في عمله الأحدث “منزل الذكريات”، الصادر عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل قبل أيام في بيروت، يقدِم الكاتب الفلسطيني المخضرم، محمود شقير (1941)، على الخوض في نصّ سردي بروح تجريبية، وبسِمات تختلف كثيرًا عن النهج السردي الذي دأب شقير اتّباعه، وخاصة في ثلاثيّته المقدسية: “فرس العائلة” (2013)، و”مديح لنساء العائلة” (2015)، و”ظلال العائلة” (2019)، التي تناولت سيرة فرع من فروع عشيرة العبد اللات البدوية، وهجرتها من قلب الصحراء إلى تخوم القدس، ما عنى تحوّلها من قبيلة رعوية إلى العمل في الزراعة، ومن ثم التجارة.
في “منزل الذكريات”، يفتتح شقير مغامرته السردية بالتناصّ مع روايتين شهيرتين: “الجميلات النائمات”، للياباني ياسوناري كاواباتا، و”ذكرى غانياتي الحزينات” للكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، اللتان أساسًا تتناصّان مع بعضهما البعض. ومن المعلوم أن الياباني سبق في كتابة روايته، إذ صدرت في عام 1961، ثم حدث أن قرأها ماركيز وانبهر بها، وصرّح بأنه تمنّى لو كان كاتبها، ثم شرع بالاتكاء على فكرتها في كتابة روايته “ذكرى غانياتي الحزينات” التي صدرت في عام 2004.
من هذا المنطلق، تتقاطع سيرة محمد الأصغر، بطل النصّ وراويه، مع عجوزي كاواباتا وماركيز اللذين دأبا اللجوء إلى البيوت السرّية للاستلقاء بجوار فتيات صغيرات منوّمات، بغرض استعادة ذكرياتهما عن سنوات الشباب ومجده.
بذكاء، استل شقير شخصيتَي فريال وسميرة اللتين ظهرتا في ثلاثيته آنفة الذكر، فجعل من الأولى صاحبة البيت السرّي، ومن الثانية الفتاة المنوّمة، وبذلك وفّر السياق الذي سيتناصّ من خلاله مع الروايتين الشهيرتين. لم يكتفِ شقير بذلك، فاتّكأ نصّه أيضًا على كتب تراثية، مثل “أخبار النساء” لابن الجوزي، فانتقى مجموعة من الطُرف والاقتباسات الشعرية، ومزجها بالنصّ خالطًا إياها بالحضور السحري لشخصيات روائية أتت من نصوص عالمية لكاتبين أحدهما من أقصى الشرق، والآخر من أقصى الغرب، ليمنح هذا التهجين، “منزل الذكريات”، أجواءً سحرية مخدّرة، تمامًا مثل المراهقات الحسناوات المنوّمات في رواية كاواباتا.
لعبة الأحلام
ليكتمل المنطق الداخلي للنصّ، وليصبح ظهور شخصيات مثل السيد إيغوشي وعجوز ماركيز منطقيًا ومهضومًا صارت الأحلام وتهويمات النوم والغفوات الخاطفة، مساحة للأحداث، تسمح بحضور شخصيات روائية وبعض الموتى، ضمن سياقها. فالعجوز، محمد الأصغر، ترمّل في منتصف عقده التاسع، وبات رجلًا وحيدًا منسيًا يعيش على الهامش، يجترّ الذكريات، ويناوش الحنين إلى زوجته الراحلة التي ما فتئت تزوره في مناماته، أو في صحوه، حتى باتت عملية إزاحة الوعي وتقبّل “الأحداث الحلمية” التالية اتفاقًا بين شقير والقارئ، مهّد له من خلال الفصل الافتتاحي الذي يحكي وفاة الزوجة، سناء، ثم حضور أفراد عائلة العبد اللات مراسم العزاء، كذلك حضور عجوزي كاواباتا وماركيز. وهكذا، منذ اللحظة الافتتاحية والمصافحة الأولى، يقرّ شقير والقارئ اتفاقًا بخصوص المنطق الداخلي للنصّ.
