العلاقة بين الفن ومتلقيه عملية تفاعلية، محكومة بعوامل معقدة، من بينها وعي المتلقي والظروف التي ساهمت في صياغته. المادة الإبداعية هي مجرد "منطلق" يستثير وعي المتلقي ويحفزه لإفراز رد فعل ما. والحالة هذه فالمبدع غير مسؤول عن طبيعة ما يستدعيه عمله من أفكار ومشاعر ومواقف.
يكاد يكون قولاً دارجاً أن اللغة هي مأزق مبدع النصوص. هذا يعني أن الرحلة من "الفكرة" إلى النص المعبر عنه لغوياً شاقة وطويلة، يفقد خلالها "المشروع الإبداعي" الكثير. في هذا المقال سأناقش مستوى آخر من مأزق اللغة. هناك إشكالية تطال الأعمال الإبداعية، متعلقة بالصوابية السياسية، بالمواقف السياسية، يواجهها الإبداع (السينما والأدب) في كل العالم.
منذ مقتل الشاب الأفروأمريكي جورج فلويد على يد شرطي أبيض البشرة حدثت حراكات بأشكال متنوعة، انطلقت من الولايات المتحدة وانتشرت إلى أماكن أخرى من العالم. أحد هذه الحراكات كان امتدادا لحراك انطلق قبل ذلك بسنوات، احتجاجا على نفس الفعل، لكنه اكتسب زخما أكبر بعد مقتل الشاب فلويد. وكان من مظاهر الاحتجاج على الثقافة العنصرية التخلص من تماثيل تحتفي بشخصيات يربطها المحتجون بأفكار عنصرية. أثارت هذه الأفعال جدلاً كان قد أثير في مراحل تاريخية سابقة على خلفية أعمال أدبية/فنية كانت مقبولة ضمن ثقافة العصر الذي أنتجها، لكنها لم تعد كذلك في عصر الصوابية السياسية. القضية تطرح إشكاليات سياسية، اجتماعية، فكرية، جمالية تتعلق بالإبداع، وسؤالا نقديا ما فتئ يشغل النقاد والقراء: أين يقف المبدع من شخصيات رواياته؟
ثقافة الكاتب وثقافة المجتمع
في إحدى الروايات الفلسطينية تحاول الأم إقناع ابنها بالزواج فتقول له إنها ستبحث له عن عروس شقراء، خضراء العينين. يتساءل الابن مازحاً: ضروري يعني تكون شقرا فتجيبه الأم: مش ضروري يا حبيبي، إن شاء الله إيدها بتسخم الحيط، المهم تعجبك (طبعا الكناية هنا عن كون الفتاة داكنة البشرة، تنضح بالعنصرية). لكن السؤال: هي عنصرية من؟ هل على الكاتب أن يدفع فاتورة الثقافة الاجتماعية التي تصورها رواياته؟
لعل من أشهر الأفلام والأعمال الأدبية العالمية التي واجهت هذه الإشكالية فيلم/رواية "ذهب مع الريح" للكاتبة الأمريكية مرغريت ميتشل. تتهم الرواية بأنها تروج أفكاراً عنصرية، على اعتبار أنها تصور الثقافة السائدة في زمنها، وهي ثقافة التمييز العنصري بكل تعقيداتها، ومنها تعقيدات علاقة الأسود "بسيده" الأبيض. هناك أكثر من توجه في التعامل مع هذه القضية الشائكة، وهي إشكالية أوسع من كيفية تمثيل الثقافة القائمة على التمييز العرقي فنيا.
في السياق الفلسطيني يواجه المبدعون على الناحيتين، الإسرائيلية والفلسطينية نفس الإشكالية. قبل سنوات سحبت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من المقرر الدراسي رواية للروائية دوريت رابنيان وعنوانها الإنجليزي "All the rivers"، والسبب أنها تصور علاقة عاطفية بين فنان فلسطيني وامرأة إسرائيلية، يهودية. لا تريد الثقافة التي يمثلها نتنياهو وبقية اليمين وجزء كبير من المجتمع الإسرائيلي أن يظهر الفلسطيني في الأدب الإسرائيلي "عاشقاً" أو شخصاً جديراً بحب امرأة إسرائيلية. الفلسطيني له ملامح فقيرة في الوعي الإسرائيلي السائد وهي التي يجب أن تصور في الأدب والفن أيضاً: ملامح شخص يكره، يريد أن يقتل، وبالضرورة "متخلف" حتى في مشاعره، فكيف تجرؤ روائية إسرائيلية على تصويره كفنان تقع في حبه امرأة إسرائيلية؟ هذه "خيانة"!
والآن كيف تبدو الصورة على الناحية الأخرى؟
شبح التطبيع
هناك مفهوم سياسي يتداوله الفلسطينيون بمجانية واستسهال، ودون أن يملك الكثيرون تعريفاً محدداً له، هو: التطبيع. تتراوح ماهية هذا المفهوم بين "إقامة فعالية ثقافية في بلدة أو مدينة فلسطينية خلف الخط الأخضر، لجمهور فلسطيني" و "إقامة علاقات مع سلطة الاحتلال بأي شكل من أشكال تمظهرها"، وبين الحالتين المتطرفتين تتسع المساحة لكثير من الأشكال، منها مثلاً ترجمة الأدب الفلسطيني إلى العبرية أو العبري إلى العربية، قراءة الأدب العبري، مشاهدة الأفلام التي يتعامل مخرجها مع الشخصيات الإسرائيلية بحيادية إبداعية، قراءة وكتابة أعمال أدبية يتعامل فيها الكاتب/الفنان مع الشخصيات الإسرائيلية بحيادية إبداعية… الخ.
