيز لهول المصاب، بالتسمّر أمام صوره وأخباره. كانت الفكرة بتطوير جوهري لمجلة “رمّان” الثقافية، بدأ ذلك بتسجيل مؤسسة غير ربحية مرخّصة في فرنسا، باسم Romman Culture. فتحنا لها حساباً مصرفياً فرنسياً، وبدأنا البحث في توسعة موارد المجلة، مع الحفاظ […]

The post أين نحن في السير قدما… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الأعوام الأخيرة، خطرت فكرة وتطوّرت بتأنٍّ، استغرقت زمناً تضمَّن العام الأخير الذي بطَّأ الشغل وشتَّت التركيز لهول المصاب، بالتسمّر أمام صوره وأخباره. كانت الفكرة بتطوير جوهري لمجلة “رمّان” الثقافية، بدأ ذلك بتسجيل مؤسسة غير ربحية مرخّصة في فرنسا، باسم Romman Culture. فتحنا لها حساباً مصرفياً فرنسياً، وبدأنا البحث في توسعة موارد المجلة، مع الحفاظ على المموّل الدائم والشريك، “بوابة اللاجئين الفلسطينيين”، الضامن للمجلة خطها التحريري، الوطني، وعدم الميوعة التي يُحدثها الارتهان إلى التمويلات الغربية.

تقدَّمنا بهدوء وما زلنا في بداية الطريق، لكن خطواتنا الأولى صارت خلفنا. المجلة الآن متاحة للدعم المالي غير المشروط، من أفراد ومؤسسات، عربية وأجنبية، تحت عنوان واحد، هو استقلاليتنا التحريرية، وهو ما عاينتُه في تحرير المجلة منذ إطلاقها عام ٢٠١٦، وما صار عنصراً هوياتياً في مضمون المجلة وشكلها لا مساومة عليه، وما أبقاها منسجمة مع مبادئها الأولى كما صرَّحتُ بها في نصِّ تعريف المجلة عن نفسها، وفي مقالات منفردة على طول الأعوام الثمانية من عمرها.

اليوم، تنطلق هذه النسخة الإلكترونية الجديدة، وهي تجديد بصري وتقني لم تنَله المجلة منذ إطلاقها الأول، متضمّناً تجديداً في لوغو المجلة للمرّة الأولى، مفتتحين إمكانات تقنية للمنصّة الجديدة لم تكن تستوعبها تلك القديمة، ومعلنين من خلالها أكثر مما هو تجديد، بل إعادة انطلاقة شكلية ومضمونية.

في الشكل، منذ يومها الأول اعتمدت المجلة على الصورة إضافة إلى النص، مع الوقت زاد التركيز على الصورة بوصفها عملاً فنياً لا يُرفق بالنص، بل يرافقه. في الأعوام الأخيرة زاد أكثر، مع فكرة أن المنصّة المقالاتيّة هي كذلك غاليري لأعمال فنية صارت من هوية المجلة. ولأن مواد بعينها تتطلب صوراً لا تكون أعمالاً فنية، أدخلنا أخيراً مجال التصميم إلى بعض المواد، وهو ما سيكون عنصراً بصرياً مضافاً إلى المجلة.

في المضمون، منذ انطلاقتها اعتمدت المجلة على مقالات الرأي الثقافي، وعلى التحام الثقافي بالسياسي، وعلى خطٍّ تحريري جريء وعصري ومحكم. وبحسب ما حاولتُ في ٨ أعوام من التحرير الصحافي، لم تحِد المجلة عن خطها في التماهي مع حق شعوبنا في الحرية الجمعية والحريات الفردية، في المقاومة والثورة، وذلك من موقع اليسار ومبادئه الإنسانية وانحيازاته إلى المستعمَرين والمستضعَفين والمفقَرين من أهلنا.

مع الانطلاقة الجديدة اليوم، في الذكرى السنوية الأولى للحرب الإبادية، وهي، لنكبويّتها، ذكرى لكارثة لا تزال في طور الحدوث والتكبّر والتوسّع، على فلسطينيين ولبنانيين في هذه المرحلة، وقد حاولنا منذ أشهر العمل على أن تكون الانطلاقة الجديدة في هذه الذكرى وإن تأخرنا قليلاً، لإضفاء قيمة معنوية لإعادة الإطلاق، في التحام تام مع شعبينا الفلسطيني واللبناني، كما كان الانطلاق الأول التحاماً تاماً مع الشعبين الفلسطيني والسوري، وهو مستمر بذلك متى استمرّت الكارثة لأي من الشعوب الثلاثة، مهما تحوّرت وتحوّلت. في المرحلة المقبلة إذن، ستشتغل المجلة أكثر على مضمونها وشكلها، وعلى تخصّصها الثقافي، وقد أعلنت عن بدء أولى مراحل التطوير من خلال المنصّة الإلكترونية، وابتكارات تحريرية بصرية في الآونة الأخيرة.

نحاول مع هذه المنصّة الإلكترونية توسِعة مصادر دخلنا، بإمكانية التبرّع مباشرة لحساب المجلة المصرفي. نحاول بناء فريق مهني أسسُه الأولى بدأت مسبقاً بالعمل، ونحاول الاشتغال أكثر على المقالات، صحّتها وجودتها، وإن تطلّب ذلك الحدّ من عددها. سنبقى مجلةً معنية بمقال الرأي والنقد والتعليق والدراسة، بالمقال المقروء يوم نشره، وأعواماً من بعده. ودائماً من موقع المجلة الثقافية الفلسطينية، شقيقة المشرقيين والعرب.

ولأول مرة، ستتخذ المجلة لنفسها شعاراً هو “نكتب لفلسطين”، ولهذه ستكون مقالة خاصة قريبة.

The post أين نحن في السير قدما… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أن تكون صحافيا ثقافيا في زمن التارجت https://rommanmag.com/archives/33467 Mon, 04 Nov 2024 07:22:31 +0000 https://rommanmag.com/?p=33467 في بعض الأوقات، تمنيت أن أكون صحافيًا في زمن الصحافي المصري الكبير عبد الفتاح الجمل، صاحب ومؤسس أشهر صحافة ثقافية مصرية، أفرزت صفحتها في جريدة “المساء المصرية” العديد من الأدباء الذين نشروا إبداعاتهم، وفي أوقات أخرى لعنتُ الظروف التي جعلتني أعمل صحافيًا في زمن المواقع الإلكترونية، حيث أصبح مصطلحا “التارجت” و “المُبيّت” الغالبين على نظام […]

The post أن تكون صحافيا ثقافيا في زمن التارجت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في بعض الأوقات، تمنيت أن أكون صحافيًا في زمن الصحافي المصري الكبير عبد الفتاح الجمل، صاحب ومؤسس أشهر صحافة ثقافية مصرية، أفرزت صفحتها في جريدة “المساء المصرية” العديد من الأدباء الذين نشروا إبداعاتهم، وفي أوقات أخرى لعنتُ الظروف التي جعلتني أعمل صحافيًا في زمن المواقع الإلكترونية، حيث أصبح مصطلحا “التارجت” و “المُبيّت” الغالبين على نظام العمل، والمهيمنين على كل شيء.

حينما التحقتُ بصحيفة اليوم السابع المصرية في عام ٢٠٠٨، لم تُتح لي فرصة لأن أتعلم الصحافة الورقية التقليدية المعتادة على أصولها، كما توارثتها أجيال وأجيال مرموقة الأسماء. صحيح أنه كان يعمل في المؤسسة القديران أكرم القصاص وسعيد الشحات، لكنني لم أتتلمذ مباشرة على أيديهما، بل كان مطلوبًا مني أن أصبح تِرسًا في إدارة آلة جهنمية عملاقة هي الموقع الإلكتروني للجريدة التي كانت حينها تصدر أسبوعيًا.

وأسميها آلة جهنمية لأن نظام العمل في موقع اليوم السابع كان يقتضي بأن يتلقى على مدار الساعة مواد تجعله باستمرار مُحدّثًا ومتابعًا ساعة بساعة، لأي موضوع، ولأي حدث، ولأي حادث، ولمجرياته، ومواكبًا ساعة بساعة التطورات، كل التطورات، سواء ما يجري من حدث يمت للسياسة، أو حتى في الأقسام الأخرى، مثل أخبار المنوّعات والمجتمع وأقسام الحوادث والفن.

نظرًا إلى هذا الإيقاع اللاهث من النشر الخبري المستمر، تصدّر الموقع الإلكتروني لليوم السابع قائمة المواقع الإلكترونية الأكثر متابعة في مصر، وجاء ترتيبه سادسًا بعد فيسبوك وتويتر ومواقع أخرى لا تمت لصناعة الصحافة بصِلة، وكان هذا يجعل رئيس التحرير الأسبق لليوم السابع فخورًا، يمشي في الأرض مرِحًا مختالًا بنفسه وبما يحققه من صناعة خبرية جديدة في مصر.

الصحافة الإلكترونية وأثرها في الصحافة الثقافية

كان هذا مطلع عام ٢٠٠٨، أو حتى منتصف، حينما انطلقت بدايات موقع اليوم السابع المصري -أكرر كلمة المصري كي لا يخلط أحد بينه وبين مجلة اليوم السابع الباريسية التي كانت تصدرها منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الفرنسية منذ عام ١٩٨٤- ولم تكن مصر وقتها تشهد تجارب صحافة إلكترونية كبيرة، أو مرموقة الشأن، بل كانت الصحف آنذاك تشهد نموًا دراميًا غير مشهود ولا مثيل له في وقتنا الحالي، وقت كتابة هذه السطور، إذ حرّر نظام مبارك -قبل اندلاع الثورة عليه بعقد- المجال للصحافة الخاصة بأن تحصل على تراخيص الصدور والطباعة، فظهرت تجارب متوثبة، أول ما فعلته أن انتقدت الحكومة بقسوة، وطال نقدها النظام نفسه، واستطاعت أن تلفت أنظار الناس إلى صناعة صحافية احتكرتها لعقود الصحف الحكومية التقليدية المؤممة منذ الستينيات، ودشّنت كذلك صحافتها الثقافية غير المعتادة، فنشر بعض شعراء جيل التسعينيات قصائدهم النثرية، ونشر قاصّو جيل التسعينيات قصصهم القصيرة غير التقليدية، التي جاءت لتدشّن عهدًا جديدًا في فن القصة القصيرة؛ قصة قصيرة حداثية لها طابعها، هذا وقتما كان نجيب محفوظ ينشر “أحلام فترة النقاهة” في مجلة “نصف الدنيا” الورقية التي تصدرها مؤسسة الأهرام المصرية العريقة.

