إبراهيم السعافين بين الهامش والمتن في سيرته "سلالة السنديان"

2023-09-08 02:00:00

إبراهيم السعافين بين الهامش والمتن في سيرته
سليمان منصور، صحوة القرية، ١٩٨٧

لم يكن في الحكاية شبهة انفعالات تخلط الألوان في المرايا، ولا ثمّة نزعة تتحلّق حول الذاتيّ والخاص، وإنّما حول كلّ استثناء ممكن. تكلّمنا بأنفسنا نيابةً عن أنفسنا، فحصلنا على ما تيسّر من سلام داخلي.

ثمّة أهمية بالغة لتفحّص العلاقة الدّالة بين الكاتب والمكتوب عنه؛ فالكاتب يشيّد عالم سيرته الذاتيّة على روافع غيريّة، يميّزها الكثير من السموّ، فلا تقول سوى أنّ الوفاء إنّما بات عملة نادرة، لا تجدها إلّا في مناجم القيم التي غابت عنا أو غيّبناها، فغيّبتنا.

إبراهيم السعافين في سيرته الذاتيّة المشبعة بالغيريّة "سلالة السنديان"، قدّم لنا مادّة غنيّة تمتاز بالفرادة على جهة التأريخ، لكوكبة من الأسماء الوازنة إبداعاً وخلقاً، عاشت صعود ما عُرف في حينه بالقوميّة العربيّة، فكان لها آثرها في الحياة السياسيّة والثقافيّة على امتداد جغرافيا الأمّة العربيّة، ولا يزال أثرها يضرب في الجذور؛ مادة تتمظهر فيها علاقة الأنا بالآخر الشريك، حينما يكون الهدف أسمى من الغاية، والعلم نور المعرفة، والمعرفة أخلاق اتّصال وتواصل، وأعلى مرتبةً وشأناً من نار الحقد والغيرة والضّغينة، وهذا لا يعني اختفاء هذه الظواهر السلبيّة حينذاك، لكنّ أمرها ومعالجتها كانت في منطقة أرقى كثيراً ممّا تبدو عليه الحالة اليوم. 

وعلى الرّغم من معايشته الكثير من التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة في المنطقة العربيّة، إلّا أنّه بدا متمسّكاً بجدّيّته تجاه الأحداث والأشياء، وقوراً متسامحاً مع ما يبدو من اختلاف في الرأي، أو معارضة في الموقف، فضلاً عمّا أبداه من أمانة علميّة أدّت لكلّ زميل أو صديق ما استحقّ ويستحقّ، فلم نجده ينتقد موقفاً أو يدافع عن أحد إلّا بمهنيّة عاليّة واحترام للذّات قبل الآخر.

لغة وأحداث وإنسان

لغة السعافين الذّي راح يتحدّث من الخارج عن الدّاخل، في سيرته "سلالة السنديان – الأهليّة للنشر والتوزيع- 2023" بدت لغة طيّعة ومنسابة شكلاً ومضموناً، أمْلَتها مناسبة الأحداث والوقائع المطروحة بشيء من الواقعيّة المفرطة حيناً، والعميقة أحياناً، باعتبارها سنّةً من سنن السِيَر الذاتيّة، ذات الأبعاد المفعمة بعطاء الزنابق البيضاء، وهي تتجلي في معاني البراءة والنّقاء. فلم يستعرض قواه اللّغويّة البلاغيّة في الصياغة، وهو الأكاديميّ الأديب والناقد المتخصّص، ولم يغازلنا بتعابير مجازيّة في الطرح، وهو الحقيقيّ الغنيّ الليّن بكلّ معارفه، لكنّه حاول جاهداً رصد الفارق البينيّ بين حالة الوعي بالأحداث زمن وقوعها، والتّعبير عنها بعد مرور الزّمن عليها، فانخرط في التّعقيب السريع ببعض ملاحظاتٍ هنا وهناك، كأن نجده يقول: " حين أتذكّر كلام الناس حينذاك أتصوّر كم كانوا يحلمون".

في المقابل، رأيناه ذلك الإنسان مرهف الحسّ، الذي يغويه فرح الآخرين، وتؤلمه مآسيهم، وهو ما ينتبه له القارئ في موقفين محدّدين، الأوّل، حينما قرّر وصديقيه محمود أبو الخير، ومحمد شحدة، الذّهاب إلى شريعة نهر الأردن للسّباحة فيه، وثلاثتهم لا يتقنون فنون السّباحة، فما هي إلّا لحظات حتى غيّب النّهر محمد شحدة، فسكن الحزن والألم والوفاء ذاكرته لأكثر من ستّين عاماً مضت، وكأنّها لم تمض، حيث جاء بعد كلّ هذه السنوات ليحدّثنا عن هذا المشهد بشيء من الوجع المقيم والدّمع الساخن؛ وأمّا الموقف الثّاني فيدور حول سعادته بموافقة النّاقد الكبير الدّكتور إحسان عبّاس، على كتابة سيرته الذاتيّة، التي نُشرت بعنوان "غربة الرّاعي"، وكان السعافين أحد أثنين ممّن اطّلع وراجعها مخطوطة، كما أشار عبّاس في مقدّمته، فضلاً عن موقفه النّبيل معه أثناء مرضه؛ وإلى ذلك احتفاءه الكبير بتلاميذه ومريديه الذين ما فتئ أن اتّخذ منهم أصدقاء مقرّبين له، كالشّاعر المهمّ زهير أبو شايب، والبّاحث الأكاديميّ النّاقد الدّكتور جمال مقابلة على سبيل المثال.

