في نهاية هذه المقاربة يبدو كتاب الراحل ممدوح عدوان أشبه بصرخة أخيرة أطلقها وهو يرى البشرية تتجه بتسارع إلى فنائها، صرخة عميقة وأخيرة يقول فيها إنه مازال هناك أمل لنعود بشراً، فليس قدر البشر أبداً أن يكونوا جلادين وضحايا، وإن العنف لعنة لن نستطيع أن ننعم بعيشنا إلا في تفكيكها، تماماً كما نحارب ذلك الوحش الكامن في دواخلنا.
كما يبدو فإن تاريخ تطوّر البشرية ما هو إلا محاولات الإنسان للهرب من الوحش القابع في أعماقه! إن كان ذلك عبر إيديولوجيات اللاعنف أو التيارات والحركات الثقافية والفنية اللي فضحت العنف وسلطاته وحاربته في مكامنه الخفية عن العامة.. وما إلى ذلك، لكنه تاريخ دأب الإنسان فيه على معاملة الأناس الآخرين كحيوانات أيضاً، وبهذا عمل على إبقاء الحيوان الذي في داخلهم، بل وتغذيته وتنميته وخلق الشروط المناسبة لاستفحاله في داخلهم وفي داخله كذلك، فحين يردّ المقموع على القامع كحيوان يستوجب الردّ عليه كحيوان، وهكذا تخسر البشرية دوماً في هذه الدوامة المتوالدة محاولتها للتطور!
في الكتاب الأخير الذي كتبه الراحل ممدوح عدوان وهو بعنوان "حيونة الإنسان" يظهر كم أن الإنسان كائن يفوق بوحشيته وفظائعه ليس الحيوان فحسب بل كل كائنات الأرض، على عكس ما قد يوحي به العنوان، وكم أن لدينا آراء خاطئة عن الحيوانات التي لديها مخالب وأنياب، فهي لا تفتك بأبناء جنسها، لا تقتل للتمتع أو للإبادة، لا تعذّب ولا تتلذذ بالتعذيب، وبهذا نتأكد كم أن التوحش صفة إنسانية!
هذا النصّ هو أشبه بمقاربة لواحد من الكتب المهمة الصادرة في العقدين الماضيين في العالم العربي والذي يسلّط الضوء على العنف الكامن في كل مفاصل حياتنا.
عودة شريعة الغاب
كما أضفى المستعمرون الكولونياليون على الشعوب التي استعمروها صفات الحيوانات ومنزلتهم كي يسوّغوا أفعالهم الشنيعة بحقهم، وكي يقنعوا أناسهم بصحة ما يفعلون فلا تعتبر جرائم بحق بشر، كذلك عمل الإنسان بالعموم وعلى مدار تاريخه على تشبيه خصومه من الناس بالحيوانات، باعتبارهم أقل مرتبة منه، لتسويغ استعبادهم أو قتلهم، تماماً مثل تسويغ اضطهاد المرأة بكل أشكاله، واعتبارها أقل شأناً، أو تبرير الاغتصاب: التعبير الجنسي عن العدوانية.
يطرح "جون غالتينغ" قولاً فصلاً يلخّص التغيّرات الحضارية للبشرية بأربع مراحل: البدائية، التقليدية والحديثة وما بعد الحديثة، وفي هذه عودة للبدائية من عنف وفوضى وتشويش، أي عودة لشريعة الغاب! فالانتقال إلى ما بعد الحداثة هو انتقال للدمار، حيث مفتاح الدمار:tele تلفون، تلغراف، تلفزيون.. باختصار بدأ الدمار الحقيقي للإنسان حين تخلّى عن اتصاله الحقيقي ببني جنسه! بمعنى أن الفلاسفة والكتاب تخلّوا عن حلمهم القديم باليوتوبيا وصاروا ينظّرون حديثاً للأنتي يوتوبيا.
أولى علائم هذا هو الاعتياد، ويمكن اختصار ذلك باقتباس ملخّص أورده ممدوح عدوان من روايته "أعدائي": "نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا". بعد ذلك يمكننا أن نتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا من عنف وخراب!
العنف
الأنتي يوتوبيا التي نعيشها اليوم تتلخّص في كتاب "حيونة الإنسان" بالعنف، وكما رأى "جون غالتينغ" فإن العنف والإرهاب يتفشى اليوم بسبب غياب البنية والثقافة، ونتيجة الفوضى الاجتماعية. حيث يصنف الإرهاب إلى ثمانية أنواع: العنف ضد الطبيعة (الجرائم الإيكولوجية)، ضد الذات (الإدمان والانتحار)، ضد الأسرة (النساء والأطفال)، ضد الأفراد (السلب والقتل والاغتصاب)، ضد المؤسسات (الفساد)، الإرهاب الأهلي (الحروب الأهلية والعنف الطبقي)، العنف الخارجي (حروب ضد الدول)، العنف ضد الكواكب.
