وانتقال المعنى في الحالة الفلسطينيّة، لا يُشترط أن يكون ذا صفة ماديّة، قدر حاجتنا له بوصفه تعبيراً معنوياً لانتقال تعاطينا مع أنفسنا وقضيّتنا من حال إلى حال، على نحو ثوريّ، تنمويّ، مستدام، يرفع من شأن المعايير الأخلاقيّة والقيم الإنسانيّة في العقد الاجتماعي،
إنْ سلّمنا بأنّ قيمة الأفعال، عادة ما تكون نسبيّة، فإنّ قيمة ما قام به أبطال نفق الحريّة، هي قيمة مطلقة بكافّة المعايير، فهي مطلقة من حيث المبدأ القائل إما أن نكون أو لا نكون، وهم قد حقّقوا فكرة التحرّر ولو لأيام فقط، وهي مطلقة لأنّ مجرّد التفكير في الخلاص من منظومة معقّدة شديدة التماسك -كما هي المنظومة الأمنيّة الصهيونيّة- هو أمر شبه مستحيل نظرياً، الإقدام عليه، يعدّ انتحاراً إرادياً بكلّ المقاييس، ولكنّهم أقدموا عليه دون تردّد أو خوف أو وجل، وهي مطلقة لأنّ سقف التحدّي لم يكن سقفاً عادياً وقريباً لممارسة فعل القفز عنه، ولكنّه سقف عالٍ، مجرّد نجاح القفز أعلاه، يعني إعادة اختراع لمعنى الانتصار على الخوف والريبة وفلسفة الهزيمة وتجلّياتها في النفس البشريّة.
للوهلة الأولى، يخال للناظر في موقعة النفق، أنّ نجاح أبطالنا الأسرى اجتياز قيدهم بهذه الطريقة الأسطوريّة، يعني بالضرورة نجاحهم في إعلان الانتصار الكلّي على العدو المستعمر، إلاّ أنّ واقع الحال لا يستقيم وهذه النتيجة المفترضة مسبقاً، ذلك لأنّنا إن أمعنّا النظر جيّداً، فسنجد أنّ كامل الأرض الفلسطينيّة من بحرها إلى نهرها محتلّة بالشبر والسنتيمتر، ما يعني أنّنا جميعاً في سجن كبير، لا تعدو المعتقلات فيه، إلا سجوناً صغيرة ضمن معتقل كبير.
ولكنّ الأثر الواضح لفعل أبطالنا الأسرى، يكمن في طاقة التحدّي المتفجّرة لتعلّمنا أنّ بداهة الحريّة متأصّلة وممكنة، حين نتواطأ معها على نحو يرفع من سقف الفكرة، فكرة فلسطين الحلم، لتنتج لنا صورة ملهمة من رؤى الفعل المتمرّد على إكراهات الواقع بكلّ استطالاته القائمة على وهم استسلام الضحيّة، فيصبح المعنى وإعادة تشكيله واختراعه سبيلاً ضرورياً للخلاص الفرديّ والجمعيّ وإن تحقّق عبر نفق لا يتّسع إلاّ لمعنى الحريّة. وهو خلاص يستمدّ شرعيّته من فواعل قوّة الحقّ بثباته المتين، لكسر سطوة الهزيمة وثقافتها المتغلغلة في نفوسنا، نحن قاطني السجن الكبير.
إنّه لمن بواعث الألم الكامن، أن نكرّر فعل الدوران في حلقة مفرغة إلاّ من اليأس والإحباط ونحن نناقش قضيّة أسرانا البواسل وما آلَ إليه مصيرهم، الذي هو في حقيقته مصيرنا المشترك، لينفتح النقاش المرّة تلو الأخرى حول الهزيمة وتجلّياتها التي مرّت بنا وما تزال تداعياتها، وكأنّنا نؤكّد على إحدى أهمّ عناصر ومكونات التراجيديا الفلسطينيّة والعربيّة في آن، سواء تم نعتها بالهزيمة أو بالأزمة فالأمر سيان، خاصّة وأنّ الحديث لا يتناول الماضي بمعزل عن الحاضر، ولا عن الغائبين بعيداً عن الحاضرين. وهو ما أشار إليه الانجليزي "ريموند وليامز" حين قال: "المأساة الفاجعة ليست في مصير الفرد، مصير المخلّص الذي يضّحي بنفسه، بل في الأوضاع السائدة لشعب يحدّ من ذاته أو يدمّرها، لأنّه لا يعي أوضاعه الحقيقيّة. أي أنّ المأساة ليست في الموت، بل في الحياة". وهو ما يعني أنّ الإشكال في حقيقته لا يكمن في الوصف الوظيفي لمصطلح الهزيمة أو لوعينا بها، وإنّما فيما لفتَ الألماني هانس ماغنوس، الإنتباهَ إليه، حين تحدّث عن هواجسِ هيمنةِ الإنسانِ على الإنسان من خلالِ الحديثِ عن نظريّة صناعةِ الوعي وأدواتهِ، وأهمُّ هذه الأدواتِ يَكمنُ في وسائلِ الإعلامِ والتعليم، ما ساهمَ في فهمِ الفيلسوفِ الفرنسي ريجيس دوبريه وهو يُنظّرُ لعلمِ الميديولوجيا وانتقالِ المعنى في المجتمعِ البشري على المديين القريب والبعيد.
