كل هذا مشروع، وليس للروائي أن يعترض عليه. القارئ هو من يقرر إن كانت الشخصية بملامحها وسلوكها قد أقنعته أم لم تقنعه. لكن الاعتراض جاء على "السلوك غير الأخلاقي للشخصية". لا أدري كيف أفكك هذا التعبير "السلوك غير الأخلاقي".
شهد المجتمع الفلسطيني (والعربي بشكل عام) تحولات جذرية في الثلاثين سنة الماضية أدت إليها عدة عوامل ، لعل أهمها انهيار المنظومة الاشتراكية، وقبلها انتصار الثورة الإيرانية في مقابل فشل المشروع اليساري والعلماني العربي.
أدى ذلك إلى مظاهر واضحة وأخرى أقل وضوحا. من الظواهر الواضحة انتشار التدين وما يترتب عليه من مظاهر شكلية وعملية (الحجاب والنقاب) وانحسار مظاهر الحياة اللادينية التي كانت تميز معظم المجتمعات العربية في ستينيات القرن الماضي حتى نهاية الثمانينيات. قبل ثلاثين عاما كان شرب الكحول غير مقبول اجتماعيا في القرى والمدن الصغيرة، لكنه كان يباع في محلات البقالة في نابلس مثلا.
أما ظاهرة مراقبة سلوك الآخرين ومحاولة التدخل به (يصلي، يصوم في رمضان، يرتدي البنطلون القصير (الشورت)، محجبة، منقبة، حاسرة الرأس...إلخ...) فهي بدورها حديثة. في بلدتي ذات البضعة آلاف نسمة كان هناك مسجد واحد في الستينات، وكان كافيا لاستيعاب المصلين، الآن هناك أربعة مساجد تقام فيها الصلاة عبر مكبرات الصوت. توازيا مع هذا التغير المظهري يمكن ملاحظة الشي ذاته في المظاهر الثقافية.
"ما تبقى لكم"
العنوان هو في الأصل لرواية قصيرة (نوفيلا) لغسان كنفاني، واستعرته لسبب. الحديث هنا عما تبقى من ثقافة اليسار (بعد هزيمته كمشروع سياسي). مع انتقال المشروع الديني (الإسلام السياسي) إلى الواجهة لوحظ انحسار المظاهر الثقافية في حياة المجتمعات العربية. على مدى ما يقارب عقدين من الزمان اقتصرت الكتب المتداولة على الكتب الدينية بمستوياتها وأشكالها المختلفة: من الخرافات إلى كتب التنظير السياسي ذي الطابع الديني إلى الأدب ذي الطابع الديني.
في السنوات العشر الأخيرة شهدنا انتعاشا تدريجيا لقراءة الأعمال الأدبية. لا يزال توزيع الكتب متواضعا لدرجة محزنة، حيث تطبع معظم دور النشر العربية ألف نسخة للكاتب المنتشر، إلا في حالات استثنائية جدا، كفوز الرواية بجائزة أدبية ما، عندها يقبل القراء على شرائها، لكن القراءة انتعشت مع ذلك، وانتعشت معها سوق الكتب الموازية، كدور النشر السوداء (التي تطبع الكتب من وراء ظهر المؤلفين)، وتلك التي تروج نسخا إلكترونية من الكتب على الإنترنت.
وكما حصل مع اليسار على مستوى المظهر، حيث حاول المحافظة على وجوده باستعارة "مظهر" الآخر، فاصبحت تجد ماركسية محجبة، وماركسيا يصلي الأوقات الخمسة في الجامع، حصل الشيء ذاته على مستوى الثقافة، لكن بشكل موارب.
ولدت مفاهيم أدبية (أخلاقية) الطابع، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، تقيم العمل الروائي بناء على مدى التزامه بالمعايير "الأخلاقية" السائدة، سواء بمفهومها الضيق أو الأوسع قليلا.