ما حصل مع المخرج اللبناني زياد دويري يلقي ضوءاً على المدى الذي يذهب إليه بعض المتلقين في تعاملهم مع الموضوع. خلط البعض كل ما يمكن من عناصر القضية لاتخاذ موقف عام من شخص ومجمل نتاجه الفني. حصل أن قام زياد دويري بتصوير فيلم "الصدمة" في إسرائيل. هذا خيار من حق أي شخص أن يكون له موقف منه، هذا شأن يخصه. لكن هذا الموقف من شخص مخرج الفيلم لا يفترض أن يؤثر على التقييم الموضوعي (الفني) للفيلم والموقف منه. قد ينتج من تعتبره مناضلاً سياسياً فيلماً متدني القيمة أو يكتب رواية هابطة فنياً، وفي المقابل يمكن أن تختلف أخلاقياً أو أيديولوجياً مع مبدع آخر ولا يؤثر ذلك على تقييمك الإبداعي لنتاجه. وبالتأكيد لا يمكن اتخاذ مواقف من الأعمال الإبداعية "بأثر رجعي"، بمعنى أن خلافك مع المبدع عند نقطة ما لا يفترض أن يغير موقفك من أعمال له كنت قد أعجبت بها سابقا.
أين يقف الكاتب من شخصيات روايته؟
من المفروض أن يرسم الكاتب ملامح شخصياته الروائية بحيادية تامة برسم المصداقية الإبداعية، ويترك للقارئ اتخاذ ما يشاء من مواقف والتعبير عن ما يريد من مشاعر تجاهها. وتلزم المصداقية السردية الكاتب أن لا يهتدي سوى بالسياق في اختياره شخصياته. هذا يعني أن من حق الكاتب الفلسطيني ومن متطلبات عمله، إلى جانب تصوير الجندي والمستوطن ورموز الاحتلال الإسرائيلي الأخرى، أن يفرد مساحة لشخصيات إسرائيلية في أدوار أخرى تضطلع بها في الحياة، وأن يرسم ملامحها بحيادية موضوعية.
من المعروف للجميع أن الجندي على الحاجز في مدن وبلدات الضفة الغربية كثيراً ما يمارس التنكيل بحق المواطن الفلسطيني العادي الذي يتعامل معه بافتراض أنه هناك لتنفيذ عملية ضده، إلى أن يثبت العكس، وهذا أدى في أكثر من الحالات إلى إطلاق النار وقتل الفلسطيني بمجرد الشبهة. ومن المعروف أن الكثير من المستوطنين في الضفة الغربية يتعاملون مع المواطنين الفلسطينيين بعدوانية وعنف.
لكن ماذا حين لا تكون العلاقة بين فلسطيني وإسرائيلي محكومة بالمواجهة القاتلة؟ كيف يتصرف الطبيب الإسرائيلي في مستشفى مع مرضاه الفلسطينيين؟ وكيف يفترض أن يصور الروائي الفلسطيني تعامل موظف الاستقبال في فندق في تل ابيب مع نزيل فلسطيني؟ كثير من القراء والنقاد يستنكرون التصوير الحيادي لهذه المواقف، ويرغبون باستبعاد أي علاقة بين فلسطيني وإسرائيلي على صفحات الرواية خارج نطاق المواجهة وثنائية الاحتلال والاستيطان مع الفلسطيني الخاضع للاحتلال.
هل العمل الإبداعي مستقل عن مبدعه؟
يرى الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" أن الفن قائم بذاته، ورغم أنه لا يخدم غرضا خارج ذاته، إلا أنه يثير تداعيات داخل المتلقي ترتبط برسائل اجتماعية الطابع. لكن هل المبدع مسؤول عن طبيعة التداعيات التي يستثيرها عمله؟
العلاقة بين الفن ومتلقيه عملية تفاعلية، محكومة بعوامل معقدة، من بينها وعي المتلقي والظروف التي ساهمت في صياغته. المادة الإبداعية هي مجرد "منطلق" يستثير وعي المتلقي ويحفزه لإفراز رد فعل ما. والحالة هذه فالمبدع غير مسؤول عن طبيعة ما يستدعيه عمله من أفكار ومشاعر ومواقف. على المبدع أن يلتزم بالصدق الموضوعي في تعامله مع مادته الإبداعية، وهو في المقابل يمتلك هامش حرية معتبراً في المساحات التي يتيح لشخصياته التفاعل فيها. من حقه أن يصور الشخصية بما يتطلبه السياق السردي، دون أن يكون محكوما بمواقف أخلاقية أو سياسية مسبقة.
في المقابل، من حق المتلقي أن يحكم على العمل الإبداعي بكل جزئياته، بما فيها الرسالة التي يضطلع بها، دون أن يعزل الجزئيات عن سياقاتها. تسليط الموقف الأخلاقي، الأيديولوجي العام كالسيف على المبدع كفيل بخنقه وشل أدواته، وعندها لن ينتج سوى "مسوخ" إبداعية. كما قلنا، من حق المتلقي اتخاذ موقف أخلاقي من العمل، لكن دون عزل جزئياته وتأويلها بمعزل عن سياقه العام، ودون إسقاطه على الموقف الشخصي من المبدع. طبعاً، في واقع سياسي كالذي نعيشه تعتبر هذه الإشكاليات بمثابة متفجرات، مجرد إثارتها تثير الاستهجان في الأوساط المهنية والشعبية، فما بالك بممارستها!