في أحد اللقاءات المتلفزة، طُلِب من خوسيه ساراماغو (1922 – 2010) أن يوجه معايدة للمشاهدين بمناسبة أعياد الكريسماس. ارتبك الرجل ولم يعرف ما الذي عليه بالضبط أن يقوله. سأل زوجته: “ماذا علي أن أقول يا بيلار؟”. أجابته: “أتمنى أن يستمر هذا العيد طوال السنة”.
يصعب تلخيص العلاقة الفريدة التي جمعت بين ساراماغو وزوجته ماريا بيلار ديل ريو (1950 – )، يصعب الأمر فعلا للدرجة التي احتاج معها المخرج البرتغالي خوسيه غونسالفيس مينديز (1972 – ) إلى 4 سنوات كاملة، ومادة مصورة مدتها 240 ساعة، ليحاول تقديم مقاربة عن تلك العلاقة بين خوسيه وبيلار من خلال الفيلم الذي يحمل اسميهما.
نسختان من خوسيه ساراماغو
الرجل الذي يصف نفسه بأنه “هادئ” و”حزين”، والذي يفضل الحياة في الجزر المعزولة، وقضى في لانزاروت التابعة للكناري الثمانية عشر عاما الأخيرة في حياته، كان قد بدأ الكتابة بشكل متفرغ في 1982، وكان يبلغ من العمر حينها 60 عاما. وفي 1986، ذهبت الإسبانية ماريا بيلار إلى البرتغال للسياحة، وفي مصيفها ذلك، قرأت كل أعمال ساراماغو المترجمة إلى الإسبانية وانبهرت. وعن طريق دار النشر، طلبت أن تلتقي بساراماغو لتجري معه حديثا صحفيا، إذ كانت تعمل في تلك السنوات في التلفزيون الإسباني وتنشر مقالات في صحف متفرقة.
ذلك اللقاء، على الأرجح، أعاد رسم حياة ساراماغو، يمكن أن نسميه: الولادة الثانية لخوسيه ساراماغو، لأن بيلار، وقعت في حب الرجل الذي يكبرها بثمانية وعشرين عاما، وتزوجت به بعد سنتين، في 1988.
يقول الكاتب الإسباني خوان تيبا: “أنا على قناعة تامة بأن هناك اثنين من خوسيه ساراماغو: خوسيه ساراماغو قبل أن يلتقي بيلار، وخوسيه ساراماغو بعد أن التقى بيلار”.
بيلار، تحولت إلى “المرشد الأعلى” لساراماغو، لم تكن مجرد زوجة، بل قامت عن طيب خاطر بأدوار مركبة في حياة صاحب “العمى”، بدءا من لعب دور “الجسر” بينه وبين المتطفلين على عالمه، مرورا بتحولها إلى مترجمته إلى اللغة الإسبانية، وصولا إلى إرشاده، في الندوات واللقاءات الصحفية والتجمعات، وهي بطبيعية الحال أمور مرهقة وغير محببة بالنسبة لرجل دخل دائرة الضوء في عمر متأخر، بخلاف ميله الطبيعي للهدوء والعزلة ليعيد “اختراع التاريخ” كما وصف منهجه في روايته “قصة حصار لشبونة”.
وبعيدا من تلك الأدوار الوظيفية، التي بذلتها بيلار بحب وتفانٍ، يبقى دورها الرئيس كشريكة حياة لرجل مطلق من زوجته الأولى وأم ابنته الوحيدة قبل ثمانية عشر عاما. رجل متآلف مع الوحدة، وممسوس بالأدب والكتابة.
قصة حب موثقة
استمر عرض فيلم خوسيه وبيلار، في دور العرض بالبرتغال 5 شهور كاملة، وحقق نجاحا طيبا، بل وساهم بشكل كبير في تغيير نظرة المتدينين والمتشددين من البرتغاليين حيال الرجل الذي نُظر له بارتياب بعد روايته “الإنجيل يرويه المسيح” أو “الإنجيل كما رواه يسوع المسيح”، كانت تلك محاولة أخرى لـ”إعادة اختراع التاريخ”، لكنها محاولة خطيرة تسببت في نظرة سلبية تجاه ساراماغو، ولم ينجده من ذلك سوى الفيلم الذي أظهر الجانب الشخصي والإنساني لهذا “الرجل العجوز، الطيب، والعبقري والمحب لزوجته” كما ظهر أمام مواطنيه بعين المخرج خوسيه غونسالفيس مينديز. كان ذلك هو الصدى الذي نتج عن الفيلم فيما يخص علاقة ساراماغو بالبرتغاليين.
أما بالنسبة لساراماغو نفسه، وعلاقته ببيلار، فقد كان الفيلم كما قال ساراماغو مخاطبا زوجته، والعهدة على المخرج مينديز: “هذا الفيلم هو إعلان حبي لك” لتجيب بيلار في نفس اللحظة: “نعم، ولكن حياتي هي إعلان حبي لك”.
في الحضور والغياب
توفي ساراماغو في 2010. أمراض مثل اللوكيميا والالتهابات الرئوية قضت عليه. رحل الرجل تاركا خلفه رصيدا معتبرا من الروايات التي يمكن وصفها بأنها من “عيون الأدب العالمي”.
لكن رحيل ساراماغو لم يعنِ أبدا انقطاع العلاقة بينه وبين بيلار.
بعد وفاته، عادت بيلار إلى إسبانيا. ثم حصلت على الجنسية البرتغالية، وتسلمت نصيبها من الإرث الثقافي لساراماغو متمثلا في “مؤسسة خوسيه ساراماغو”، التي كان الرجل قد أسسها في 2007 وحمل على عاتقه من خلالها، نشر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتعزيز الثقافة في البرتغال وتشبيكها بثقافات ولغات أخرى، وحماية البيئة.
منذ 2010 تدير بيلار المؤسسة، التي يقع مقرها الرئيس في لشبونة.
بهذه المسيرة، وبهذه العلاقة الفاتنة، الممتدة في الحياة والغياب، أو “على الحلوة والمرة” كما نقول، استحقت بيلار أن تكون “القطعة الأهم” في حياة ساراماغو، أو كما قال هو عنها: “بيلار هي بيتي. هي أهم شيء في حياتي، ربما أكثر أهمية من عملي أيضا. أرى أن قصة حبنا هي قصة الحب الّتي لا تحتاج إلى أن تُكتب”.