لم تكن إيمان حرم تمارس ترفا فنيا على هامش التاريخ بل أنها سبرت أغوار التاريخ من حيث يجب أن نبدأ، عارضة قضية البرتقال في ثنائية متماسكة بين الهوية والاقتصاد.
خلال ما يقارب العامين، لم تتوقف الأسئلة من طرق جدران رأس الفنانة الفلسطينية إيمان حرم لفهم عمق فلسطين التاريخي والجغرافي، وذلك منذ فترة الحكم العثماني ودوافع الهرولة للاستيلاء عليها من قبل دول الاستعمار بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
في ميدان الفن، رسخت الفنانة الذاكرة الفلسطينية، وافتتحت فصلا جديدا من فصول السردية الفلسطينية، من خلال مشروع "أم البرتقال، يافا" والذي جسدّت فيه تأصيلا متينا حول البرتقال الفلسطيني التي استعرضت فيه البرتقال شكلا وحجما وبأبعاده الفنيّة وبعمقه التاريخي، كما استدعت معه أيضاً المستوى المتقدم للاقتصاد الفلسطيني والمتطور آنذاك عن محيطه، وقدرته على المنافسة في ميدان الاقتصاد العالمي، مسلطة الضوء على موقع فلسطين عموما، ويافا خصوصا، الذي فتح شهيّة الاستعمار عليها وسرقتها كاملةً تاريخيا ومعنويا واقتصادياً.
لم تكن إيمان حرم تمارس ترفا فنيا على هامش التاريخ بل أنها سبرت أغوار التاريخ من حيث يجب أن نبدأ، عارضة قضية البرتقال في ثنائية متماسكة بين الهوية والاقتصاد.
ذاكرة البرتقال
كيف يمكن إقناع بيارات البرتقال أن تتحدث بلغة غير لغتها وأن "تتلبس" بتاريخٍ غير تاريخها؟ وهل يفهم قشر البرتقال ومذاقه وقوته الاقتصادية منطقاً أنجلو ساكسوني أو أي منطق استعماري آخر، ويتنكر لمنطقه الفلسطيني؟ شيء من هذا لا يحدث، فالتاريخ وإن تعرض لكل محاولات إعادة تشكيله بشكل زائف عبر دنيامكيات القوى التي تدونه، لا بدّ له أن يتحرر من الزيف وأن يسرد نفسه دون وسيط وُببرز حقائقه.
إن طريق التاريخ في فض غبار سرقته، يبدأ في اللحظة التي يسير فيها دون ممرات السياسة، باحثا عن أدوات جديدة، أكثر فاعلية لكشف مكنونات مطامع التغول الاستعماري وعلى هذا الأساس يظهر التقاطع بين التاريخ والفن، كطرح جاد إلى إبراز العلاقة التي نشأت بين محاصيل البرتقال من ناحية، وبين عمليات السطو والنهب الاستعماري الممنهج ليافا، من ناحية أخرى، وإنهاء حياة كاملة تجمهرت وتوحدّت وتفاعلت حول هذا المحصول.
في غرف الذاكرة الفلسطينية، ذاكرتها الوطنية المقاومة، يقبع البرتقال الفلسطيني كأحد أهم الأسرار التي لفتت الانتباه ليس فقط عند قوى الاستعمار التي ما انفكّت تحاول العبث بالهوية والجغرافية الفلسطينية، إنما أيضا عند الفلسطينيين أنفسهم في طريقهم لبناء سرديتهم الخاصة دون تداخل سرديات أُقحِمت عنوة في تاريخ فلسطين وجغرافيتها.
