صدرت أخيراً عن دار نوفل / هاشيت أنطوان نوفيلا “منزل الذكريات” للأديب الفلسطيني المقدسي محمود شقير. في هذه النوفيلا، التي تقع في 184 صفحة، يتناول شقير ثيمة الشيخوخة ورغباتها وفقدها وهواجسها، حيث يستحضر بطلي روايتي ياسوناري كواباتا “منزل الجميلات النائمات” التي كتبها في العام 1961، و”ذكريات عاهراتي الحزينات” التي كتبها غابريال غارسيا ماركيز وهو في التسعين من عمره. وفيها يتداخل الخيال مع الجانب الواقعي لمدينة القدس، حيث تجري الأحداث. هناك، في القدس، لا يظلّ الواقع واقعاً تماما، ولا الخيال يرتقي إلى مستوى التفلّت المطلق.
في ما يلي مقتطفان حصريان من نوفيلا “منزل الذكريات”.
سناء
ماتت سناء قبل غروب الشمس بثلاث ساعات.
كنّا في الخريف. توقَّعت أن أموت قبلها؛ لأنَّها لطالما اعتنت بجسدها ووفّرت له كلّ أسباب الراحة والرخاء. لكنَّها ماتت بعد أن فتكَ بها كوفيد 19، احتملتْ مضاعفات الفيروس عشرة أيّامٍ ثمَّ فارقت الحياة، تركتْ خلفها ثيابها الكثيرة ومصاغها وكلّ شيء يخصّها وغابت إلى الأبد.
هيَّأنا لها جنازة مختصرة خوفًا من العدوى وحفاظًا على سلامة الناس، شارك فيها عددٌ محدودٌ من أبناء عائلتي، عائلة العبداللات، وعدد من أهلها. شارك في الجنازة كذلك عددٌ من أبطال الروايات التي كتبتها وسطا عليها أخي محمود، وهو الذي أشرت إليه في كتابات سابقة بالحرف «ع».
ومن بين الذين شاركوا في الجنازة، إميل صاحب محلّ الكهرباء الذي كان يملك مقهًى له عراقته، ثمّ اضطرَّ إلى إغلاقه تحت التهديد والوعيد من جماعةٍ أصوليّة متطرِّفة، وأيضًا قيس منّان، سائق سيّارة الأجرة الذي يكتب رواية لم يُنهها بعد، وسائق سيّارة الأجرة العابث المشاغب رَهْوان، وعبد الرحمن الفضولي المتلصِّص الملقَّب بالقنفذ.
كذلك، وعلى نحوٍ غير متوقَّع، شارك أخي محمود في الجنازة، ومعه اثنان من زملائه الكتّاب.
المفاجأة، أنّ العجوز إيغوشي الياباني بطل رواية ياسوناري كاواباتا، والعجوز الكولومبي التسعيني بطل رواية غارثيا ماركيز شاركا في الجنازة (هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الذي أدمنته مع الكتب وأبطال الروايات؟! وماذا لو أنّ أُمّي ما زالت على قيد الحياة؟! ستصاب بالحيرة والذهول، وستقول إنَّني ممسوسٌ ولم أعد مالكًا قواي العقليّة).
خفَّفت مشاركة هذين العجوزين من حزني على زوجتي إلى حدٍّ ما، وقد تغيَّبت ماريا زخاروفا عن الحضور إلى بيت العزاء الذي أقمناه ليومٍ واحد بسبب وباء كورونا، فهي مشغولةٌ بإطلاق التصريحات حول الحرب المحتدمة منذ أشهرٍ بين روسيا وأوكرانيا.
أعيش حربي الخاصّة مع الزمن، وسأواجهه وحدي في ما بقي لي من عمر، وأعي أنَّني سأخسر هذه الحرب، سأخسرها بشرفٍ ولن أستسلم، لكنَّني سأطوي أشرعتي ولن أتطلَّع إلى ما هو أكبر من قدراتي. قد أعيش حتّى التسعين تمامًا مثل عجوز ماركيز، وربَّما لن أعيش بعد سناء سوى سنةٍ واحدة أو سنتين. وأنا أشعر بضراوة الفقد؛ حين أجد مكانها شاغرًا في السرير، وحين يكون الفراغ المتشكِّل فيه أكبر ممّا يمكن احتماله في أيّ حال. أشعر بوحشةٍ ضارية تلفُّ غرفة نومنا والبيت ومحيط البيت والحيّ، وأينما نظرت تكبر الوحشة ويُعلن الموت هيمنته على الأمكنة المحيطة بي، ويعذِّبني وجه سناء الشّاحب وعيناها المغمضتان على فراغ.