نشأت ظاهرة "نوادي القراءة"، وهي مجموعات من الأشخاص المهتمين بالأدب، يقرأون أعمالا أدبية ويناقشونها معا، وأحيانا يدعون أحد المؤلفين لمناقشة عمل من أعماله. حين النظر إلى هذه الظاهرة على السطح فقد نشعر بشيء من التفاؤل، لأن القراء أخيرا كسروا احتكار الكتب الدينية، ولكن حين نتعمق قليلا في الظاهرة يتراجع تفاؤلنا.
ما تبقى من ثقافة "اليسار" هي قشور المفاهيم السياسية والأيديولوجية، وهذا واضح في كل مظاهر الواقع الأدبي: توجهات النقد الأدبي السائد، طريقة تعاطي القراء مع العوالم الروائية ومحاكمة المبدعين أخلاقيا.
لا أدري إلى أي مدى يقرأ القراء الجدد أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وحنا مينه وغيرهم، لكن من الواضح أن المفاهيم النقدية التي يطبقونها على الأعمال الأدبية الحديثة النشر اختزلت الأدب بكونه نتاجا سياسيا بالمفهوم الضيق جدا للسياسة. كل الكتابات الروائية لنجيب محفوظ هي كتابات سياسية، لكن مفهوم السياسة عنده بالطبع لا يعني "الوعظ" الشعاراتي والأخلاقي.
يرى الكاتب غالي شكري أن نجيب محفوظ كان "الحزب السياسي الفاعل الوحيد" في عهد عبد الناصر. طبعا الإشارة هنا إلى المضامين السياسية لرواياته، وتجدها فيها كلها تقريبا. لكن "السياسة" في أدب نجيب محفوظ لا تتخذ الشكل المباشر الذي يتوقعه قراء اليوم. السياسة نجدها في عمق الفكرة وتصوير الشخصيات.
في "التعاطي الحديث مع الأعمال الروائية أصبح هناك خلط مؤلم للمفاهيم، ناتج عن التأويل السطحي لها، وهذا أنتج مفاهيم متناقضة. من جهة يعتقد بعض النقاد أن رواية ما "شعاراتية بامتياز" إذا كانت بعض شخصياتها ممن يرددون الشعارات، و"غير واقعية" إذا كانت تصور واقعا يختلف في ملامحه عن "واقع الصالونات"، أي ما نرغب باستعراضه أمام الغرباء بفخر واعتزاز.
لا يمكن أن يكون أولئك قد قرأوا ثلاثية نجيب محفوظ، حيث تسير فيها مظاهرات حاشدة تردد الشعارات، وتحتدم النقاشات بين شخصياتها التي تستعرض توجهها السياسي بل وانتماءها الحزبي في الحوار، لكنها هنا جزء من تصوير المشهد العام.
وفي نفس الوقت يعبر محفوظ عن رؤية سياسية بطريقة مواربة، من خلال قصة حب مثلا، أو التفاصيل الدقيقة لحياة عائلة. السياسة عنده ليست معادلة لمشاط الأحزاب والتنظيمات وترديد الشعارات، بل هي تنعكس في نمط حياة الناس، موقعهم في المشهد الاجتماعي، مظالمهم، انتهازيتهم، تضحياتهم الإنسانية .
في الواقع الفلسطيني (وربما العربي) يحاكم قراء نوادي القراءة (والكثير من النقاد) الأعمال الروائية بروح "الشعارات السياسية والأخلاقية" المباشرة، وفي نفس الوقت إذا صادفوا شخصية تردد شعارات سياسية (كجزء من ملامحها الأصيلة) يعتقدون أن الرواية "شعاراتية".
هذا الاستسهال وتبسيط المفاهيم النقدية ناجم عن "تأميم النقد" الذي صاحب بداية تعافي عادة القراءة. أصبح "النقد الأدبي" مشاعا يعتقد الجميع أنه من اختصاصهم، ويتداولونه بثقة بالغة بالنفس.
"بناتنا مش هيك"
من المظاهر التي نجمت عن "مشاعية النقد" التأويل (السياسي) و (الأخلاقي) المباشر للعمل الروائي. قبل أيام استضافني أحد نوادي القراءة الفلسطينية لمناقشة أحدث رواياتي. غالبية من تحدثوا حاكموا العمل محاكمة "أخلاقية-سياسية". اعترض البعض على أن فتاة تنتمي لتنظيم يساري تقيم في الرواية علاقة جسدية مع حبيبها. "بنات اليسار مش هيك" اعترضت إحدى المتحدثات بغضب.
