في تاريخنا البعيد، حين لا جرائد ولا راديو أو سينما أو تلفزيون، كان الناس يؤلّفون ويتداولون قصصاً وحكاياتٍ ونوادرَ غرائبيةً وشيّقة، يُزجّون بها وقتهم ويسرِّحون خيالهم وأحلامهم. أمّا أن نأخذها نحن الآن بكلِّيَّاتها وجزئيّاتها على أنها حقائق، فتلك والله إحدى الطامّات.
من بين تلك الحكايات ذلك البيت الشعري الذي شَهَرتْه حكايتُه، فتداولته الركبان والمدارس والجامعات، منسوباً للشاعر علي بن الجهم، حين مدح الخليفة المتوكِّل قائلاً:
أنت كالكلب في حفاظك للودّ وكالتيس في قِراع الخطوبِ.
ويكملون الحكاية عن كيف صار شعر ابن الجهم رقيقاً عذباً بعد أن أسكنه الخليفةُ في نعيم قصور الرصافة.
تشير الوقائع والتواريخ إلى أن المتوكّل استلم الخلافة عام 847، في حين أن ابن الجهم رثى الشاعر أبا تمام الذي توفي قبل ذلك بعامين 845، أي قبل أن يصبح المتوكّل خليفة، وقد كان رثاء ابن الجهم لأبي تمّام غاية في الرقة والرهافة والطراوة، كما في قوله:
غـاضَتْ بـدائـعُ فِـطـنَـةِ الأوهـامِ = وعَدتْ عليهَا نكبَةُ الأيامِ
وغَدا القريضُ ضئيلَ شَخصٍ باكياً = يشـكـو رَزِيَّتَـهُ إلى الأقـلامِ
كيف يمكن لمن قال هذا الشعر عام 845، أن يقول في الخليفة المتوكل عام 847:
(أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ)؟!
* * *
المرايا والمرائي جمعان فصيحان للمِرآة، مثلما السيوف والأسياف جمعان للسيف، ويكثر أن نجد لبعض الكلمات عدة جموع، كجمع ضيف على: أَضيافٍ وضُيوفٍ وضِيافٍ وضِيفانٍ، وكجمع نَجْدٍ على أنْجُدٌ وأنْجادٌ ونِجادٌ ونُجودٌ ونُجُدٌ وأنجدة. أحسب أن التزام أجدادنا الشعراء بالأوزان والقوافي، دفعهم إلى أخذ راحتهم في الاشتقاقات بما يخدم أوزان وقوافي قصائدهم، هذا إضافة إلى تنوع الاشتقاقات بين قبيلة وأخرى.
* * *
يسألونك عن مثال أو تطبيق شديد البساطة والوضوح عما تعنيه “المفارقة” كحالة لغوية أو بلاغية. قل هي أمر من قبيل أن يقول السُّنَّة والشيعة، على سبيل المثال، أن العبادة لا تكون لغير الله، ومع ذلك فإن الشيعة يسمّون “عبد عليّ”، والسنّة يسمّون “عبد النبيّ”.
* * *
ما أكثر ما قرأت من أهجيات لما يسمى “شريعة الغاب”، وكم بودي أن أعيد الاعتبار لهذه التسمية، وذلك لأنها في أسوأ الأحوال تنطوي على وجود “الغابة”.
لم يخطر في بالي إمكانية أن تأتي سلطة، تحتطب الأخضر واليابس، فتبيد الغابات، وتشيع التصحُّر حتى في النفوس والأحلام، ومع ذلك تستمر بنفس الشريعة المنسوبة للغاب!
هناك العديد من الأنظمة العربية التي يمكن اعتبارها نماذج باهرة لشريعة الغاب ولكن بدون الغابة.
* * *
– أين أبوك يا ولد؟
– أبوي بالبيت.
– من حاله؟
– إي من حاله.
سمعتُ هذا الحوار على أطراف مضارب البدو في جوار قريتنا.
قلت لنفسي: لا بد أن الرجل حين سأل الولد إن كان أبوه “من حاله”، كان يقصد إن كان لحاله أو بحاله أو بمفرده.
لاحقاً في الجامعة، قرأت أن بين القبائل من يقولون: “من ربي ما فعلتُ كذا” وهم يقصدون “بربي”، ثم انتبهت في سورة طه إلى قوله تعالى: “وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ”، والقصد هنا “على جذوع النخل”. وأخيراً قرأت أن الكوفيّين وبعض البصريين ذهبوا إلى أنَّ حروف الجرِّ يجوز أن ينوب بعضها عن بعض. ما أرحب أجدادنا الأوائل، وما أضيق أرواح وعقول آبائنا اللغويين وأعمامنا والفسائل.
* * *
قال: اللغة السويدية عجائبية فعلاً. تخيل أنهم يلفظون حرف جي “J” كما لو أنه ياء. اِسمي مجد يصبح عندهم مَيْد.
قلت: وأنا ينادونني فراي بدلاً من فرج، غير أني لا أستغرب، ففي كثير من مناطق الكويت والسعودية وجنوب العراق يقولون “ريَّال” بدلاً من رجّال، و “مسيِد” بدلاً من مسجد، و “دَياية” بدلاً من دجاجة. وهذه الطريقة في إبدال لفظ الجيم ياء هي لغة “تميم” التي أعلى كثيرون من علماء اللغة شأنها إلى حد اعتبارها الأكثر فصاحة وقابلية للقياس.
* * *
الحيادي لغةً هو غير المتحيز. وحادَ عن الطَّريقِ الْمُسْتَقيمِ تعني أنه عدَلَ عَنْهُ، وحاد عن الشيء تعني أنه مال عنه وتجنبه وبالتالي ابتعد عنه، ومن يميل أو يبتعد عن شيء أو عن شخص، فإنه ليس حيادياً تجاهه، بل يمكننا الاستنتاج أنه منحاز لشيء أو لشخص آخر. ويقال إن موقف فلان ينطوي على حيدان واضح لصالح زيد على حساب عمرو، أي لديه ميل وانحياز لزيد، ما يعني أنه ليس حيادياً، هذا إلا إذا اتفقنا على أن الحيادي هو المنحاز، وفي هذه الحالة قد يعاد النظر بتسميات سابقة من قبيل “حركة عدم الانحياز” و “الحياد الإيجابي”.
لا شك أن هناك من سيستغرب كل ما أقول ويأخذه العجب، وسلفاً أقول إن الحق معه في أن يستغرب ويستهجن، ولكن المهم هو إبعاد العجب عبر إبداء السبب.
القصة بمتنها وحواشيها ناجمة عن عدم التمييز بين فعل حادَ وفعل حايَدَ.
من حاد فقد انحاز، ولكن مَن حايد فقد كفَّ خصومته، وبالتالي فالحياد مصدر فعل حايد.. أما فعل حادَ فمصدره حَيْدٌ وحَيَدان، أي ميل وانزياح وانحياز، والحيادي اسم منسوب إلى المصدر (حياد)، وليس إلى (حَيَدان) الذي هو مصدر فعل حادَ.
أما الفعلان حادَ وحايد، فرغم أن جذرهما واحد إلا أنهما يفضيان إلى معنيين يتضافران حيناً ويتنافران أحياناً.