النادي والندى يشتركان في أحد الجموع الذي هو أندية، ولكن للنادي جمع آخر هو النوادي، وكذلك للندى جمع آخر هو أنداء، وما من سبيل لمعرفة إن كانت الأندية جمعاً للندى أم للنادي سوى سياق الكلام وكل كلام لا سياقَ له لا سوقَ له، والبضاعة التي لا سوق لها تصبح بضاعة كاسدة وبلا قيمة.
* * *
كدت مرةً أغرق بسبب العرمض. من يسكنون قرب الأنهار والينابيع والمستنقعات يعرفون العَرمَض أو العِرمِض بفتح العين والميم وبكسرهما، وهناك من يقول العِرماض، وأهل منطقتنا يقولون العُرمُط بضم العين والميم وقلب الضاد إلى طاء. ولمن لا يعرفه فهو نوع من الطحالب التي تنمو في الأنهار والبرك على شكل نباتات خضراء طرية ورفيعة كخيوط أو كشعر غزير وطويل ورخو. ومن هنا جاء المثل القائل:
فلان متل العرمط، لا يحلّ ولا يربط.
* * *
حوَّاء والحيَّة والحياة
نقائض الموت والعدم
وضحايا أساطيرنا التي نحن ضحاياها
* * *
المَنِيُّ والمنيَّة لحظتان متعانقتان، الأولى إشارة بداية الحياة، والثانية إشارة نهايتها. هذا الجنس بينهما، أعني الجناس، يصح في اللغة العربية فقط.
وهناك المَنِيَّة بمعنى الموت، والمُنْيَة بمعنى الرغبة المَرْجُوَّة. هما جِناس وطِباق في آن معاً، أي تتشابه حروفهما، أمَّا معناهما فعلى طرفي نقيض غالباً، ولكنهما يتوافقان أحياناً، وقد أشار المتنبي إلى ذلك بقوله:
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا
وحسْبُ الـمـنـايا أن يـكـُنَّ أمـانـيـا.
* * *
“البريد” تعني “الدابة المركوبة”، وقد وصلتنا عن إحدى اللغات القديمة، ويقال إنها بعد سلسلة من التنقلات وصلتنا معرَّبة عن “دُم بُرِيده أو بُريده دُم” أي “مقطوعة الذنب”، لأن الرسُل كانت تركب البغال المقصوصة الذنب. وحين نقول “طرود بريدية” فالأرجح أن المقصود هي تلك الرزَم أو المغلفات التي تحملها تلك البغال وتُساق بها طراداً للوصول بسرعة. الطرد في الأصل مصدر فعل طَرَدَ، ولاحقاً صارت للدلالة على اسم المفعول، أي المحمول أو المطرود. غريب كيف لم يستطع أجدادنا أن يجدوا لنا أيسر من هذه التعريبات والاشتقاقات.
* * *
قال لي: نوِّرني اَلله ينوِّرعليك. كيف يقولون إن العقارات هي الأدوية، وهي نفسها تعني الأملاك الثابتة كالأرض والدار. يعني بلا مؤاخذة هذه شغل حزازير وألغاز.
قلت: لا أخفيك أن هذه المسألة شغلتني في أول شبابي، ولكن بعد البحث والتمحيص تبيّن لي أن العقارات خاصة بالأملاك، والعقاقير خاصة بالأدوية، وأن مفرد العقارات هو َعقَار بفتح العين والقاف، أمّا مفرد العقاقير فهو عقَّار بفتح العين وتشديد القاف مع الفتح، ولكنَّ كثيرين لا يعرفون أن القاف مشددة، ولهذا يتوهمونها “عَقَار”، ومن ثم يتوهمون أنه يُجمَع على عقارات. العقَّار صيغة مبالغة من اسم الفاعل عاقر، أي قاطع أو ذابح مثل عاقر ناقة صالح، وبالتالي العَقَّار هو الذبَّاح أو القطَّاع، أي هو الذي ينهي المرض أو يعقره ويقطع نسله، فلا خَلَف له ولا ذرّيّة.