هذه التجربة الأونلاين اللاهثة التي كانت تحاول أن تنافس منصات التواصل الاجتماعي التي تحوّل جزء منها ليكون مصدرًا للأخبار، كانت ترتكب على مدار الساعة الكثير من الأخطاء، منها بقاؤها في متاهة الخلو من النظرات التحليلية العميقة، التي اقتصرت فقط على أقسام وحيدة ونادرة، أما المعالجات للتقارير التي كانت تُنشر في العدد الأسبوعي فكان يكتبها بالطبع نفس الصحافيين المشغولين بضخ الأخبار في الآلة الجهنمية المسماة الموقع الإلكترونى لليوم السابع.

صار اللهاث هو نمط العمل، وكثرت الأخطاء، وكانت أحيانا مضحكة، من قبيل أن يبث محررو قسم المراجعة الذين ينشرون الأخبار في الموقع صوراً لا علاقة بها بمتون الأخبار، وأصبح الكل عبيداً بمعنى الكلمة الحرفي من أجل هدف سامي وحيد هو ضخ الأخبار، ثم ضخ الأخبار، ثم ضخ الأخبار.

في هذه الأجواء انضممت لصحيفة اليوم السابع لأعمل محرراً في قسم الثقافة، وبدأت أتعرف عن قرب عن تاريخ الصحافة الثقافية، وأقبلت بنهم على متابعة الملاحق الثقافية التي كانت موجودة، باعتبارها منافس طبيعي لنا، أو تلك التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب مشكلات التمويل للصدور الورقي، وبدأت أكتشف مزية أن تكون صحافياً يغطي الأخبار في قسم الثقافة ولا تنتظر جريدة لتنشر ما تكتبه أو تحوذ عليه من سبق صحافي، فما ستنشره “أخبار الأدب” بعد أسبوع، يمكنك الآن أن تنشره على الموقع الإلكتروني، ثم تنشر معالجات له، وردود أفعال، ولا تنتظر أبداً أن ترى مادتك منشورة في العدد الأسبوعي من الصحيفة، لأن الخبر سيكون قد مات، وما يجعله حياً هو المتابعات المستمرة.

تدريجيا بدأت استمتع بالعمل في القسم الثقافي، لأنني أدركت أن حدودي ليست مجرد كتابة خبر صدور كتاب جديد، أو مراجعة كتاب يتحدث عنه الناس، بدأت استمتع بكوني صحافيا حينما تعلمت معنى صنع خبر، ومن ذلك حينما حصلت ذات مرة على قوائم الكتب الممنوعة أو المستبعدة من المشاركة في معرض الكويت للكتاب، فإدارة المعرض تمارس عملا تقليديا هو “الفسح” أي إتاحة الكتب للعرض أو منعها، وهو إجراء رقابي تمارسه بعض معارض الكتب العربية، تمنح نفسها الحق في استبعاد الكتب التي تنتقد مثلا أنظمة عربية، لكن بعض إجراءات الفسح تشمل استبعاد روايات بأكملها، وكتب أدبية لأسماء مرموقة، وكان من المفارقات التي حققها هذا التحقيق الصحافي الذي نشرته، أن بعض الكتاب المصريين كانوا مدعوين بأجسادهم للمشاركة في ندوات بالمعرض، لكن كتبهم “مفسوحة” أي ممنوعة من أن تُباع.

صحافيو الثقافة واهتمامات الناس والنخبة

تقارير كهذه لم تملك مؤسستي أن تستبعدها من النشر ورقيا لصالح تقارير أخرى قادمة من وزارة الكهرباء، أو غيرها، لكنني مع الوقت تبين لي أيضا أن المؤسسات الصحافية الخاصة مثل “اليوم السابع”، وغيرها، كانت تضيق ذرعا كذلك بوجود صحفيي قسم الثقافة، وأننا كنا في نظر بعض الزملاء في الأقسام الأخرى صحفيي نخبة، ينشرون أخبارا ليست مهمة، كمراجعات لكتب، وحوارات مع مؤلفيها، كنا نجهز مثلا مواد وتقارير بعناوين جذابة، ونجتهد قدر الإمكان لتكون مثيرة وخلابة، ومحفزة للقارئ، ثم في ليلة رسم الجريدة تنفيذ الصفحات وتصميمها، نفاجأ أن رئيس التحرير قد قرر ببساطة الإطاحة بهذه التقارير ليستثمر مساحاتها في نشر تقارير يراها أهم من وزارة الكهرباء، أو الحكومة، أو الرئاسة، أو غيرها من الملفات المحلية، وحينما كنا نقارن تقاريرنا بتقارير الزملاء التي نُشرت في الصحيفة الورقية، كان ينتابنا اليأس والإحباط أن نرى تقاريرنا قد انتزعت وطُرحت أرضا لصالح توفير مساحات تُحشر فيها تقارير يتحدث فيها مصادر مجهولة عن ترقب لزيادة تعريفة الوقود مع العام المالي الجديد، أو غيرها من التقارير التي كان يحاججنا رئيس التحرير أو مديره بأنها تصب في اهتمامات الناس، أما تقاريرنا التي نتناول فيها شأنا ثقافيا فهي تصب في اهتمامات النخبة.

صفحة الثقافة الحائرة بين تمويل الصحف الخاصة والصحف الحكومية السيارة

منذ هذه اللحظة أدركت مدى ترف الصحافة الثقافية في نظر رؤساء التحرير والعاملين في المهنة، ومع ذلك لا يستطيعون أن يشيحوا بأنظارهم بعيدا عنا، مواد الثقافة مطلوبة كحطب لتشغيل الموقع الإلكتروني في قسم ضمن الأقسام الأخرى، لكن حينما نتحدث عن المساحة في الصحيفة الورقية، فإن صفحة الثقافة هي أولى الصفحات التي يُطاح بها من الجريدة الورقية إذا وقع أمر بالغ الخطورة تستوجب تغطيته مساحات أخرى في الجريدة الورقية، وإذا كانت الصحيفة محرومة من التمويل الحكومي، كأغلب الصحف الخاصة في مصر الآن، بل تسيطر عليها شركات هي واجهة لأجهزة الأمن والمخابرات، فلا يمكن لصفحة الثقافة أن تتعزز بثباتها وتحقق رسوخها، وتظل دائما تقاريرها موزعة بين الصفحة الأخيرة، أو أن تُدس داخل صفحات التقارير غير المهمة.

التارجت والمُبيَّت كنظام حاكم للصحافي في المواقع الإلكترونية

مصطلحا “التارجت” و “المبيت” اللذين استهللت بهما مقالي هذا، يحكمان عمل الصحافي في بعض المواقع الإلكترونية، كاليوم السابع والدستور والوطن، والمصري اليوم، إذ يُكلف الصحافيين بكتابة عدد تقارير لا يقل عن ٢٥ تقريرا خلال فترة دوامه التي تمتد لثمان ساعات، ويقدم مع هذه الحزمة من الأخبار التي تظل “تارجت” يجب عليه تحقيقه في فترة الدوام، حزمة أخبار أخرى تُعرف بـ”المُبيّت” أي الأخبار التي سينشرها مدير تحرير فترة الدوام الليلي، وهي أيضا يجب أن تكون حوالي سبعة أخبار يجهزها كل قسم، لتنشر على رأس كل ساعة خلال الليل، حتى بدء دوام الصباحي في الثامنة صباحا.

وحدها الصحف الحكومية التي أممها نظام عبد الناصر ـبمعزل عن فكرة التأميم وأثرها على كفاءة وحرية العمل الصحافي، وهذا ليس موضوع المقال- استطاعت هذه الصحف أن تُرسخ الثقافة كوجبة صحافية من حق قراء الصحيفة التهامها جنبا إلى جانب ما يطبخه صحافيو الأقسام السياسية والمجتمع والحوادث والفن، لذلك كانت تجربة الصحافي المصري الشهير عبد الفتاح الجمل الذي استهللت به مقالي هذا، تجربة فريدة لا تنسى ولا ينمحي أثرها، وإليها تنتمي كافة تجارب الصحافة الثقافية، وكذلك استمرت الملاحق الثقافية الصادرة عن المؤسسات الصحافية الحكومية في مصر كالأهرام وأخبار الأدب المصرية، وفي لبنان كالسفير والنهار -أسس قسم الصحافة الثقافية فيها الشاعر شوقي أبو شقرا الذي رحل عن عالمنا خلال كتابتي هذا المقال- وعربية أيضا الملحق الثقافي لجريدة الحياة اللندنية التي توقفت عن الصدور.

الصحافة الثقافية كوجبة مضمونة في الصحافة الممولة حكوميا

وإذا قصرت حديثي في هذه السطور عن الصحافة الثقافية الحكومية في مصر نظرا لمعرفتي الجيدة بشئونها، فإنها نجحت في الاستمرار طالما وجدت لها تمويلا حكوميا لا يحاسبها على جدوى نشر مقالات أو عروض كتاب أو حوارات مع كُتاب نشروا كتابا أو كتابين، ولا يضغط عليهم لتحقيق شرط نفاد الإصدار الورقي أو البحث عن أفكار أخرى لزيادة التوزيع، وبالتأكيد هناك معايير أخرى يُحاسب عليها صحافيو الأقسام الثقافية وأخبار الأدب ويفرض عليهم أن يتبعوها، كتقديم عدد محسوب من المواد كل أسبوع قبل موعد الإصدار، وفي حالة الملحق الثقافي لصحيفة الأهرام، فهناك دائما قصة قصيرة كبيرة الحجم تتصدر رأس الصفحة حتى منتصفها، وقصة أخرى أصغر منها في ذيل الصفحة، ومقال أو قصيدة ينشر معهما في الجانب الأيسر من الصفحة، وفي الصفحات التالية للملحق هناك تغطيات ومتابعات وحوارات قصيرة مع كُتاب.

المواقع الإلكترونية العربية وتحديات التمويل والأجور

بجانب ذلك هناك المواقع الإلكترونية العربية التي دشنت أيضا مساحات للصحافة الثقافية، أو كرست جل الموقع لأن يكون منصة ثقافية، كرمان الثقافية، الذي نقرأ فيه هذه السطور، أو كمواقع أخرى تمنح لمطالعيها وجبة ثقافية في شكل المقالات التحليلية، وتتفادى نشر أخبار الفعاليات، كالتنويه عن الندوات، والأمسيات مثلا، وأدى ظهور “رمان” وغيره من المواقع التي بها قسم للصحافة الثقافية إلى انتعاش الصحافة الثقافية الإلكترونية، فنشط العديد من الصحافيون العاملون في حقل الصحافة الثقافية لمراسلة هذه المواقع الإلكترونية، خاصة مع ما حققه بعضها من توفير أجور جيدة مقابل المقال، وبالعملة التي  جُبلنا على وصفها بـ ” الصعبة” وصارت شديدة الصعوبة والندرة في مصر الآن، وكما كانت أجيال من الصحافيين والكُتاب المصريين يراسلون مجلات وملاحق ثقافية عربية ويكتبون فيها، تحولت الأجيال الجديدة لمراسلة المواقع الإلكترونية العربية، لأن مصر خلت من مشروع صحافي إلكتروني يستطيع أن يدفع أجورا جيدة للصحافيين.