بعد مضيّ ثلاثة أسابيع على رحيلها تذكَّرتُ المثلَ الذي لطالما ردَّده العجائز في حيِّنا في مناسبة وفي غير مناسبة: «أعزب دهر ولا أرمل شهر». ثم تذكَّرت نصًّا قرأته في كتاب «أخبار النساء» لابن قيّم الجوزيّة: «قيل: أربع لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأذنٌ من خبر، وأرضٌ من مطر، وأنثى من ذكر».
مع ذلك، لم أعد ذلك الفارس المغوار المعتدّ بذكورته، ولم يبقَ لي إلّا أن أقول: «رحم الله امرأً عرف قدر نفسه».
على هذه القناعة وضمن مُخرجاتها المحدودة قرَّرت مواصلة العيش، وليس معي من عدّة وعتاد سوى الذاكرة أتَّكئ عليها، وأستخرج منها بين الحين والآخر ما يساعدني على تجرُّع الآلام والنظر إلى المستقبل بتفاؤلٍ ما.
فقدان
أنهض في الصباح المبكِّر.
أتفقَّد السرير ولا أجد سناء في الفراش.
حين كانت تنام إلى جواري لطالما نمت نومًا هادئًا مطمئنًّا.
أظلُّ نائمًا حتّى الثامنة وفي بعض الأحيان حتّى التاسعة، تستيقظ سناء في وقت مبكِّر، تتقلَّب في الفراش بعض الوقت، تتأمّلني وأنا نائم (حين أصحو تصف لي كلّ ما لم أعلمه من تصرّفاتها)، ثمّ تنسلّ من جواري من دون أيّ إزعاج، وتمضي نحو المطبخ، لتشغل نفسها بتنظيف الصحون والكؤوس والفناجين التي استخدمناها في الليلة السابقة بحضور عددٍ من الضيوف وزوجاتهم.
الآن أستيقظ في السادسة وأحيانًا في الخامسة. أتذكَّر أحلامي وأشعر بأنَّني أهرب عبر الاستيقاظ المبكِّر من الكوابيس التي تحاصرني في الليل، كوابيس تتمحور حول الشكّ في حقيقة وفاة سناء. يسيطر عليّ كابوس فيه ادّعاءٌ بأنَّ سناء دُفنت وهي لم تفارق الحياة، أخمِّن أنَّها تعرّضت لحالة إغماء، والشيخ الذي راح يقرأ القرآن فوق رأسها هو السبب في دفنها باستعجالٍ وبغير وجه حقّ، سأقاضيه أمام جمعٍ من الناس، وسنذهب إلى المقبرة وننبش قبر سناء، ونخرجها من القبر لكي نتأكَّد من حقيقة موتها، وأظلُّ أتعذَّب في نومي حتّى الصباح. (هل علق في ذاكرتي ما قرأته عن شكِّ خليل السكاكيني في موت زوجته سلطانة؟ فظلَّ منزعجًا من احتمال أنَّها دُفنت وهي لم تفارق الحياة! ربَّما).
أغادر السرير.
أقف في شرفة البيت. أتفقَّد الكنبة التي اعتادت أن تجلس عليها سناء. الكنبة الآن تشكو من فراغ، فأشعر بألم الفراق. أنظر نحو الخارج، تنام بيوت الحيّ في هدوءٍ حذر، ساكنوها منغلقون على أنفسهم، مشغولون بأحوالهم، ولا أحد يشعر بي، أو هذا ما أتوقّعه، فأزدادُ حرقةً وألمًا.
أتذكَّر سناء وهي تدخل الحمّام وتقف تحت انثيال الماء على جسدها الذي ظلّ بالغ الحيويّة والبهاء.
إلّا أنَّ فيروس كورونا هزم الجسد البهيّ.
أجلس في الشرفة كعادتي كلّ صباح.
أسكب فنجان قهوةٍ لسناء وفنجان قهوةٍ لي. أشرب قهوتي وأنا أتذكَّر جلساتنا الحميمة في الصباح، أتأمَّل من خلف زجاج الشرفة الغيوم السابحة على مهلها في السماء؛ معنى هذا أنَّ طقس الخريف يواصل اعتداله هذا النهار.
كان من عادة سناء أن تغادر الشرفة بعد احتساء القهوة، لتغتسل تحت دفق المياه في الحمّام. هذا الصباح بقي فنجانها على حاله في انتظارها. نهضتُ واتَّجهتُ إلى الحمّام، فتحت ماء الدشِّ فانهال الماء على أرضيّة الحوض الفسيح من دون إبطاء.
عدت إلى الشرفة؛ واستمعت إلى صوت الماء وأنا أرى بعين خيالي سناء وهي عارية في الحمّام، وفنجان قهوتها قد برد، وغيوم الخريف واصلت تسكّعها البطيء، كما لو أنّ لا شيء على هذه الأرض يعنيها، وأنّها لا تكترث لأحزان البشر التي تتكاثر هنا وهناك.
وأنا وحيد.
«منزل الذكريات» لمحمود شقير: لعبة الأحلام المتناصة مع كاواباتا وماركيز