ولكن ما هو الذي تعترض عليه القارئة "اليسارية" ؟ هل هو جانب تقني ؟ مصداقية في التصوير الروائي" هشاشة في رسم ملامح الشخصية ؟ افتقار الشخصية للإقناع ضمن مرجعها السردي الذاتي؟
كل هذا مشروع، وليس للروائي أن يعترض عليه. القارئ هو من يقرر إن كانت الشخصية بملامحها وسلوكها قد أقنعته أم لم تقنعه. لكن الاعتراض جاء على "السلوك غير الأخلاقي للشخصية". لا أدري كيف أفكك هذا التعبير "السلوك غير الأخلاقي". شخص يساري يرى في علاقة حب بين شخصيتين "سلوكا غير أخلاقي". هذا من جهة. ومن جهة أخرى: حتى لو كان السلوك غير أخلاقي، هل يحظر علينا أن نصور سلوكا غير أخلاقي في أعمالنا الأدبية ؟ هل يفترض أن تكون رواياتنا استعراضا لأخلاقيات المجتمع ؟ متى نشأت هذه المفاهيم النقدية ؟ وماذا وراءها ؟
وعودة إلى نجيب محفوظ، الذي هو شخصية مرجعية ربما، لمكانته العربية والعالمية، حين أتأمل في أحد أعماله ، تحديدا رواية "اللص والكلاب" التي كتبت في ستينيات القرن الماضي، أجد أن نماذج "الإخلاص" والشهامة والتضامن الإنساني هي "بائعة هوى" و"لص" و"معلم قهوة يتاجر بالمخدرات" ، بينما النماذج التي تمثل الخذلان والخيانة هي "الزوجة" و"الصديق" و"المثقف اليساري".
لنتصور أن قراء نجيب محفوظ قبل ستة عقود أو أكثر كانوا يتداولون مفاهيم نقدية تفكك هذا التعاطي السردي بشكل صحيح، بينما الكثير من قرائنا (ونقادنا) الآن لا يرون الفرق بين الشخصية الروائية، سلوكها وأخلاقياتها وما تمثله، وبين المؤلف، أفكاره السياسية ومفاهيمه الاجتماعية. لهذه الظاهرة أسباب كثيرة، منها الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة، والتي تغترف بشكل بائس من ثقافة مهزومة، فتنتج مفاهيم كاريكاتيرية لفكر لم يستطع الوقوف على رجليه أصلا ومني بهزيمة.
الظاهرة سياسية بامتياز، فكما نلاحظ أن الناشطين السياسيين يلوكون شعارات هزمت مرارا وتكرارا، دون أي نقد أو إعادة نظر، فهم أيضا يتداولون مفاهيم كاريكاتيرية للأدب والثقافة. نحن نعيش في واقع سياسي، ثقافي مأزوم، ولا يمكن أن يكون الخروج منه مبنيا على تداول العناصر المكونة لهزيمته، وهذا ينطبق على السياسة كما ينطبق على الظواهر الثقافية. حين تتشكل الطليعة الثقافية وتصبح ذات وزن مؤثر في الوعي السائد عندها سيكون هناك أمل في تشكل طليعة سياسية تقود عملية نهوض الوعي من سباته الذي طال.
وعودة إلى عنوان رواية كنفاني "ما تبقى لكم": ونحن الآن على أعتاب موسم الزيتون يخطر ببالي أحد المفاهيم المرتبطة بالموسم. في منطقة سكني في الضفة الغربية نسميها "البعارة"، وهي تعني أن يعود الأطفال واليافعون إلى أشجار الزيتون بعد انتهاء الكبار منها ويبحثوا عن ثمار تركت سهوا، فيبيعونها ويحصلون على دخل ينفقونه على مسراتهم الصغيرة.
"البعارة الثقافية والسياسية" للاسف ليست بهذه الرومانسية.