والميديولوجيا أو علم الميديا، هو علم يختصّ بدراسة وسائل الاتصال والتواصل في تأثيرها على الإنسان من ناحية تَشكّل الوعي والتأثير الإيديولوجي وفرض قيم ومفاهيم جديدة، وأمّا تغيّر المعنى، أو انتقال المعنى عند علماء اللغة، هو مبحث من مباحث علم الدلالة، ويطلق هذا المصطلح على تغيّر معنى الكلمة على مرّ الزمن بفعل إعلاء أو انحطاط أو توسّع أو انحسار أو مجاز ما"، وفق أصحاب الاختصاص، فإذا كان المعنى هو ما نملكه من أفكار وتصوّرات حول حدث بعينه، فإن تغيّيره "أي المعنى" يستلزم أولاً تغيّر أفكارنا عنه، ذلك لأنّ تغيّر معرفتنا بالحدث وما أحاط به من ظروف، هو ما يسهم في بلورة معناه في أذهاننا، ومتى تطوّرت وتراكمت هذه المعرفة، تبعها تطوّر وتغيّر منطقي في معنى الحدث وطريقة تعبيرنا عنه.
وانتقال المعنى في الحالة الفلسطينيّة، لا يُشترط أن يكون ذا صفة ماديّة، قدر حاجتنا له بوصفه تعبيراً معنوياً لانتقال تعاطينا مع أنفسنا وقضيّتنا من حال إلى حال، على نحو ثوريّ، تنمويّ، مستدام، يرفع من شأن المعايير الأخلاقيّة والقيم الإنسانيّة في العقد الاجتماعي، لتشكيل هيكل من التصورات التي يمكنها أن تساهم في انتقال الشعور الفرديّ والجمعيّ، من حال اليأس إلى الأمل، من وصفة الإحباط والتقليل من القدرات، إلى الإيمان بالإرادة الفرديّة والجمعيّة، من الشعور بعدم الاستحقاق إلى الجدارة، ومن الخضوع لفرضيّات "نعم"، إلى ثوريّة مفهوم "لا".
من هنا، ليس من الصعب أن نعثر على الحالة المغايرة للمعادلة الصفريّة في العلاقات الاجتماعية، فهي حالة التوازن في الحقوق والواجبات بين الأطراف، وقد تكون المساواة ما بين الخسائر والأرباح، فإنّ الصّفر الذي لا يساوي شيئاً يسار الرقم واحد، يمكنه أن يضاعف الرّقم إلى المئات وربّما الآلاف إنْ تحرّك إلى يمينه، فكيف يمكننا ألا نهتمّ بالمعنى ودلالاته وفلسفته، خاصّة وإن تمثّل في فعل حريّة ملأت كلّ الفراغات وارتكزت على مشروعيّة الشرط القيميّ لمفهوم الشجاعة والانتصار للحقّ حدّ الانخراط ببراعة منقطعة النظير في منازلة اذابت الجليد لتكسر صمت العزلة المفروضة على صورة المستعمر وقوانينه المعادية لكلّ القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، وكأنّنا بالذات الحرّة الأبيّة متمثّلة في ستّة رجال تلحّفوا بطاقة شمس البلاد وطينها، يصرخون في وجه العالم، كفى صمتاً وتواطئاً ومشاركة في الجريمة.
ولأنّ "الضمير هو أداة عقاب موضوعة تحت تصرّف الأنا العليا" بتعبير حسين البرغوثي، جدير بكلّ فلسطينيّ وعربيّ وحرّ، أن يستلهم ممّا أقدم عليه أسرانا البواسل في موقعة النفق، فيتخلّص من كلّ مقاربة نفعيّة، وتواطؤ مصلحيّ، ليبحث عن سياق لانتقال المعنى، معنى المصير المشترك، والأنا الفرديّة في النسق الجمعيّ، وانعكاس الصورة في المرايا، لنكرّر معاً ما قاله يوماً الإنجليزي كولن ويلسون: "من الأفضل أن تنسحق مع الثورة على أن تبحث عن ملجأ في جُحر رجعيّ". هكذا فقط يمكننا أن نفهم فلسفة موقعة النفق بين رجال ستّة وسقف الفكرة.