الأكثر قراءة والأعلى مشاهدة كتحدي خطير أمام منصات الصحافة الثقافية الإلكترونية

وبسبب مشكلات التمويل التي تعاني منها أغلب المشروعات الصحافية الإلكترونية الطموح، أو تذبذب هذا التمويل، بسبب عدم إيمان الممولين بضرورة تمويل مشروع صحافي إلكتروني ينشر فقط مقالات ثقافية، ولا ينشر أخبارا عن مؤسسات المُمول الصناعية- إذا كان رجل صناعة ولا يستطيع فصل التحرير عن الدعاية-أو شركات النشر التي تدير موقعا إلكترونيا، وتوجه الأولوية لتخصيص مكافآت النشر للصحافيين الكبار المشهورين، أو الكُتاب المرموقين، أو الصحافيين العاملين في أقسام السياسة والمجتمع والحوادث وتحظى تقاريرهم بمقروئية ملحوظة ويمكن التيقن منها عن طريق احتساب مرات التصفح من خلال خاصية Google Analysis وعليه صارت بعض المواقع تستكتب كاتبا وتستبعد آخر وفقا لما يحققه أسم الأول من مقروئية وتغطس مقالات الثاني في ثقب أسود تختفي فيه فرص رؤية المقال، ومطالعته وقراءته، ويتناسى أصحاب ومديرو الشركات التي تدير مواقعا صحافية، أن خوارزمية الانترنت تظل صعبة الفهم، ومحيرة، بل أن بعض المهن التي ظهرت وواكبت الصحافة الإلكترونية مثل مهنة ” السي إيه أو ” –كما لو كنا نقصد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية- هذه المهنة يمتهنها أشخاص يتلخص دورهم في إرشاد محرري الموقع الإلكتروني إلى كلمات مفتاحية تساعد على زيادة مشاهدة المقال، وتربطه بخوارزمية جوجل، وصار هذا الشخص مهيمنا بشكل أو بآخر على التحرير الصحافي في صالات تحرير المنصات الإلكترونية، حتى أنني اختبرت مرة حينما كنت أعمل مديرا للتحرير في موقع إلكتروني في مصر، كيف أن اشتراطات المدير بوسعها أن تضلل القارئ وتعطل القراءة، نتيجة إضافة العديد من الروابط في النص، بل كتابة عبارات ركيكة أحيانا في متن الموضوع، ليصيب خوارزمية جوجل ويظهر المقال في البحث بما يحقق ترتيبه في الأكثر قراءة ومشاهدة.

الصحافة الثقافية كوجبة منزلية مغذية في عالم يفضل التيك آواي

تخطو الصحافة الثقافية الإلكترونية في عالم يسخو بالتحديات ويضن بالحلول أو التقدير لاعتبارات غير آنية، ويعمل صحافيو المنصات الثقافية بين أجراس يحاذرون أن تقرع، أبرزها ضعف التمويل والأجور، وهيمنة المساحات الإعلانية على المساحات الإخبارية، وعدم النظر إلى الصحافة الثقافية باعتبارها وجبة منزلية يجب أن تُطهى على مهل لتشتمل على كافة العناصر المغذية، ولا يُجبها أو يلغي وجودها برامج “البوك تيوبر” أو صفحات أندية الكتب على السوشيال ميديا، أو مراجعات “جود ريدز”، فكل هذه هي وجبات سريعة التحضير لا تلغي وجود الصحافة الثقافية، ولا يكتفي منها الباحث عن مراجعة نقدية مكتوبة بصبر وأناة في موقع صحافي يطبق معايير الصحافة ويلتزم بالدقة في النشر وتصويب المعلومات، ويختبر المادة بتحريرها قبل نشرها، كما تواجه الصحافة الثقافية بجانب هذه المنافسات من منصات “البوك تيوبرز” و “أندية الكتب” و “جودريدز” أيضا مخاطر حجب المنصة الثقافية ككل في بلد من البلدان بسبب مقال ينتقد النظام الحاكم، إذا كان يتناول كتابا ما يستعرض سيرته، أو إذا كانت هذه المنصات تنشر موادا إخبارية وسياسية بجانب المواد الثقافية، وتعرضت للحجب بسببها، أمثلة على ذلك حجب موقعي “المنصة” و “مدى مصر” المصريين لمحتواهما السياسي، وحجب موقعي “المدن” اللبناني و “العربي الجديد” في مصر أيضا بسبب بعض ما ينشر فيهما وينتقد النظام المصري، وهذا يضعف المُضي في تنفيذ ملفات صحافية ثقافية، أو التحمس لأقسام الثقافة في هذه المواقع نظرا لضعف مشاهداتها للعوامل السابق ذكرها.

The post أن تكون صحافيا ثقافيا في زمن التارجت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جديد | المدينة – الدولة في الزمن القديم https://rommanmag.com/archives/21669 Wed, 23 Oct 2024 05:34:01 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%af%d9%8a%d9%85/ صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب “المدينة – الدولة في الزمن القديم” La Cité Antique، وهو كتاب متميِّز في طرحه؛ إذ يخالف فيه الفكر الغربي السائد الذي يتبنّى مقولة انبثاق الحضارة الغربية المعاصرة من حضارة الرومان والإغريق، منتقدًا تسليم العالم الغربي المعاصر بهذه الفكرة وتصرفه على هذا الأساس، مبيِّنًا بالأدلة ضرر […]

The post جديد | المدينة – الدولة في الزمن القديم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب “المدينة – الدولة في الزمن القديم” La Cité Antique، وهو كتاب متميِّز في طرحه؛ إذ يخالف فيه الفكر الغربي السائد الذي يتبنّى مقولة انبثاق الحضارة الغربية المعاصرة من حضارة الرومان والإغريق، منتقدًا تسليم العالم الغربي المعاصر بهذه الفكرة وتصرفه على هذا الأساس، مبيِّنًا بالأدلة ضرر هذا المعتقَد وفساده، وطرائق علاج الأضرار المترتبة عليه. الكتاب من تأليف المؤرخ الفرنسي نوما دوني فوستيل دو كولانج Numa Denis Fustel de Coulanges وترجمة حسين قبيسي. يقع الكتاب في 544 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

يتميز كتاب المدينة -الدولة في الزمن القديم بنقده مسلَّمةً سائدة في العالم الغربي، تربط جذريًّا ثقافة الغرب وتطوره وعلومه وفلسفته واجتماعه بشعبَين قديمَين هما الإغريق والرومان. ويبيّن استقلالَ كلٍّ من المجتمعين الإغريقي والروماني بحكم نفسه بنفسه وبقوانينه، على الرغم من أنهما من عرق واحد، وتكلُّمهما لهجتين متفرعتين من لغة واحدة، وامتلاكهما تاريخيًّا مؤسسات حكم بعينها، ومرورهما بسلسلة ثورات متشابهة. ويركّز على الفوارق الجذرية بين هذَين الشعبَين وشعوب الغرب الحالية، منتقدًا مقارنة النظام التعليمي والتربوي الغربي حياة الناس بحياة ذلكما الشعبَين القديمَين، والنظر إلى التاريخ المعاصر من خلال تاريخهما، وتفسير ثوراتهما بالثورات الحالية، لجعل الناس يظنون أنهم شبيهون بهما، ويجدون صعوبة في اعتبارهما شعبَين أجنبيَين. ويرى المؤلف أن هذا النهج أوجد أخطاء استجرّت أخطارًا، مثل بلبلة الفكرة المزروعة عن اليونان لتفكير الأجيال التي لم تتفهم جيدًا مؤسسات المدينة القديمة، بتصور خاطئ يتمثل في أن استعادة المؤسسات الإغريقية القديمة يبعثها حية في الحياة المعاصرة، مع ما يشوب ذلك من أوهام في شأن حرية القدماء عرّضت حرية المعاصرين للخطر. فقد أثبت الزمن أن إبقاء عصور الإغريق والرومان القديمة نصب أعين الجيل المعاصر شكّل إحدى الصعوبات المستعصية التي تعيق مسيرة المجتمع الحديث.

الحل والعلاج بعد تشخيص الداء

أما حلّ المشكلة المطروحة، فإنما يكون في رأي المؤلف بمعرفة حقيقة هذين الشعبين، وذلك بدراسة الشعوب المعاصرة إياهما من دون التفكير في نفسها، وفي لامبالاة، وبالنظر إليهما بصفتهما شعبَين غريبَين تمامًا، وبالنزاهة نفسها التي تُدرس بها الهند القديمة، أو شبه الجزيرة العربية. فعندها فقط ستمتاز اليونان وروما في رأي الكاتب بطابع فريد، وسيبدوان للدارسين مادة خامًا لا شبيه لها. ومن ثمّ، لا بد أن يتبين لهم بوضوح أكبر أن القوانين والقواعد التي حكمت هذَين المجتمعَين لم يعد في وسعها أن تحكم البشر.

سؤال وجوابه

إذا كانت ظروف حكم الناس لم تعد، في رأي الكاتب، كما كانت عليه قديمًا، فكيف حدث ذلك؟

الجواب: إن التغيرات الكبرى التي تعتري تكوين المجتمعات مع الزمن لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، أو نتيجة القوة وحدها، بل إن مصدرها مغروس بقوة في الإنسان. فحينما تغيرت قوانين الاجتماع البشري عما كانت عليه في العصور القديمة، عنى ذلك أن الإنسان وفكره وفهمه في تغيُّر من عصر إلى آخر؛ فالعقل في حركة دائمة، تفرض على الفكر تقدّمًا مستمرًّا، يعدِّل المؤسسات والشرائع بطريقة لا تسمح باستمرار سوْس الناس كما كانت تُساس من قبل.