لكن هذا العنف المنفلت من عقاله لا يمكن أن يستمر إلا تحت حكم دولة ضعيفة أو دولة ترعى هذا العنف، مما يجعل هناك تمظهرات أساسية للعنف أولها:
١- سيادة أنظمة القمع والاستبداد
الأنظمة القمعية التي تريد إبقاء البشر في المرحلة الغريزية الحيوانية الأولى، حيث يتلخّصون في ثنائية حادة: جلاد وضحية، لا تستطيع الاستمرار في مجتمع متماسك، لذلك فهي تهشّم الروابط السياسية والاجتماعية وتفرّق دينياً وثقافياً، وهي أسلحة هذه الأنظمة بقدر ما هي نتاجها. كما تقول "حنا أرنت": فالإرهاب لا يمكن أن يحكم البشر إلا وهم معزولين، لأن أولويات حكم الطغاة هي العزلة، والعزلة بداية الإرهاب وأرضه الخصبة، والإرهاب نتيجة العزلة.
وقد حدّد أرسطو كيف يحافظ الحاكم على سلطته، ويبدو ما قاله شبيهاً إلى حدّ بعيد بما يجري في معظم بلدان الديكتاتوريات وهي: تدمير روح المواطنين وزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم. القضاء على البارزين من الرجال. منع التجمعات. حظر التعليم. إغراء المواطنين بأن يشي بعضهم ببعض. إفقار الرعايا لينشغلوا بقوت يومهم. والحاشية التي يختارها الحاكم لتضرب بسيفه.
والأهم من كل ذلك فإن تأليه الطاغية كي يغدو بحكم المقدّس، لا يمكن المساس به، من أهم دعائم سيادة الاستبداد على الأرض.
٢- التعذيب
أحد أهم مظاهر العنف هو التعذيب، الذي لا يمارسه إلا الإنسان ضد الإنسان من أجل انتزاع الاعترافات أو من أجل المتعة فقط! ولسبب آخر هو تأدية خدمة للسلطة التي يحترمها أو يخاف منها الجلاد أو للإيديولوجيا التي يؤمن بها. هنا وكي يتمكن الجلاد من النجاح في مهمته يجب أن يصنّف الخصم باعتباره "لا إنسان"، بهذا فحسب يمكنه تدميره بدون الشعور بالذنب! والطغاة هم من يخلقون الجلاد والضحية، وهم من يمهدون لفكرة انقلاب الضحية إلى جلاد، في رغبة لدى الضحايا للانتقام من الجلاد ومن ذواتهم التي كانت مستكينة له. هذا ما يجعل تاريخ البشرية عبارة عن سلسلة متوالية من تبادل الأدوار بين الجلاد والضحية. فتوليد العنف يكون من قبل الذين تمّ تعنيفهم (الأولاد المعنّفون مثلاً غالباً ما يعنفون أولادهم فيما بعد)، وهكذا يمرّر العنف السيكولوجي من جيل إلى آخر.
والضحية هنا قد تكون أناساً وشعوباً وبلاداً وأحزاباً وقوميات، ومن هنا، من هذه النظرة الفوقية الإحتقارية، يتولّد التمظهر الثالث للأنتي يوتوبيا وهي نظرية الامتياز العرقي: أي التأكيد على الاختلافات التفصيلية التي يملكها شعب ما عن الشعب الآخر، حتى يعتبره أدنى منه وغير إنساني فيسوّغ قتله وإبادته، وكما يسميها إيريك فروم: "النرجسية الجماعية".
المقابل لذلك هي حالة الشرنقة التي تعيشها الأقليات المضطهدة، والتي تنظر إلى نفسها باعتبارها مصطفاة إلاهياً، تنتظر اللحظة التي تستطيع الانتقام فيها من الأكثريات التي اضطهدتها عبر الزمن. فالامتياز العرقي تمظهر أساسي من تمظهرات العنف ومن نتائجه كذلك، فكل ذلك العنف ضد الأعداء يرتد إلينا كعنف داخل المجتمع، لأن الأجيال تتربى على أن القوة والعنف هما الحل، وأنهما جزء لا يتجزأ من الواقع الاجتماعي وشرط الوجود.
٣- ارتكاب المجازر
دائماً ما يكون إيذاء الآخرين أو ارتكاب المجازر كتنفيذ لأوامر عليا أشبه بإعفاء النفس من المسؤولية. الأمر الذي يذكّرنا بتجربة د. ستانلي ملغرام بجامعة يال الأميركية. والتجربة بيّنت أن 60% من الأمريكيين يمكن أن يصلوا إلى القتل إذا كانوا ينفذون أوامر سلطة عليا يحترمونها أو يهابونها! السؤال هنا إلى أي مدى يمكن أن يصل الأمر بالبشر لإيذاء آخرين لا يعرفونهم، وليس هناك أية صلة إيجابية أو سلبية بينهم. ففي المجزرة يقوم الديكتاتور بتوزيع المسؤوليات والواجبات فيخفف هذا من نصيب كل شخص أو طرف ومن العبء الناجم عن مسؤولية عمليات التقتيل الجماعي، وبالتالي يخفف الناس من عبء (إنسانيتهم) بتجيير المسؤولية إلى السلطة التي أعطت الأوامر بالقتل.
