ازداد البرد في أم الحيران بعد غياب الشمس ورحيل المئات الذين زاروها متضامنين. تَرَكَنا توفيق ليضيف خشبًا على نارٍ بدأت تشتعل في الساحة الترابية وتحلّق حولها الشباب الجالسين على كراسي بيضاء طارئة. اشتدّت الظلمة، وقد حان وقت رحيلنا منها نحن أيضًا، لنعود إلى الشمال. اختفى توفيق بين الشباب المتحلّق حول اللهب، ولم نقل له وداعًا. هل كنّا نريد توديعه؟ أم توديع القرية؟ فربما تكون هذه آخر مرة نزور فيها أم الحيران، فقد علمنا، خلال هذا اليوم الطويل، أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت أنّها ستهدم كلّ بيوت القرية حتى نهاية آذار. كيف وصلنا إلى هذه النهاية؟ أم أنّها بداية؟
كان توفيق قد استقبلنا قرب ركام بيت الشهيد يعقوب أبو القيعان. "يعقوب بكون عمّي"، قال. "هون انقتل"، وأشار إلى مكان قريب من سبابته "طخّوا عليه، وتدهوّرت السيارة، كانت تزمّر". فتى في الرابعة عشرة، يسرد لك تفاصيل موت عمّه بهدوء. خلف ركام بيت الشهيد، باتجاه الشمال، ليس بعيدًا أيضًا عن سبابة توفيق، نُصبت أعمدة حديدية طويلة، قسمٌ منها ظاهر وقسم آخر اختفى وراء مقاطع الجدار الجديد غير مكتمل البناء.
عروة سويطات، صديقي مخطط المدن الذي رافقته منذ الصباح في الطريق إلى أم الحيران، من حيفا، سأل توفيق عن هذا الجدار الذي لم يكن هناك قبل أشهر قليلة، حين زار القرية وقابل أهلها ناشطيها ضمن بحثه عن التخطيط عند الشعوب الأصلانية، وطلب منه أن يصطحبنا إلى ما وراء الجدار. لم يتردّد توفيق، ورفيقه ماجد، وبدأنا نصعد التلة بين الركام نحو الجدار القريب. قبل أن نمرّ من تحت الأعمدة الأفقية للجدار، سألنا توفيق إن كنا نقرب للمعلمة لينا من الشمال. "من وين من الشمال؟"، سألناه، ولم يعرف "من الشمال، بتحكي زيكم". "ممكن" قلت له كي لا أخيّب ظنّه نهائيًا، لقد أحبّنا كما يبدو بسبب حبّه لمعلمته، وتبعته بين تلال تراب الحفر التي بدأت توسّع الطريق للمستوطنة الجديدة: حيران.
حيران لن تكون وحيدة هنا. ستبنى 14 مستوطنة جديدة في هذه المنطقة القريبة إلى حدود منطقة الخليل، من منطلقات أمنية إستراتيجية. ستستوطن حيران مجموعة استيطانية يهودية متدينة، تنتظر الانتقال إلى هنا، وهي تسكن منذ عام 2010 بمعسكر "يتير" القريب فيما أسموه "معكسر تأقلم مؤقت"، ومكوّنة اليوم من 35 عائلة، تخطّط أن تتوسع بعد انتقالها لتصير 2500 عائلة.
بينما كنّا نمشي نحو رأس التلّة على الطرق الجديدة، رأينا جرّافتين محروقتين، ما زالت النار مشتعلة فيهما. هاتين الجرّافتين كانتا قد بدأتا بقضم الأرض لوضع البنية التحتية للمستوطنة الجديدة. عندها سألنا توفيق بسؤال "شو بشعر اللي كان يهدّ؟!"، ولم نجبه، إذ لم نهدّم بيتًا يومًا. سألته "شو بشعر اللي بنهدّله بيت؟" ولم يتعجّل بالإجابة. كنا قد وصلنا إلى رأس التلة، أشار لنا إلى جسرٍ لم يُستكمل بناءه بعد فوق وادي عتّير ليكون الطريق قريبًا إلى حيران اليهودية. من هناك التقطنا صورة للاستعمار.
خلال بحثه عن التخطيط عند الشعوب الأصلانية، أي الشعوب التي تعرّضت لاستعمار أفقدها سيادتها على بلدها وفرض عليها مواطنته واستولى على أرضها وأقصاها سياسيًا اجتماعيًا واقتصاديًا، لكنها بقيت في حيّزها المكاني، طوّر عروة، ومن خلال دراسته لتجربة المجتمع المدني في النقب ومواجهته للمخططات الإسرائيلية العنصرية، نموذجًا نظريًا مركبًا ومثيرًا. في نهاية الفصل التحليلي لأطروحته، التي قدّمها العام الماضي، كتب واثقًا: محطة المواجهة القادمة، بعد مخطط برافر ومواجهته بالحراك الشبابي، هي محطة أم الحيران. لقد وصلنا. ستكون محطة تحدٍ للسيادة واستعادة لخطاب الحقّ الأصلاني الجماعيّ بالوطن، بعد أن خصخص خطاب الحقوق النيوليبرالي الأرض وغيّب خطاب المراحل السابقة النقاش حول الغبن التاريخي.
الخطورة في قضية أم الحيران، بنظر الخبراء القانونيين القلقين اليوم في مركز "عدالة" الذي يرافع عن هذه القضية في المحاكم الإسرائيلية منذ ثلاثة عشرة سنة، لا تكمن فقط في هدمها وتهجير أهلها، بل في أنّه، ولكون قضيتها أسهل قضائيًا من باقي قضايا القرى غير المعترف بها، لوضعية انتقال سكانها إليها من وادي زُبالة القريب بإذن من الحاكم العسكري في الخمسينيات، قد تكون فاتحة خطيرة لهدم باقي القرى التي تعتبرها المحاكم الإسرائيلية "غازية" على المكان. هناك 40 قرية غير معترف بها في النقب، يسكن فيها حوالي 100,000 إنسان دون أية خدمات، ستكون معرّضة، إن هُدمت إم الحيران، إلى خطر أشدّ كمسحها عن الوجود.
والخطر الأكبر، يتجاوز النقب إلى كلّ مناطق الـ 48 والقدس، إذ أنّ الهدم الذي طال قبل أيامٍ 9 بيوت في بلدة قلنسوة بمنطقة المثلث، وبعده في أم الحيران، يُنذر كما يبدو إلى بداية تنفيذ خطة حكومية معروفة لهدم 13,000 بيت عربي "غير مرخّص"، في أجواء التحريض والعنصرية والانفلات. وهذه قد تكون معركة حقيقية. الأيام القريبة ستقرّر، والأمر يتعلّق بقوة الردّ النضالي.
لم نبحث عن توفيق لنودعه، تركناه يضيف خشبًا على النار لتشتعل أكثر، فالليل في أم الحيران بارد، خصوصًا لمن بقي في العراء. ولم أرد أن أودّع أم الحيران الجميلة.
"فأنا أخشى أن لا أراك بعد أن أوّدعك
أنا في الوداع أعجوبة
أنا لم أودّع شيئًا من أشياء الدنيا
إلا وفقدته إلى الأبد
ولم أمدد يدي بالوداع لمخلوق
إلا وتمنيت عبثًا أن لا أموت قبل أن أراه" (طه محمد علي)
الطريق إلى أم الحيران، هي الطريق التي سنسيرها من أم الحيران.