جَوْر المؤسسات القديمة وما شذّ فيها

يبيّن المؤلف أن النظر في مؤسسات القدماء دون معتقداتهم يجعل الإنسان يرى العجب العجاب من الأمور الشاذة والجائرة: أرستقراطية وعامة، زعماء وأتباع، فروق بين الطبقات تولد مع الأشخاص منذ ولادتهم، منع بيع الأرض في كورنثيا وطيبة، لامساواة في الميراث بين الأخ والأخت في أثينا وروما، تفريق فقهاء القانون بين قرابة العصب Agnation (أي التي من طريق الأب) وقرابة العشيرة Gens. ثم يتساءل: ما فائدة تلك الثورات القديمة في القانون والسياسة؟ وما طبيعة ما يسمى “الروح الوطنية” التي كانت أحيانًا تمحق العواطف والمشاعر؟ وهل كان هناك للحرية – التي لا ينقطع الحديث عنها – معنى حقًّا؟ وكيف أمكن مؤسسات أن تنشأ وتسود زمنًا طويلًا وهي بعيدة جدًّا عن كل ما لدينا اليوم من أفكار حولها؟ ثم أخيرًا: ما المبدأ الأعلى الذي منح تلك المؤسسات سلطة على عقول البشر؟

قوانينهم صلُحت لزمانهم

بوضع المعتقدات إزاء المؤسسات والشرائع تتضح الأمور، فمن خلال المؤسسات التي أرساها هؤلاء القوم في العصور الأولى انطلاقًا من مفاهيمهم للإنسان والحياة والموت والحياة الأخرى والقداسة… وغيرها، يمكن إدراك العلاقة القوية بين تلك المفاهيم وقواعد القوانين القديمة التي نتجت منها، وبين الشعائر والطقوس المتفرعة عن تلك المعتقدات والمؤسسات السياسية، وأن الدين الأولي كان أساس تكوين العائلة الإغريقية والرومانية، وأرسى قواعد الزواج والسلطة الأبوية، وحدد مراتب القرابة، وكرّس حق الملكية وحق الوراثة، وأسس تضامنًا أوسع هو المدينة، فحَكمها وسادها، ومنه جاءت مؤسسات القدماء وقوانينهم، واستُمدت مبادئ المدينة وقوانينها وعاداتها وقضاؤها. لكن مع مرور الزمن، زالت تلك المعتقدات القديمة، أو تغيرت، فتغيرت معها المؤسسات السياسية والقانون الخاص، وإذاك وقعت سلسلة الثورات، فتوالت التحولات الاجتماعية التي حدثت في الأفكار والأفهام.

وبناء عليه، فإنه يجب قبل كل شيء دراسة معتقدات هذَين الشعبَين في عصورهما الزاهية، وخصوصًا الأكثر قدمًا فيها. فهل ثمة أمل في الوصول إلى معرفة هذا الماضي السحيق؟ وهل مَن سيخبرنا بما كان يعتقده البشر قبل عشرة قرون، أو خمسة عشر قرنًا من عصرنا هذا؟ وهل يمكننا أن نعثر على ما لم يمكن العثور عليه أو الإمساك به من الأفكار والمعتقدات؟ نعرف مثلًا معتقدات الآريين الشرقيين قبل خمسة وثلاثين قرنًا من خلال أناشيد فيدا القديمة جدًّا وشرائع مانو، ولكن أين هي أناشيد الهيلينيين وكتبهم الدينية الموغلة في القدم، التي نعرف امتلاكهم إياها مع أنه لم يصل منها شيء إلينا؟ وأي ذكريات يمكن أن تبقى لنا من أجيال لم تترك لنا نصًّا مكتوبًا؟

لحسن الحظ، لا يموت الماضي عند الإنسان موتًا تامًّا. يمكن الإنسان أن ينساه، لكنه يبقيه على الدوام في أعماق نفسه، فالإنسان في كل زمان خلاصة للأزمنة السابقة، وإذا تعمق في نفسه أمكنه استعادة العصور المختلفة وتمييزها. فها هم إغريق بريكليس ورومان شيشرون يحملون في نفوسهم آثارَ القرون الغابرة ويمتلكون مخيلةً مترعة بأساطير الزمن السحيق ولغةً تعبّر عن معتقدات العصور الغابرة؛ إذ إن جذر كلمة ما يمكن أحيانًا أن يمتلك معنى معتقد أو عادة قديمَين، والكلمات تبقى شاهدة على معتقدات اندثرت وبادت. كان الإغريق والرومان يمارسون طقوسًا لتقديم القرابين في مناسباتهم أقدم منهم، ولو أنها لم تعد تستجيب لمعتقداتهم، وكذا حال الناس على الدوام، إذا يمارسون طقوسًا ويرددون عبارات تدل على معتقدات سابقيهم قبل خمسة عشر أو عشرين قرنًا.

The post جديد | المدينة – الدولة في الزمن القديم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جديد | هيغل وهايتي والتاريخ العالمي https://rommanmag.com/archives/21668 Wed, 23 Oct 2024 05:30:46 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d9%87%d9%8a%d8%ba%d9%84-%d9%88%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%aa%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a/ صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان” كتاب “هيغل وهايتي والتاريخ العالمي” ‏‎Hegel, Haiti ‎and Universal History‎، وهو ترجمة لأصل إنكليزي صدر عام 2009 ‏للفيلسوفة الأميركية سوزان باك-مورس ‏‎Suzan Buck-Morss ضمّنته مقالتَين لها، الأولى في دورية كريتيكال إنكوايري ‏‎Critical Inquiry‎‏ ‏الأميركية، والثانية احتوت ردودًا على انتقادات للمقالة الأولى وتوضيحات لمقاصدها، كما وضعت مقدمة للكتاب ومدخلًا توضيحيًّا […]

The post جديد | هيغل وهايتي والتاريخ العالمي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان” كتاب “هيغل وهايتي والتاريخ العالمي” ‏‎Hegel, Haiti and Universal History‎، وهو ترجمة لأصل إنكليزي صدر عام 2009 ‏للفيلسوفة الأميركية سوزان باك-مورس ‏‎Suzan Buck-Morss ضمّنته مقالتَين لها، الأولى في دورية كريتيكال إنكوايري ‏‎Critical Inquiry‎‏ ‏الأميركية، والثانية احتوت ردودًا على انتقادات للمقالة الأولى وتوضيحات لمقاصدها، كما وضعت مقدمة للكتاب ومدخلًا توضيحيًّا قبل كل مقالة. ترجم الكتاب إلى العربية علي حاكم صالح، وهو يقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا ‏عامًّا‏.

في صيف عام 2000، نُشِرت مقالة لباك-مورس في دورية كريتيكال إنكوايري بعنوان “هيغل وهايتي” ” “Hegel and Haitiوسرعان ما اعتُبرت حدثًا فكريًّا فريدًا وأثارت ردود أفعال مؤيدة ومناهضة في الوقت نفسه؛ إذ ‏قامت المؤلفة بجولة في الفهارس الفنية، والدوريات السياسية، والترجمات من اللغات الأجنبية، ومدوّنات الإنترنت، والصحف ‏العمالية، وقاعات الدرس. وهي وإن استجابت لتشكيلات الزمان والمكان غير المألوفة التي رسمتها، وتناغمت مع ‏كيفية عيش الغربيين حَيَواتهم تناغمًا أكبر منه مع تواريخ ماضية، فقد أثارت جدلًا بالرغم مما ‏نالته من استحسان غير كلّي من نقاد المركزية الأوروبية، وإطراء على الانزياح الذي أحدثته في مركز تراث ‏الحداثة الغربية، كما انتُقدت لاقتراحها إنقاذ المقصد الكوني للحداثة عوضًا عن الدعوة إلى تعدد حداثات مغايرة، فبدا ‏لبعضهم أن اقتراح بعث مشروع التاريخ الكوني من رماد الميتافيزيقا الحديثة تواطؤ مع الإمبريالية الغربية، أو الأميركية ‏على نحو أدق.‏ وردًّا على هذا النقد كتبت باك-مورس مقالة ثانية بعنوان “التاريخ العالمي” “Universal History”، سعت فيها إلى تطوير القضايا الخلافية في المقالة ‏الأولى وإلى كتابة التاريخ باعتباره فلسفة سياسية، وجمعت المقالتين في الكتاب ‏الذي بين أيدينا وعنونته هيغل وهايتي والتاريخ العالمي.‎

استراتيجية باك-مورس وهدفها

تدعو المؤلفة إلى استراتيجية جديدة تتمثل في تعديل شعار ‏‎”‎فكِّرْ كونيًّا واعملْ محليًّا‎”‎، وفي معرفة معنى ‏‎”‎التفكير كونيًّا‎”‎، وتقترح طرائق لتطوير هذه الاستراتيجية، منها، على سبيل المثال، ‏تغيير اتجاه بوصلة المعطيات التاريخية الخاصة إلى حيث التاريخ الكوني، والهدف ‏الأخير ليس التشابه من دون اختلاف، ولكن خوض الصراعات السياسية من ‏دون تصورات مسبقة تكبّل الخيال الأخلاقي.‏

وتصرِّح باك-مورس بأن مقالتيها تقعان عند الحد الفاصل بين التاريخ والفلسفة، ‏وتقترحان فهمًا للتاريخ الكوني يتميز من فهم هيغل النسقي للماضي، ومن ‏ادعاء هايدغر الأنطولوجي بأن التاريخانية هي جوهر الكينونة، وتجعلان التاريخَ ‏الكوني تفكّرًا فلسفيًّا متجذرًا في الوجود المادي يسلِّط الضوء على الحاضر ‏السياسي‎.‎

كما تعتبر الكاتبة أن إحدى خلاصات المقالة الثانية في كتابها هي أن مساهمة ‏التاريخ الأميركي في مشروع التاريخ الكوني اليوم بفكرة استغناء المشاركة ‏السياسية الجماعية عن العادة أو الإثنية أو الدين أو العرق، مستمدة من تجربة ‏العبودية في العالم الجديد وليس من الإمبريالية الأميركية، وهي مقالة، برأيها، تحطم ‏الحواجز بين “الفهم المفاهيمي” والخيال الأخلاقي في الحاضر.

سميث وهيغل وانقلاب الاهتمامات

في كتاب هيغل وهايتي مدخلٌ يتتبع سنوات البحث التي قادت إلى مقالة ‏‎”‎هيغل وهايتي‎”‎؛ ما يبيّن ‏أن المؤلفة لم تكن في وارد كتابته، بل كانت في نهاية الحرب الباردة مشغولة بأيديولوجيا النيوليبرالية المهيمنة، ‏وبـ‎ “‎الاقتصاد‎”‎‏ حين كان موضوعًا لتبجيل صنمي، وبنظريات الاقتصاد السياسي الفكرية المثيرة في ‏أوروبا لدى آدم سميث ‏Smith‎‏ ‏‎Adam‎‏ والتنوير الإسكتلندي ‏‎Scottish Enlightenment‎‏، ‏وفي مجادلات الفلاسفة، وخصوصًا كارل ماركس Karl Marx. وقد أحدث السؤال الآتي انقلابًا في اهتماماتها، وهو أنه إذا لم يكن ثمة من يقرأ الدوريات الاقتصادية من أجل التسلية، فكيف نفسر ‏الإثارة الهائلة التي استُقبل بها كتاب آدم سميث ثروة الأمم ‏‎Wealth of Nations‎؟ نجد الجواب في كتابات ‏هيغل، فنصوصه تُظهِر تأثره العميق بالكتاب، وخصوصًا دعوة سميث إلى تقسيم العمل إلى مهمات صغيرة، ‏الذي كان هيغل يعتقد أن له القدرة على تبديل شكل الحياة الاجتماعية، وبدأ ‏يشير في كتاباته إلى “الاقتصاد الجديد” أساسًا لفلسفة الدساتير، كما أنه رصد بدقة في الحياة ‏الاجتماعية وقتذاك ما ندعوه اليوم “الحداثة”، ونذر نفسه لفهم الدلالة الفلسفية لهذا التحول. ‏