فمفهوم الطاعة ساهم في صنع الحضارة بالتأكيد ولكنه غيّر من طبيعة الإنسان، وعمّق من أهمية المصادفة الأخلاقية، التي تجعل الحاجة إلى سلطة تقي بأوامرها ضميرنا الهش وتدافع عنه من أهم أسس استمرارنا، في زمن صارت غريزة الطاعة عند الإنسان من أهم الغرائز.
٤- التمتع بالعنف
التمتع بألعاب وأفلام العنف تعبير عن تمتّعنا بالعنف كثقافة، هذه حقيقة ينبغي أن نفكّر بها، تماماً كما علينا التفكير في تاريخ كامل من تبرير العنف عاشه الإنسان على مر الزمان، استعان فيه بالمقدّس لتبرير عنفه، وكمثال على ذلك الأضحيات والثأر والطقوس الدينية والتبارك بالدم وغيرها. والتعذيب العلني للضحايا، الذي نشهده على مرّ الوقت، ليس نوعاً من العبرة والتخويف للغير كي لا يقترفوا ما اقترفته الضحية فحسب، بل المطلوب من التعذيب أيضاً الإذلال وسحق الكبرياء والكرامة، حيث يستمتع الجلاد بالذعر والخوف لدى من يسحقهم، كما أتى هو من مجتمع مسحوق ومن تربية مذعورة شكّلته كجلاد.
٥- الاستسلام الأخلاقي
في ظل حكم الطغاة يصبح الخوف هو المسيطر، ينتصر الباطل فيعتقد الناس أن كل القيم الخيرة هي أوهام، فلا يثق المرء بأقرب العالم إليه. تخرج الكوامن الخبيثة ليستطيع الناس معايشة السلطة، ويصبح أغلبهم جبناء وانتهازيين وقتلة، وهذه هي حالة الاستسلام الأخلاقي التي تحوّل طبائع الناس وعاداتهم وأخلاقهم وقيمهم، وترسّخ مقولات التفكير المزدوج (مبدأ التقية). فحسب رأي الكواكبي لا يملك أسير الاستبداد شيئاً ليحرص على حفظه، لا وطن ولا عائلة ولا أصدقاء، وبالتالي لا شيء ليدافع عنه!
من حالة الاستسلام الأخلاقي هذه يأتي أنواع من البشر هم: الشبيحة أو البلطجية، وقد سماهم ممدوح عدوان: المتسلبطون. ملوك العالم السفلي الذين يرهبون المجتمع، وعملتهم الوحيدة هي العنف: قوة الجسد والسلطة والعصابة. هم أداة فوق القانون لإثارة الفزع، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف، احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان، حسب رأي الكواكبي.
فعل السلبطة هذا موجود في بلاد الأنتي يوتوبيا في أماكن كثيرة: الوظيفة والمجتمع والمدرسة والبيت، وهؤلاء المتسلبطون يحولون الوطن إلى سجن فيه كل أنواع التعذيب والإذلال المادي والمعنوي.
٦- العلاقة النفعية بين الدين والطغيان
علاقة الديني بالسياسي هي علاقة الوارث بالموروث، كما يقول لينين، ذلك أن الطبقات الحاكمة تحتاج للحفاظ على سيطرتها إلى وظيفتين اجتماعيتين هما: الجلاد والكاهن. وكما رأى كلود ليفي شتراوس: لا شيء يشبه الفكر الأسطوري أكثر من الأيديولوجيا السياسية، وقد تكون الأخيرة حلّت محل الأول فحسب في مجتمعاتنا المعاصرة. من هنا يتوضّح كنه تاريخ طويل من الغزل السياسي الديني أفضى إلى مجتمعاتنا المعاصرة التي بقي فيها عنف المؤسسات السياسية المتواشجة مع المؤسسات الدينية ولكن بشكل أكثر خفاء ورمزية، فكلا الخطابين الديني والسياسي يميل إلى خلق صيغة لغوية بصيغة الأمر.
في نهاية هذه المقاربة يبدو كتاب الراحل ممدوح عدوان أشبه بصرخة أخيرة أطلقها وهو يرى البشرية تتجه بتسارع إلى فنائها، صرخة عميقة وأخيرة يقول فيها إنه مازال هناك أمل لنعود بشراً، فليس قدر البشر أبداً أن يكونوا جلادين وضحايا، وإن العنف لعنة لن نستطيع أن ننعم بعيشنا إلا في تفكيكها، تماماً كما نحارب ذلك الوحش الكامن في دواخلنا.