* * *
هناك تركيب دارج يستخدمه كثير من الناس وهم يفهمون دلالته العامة، لكنهم لا يفهمون حقيقة معناه ومبناه، فيقولون “مزَّقه إِرَباً إرَباً” على وزن “قِطَعَاً قِطَعَاً” معتقدين أن الأمر جمع مكرَّر. وقد يستغربون ويستهجنون لو قلتَ لهم إن أصل التركيب هو “مزَّقه إرْباً إرْباً” أي عُضْوًا عُضوًا، والجمع آراب وأرآب، كجمع رئم على آرام وأرآم. وكذلك الأمر في معنى قولهم “مزّقه شِلواً شِلواً”، أي عضواً عضواً أو قطعةً قطعةً من اللحم، وجمع الشلو أشلاء. والإرب والشِّلْوُ لا تكون إلا مع الإنسان والحيوان.
تُرى لماذا لا يخطر في بالنا أن نقول: وَصَلَه أو بناه أو رمَّمه إرباً إرباً؟!
* * *
حين كان أجدادنا حكماء وتاريخهم محترماً، كانوا يطلقون على المرأة التي يغنيها جمالها عن الزينة وصفاً أو لقباً كريم الدلالة هو “الغانية”. مع انحدار وركود وتعفُّن التاريخ والمجتمع وتلوُّث المعاني والدلالات والضمائر والوقائع، صار وصف “الغانية” مشحوناً بالرخص والازدراء والغمز واللمز وهلمَّ جَرَّاً وحَرَّاً وضرَّاً.
* * *
أنا من جيل فتح عينيه على أفكار وأمثال يتداولها الناس بصورة تبعث على الحزن والخيبة والألم واليأس من قبيل (كّل افرنجي برنجي)، أي كل أجنبي حسنٌ أو جيد، وذلك يعني أن ما هو ليس أجنبياً ليس جيداً. وزن كلمة “برنجي” يشير إلى أن أصلها تركي أو فارسي، ولكن لدينا تصوّر عربي يفضي إلى نفس المرارة، ويتلخّص بمعنى أو دلالة “الأصلي والوطني”، فالأجنبي أصلي وجيد في حين أن الوطني أو المحلّي رخيص ومغشوش أو سيء الصنع.
ولأني من ذلك الجيل الذي فتح عينيه على الموقدة والتنور والسراج في عهد ما قبل الكهرباء، فإني أتذكّر أن أمي كانت ترسلني لأشتري “بلورة” للسراج. تعطيني فرنكين وتقول: انتبه، أريدها بلّورة أصلية فالليلة عندنا ضيوف. في الأحوال العادية تعطيني فرنكاً أو نصف فرنك وتقول: هات بلورة سراج وطنية.
ولأني كبرت مع اللغة، واللغة منطق، فقد بدأت أستعيد معاني الألفاظ ودلالاتها: الأصلي تعني الإفرنجي أو الأجنبي، والوطني تعني المحلّي. ولكن لماذا الأصلي أفضل وبالتالي أغلى من الوطني أو المحلّي؟
لقد ازدلفت الدلالة اللفظية لكلمة “أصلي” فصارت تعني نقيضها.
حين نقول “سكان أصليون” فالمعنى أن أصلهم من البلاد التي يسكنونها، وقد سكنها أجدادهم من قبلهم، فكيف تبدّلت الدلالات وصار الأجنبيّ أصلياً محترماً، والمحليّ وطنياً رخيصاً أو قليل احترام؟
يمكننا المضيّ في هذا السياق لنقرأ معنى ماركة وغير ماركة. يقول لك بائع، سوري مثلاً، وأنت تساومه لتخفيض السعر: عمي أنا عمبيعك ماركة، وإذا ودّك بضاعة “هات إيدك والحقني” فعندي بنصف السعر. الماركة هنا تعني أن البضاعة أجنبية، في حين أن “هات إيدك والحقني” تعني بضاعة محلية سيئة.