كان هيغل أولَ فيلسوف يصف السوق العالمي اللاإقليمي للنظام الاستعماري الأوروبي، الذي لم تعد ‏الاعتمادية فيه توفِّر أساسًا لقبول مشترك بقوانين الحكومة، بل لمجتمع اقتصاد سياسي وفق تصوُّر سميث ‏لـ “المجتمع الجديد”، الذي لم يعد جماعة عرقية ولا عشيرة تجمعها القرابة؛ أي إن الاقتصاد والأمة لم يعودا متوافقين، ‏فقد رأى سميث الاقتصادَ الاستعماريَّ مدمرًا للدولة القومية؛ إذ هو توسعي وهي تضع القيود، وفي هذا من التعارض ما يرى هيغل أنه ‏يُنتج مجتمعًا شكْلُ دستوره السياسي مختلف عن الاعتماد المتبادَل، ويوفّر تصحيحًا أخلاقيًّا للّامساواة الاجتماعية يمكِّن ‏من خلاله كلٌّ من المجتمع المدنيِّ والدولةِ، انطلاقًا من تعارضهما المتبادَل، مجتمعًا يتحدى تراث التنوير البريطاني ‏والفرنسي في أكثر أسسه قدسية‎:‎‏ حالة الطبيعة. إنه مجتمع يعارض نظرية العقد الاجتماعي لدى توماس هوبز Thomas Hobbes وجون ‏لوك John Lock وجان جاك روسو Jean-Jaques Rousseau، التي تتصور الفرد الحر والمستقل والمتمتع بحريات طبيعية نقطةَ بداية لأي تأمل فلسفي. وانطلاقًا ‏من كلام هيغل عن “المجتمع الجديد”، فإنه يتطرق للمرة الأولى إلى الحديث عن العلاقة بين ‏‎”‎السيد‎”‎‏ و‎”‎العبد”، فما ‏علاقتهما بالاقتصاد العالمي الجديد؟ وهل يستعين هيغل بأرسطو هنا؟ وما علاقة وصفه الجانبَ ‏المحلي من الثورة الفرنسية مجازيًّا بـ “العبودية” بتجارة السلع؟

يقدِّم هيغل صورة للعبيد يصارعون لإطاحة عبوديتهم وإقامة دولة دستورية في ‏هايتي قبل مئتي سنة من الآن، والتي أسست أول جمهورية مستقلة للسود في العالم، وهنا مفصل يرى فيه هيغل تحققًا ‏للحرية، حين انبثق الاعتراف المتبادَل بين الأكفاء في هايتي، وأظهر العبيد قدرتهم على أن يصبحوا ‏فاعلين نشطين في حركة التاريخ من خلال صراعهم ضد العبودية بعد نسيان استمر قرنين، وهنا تحديدًا يظهر “اللغز” ‏الذي يحفز مقالة ‏‎”‎هيغل وهايتي‎.”‎

تقع الثورة الهايتية ‏عند تقاطع قناعاتٍ متنوعة في العالم بوصفها لحظة ‏حاسمة في التاريخ، فبعد قراءة كتب كثيرة عنها سيكون مستنكَرًا اعتبار صامويل ‏هنتنغتون Samuel Huntingtonإياها على هامش تاريخ الحضارة، وأنه لا يجمعها قاسم ثقافي مع المجتمعات الأخرى.‏

هل كان هيغل يعرف وصَمَتَ؟

يُنسَب الفضل في كشف استلهام هيغل أحداث سان دومانغ ‏Domingue‎‏ ‏‎Saint‎‏ التسمية الفرنسية لهايتي ‏قبل حصول الهايتيين على استقلالهم عام 1804 إلى‎ ‎‏ سلسلة مقالات كتبها بيير فرانكلين تافاريس ‏‎Pierre ‎Franklin Tavares‎‏ في تسعينيات القرن العشرين عن تأثر هيغل – ‏‎”‎المنشغل‎”‎‏ بقوة بمسألة العبودية – بما كتبه ‏الأباتي رينال ‏Raynal‎‏ ‏‎Abbé‎‏ عن تاريخ جزر الهند وتعرُّفه فيه إلى العبودية في الكاريبي، كما استنتج ‏نيكولاس نسبيت ‏‎Nicholas Nesbitt‎‏ من قراءته أصول فلسفة الحق‏‎Grundlinien der ‎Philosophie ‎‏ لهيغل‎ ‎أنه نص “تقدّمي” يقدم أول تحليل عظيم للثورة الهايتية من حيث ‏‎”‎تحليله ‏ودفاعه الجذري عن حق العبيد في الثورة”. ويتضح من كلام الكاتبَين اتفاقُهما على وضوح الصلة بين هيغل وهايتي، لكنّ ‏نسبيت تتبّع من خلال أعمال إيميه سيزير ‏‎Aimé Césaire‎‏ مفهومَ الزنوجة ‏‎Negritude‎‏ القائم على ‏‎”‎تجربة الخضوع والاستعباد‎”‎، معتبرًا تحرر عبيد الثورة الهايتية أمرًا ذا رمزية ‏‎Emblematic‎‏. ‏

تنقل باك-مورس قول أحد أساتذة الفلسفة لها إنه لن يغيّر طريقة تدريسه هيغل ولو اقتنع بأن هايتي كانت في ‏ذهنه وهو يكتب، ثم تُعقِّب بالقول إن هذا المنظور بالذات هو ما أرادت زعزعته، معتبرةً أن تعثُّر الباحثين في ‏فلسفات الحرية الحديثة هو بسبب جهلهم تاريخَ هايتي، وأنه لا يمكن فصل فلسفة هيغل عن مكبوتاته. ‏

ولكن لماذا لم يناقش هيغل أحداث هايتي صراحة في نصوصه؟ وهل كان مسؤولًا ‏عن الصمت عن الثورة الهايتية؟

يُرجع نسبيت ذلك إلى أن هيغل كان يُحيل في نصوصه لقرّائه ما يُفهمهم المغزى، أما تافاريس فيزعم – نقلًا عن جاك دونت ‏‎Jacques D’Hondt‎‏ – أن صمت هيغل ‏هذا، الذي يجعل قراءة هيغل قراءة باطنية ضروريًّا، ناتج من صلاته بالماسونية، التي كانت تشترط السرية على أعضائها، ‏فقد كان هيغل قارئًا مداومًا لدورية مينرفا الماسونية، كما كانت سيبيل فيشر ‏‎Sybil Fisher‎‏ على صواب في قولها إن قطع هيغل مناقشته لجدلية السيد والعبد أدى إلى نشوء أعمق الاختلافات ‏في الكتابة عند هيغل‎.‎‏ ‏

ومنهم من أرجع صمت هيغل، كتيري بنكارد ‏‎Terry Pinkard‎‏ في السيرة التي خطّها عنه، إلى البؤس ‏الذي عاشه‎:‎‏ بلا مال، بلا عمل، مع امرأة هجرها زوجها وطفلها.. ورجل بهذه الحال لم يكن ليضمِّن عمله ‏إشارات إلى هايتي لا تحبّذها السلطات الألمانية ولا نابليون فيعرِّض نفسه للاعتقال؛ ما دفعه إلى قبول وظيفة في ‏صحيفة بامبرغ تسايتونغ ‏Zeitung‎‏ ‏‎Bamberger‏ المؤيدة لنابليون.‏

The post جديد | هيغل وهايتي والتاريخ العالمي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
صرخة من تحت الركام: إضاءة على واقع النساء في غزة https://rommanmag.com/archives/21667 Mon, 21 Oct 2024 11:49:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b5%d8%b1%d8%ae%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%aa%d8%ad%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%83%d8%a7%d9%85-%d8%a5%d8%b6%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%88%d8%a7%d9%82%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b3-2/ اثنان وأربعون مليون طنٍ، تعادل أكثر من وزن برج خليفة بثمانين ضعفًا، هي كمية حطام الحرب الذي ترزح غزة تحته اليوم، ونحن على بعد أيام من منعطف العام الثاني للعدوان الإسرائيلي الذي استهدف وانتهك كل ما هو فلسطيني، وشكّل امتداداً لسلسلة طويلة من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والممنهجة على قطاع غزة، حتى صار يُنظر إليه […]

The post صرخة من تحت الركام: إضاءة على واقع النساء في غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
اثنان وأربعون مليون طنٍ، تعادل أكثر من وزن برج خليفة بثمانين ضعفًا، هي كمية حطام الحرب الذي ترزح غزة تحته اليوم، ونحن على بعد أيام من منعطف العام الثاني للعدوان الإسرائيلي الذي استهدف وانتهك كل ما هو فلسطيني، وشكّل امتداداً لسلسلة طويلة من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والممنهجة على قطاع غزة، حتى صار يُنظر إليه بوصفه الأكثر همجية في التاريخ الفلسطيني. وذلك كلّه تم في ظل حصار مطبق يحصد الأرواح ويحول دون وصول الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية والدوائية، ويجعل من إرث غزة وتراثها وهويتها وحضارتها ومبانيها وطرقاتها ركاماً يختزل المدينة، بمكوّناتها وحيواتها، في كومة حطام لمّا تزل تنتهك جثامين الشهداء وتشكل خطراً محدقاً على الجميع. بل إن معظم المباني السكنية التي كان قد أُعيد إعمارها مؤخراً، قُصفت ودُمّرت على رؤس ساكنيها، وأُجبِر من بقي منهم على قيد الحياة على النزوح نحو أماكن لا يمكن القول إنها أكثر أماناً من مساكنهم المدمرة، ليصبح ما يزيد على 1.8 مليون مواطن من سكان غزة، معظمهم من النساء والأطفال، بلا مأوى، وباتوا يفتقرون أساسيات الحياة.

عشية العدوان الإسرائيلي الهمجي، كان يقيم في قطاع غزة نحو 2.2 مليون فردٍ، منهم أكثر من مليون طفل يشكّلون ما نسبته 47% من مجموع السكان. في حين تشكل الإناث ما نسبته 49.3%، أي حوالي 1.10 مليون نسمة من مجمل سكان قطاع غزة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وهذه الإحصائيات تساهم في تفسير تعاظم تأثّر النساء والأطفال بويلات العدوان، وما ساقته الحرب من خراب ودمار غير مسبوق، في انتهاك صارخ للقانون الدولي ولحقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق المرأة والطفل بشكل خاص، إذ يمكن ملاحظة أن شهداء غزة في معظمهم من النساء والأطفال، ويشكلون نحو 69% من إجمالي عدد الشهداء الذي زاد على 42 ألف شهيدٍ، بينهم حوالي 16,700 طفل، ونحو 11,300 امرأة. ليس هذا فحسب، بل إن هناك تصوراً بأن هاتين الفئتين هما الأشد تضرراً وتأثراً بالعدوان الإسرائيلي واستهداف البنية التحتية، وهدم المباني والطرقات والجامعات والمدارس والوحدات السكنية وتدميرها، كونهم الأكثر استفادة ومكوثاً في المسكن ومؤسسات التعليم.