ولعلّ أحد أغرب منعطفات “منزل الذكريات” كانت عندما طلب البلطجي جميحان، من محمد الأصغر أن يكفّ عن استقبال عجوزي كاواباتا وماركيز في أحلامه؛ لأنهما يسكران، كما أنهما لا يكفّان عن التحدّث حول مغامراتهما مع النساء، وهو الأمر الذي لا يقبله المجتمع الفلسطيني المحافظ!
الاحتلال والزعران
على النقيض من عجوزي كاواباتا وماركيز، لا يبدو محمد الأصغر مشغولًا بأسئلة الجسد واجترار ذكريات الشباب والفحولة، أو حتى التحسّر على المتعة المفقودة مع رحيل الزوجة، غير أن اللقاءات القليلة التي عقدها مع الفتاة سميرة في بيت فريال، ساهمت في دفع السرد إلى الأمام بإيقاع هادئ، إضافة إلى طرح جانب من التساؤلات الإنسانية عن الإحساس بغياب العائلة، أو حتى حول الأدوية المغشوشة التي يطرحها الاحتلال للفلسطينيين.
جاءت الأجواء الحلمية في “منزل الذكريات” فرصةً مواتيةً لتحميل بعض الشخصيات بمعانٍ ومدلولات، كما في حالة جميحان “زعيم الزعران”، وهو أحد تجلّيات الفوضى في القدس نتيجة تداعي بعض الفئات الاجتماعية تحت وطأة الاحتلال، كذلك عمالة البعض لدى المحتل الذي يمدّهم بشيء من السلطة والنفوذ.
اخترق جميحان الأيام الهادئة لمحمد الأصغر، بدايةً من خلال أخته، أسمهان، الجاهلة والخاضعة له تمامًا كواحدة من أدواته، ثم بعد زواج محمد الأصغر من أسمهان بخدعة عجائبية – تحرّش بها في أحلامه – تمثّل الاختراق بحضور جميحان الذي أصبح احتلالًا جديدًا؛ إذ راح يتمدّد ويجتاح جميع المواقع في حياة محمد الأصغر، فلم يكتفِ بأن سلب منه المنزل والأرض، وإنما راح يراقب أحلامه ويضع لها المحاذير، ويهدد محمد الأصغر ويضغط عليه. وأخيرًا، لم يلبث جميحان أن طلّق أخته من محمد الأصغر، ثم استولى على كل شيء، وطرد محمد الأصغر العجوز الضعيف الذي وجد نفسه في نهاية حياته مشرّدًا بلا مأوى.
البصمة اليابانية
ثمّة حضور واضح لروح شرقية متأمّلة تغلّف أجواء “منزل الذكريات”؛ فبداية، اشتغل شقير على تهميش حضور “الزمن” بمعناه الكرونولوجي وتخفيف وطأته في النصّ؛ إذ ليست هناك أحداث لاهثة، فتمضي الأمور بوتيرة هادئة وبطيئة تحيلنا إلى لون من الروايات اليابانية يُطلق عليها مدرسة التأنّي أو التمهّل، تُهمّش بحسبها قيمة الزمن في النصّ لصالح سردٍ متهادٍ وناعس ذي إيقاع متباطئ. ولعلّ الرواية الشهيرة “أنا قط”، للياباني نتصوميه صوسيكي، من أبرز الأمثلة على هذا اللون.
وقد عزّز هذا الحضور إحدى شخصيات الرواية، هو عجوز ياباني يدعى السيد إيغوشي، بطل رواية “الجميلات النائمات”، استعاره شقير من المؤلف الياباني، فضلًا عن أن معارضة شقير لكاواباتا لم تقتصر على الاشتغال على الثيمة عينها، وإنما امتدت إلى بناء النصّ كاملًا بالتناصّ مع الفصول السردية القصيرة التي بنى كاواباتا روايته بها، فتنبني “منزل الذكريات” بالآلية نفسها وعلى النسق ذاته.
وبما أن أحداث الرواية تدور على أرض فلسطين، القدس تحديدًا، وفي ظلّ حضور ياباني قوي، كان حضور لسيرة المناضل الياباني كوزو أوكاموتو الذي ناضل من أجل القضية الفلسطينية، وكان أحد منفذّي عملية مطار اللد في أيار 1972.