السعافين الإنسان الفلسطينيّ، ابن المخيّم العصاميّ، الحاصل على عشرات الجوائز في الشأن الأدبيّ والأكاديميّ، أبى إلّا أن يسجّل موقفه السياسيّ من عديد المتغيّرات التي طرأت على المنطقة العربيّة، كما حرب الخليج، والانتفاضة الثانية، وإن لم يول المسألة السياسيّة الكثير ممّا تستحق على طول السيرة، وهي النّقطة الرخوة التي قد تؤخذ عليها، على الرّغم من كون الأمر موضوع اختيار لا يملك قراره إلّا صاحب السيرة، وهو ما يذكّرنا بما أورده في المقدّمة من سؤال أحد الأصدقاء، "هل ستقول كلّ شيء؟ قلت: بالطبع لا. فليس ثمّة من يقوم بذلك، ولو صرّح كثيراً وباح".

ما أشار إليه الدكتور السعافين، في مسألة الانتخاب والاختيار في أمر البوح، قد يكون صحيحاً إلى حدّ بعيد في حدود الحياة الشخصيّة للكاتب صاحب السيرة، ولكنّ الشأن السياسيّ العام، وموقف الكاتب من مشروعه وخطابه، خاصّة فيما يخصّ قضيّته الوطنيّة، فأعتقد أنّ الأمر ينطوي على حقّ من حقوق القارئ في اختبار كاتبه المفضّل، للانكشاف على مواقفه السياسيّة كما الاجتماعيّة، إن اعتمدنا فكرة أنّ المثقّف النّموذج، هو الوجه الأصل للإنسان القياس، إن صحّت المقاربة؛ على أيّ حال، اختار السعافين الكاتب في هذه الحالة أن ينتهج سبيل البراغماتيّة المنكمشة بوصف علم الاجتماع السياسيّ، حال أردنا الرّبط بين شخصيّة السعافين الإنسان الخلوق المتجنّب للصداميّة، والسعافين المثقّف الأكاديميّ الباحث عن الكمال غير المتحقّق بكلّ الأحوال.

ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لم يشأ السعافين أن يختم سيرته، دون أن يترك علامة مميّزة وواضحة، على الأقل في تخصّصه، بوصفه أستاذاً للأدب العربيّ، فكان توضيحه الذي أعتقده لازماً أن يأتي عليه في زمننا هذا، وهو التّوضيح الذي أكّد فيه، "أنّ النّاقد الحقيقي ليس الذي ينشئ منهجاً أو يتبنّى منهجاً، فإذا أقدم على التّطبيق فشل وبان عواره، بل هو النّاقد الذي يقف أمام النصّ كأنّه ملكه، ويستخدم كلّ أدواته النقديّة والمعرفيّة في استنطاق النصّ ووضعه في مكانه الحقيقيّ في سياق الأدب وحركة النّقد" وفي مثل هذا التعقيب اجتيازاً مهماً وضرورياً للمسافة القائمة والمحتملة، بين ما يقدّم من قراءات نقديّة تقول وجع الكاتب ونصّه، وما يسمّيه البعض نقداً حين يتناول الكاتب وشخصه بعيداً عن النص موضوع المعالجة.

إنّ السعافين وبكلّ طاقة الخير التي لم تفقد الأمل في غد أفضل، وكأنّنا به يقول لقارئه: هكذا مضت الأيام ومضينا نحونا حيناً، ونحو اغترابنا أحياناً، نتذكّر كيف وضعنا الكثير من الأحلام في سلّة واحدة، ولم ننجُ؛ أغلقنا عليها طريق الطّواف حول الجراح المفتوحة على كلّ استدعاء للذّاكرة.

لم يكن في الحكاية شبهة انفعالات تخلط الألوان في المرايا، ولا ثمّة نزعة تتحلّق حول الذاتيّ والخاص، وإنّما حول كلّ استثناء ممكن. تكلّمنا بأنفسنا نيابةً عن أنفسنا، فحصلنا على ما تيسّر من سلام داخلي.

بيني وبيني تخيّلت أنّ إيماننا بأنفسنا، سيوسّع من أفق الحلم، لنطلّ عليه بعيدا عن فوضى البعث أو ارتباك القيامة؛ علّها تتراءى لنا الحياة لغة حيّة في زمن ميّت. حياة لا تخضع لشروط الصيرورة الحائرة ما بين الهامش والمتن.