ومما لا شك فيه أن العدوان الأخير على قطاع غزة، إضافة إلى الاعتداءات المتصاعدة والانتهاكات المتكررة لمدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها، التي تشهد تكراراً لنماذج الخراب المهيب والممنهج، أدى إلى نتائج وخيمة ألقت بظلالها على البنية التحتية، وخلّفت تدمير المباني العامة والمساكن وتخريبها، كذلك المنشآت الاقتصادية والزراعية والتعليمية، ودور العبادة والمؤسسات الصحية في فلسطين عموماً. ورغم عدم وجود بيانات دقيقة شاملة حول نوع الضرر الذي تسبب ويتسبب به العدوان الإسرائيلي وحجمه وطبيعته، وخصوصاً في قطاع غزة، فإن هناك أرقاماً أولية صادرة عن بعض التقارير الحكومية، إضافة إلى التقديرات التي تستند إلى البيانات الصادرة عن العديد من المؤسسات الدولية والأممية. ويظهر منها أن قطاع غزة قد تعرض لأضرار كبيرة في بنيته التحتية خلال الأشهر الأخيرة، إذ تشير التقديرات الأولية إلى أن حوالي 65% من شبكة الطرق في قطاع غزة جُرّفت ودُمّرت، أو تعرضت لضرر مباشر، ما أدى إلى تعطيل حركة النقل والمواصلات بشكل كبير، وأنتج حوالي 3.6 مليون طن من ركام الطرق المدمرة الموزّعة على امتداد القطاع.

أما على صعيد استهداف المساكن الآمنة وما يتصل بذلك من تهجير وترويع للمواطنين، فتشير التقديرات المختلفة والتقارير المستندة إلى مراجعة بيانات وصور الأقمار الصناعية وتحليلها إلى أن حوالي 300 ألف وحدة سكنية، تشكّل نحو 60% من إجمالي الوحدات السكنية في قطاع غزة، قد تعرّضت لأضرار متفاوتة، بما في ذلك أكثر من 200 ألف وحدة سكنية دُمّرت بالكامل، أو تعرضت لأضرار بليغة ولم تعد صالحة للسكن. كما أن هناك تدميراً وضرراً مباشراً متفاوتاً مسّ نسبة كبيرة من المباني والمنشآت والمباني العامة. وبحسب التقارير المختلفة، يظهر أن الضرر والتدمير قد لحق بنحو 200 مقر حكومي في مختلف أنحاء قطاع غزة، إضافة إلى ما يزيد على 450 مدرسة وجامعة، وأكثر من 800 دار عبادة، وحوالي 280 مؤسسة صحية ومستشفى ومستوصف.

ويبدو أن كثافة الركام تتركز في شمال القطاع، حيث وصلت مخلّفات الدمار إلى أكثر من 15 مليون طن في مدينة غزة، وحوالي 9 مليون طن في شمال غزة، إضافة إلى نحو 8.5 مليون طن في خان يونس، ثم في رفح ودير البلح، اللتان شهدتا تراكم حطام يقدّر بنحو 3.7 و2.4 مليون طن تباعاً. كما أن هناك تصورات أولية تشير إلى وجود جثامين وأشلاء ما يصل إلى عشرة آلاف شهيد تحت الأنقاض، إضافة إلى نحو خمسة آلاف مقذوف لم تنفجر، وتشكّل قنبلة موقوتة وخطراً محدقاً بالمواطنين الساعين لإنقاذ ذويهم أو إخراج رفاتهم من وسط الدمار، مستخدمين في ذلك وسائل ومعدّات تقليدية، قد تفاقِم الخطر في ظلّ عدم وجود آليات وفرق متخصصة للتعامل مع هذه المواد.

ولا يخفى على أحد تركّز مشاهد العنف والدمار في مدينة غزة، هناك، حيث خفت صوت هند رجب ذات الأعوام الستة على مرأى العالم ومسمعه في حي تل الهوى، بينما كانت موظفة مركز اتصال الطوارئ التابع للهلال الأحمر الفلسطيني تحاول تهدئتها وطمأنتها، قبل أن يختفي صوتها إلى الأبد. ويبدو أن استهداف النساء والأطفال يشكّل استهدافاً ممنهجاً، وجزءاً لا يتجزأ من مساعي المحو الديموغرافي والإبادة الجماعية التي تمارسها السلطة الاستعمارية، في ظلّ استشعارها للخطر الوجودي الذي تتسبب به الزيادة السكانية الفلسطينية، وخصوصًا في قطاع غزة. ويمكن ملاحظة كيفية استهداف الأطفال والنساء المنجبات، جنباً إلى جنب مع المساعي المتكررة لاستهداف مختلف فضاءات غزة ومبانيها، ومحاولات طمس الإرث والتراث والهوية، وضرب البنية التحية، لتكون النتيجة بالضرورة محواً شاملاً للوجود الفلسطيني وكل ما يتصل بالذات والكيانية الفلسطينية. وتوضح التقارير الأممية أن النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة يواجهن مخاطر عالية بسبب عدم توفر الرعاية الصحية والتغذية الكافية لهن. وتشير التقارير إلى وجود أدلة حول قيام الأمهات والنساء البالغات بتولّي مسؤولية جلب الطعام وتحضيره لأسرهن، لكنهن غالباً ما يكنّ آخر من يأكل في الأسرة، وأقله، أو يتخطّين تناول وجبة واحدة على الأقل لإطعام أطفالهن، ما يهدد صحة الأمهات والمواليد.

وفي الوقت الذي تعاني فيه النساء الآثار النفسية لاستهدافهن المباشر أو استهداف أفراد عائلاتهن، يظهر جليّاً دور المرأة وحضورها جنباً إلى جنب مع الرجل في ما بقي من مظاهر الحياة في قطاع غزة، فشغلت حيّزاً واضحاً خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وما تشهده غزة من قهر وتدمير وتجويع وحصار ممنهج، وبرزت باعتبارها قوة ملهمة ومؤثرة ومتصلة بمسار حركة المجتمع وواقعه. وكان ذلك سواءً من خلال صمودها وثباتها في وجه أدوات الحرب القاتلة في سياق مختلف جوانب المواجهة والحفاظ على مكوّنات الهوية والوجود، أو عبر سعيها الحثيث -رغم شحّ الإمكانيات وانقطاع السبل- لتعلّم مهارات التأقلم المنقذة للحياة، ومشاركة الرجل في توفير الحد الأدنى من مقوّمات العيش لأفراد أسرتها، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالها الذين يشهدون ويلات ومآسي العدوان ويعانون منها. بل إن بعض النساء قد يلجأن إلى آليات تكيّف يمكن وصفها بالمتطرفة، مثل البحث عن الطعام تحت الأنقاض أو في صناديق القمامة، بحسب التقارير الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

لقد شكلت الفلسطينية الغزية نموذجاً في الصمود والتكيّف وبثّ الأمل من تحت ركام الحرب ومخلّفاتها، وساهمت في إنبات حياة جديدة تحيل إلى استمرار التعلّق بالأرض والمكان، ورفض مغادرتهما، فنجد مشهداً لنازحة تسعى لتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي لها ولأسرتها ومواجهة سياسة الحصار والتجويع وما تمخّض عنها من ارتفاع جنوني في الأسعار، عبر زراعة بعض المحاصيل الزراعية حول خيمتها لسدّ رمق أسرتها. فيما أبت نازحة أخرى إلّا أن تعود مع أطفالها إلى بيتها في شمال قطاع غزة، حيث زرعت بعض الأصص وعلّقتها على ما بقي من حوائط قد تتوارى خلفها، ولكنها لا تحول بأي شكل من الأشكال دون تسلل نيران العدوان. ومما لا شك فيه أن سعي الغزيين مستمر للعودة إلى ما تبقّى من مساكنهم، أو إلى أماكن سكنهم الأصلية حيث ما زالت حاراتهم ومخيماتهم، رغم تغيّر ملامحها وتضاريسها، شاهداً على أنها كانت يوماً مسرحاً وميداناً لمجمل حيواتهم وأفراحهم التي حاولت آلة الحرب الإسرائيلية التسلل إليها واغتيال تفاصيلها.

إن حجم الأضرار غير المسبوقة التي لحقت بالبنية التحتية في قطاع غزة، وبالمباني وبالمساكن والأزقة والطرقات، يتطلّب تدخّلات سريعة وفعّالة لإعادة الإعمار، ويستلزم بذل أقصى ما يمكن لفتح الطرق وتسهيلها، وسرعة البدء بإزالة مخلّفات العدوان وآثار الدمار، وتأمين المباني والمنشآت الآيلة للسقوط، التي قد تهدد حياة الناس وتشكّل خطراً على السلامة العامة، وتستهمّ في العمل على استدامة الخدمات الأساسية. كما ينبغي على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية والأممية الدفع باتجاه وقف العدوان، وتقديم الدعم اللازم لتلبية احتياجات إعادة البناء والتأهيل. كذلك يجب وضع خطة استراتيجية لإدارة الركام وفتح الطرق وإعادة تأهيلها، وإصلاح المباني المتضررة، وتوفير المأوى للسكان الذين فقدوا منازلهم، وإعادة بنائها وإعمارها بما يضمن استدامة الخدمات الأساسية، وتوفير سبل العيش الكريم لجميع السكان؛ رجالاً وأطفالاً ونساء، بما يتيح إعادة بناء غزة وتخطيطها وتصوّرها بشكل يحافظ على أصالة هويتها وإرثها الحضاري، فيأخذ كل مسعى تخطيطي قادم احتياجات المرأة ومتطلباتها الحيزية، وتأمين الفضاءات المناسبة لتمكينها من الحفاظ على دورها المجتمعي والوطني.

The post صرخة من تحت الركام: إضاءة على واقع النساء في غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا https://rommanmag.com/archives/21666 Mon, 14 Oct 2024 06:08:53 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%83%d9%85%d8%a7-%d9%84%d9%88-%d8%a3%d9%86%d9%87-%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d8%a8%d8%ad%d8%b1%d8%a7/ في مارس من العام الماضي، تركتُ رفح بعد أن أمضيتُ فيها ما يقارب الثلاثة أشهر، نازحاً وهارباً من آلة الحرب التي كانت تطحن مدينة خانيونس من رأسها حتى قدميها. كنتُ قد قررتُ العودة إلى خانيونس، أو بالأحرى إلى منطقة المواصي، أقصى غرب المدينة، وبجوار البحر، على الرغم من أن العملية العسكرية فيها كانت لا تزال […]

The post نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في مارس من العام الماضي، تركتُ رفح بعد أن أمضيتُ فيها ما يقارب الثلاثة أشهر، نازحاً وهارباً من آلة الحرب التي كانت تطحن مدينة خانيونس من رأسها حتى قدميها. كنتُ قد قررتُ العودة إلى خانيونس، أو بالأحرى إلى منطقة المواصي، أقصى غرب المدينة، وبجوار البحر، على الرغم من أن العملية العسكرية فيها كانت لا تزال في ذروتها، وكانت الدبابات الإسرائيلية قد وصلت بالفعل إلى أقصى نقطة يُمكن أن تصلها في المدينة، حيث لا يبقى بعدها سوى منطقة المواصي، وهي شريط زراعي صغير بمحاذاة الشاطئ تماماً.

