عمل ممدوح عدوان على كتابهِ تهويد المعرفة ليكون مقدمة الترجمة العربية لكتاب كيت وايتلام "تلفيق إسراءيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني". وكتابة إسراءيل بهذا الشكل لتمييزها عن إسرائيل/ الكيان المعاصر. إذ إنّ كتاب وايتلام، يتحدث عن إسرائيل القديمة، وهي ما أسست عليهِ إسرائيل/ الكيان المعاصر أكبر أكاذيبها "أرض الميعاد".
يتعاطى الباحث في إرث ممدوح عدوان الأدبي، وبالنظر إلى إنتاجهِ، كما لو أنّه يبحث في أرشيف لمركز أبحاث، لا لغزارة الإنتاج وتنوعهِ وحسب، وإنّما جراء إخلاصه للصنوف التي كتب فيها كافةً. نتعرف عليهِ في كتابهِ "تهويد المعرفة" باحثًا استقصائيًا ومفككًا، في الآن نفسهِ، لأكاذيب قام عليها المشروع الإسرائيلي.
يعلمنا ممدوح عدوان كيف يكون الكاتب مشتغلًا رفيعًا وموضوعيًا في الثقافة، إنّه إذ يعري الزيف الإسرائيلي، فهو يكشف الآليات التي قام الإسرائيليون عبرها بتزييف التاريخ وتلفيقهِ، بما يخدم فكرة أنّهم "التاريخ"، أنّهم آباؤه ومصادره الأولى. بالتالي، يصير وجودهم في فلسطين حتمية تاريخية لا جدال فيها حتى بالنسبة للباحثين والمختصين الغربيين، علاوة على الناس غير الاختصاصيين.
عمل ممدوح عدوان على كتابهِ تهويد المعرفة ليكون مقدمة الترجمة العربية لكتاب كيت وايتلام "تلفيق إسراءيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني". وكتابة إسراءيل بهذا الشكل لتمييزها عن إسرائيل/ الكيان المعاصر. إذ إنّ كتاب وايتلام، يتحدث عن إسرائيل القديمة، وهي ما أسست عليهِ إسرائيل/ الكيان المعاصر أكبر أكاذيبها "أرض الميعاد".
يظهر الانشغال بمعرفة الماضي أساسًا لتفسير الحاضر، ولفهم تلك المقولة الإسرائيلية بأنّهم "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". إذ يزعم الإسرائيليون أن لا وجود في تلك الأرض لأي تاريخ سوى اليهودي، والتوراة هو المرجعية الوحيدة للتاريخ المتعلق بهذه المنطقة. لقد حاكى المنطق الإسرائيلي المتعالي الطبيعة الغربية لـ "الإنسان الأبيض"، والتي تعتبر أن لا وجود للشعوب الأخرى إلا كما يتصورها الغربي. وتاريخ أية منطقة يبدأ بوصول الإنسان الأبيض إليها، حال أمريكا التي اكتشفها الغرب، وباكتشافهم لها؛ كأنّهم قد أوجدوها من الصفر، وأخرجوها من العدم.
يأخذ ممدوح عدوان، صاحب العقل النقدي الشجاع والتفكيكي، الذي عرفناه في كتابهِ "حيونة الإنسان"، اقتباسات من مراجع عدة تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة، ويضع هذه الخلاصات ضمن رؤية وسمت أعماله البحثية، إنّها رؤى نافذة ومحذرة. كانت في حيونة الإنسان تستنطق الإنسان ببسالة تردع الوحش في داخلهِ، وفي تهويد المعرفة تستنطق العدالة وتضيء للعقلية العربية واحدة من أكبر مثالبها؛ إنكار العمل الثقافي لصالح العمل السياسي/ السلطوي والحزبي. إنّ ممدوح عدوان يرمي عبر "تهويد المعرفة" إلى حث العرب على بناء معرفة مقابلة، إذ إنّ كل معرفة، بصورة ما، تكتسب هوية حامل شعلتها وتنتصر لهُ وبهِ.
يفنّد عدوان المقولات التي قامت عليها إسرائيل، ويسلسل بطريقة متتالية وسلسة ومفهومة، الخديعة الكبرى التي احتالت إسرائيل من خلالها على العالم. يعتمد في بحثهِ على نفس أدوات "صناعة الوحش"، وإنّما يخبرنا الآن، كيف صُنع كيان الصلف والأمر الواقع، باستغلال حشدٍ من الآليات الأكاديمية الأدبية والدينية. يخبرنا كيف مثلت إسرائيل دور المعتدي، لا على الأرض والحقوق وإنّما على التاريخ أيضًا، إنّه بهذا يستنطق التاريخ، ويقرأه قراءة باحث محايد ورصين. حيث بسيطرة الإسرائيليين على العقل الأوروبي، سيطروا على "عقل العالم"، وسيطروا بالتالي على القرار الأوروبي أو أثروا بهِ. بعيدًا عن التأثير السياسي المباشر، يستعرض عدوان جانبًا آخر من التأثير، بالاقتباس عن سلسلة طويلة من الشواهد في الأدب الإنكليزي، يُظهِر كيف تم تغيير صورة اليهودي من شايلوك/ "اليهودي المرذول" إلى درجة التماهي مع العقل المسيحي، وتصوير اليهودي على أنّه "مخلص" وصانع سلام وبطولات، حتى صارت قضية اليهود جزءًا من قضايا التحرر في الفكر الغربي.
يبحث عدوان مكونات الوعي عند الإنسان الأمريكي كنموذج، إذ إنّ "النظام العالمي الجديد" بحسب بات روبرتسون يعتدّ بالكتاب المقدس، ويزعم روبرتسون وفق قراءة خاصة له، أنّ من واجب العالم القضاء على أعداء إسرائيل. لكن هل يصور عدوان العالم ضحية ولعبة في يد الحركة الصهيونية؟! إنّه يقدم قراءة محددة الوظيفة فحسب، لأثر اليهود في العالم. ويشير إلى الدهاء الإسرائيلي، فقد يطلق يهودي في موقع علمي رأيًا يصبّ في صالح إسرائيل، ما يلبث أن يتلقفه آخرون ويرددونه على أنّه رأي علمي ومرجعي، ثم تشتغل الماكينة الإعلامية على تعميمهِ ونشرهِ بين الطلاب والدارسين.
إنّ العالم برمته عرضة للابتزاز الإسرائيلي، يتجلى ذلك، أيما تجلي، في الهولوكوست، كما لو أنّ العالم كاملًا، مسؤول عن المجزرة التي قام بها النازيون. لقد عزز الإسرائيليون صورة أنّهم شعب مظلوم ومعذب، في المقابل، لم يتوقفوا عن تكرار ضرورة "أن يفنى شعب من طينة أنقص ليظل الشعب ذو القدرات الأعلى". وفق هذه المقولة العنصرية يتم قتل الفلسطينيين، ووأد تاريخهم وحرمانهم منه. إذ يخبرنا عدوان، أنّ كلّ تاريخ يستمد معناه وقيمته من علاقته بإسرائيل أو العبرانيين، إنّنا في النتيجة إزاء "تاريخ مهود ومعرفة مهودة"، والعرب الذين تم اقتلاعهم من أراضيهم، قبل ذلك، تم اقتلاعهم من التاريخ.
ينبّه عدوان في نهاية كتابهِ الصادر عن دار ممدوح عدوان في طبعات عديدة: "نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضًا. وهذا يكشف لنا عن الاتساع الحقيقي لميدان الصراع"، ويذكر أنّه صراع لتكوين عقل هذا العالم.