أردتُ أن أتركَ رفح بكلّ ما يَموجُ داخلها من ضجيجٍ وطوابير ومعاناة وملامح عدوانية كانت تظهر وسط وجوه الناس الشاحبة. النازحون الذين جاؤوا إلى المدينة مع بداية الحرب في أكتوبر من العام الماضي، ومنذ قدومهم، انغمسوا في تفاصيل حياة النزوح المتوغّلة في قسوة لا مثل لها. قلت: أريد أن أعود إلى هناك، إلى الجمال الذي سبق وأن خنته، كما وصف حسين البرغوثي الدير الجواني في “سأكون بين اللوز”. 

لم تكن رفح بالنسبة لي مدينة يُمكن أن تُشعرني بالغربة، إلّا أنني في الحرب، وبطريقةٍ لا أستطيع تفسيرها، وجدتُ نفسي غريباً ومهملاً فيها. وعلى الرغم من أنه إلى حين مغادرتي رفح كانت آلة الحرب لم تدخلها بعد، فإن المدينة كانت مُستنفدة ومُرهَقة بصورةٍ لافتة؛ ازدحام خانق، وفوضى، ومشاجرات عائلية هنا وهناك. لذا نضجت داخلي أكثر وأكثر فكرة ترك المدينة والذهاب إلى هناك، إلى المواصي، واحة الجمال النائمة على كتف البحر، وإن أحاطت بها الدبابات من كل الاتجاهات، وإن أقام النازحون في أراضيها الزراعية خيامهم، وإن تطايرت شظايا القذائف في سماواتها.

البحر يغسل وجه المدينة 

حزمنا الحقائب ووضعناها داخل السيارة، وتحركت السيارة بنا قاصدةً مواصي خانيونس، سالكةً طريق البحر. كنّا في بدايات الربيع، ولم يكن لأحد أن يتسنى له ملاحظة ذلك، إذ جعلت الحرب الأشياء كلها -عداها- عديمة المعنى، هذا إن كان للحرب معنى! فقط أصوات القذائف المُنتشرة في الاتجاهات كلها، ورائحة الموت، ومحاولة الهروب من تلك المشاهد السوداء كلها هو ما يشغل الناس، ومحاولة العيش في حياة استحالت أشكالها إلى جحيمٍ حقيقيّ. لذا، لم ينتبه أحد أن غيوم يناير السوداء تنحصر، وأن سماءً صافية وأكثر إشراقاً مع نسمات لطيفة معلنةً بداية الربيع يمكن رؤيتها بالفعل.

اجتازت السيارة بشقّ الأنفس زحام الخيام المنتشرة في الأراضي الخالية وبين البنايات السكنية، وحتى على الأرصفة وفي الطرقات. وأخيراً، وصلنا إلى شارع البحر. كنتُ إلى ما قبل اندلاع الحرب بأيام لم أزر البحر، ومرَّ ما يزيد على خمسة أشهر لم أرَ فيها الشاطئ. لذا شعرتُ بمجرد أن وصلت السيارة إلى الشارع المحاذي للبحر، وبعد أن صار بالإمكان رؤية الشاطئ على هذا النحو، بقشعريرة دافئة مريحة تتسلل إلى جسدي ودماغي وخلاياي العصبية التي ظلّت متشنّجة ومستنفرة طيلة تلك الأيام الطويلة. كان شعوراً خادشاً ومفاجئاً، لكني سمحت له بالحلول داخلي من دون أن يوقفه سلسال الأسئلة والهواجس التي ظلّت تطفح من رأسي وتسيل على الأرض، وتلتصق بجميع الجدران التي استندت إليها.

كانت السماء صافية بلا غيوم، سوى سحابات رقيقة بيضاء، فيما الموج شديد البياض يتدافع برتابة. موجات تتلوها موجات، بحر أزرق فوقه سماء زرقاء صافية مع موجات بيضاء وديعة وهادئة، ورمال صفراء ناعمة. تمرّ نسمات باردة منعشة وسط تلك اللوحة المسالمة التي لم تلوّثها آلة الحرب بعد.

على امتداد الشاطئ كانت مجموعات كبيرة من الناس تجلس في هيئات مختلفة؛ بعضهم في حلقات، وآخرون ممتدون على رمال الشاطئ الصفراء، وآخرون يغتسلون داخل البحر. بدا لي المشهد كما لو أنه الملاذ الذي نبحث عنه؛ فالجنود وراءنا والبحر أمامنا. لا نريد له أن ينشقّ، نريد منه فقط أن يتسع لنا، لتلك الوجوه المتعبة والأجساد التي تراكم عليها غبار الحرب، والأنوف التي عششت فيها رائحة الموت والبارود.

ارتبط البحر في ذاكرة الطفولة المبكرة بحالة الحرمان والمنع. كنا وإلى ما قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة في العام 2005، لا نستطيع أن نذهب إليه في الوقت الذي نريد، لذا ظلّت جميع صور البحر في ذاكرتي المبكرة محبوسة وتحيط بها الجدران، إلى أن حدثت المعجزة، وانسحبت إسرائيل من مستوطنات قطاع غزة، وانجرفنا كما لو أننا السيل تجاه البحر؛ مجموعات وحشود كبيرة، كبار وصغار، نركض تجاه البحر القريب البعيد، وهناك، وحين وصلنا، ألقى الجميع أنفسهم في مياه البحر المالحة. كانت لحظة الاتصال تلك لغزاً ظل يُعيد تعريف علاقتي مع البحر كلما نظرتُ إليه. أذكر أن هذا العناق الهائل مع البحر أدى إلى غرق ثمانية أشخاص في حينها.

كان البحر فرصتنا للتطهّر من بؤس اللحظات المرعبة التي أحاطت بنا خلال انتفاضة الأقصى، فرصتنا للاغتسال والانعتاق والذوبان مع ذلك المالح الذي يشبه الدموع. وقد أعاد مشهد الناس المُستلقين على رمال الشاطئ، أو الممددين وسط زرقة مياهه، تلك اللحظة التي التحم بها الناس بعد سنين من الحرمان. كانت الطائرات تحوم في الأجواء، وأصوات القذائف تُسمع في مَدَياتٍ قريبة، فيما الناس يُغرِقون رؤوسهم المثقلة بالضجيج والموت والفظاعة في مياه البحر المالحة. كل جسدٍ من تلك الأجساد التي غاصت في زرقة البحر، كان كأنه حشد هائل من الدموع المالحة، وجاء وقت أن يرتمي في حضن أمه، البحر.

كانت المدينة كلها على الشاطئ. الناس كلهم، جميع تلك الوجوه التي كنتُ أُصادفها في شوارع المدينة وأزقتها، كلهم يلوذون بذلك الأرزق الوديع، عيون تنظر في ذلك المدى المفتوح بين السماء وسطح البحر، المدى الخالي من مشاهد الدمار الهائلة التي كانت تتعاظم خلف ظهورنا في كل دقيقة تلوك فيها الآليات العسكرية شارعاً أو مبنى أو حديقة.

حين غمر الماء جسدي

في ذاكرة الطفولة البعيدة، وفي الأوقات القليلة التي كان يُسمح لنا فيها بدخول البحر، أذكرُ أن جدتي، وفي طقسٍ بدا لي سراً بحرياً عجيباً، كانت فيما نحن نقترب من الماء بخوف وتوجّس، تغمر رؤوسنا في الماء كلما جاءت موجة. طقس بحريّ عجيب كان يُعرف بـ “السبع موجات”: نغمر رؤوسنا مع كل موجة، إلى أن تمر فوقنا سبع موجات متتالية. كان الاعتقاد أن هذا الغمر المتكرر في موج البحر من شأنه أن يفكّ الكرب والضيق، أن يذوّب غمامات الحزن المُلبّدة داخل النفس والجسد. يمرّ الموج ساحباً معه الضيق والحزن، فكل موجة تأخذ معها جزءاً من السواد المترسّب في قاع الروح. وموجة تلو الأخرى، يذوب السواد ويأخذه الموج بعيداً في مدى البحر الواسع.

قلت محدّثاً نفسي فيما أرى الصغار والكبار يغمرون رؤوسهم في موج البحر: أي بحرٍ يمكن له أن يذوّب كل هذا الحزن؟ كانت الحرب في أوجها، والموت يضرب الأبواب ويدخل في الدوائر كلها، وكنا نغرق في بحر خساراتنا في مسارٍ لا مثل له من الفقد والبتر. أيُّ بحر هذا الذي يمكنه أن يبتلع تلك الآهات والآلام والفظاعات كلها؟

نضجت داخلي، فيما أرى الناس يتوارون بين الموج ويظهرون، الرغبة في أن يغمر ماء البحر جسدي. كنتُ قد تشبعت بالقلق والتشنج بعد ليالٍ طويلة من الخوف، ليالٍ من المكوث في ظلام اللحظة، ومن تعقيد المسألة التي تجعل الموت والحياة خطّين متقاربين في دائرة الحرب المجنونة. 

تقدّمت نحو البحر. كان الهواء يدفع وجهي وجبهتي، لامست المياه قدماي وسَرَت في جسدي قشعريرة، ثم بلحظة واحدة ألقيتُ هذا الجسد المنهك في ذلك الماء المالح؛ جسدٌ مثقل يخفف من أثقاله ضغط الماء ويرفعه إلى أعلى بعينين مغلقتين وأذنين تسمعان صوت الماء. كان الماء يرفعني إلى أعلى. ونظرت إلى تلك السماء الزرقاء الخالية من الطائرات، وساد صمت طويل، كما لو أنه ليس بحرًا.

The post نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جديد | حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين https://rommanmag.com/archives/21665 Sun, 13 Oct 2024 06:35:17 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b7/ صدر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاب “حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين”، تحرير وتقديم جابر سليمان.   يحوي هذ الكتاب بين دفتيه 19 مقابلة عن مسألة الدولة الديمقراطية في فلسطين، أجراها الراحل الدكتور محمد الحلاج في الفترة بين آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 1982، مع عدد من الشخصيات القيادية في م. ت. ف. والفصائل الفلسطينية، […]

The post جديد | حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
صدر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاب “حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين”، تحرير وتقديم جابر سليمان.
 

يحوي هذ الكتاب بين دفتيه 19 مقابلة عن مسألة الدولة الديمقراطية في فلسطين، أجراها الراحل الدكتور محمد الحلاج في الفترة بين آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 1982، مع عدد من الشخصيات القيادية في م. ت. ف. والفصائل الفلسطينية، ومع شخصيات أُخرى مستقلة، من كتّاب ومفكرين وأكاديميين فلسطينيين. وظلت تلك المقابلات طيّ أرشيفه الخاص إلى ما بعد وفاته سنة 2017، إلى أن حوّلها ابنه إبراهيم الحلاج إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وبسبب أهميتها، التاريخية والراهنة، قررت المؤسسة نشرها وتقديمها في هذا الكتاب. تسلط هذه الحوارات الضوء على حقبة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، التي ظهرت فيها فكرة الدولة الديمقراطية في فلسطين، في أواخر الستينيات من القرن الماضي. ومن خلال مقدمته التحليلية، يضع الكتاب مسألة الدولة الواحدة في السياق التاريخي لتطور الفكر السياسي الفلسطيني، من البرنامج المرحلي، إلى اتفاقيات أوسلو وفشل حلّ الدولتين، وصولاً إلى طوفان الأقصى. إن عودة الحديث اليوم عن فلسطين الحرة من النهر إلى البحر، يضفي أهمية راهنة على فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، كما تجلت في الحوارات التي يحتويها هذا الكتاب.

المُحاوَرون:

منير شفيق؛ شفيق الحوت؛ جميل هلال؛ بسام أبو شريف؛ داود تلحمي؛ صخر حبش (أبو نزار)؛ ياسر عبد ربه؛ فيصل حوراني؛ صلاح الدباغ؛ بلال الحسن؛ محمد أبو ميزر (أبو حاتم)؛ يوسف صايغ؛ الياس شوفاني؛ أحمد نجم (أبو علاء)؛ تيسير قبعة؛ سمير غوشة؛ إبراهيم أبو لغد؛ عبد الجواد صالح؛ كميل منصور.

جابر سليمان هو باحث فلسطيني، عمل سابقاً في مركزي التخطيط والأبحاث التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية. مختص بدراسات اللاجئين والهجرة القسرية (مركز دراسات اللاجئين/أكسفورد)، وناشط في المجتمع الأهلي وحركة العودة، وعضو مؤسس في مركز حقوق اللاجئين “عائدون”. له العديد من الأبحاث والدراسات وفصول الكتب، باللغتين الإنكليزية والعربية، تغطي عدة جوانب من قضية اللاجئين الفلسطينيين، مثل: حق العودة، والحماية الموقتة والدائمة، وواقع الجنسية، وحقوق المواطنة، ودور الشتات في المشروع الوطني الفلسطيني.

 

The post جديد | حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سمعت هذا الحوار على أطراف مضارب البدو في جوار قريتنا https://rommanmag.com/archives/21664 Sat, 12 Oct 2024 06:30:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%85%d8%b9%d8%aa-%d9%87%d8%b0%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a3%d8%b7%d8%b1%d8%a7%d9%81-%d9%85%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%af%d9%88-%d9%81/ في تاريخنا البعيد، حين لا جرائد ولا راديو أو سينما أو تلفزيون، كان الناس يؤلّفون ويتداولون قصصاً وحكاياتٍ ونوادرَ غرائبيةً وشيّقة، يُزجّون بها وقتهم ويسرِّحون خيالهم وأحلامهم. أمّا أن نأخذها نحن الآن بكلِّيَّاتها وجزئيّاتها على أنها حقائق، فتلك والله إحدى الطامّات.  من بين تلك الحكايات ذلك البيت الشعري الذي شَهَرتْه حكايتُه، فتداولته الركبان والمدارس والجامعات، […]

The post سمعت هذا الحوار على أطراف مضارب البدو في جوار قريتنا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في تاريخنا البعيد، حين لا جرائد ولا راديو أو سينما أو تلفزيون، كان الناس يؤلّفون ويتداولون قصصاً وحكاياتٍ ونوادرَ غرائبيةً وشيّقة، يُزجّون بها وقتهم ويسرِّحون خيالهم وأحلامهم. أمّا أن نأخذها نحن الآن بكلِّيَّاتها وجزئيّاتها على أنها حقائق، فتلك والله إحدى الطامّات. 

من بين تلك الحكايات ذلك البيت الشعري الذي شَهَرتْه حكايتُه، فتداولته الركبان والمدارس والجامعات، منسوباً للشاعر علي بن الجهم، حين مدح الخليفة المتوكِّل قائلاً: 

أنت كالكلب في حفاظك للودّ وكالتيس في قِراع الخطوبِ. 

ويكملون الحكاية عن كيف صار شعر ابن الجهم رقيقاً عذباً بعد أن أسكنه الخليفةُ في نعيم قصور الرصافة. 

تشير الوقائع والتواريخ إلى أن المتوكّل استلم الخلافة عام 847، في حين أن ابن الجهم رثى الشاعر أبا تمام الذي توفي قبل ذلك بعامين 845، أي قبل أن يصبح المتوكّل خليفة، وقد كان رثاء ابن الجهم لأبي تمّام غاية في الرقة والرهافة والطراوة، كما في قوله: 

غـاضَتْ  بـدائـعُ  فِـطـنَـةِ  الأوهـامِ  =  وعَدتْ  عليهَا  نكبَةُ  الأيامِ

وغَدا القريضُ ضئيلَ شَخصٍ باكياً  =  يشـكـو رَزِيَّتَـهُ إلى الأقـلامِ 

كيف يمكن لمن قال هذا الشعر عام 845، أن يقول في الخليفة المتوكل عام 847: 

(أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ)؟!

*   *   *

المرايا والمرائي جمعان فصيحان للمِرآة، مثلما السيوف والأسياف جمعان للسيف، ويكثر أن نجد لبعض الكلمات عدة جموع، كجمع ضيف على: أَضيافٍ وضُيوفٍ  وضِيافٍ  وضِيفانٍ، وكجمع نَجْدٍ على أنْجُدٌ وأنْجادٌ ونِجادٌ ونُجودٌ ونُجُدٌ وأنجدة. أحسب أن التزام أجدادنا الشعراء بالأوزان والقوافي، دفعهم إلى أخذ راحتهم في الاشتقاقات بما يخدم أوزان وقوافي قصائدهم، هذا إضافة إلى تنوع الاشتقاقات بين قبيلة وأخرى.

*   *   *

يسألونك عن مثال أو تطبيق شديد البساطة والوضوح عما تعنيه “المفارقة” كحالة لغوية أو بلاغية. قل هي أمر من قبيل أن يقول السُّنَّة والشيعة، على سبيل المثال، أن العبادة لا تكون لغير الله، ومع ذلك فإن الشيعة يسمّون “عبد عليّ”، والسنّة يسمّون “عبد النبيّ”.

*    *   *

ما أكثر ما قرأت من أهجيات لما يسمى “شريعة الغاب”، وكم بودي أن أعيد الاعتبار لهذه التسمية، وذلك لأنها في أسوأ الأحوال تنطوي على وجود “الغابة”. 

لم يخطر في بالي إمكانية أن تأتي سلطة، تحتطب الأخضر واليابس، فتبيد الغابات، وتشيع التصحُّر حتى في النفوس والأحلام، ومع ذلك تستمر بنفس الشريعة المنسوبة للغاب!

هناك العديد من الأنظمة العربية التي يمكن اعتبارها نماذج باهرة لشريعة الغاب ولكن بدون الغابة.

*   *   *

– أين أبوك يا ولد؟

– أبوي بالبيت.

– من حاله؟

– إي من حاله.

سمعتُ هذا الحوار على أطراف مضارب البدو في جوار قريتنا.

قلت لنفسي: لا بد أن الرجل حين سأل الولد إن كان أبوه “من حاله”، كان يقصد إن كان لحاله أو بحاله أو بمفرده.

لاحقاً في الجامعة، قرأت أن بين القبائل من يقولون: “من ربي ما فعلتُ كذا” وهم يقصدون “بربي”، ثم انتبهت في سورة طه إلى قوله تعالى: “وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ”، والقصد هنا “على جذوع النخل”. وأخيراً قرأت أن الكوفيّين وبعض البصريين ذهبوا إلى أنَّ حروف الجرِّ يجوز أن ينوب بعضها عن بعض. ما أرحب أجدادنا الأوائل، وما أضيق أرواح وعقول آبائنا اللغويين وأعمامنا والفسائل. 

*   *   *

قال: اللغة السويدية عجائبية فعلاً. تخيل أنهم يلفظون حرف جي “J” كما لو أنه ياء. اِسمي مجد يصبح عندهم مَيْد. 

قلت: وأنا ينادونني فراي بدلاً من فرج، غير أني لا أستغرب، ففي كثير من مناطق الكويت والسعودية وجنوب العراق يقولون “ريَّال” بدلاً من رجّال، و “مسيِد” بدلاً من مسجد، و “دَياية” بدلاً من دجاجة. وهذه الطريقة في إبدال لفظ الجيم ياء هي لغة “تميم” التي أعلى كثيرون من علماء اللغة شأنها إلى حد اعتبارها الأكثر فصاحة وقابلية للقياس. 

*   *   *

الحيادي لغةً هو غير المتحيز.  وحادَ عن الطَّريقِ الْمُسْتَقيمِ تعني أنه عدَلَ عَنْهُ، وحاد عن الشيء تعني أنه مال عنه وتجنبه وبالتالي ابتعد عنه، ومن يميل أو يبتعد عن شيء أو عن شخص، فإنه ليس حيادياً تجاهه، بل يمكننا الاستنتاج أنه منحاز لشيء أو لشخص آخر. ويقال إن موقف فلان ينطوي على حيدان واضح لصالح زيد على حساب عمرو، أي لديه ميل وانحياز لزيد، ما يعني أنه ليس حيادياً، هذا إلا إذا اتفقنا على أن الحيادي هو المنحاز، وفي هذه الحالة قد يعاد النظر بتسميات سابقة من قبيل “حركة عدم الانحياز” و “الحياد الإيجابي”. 

لا شك أن هناك من سيستغرب كل ما أقول ويأخذه العجب، وسلفاً أقول إن الحق معه في أن يستغرب ويستهجن، ولكن المهم هو إبعاد العجب عبر إبداء السبب.

القصة بمتنها وحواشيها ناجمة عن عدم التمييز بين فعل حادَ وفعل حايَدَ.

من حاد فقد انحاز، ولكن مَن حايد فقد كفَّ خصومته، وبالتالي فالحياد مصدر فعل حايد.. أما فعل حادَ فمصدره حَيْدٌ وحَيَدان، أي ميل وانزياح وانحياز، والحيادي اسم منسوب إلى المصدر (حياد)، وليس إلى (حَيَدان) الذي هو مصدر فعل حادَ.

أما الفعلان حادَ وحايد، فرغم أن جذرهما واحد إلا أنهما يفضيان إلى معنيين يتضافران حيناً ويتنافران أحياناً. 

The post سمعت هذا الحوار على أطراف مضارب البدو في جوار قريتنا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>