مشروع "أم البرتقال، يافا"
لا يمكن الحديث عن البرتقال الفلسطيني في مستوييه الهوياتي والاقتصادي، دون الحديث عن يافا، المدينة الفلسطينية الساحلية، بل أن كلا من البرتقال ويافا خاضا معا ولا يزالان أشبه ما يكون بملحمة تراجيدية حاضرة بقوة في كل مرّة داخل المخيلة الفلسطينية وفي سردياتها ونضالها الوطني. ففي هذا السياق، يسلط مشروع إيمان حرم الضوء على محورين أساسيين. الأول: موقع يافا الاستراتيجي كمدينة ميناء تطلُّ على الأبيض المتوسط، ونقطة تلاقي مع قناة السويس، وبوابة مشرعة نحو بلاد الشام. ثانيا: زراعة الحمضيات في يافا كأهم مورد اقتصادي للبلاد. وكما أتى في بحثها من خلال تأصيل حقيقي لتاريخ الحمضيات في يافا التي وصفت من قبل سكانها "بأرض البرتقال" أو "أم البرتقال"، كان عدد الأشجار الحمضية المحيطة بالمدينة عام١٨٨٠ يبلغ حوالي ٨٠٠ ألف شجرة، نشأ عنها محاصيل زراعية هائلة جعلت من فلسطين في حقبة زمنية معينة ثاني أكبر مُصدّر للحمضيات إلى العالم بعد إسبانيا، مثيراً لدى حرم سؤال مفصلي جدير بالتوقف عنده. هل الوفرة العظيمة لهذا المورد المهم التي كانت تملكه البلاد مجتمعة مع موقع يافا كميناء استراتيجي على المتوسط كونت ثنائية تراجيدية في جعل فلسطين مرمى للأهداف الاستعمارية ودور غير معلن في الهرولة لاستيلائها والسيطرة عليها، بعد الاكتشاف الهائل حول قدرة الحمضيات لعلاج داء الاسقربوط ، الداء الذي تسبب بوفاة نحو مليوني بحاراً خلال القرون الثلاثة التي تلت عصر الاستكشاف ؟
البرتقال قبل الحرب العالمية الأولى
تظهر البيانات المتوفرة حول الزراعة العربية في فلسطين قبل أن تطأها أقدام المهاجرين الصهاينة عام ١٨٨٢، أن المزارع الفلسطيني كان يملك أساليب زراعية متطورة ومنسجمة مع طبيعة الأرض والمناخ والموارد الطبيعية المتوفرة والظروف السياسية التي يعيشها، وأن مستواه التقني كان يحرز تقدما هائلا. وقد ساد الزراعة العربية خلال المدة الواقعة بين عام ١٨٨٢ وبداية الحرب العالمية الأولى اتجاهان:
الأول زراعة الحبوب (وكان يحتل ما نسبته ٧٥٪ من مساحة الأرض المزروعة) والاتجاه الثاني ارتبط بزراعة الأشجار المثمرة والخضر والحمضيات، وأخذ يشق طريقه في القرن التاسع عشر وينمو بسرعة، وقد تمكن المزارع الفلسطيني من تطوير هذا الاتجاه بفعل إرادته وارتباطه بالأرض وبفضل بعض موارده المالية الذاتية -رغم محدوديتها.
لم يكن البرتقال أحد أبرز ديناميكات قوى الإنتاج في الاقتصاد الفلسطيني فحسب، وتحديدا في يافا أم البرتقال كما سيرد لاحقا، والتي تنضوي على تربة غنية، بل تطوّر ليكتسب رمزية تعبر عن الصمود الفلسطيني ايضا وثباته في تماهي تام مع ثبات البرتقال، ضد الة التطهير العرقي والاقتلاع. رمزية وجدت نفسها حاضرة بقوة في ذاكرة الفلسطيني الثقافية والفنية والهوياتية.
"مرحلة الاستعمار الاستيطاني"
بعد عام ١٩٤٨ ، العام الذي شهد فيه قيام دولة إسرائيل وانتهاء الانتداب البريطاني، سعت قوى الاستعمار الحديث في تكبيل الاقتصاد الفلسطيني وتجييره لصالحه عبر ابتلاعه مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، أفضت النكبة إلى إبراز التحول الذي طرأ بعد وقوعوها وبعد قرارات التقسيم الصادرة من الأمم المتحدة، والتي دفعت بإحداث تغيّر جوهري ونقل المجتمع الفلسطيني من مجتمع ريفي زراعي يتصل مع الأرض الى مجتمع صناعي-عقاري بعد النكبة. حيث تمكن الاحتلال الإسرائيلي من مد سيطرته على القطاع الزراعي، بعد استلاب الأراضي اعتمادًا على قانون أملاك الغائبين.
في خضم هذا المشهد وهذا السرد، ومجدداً في ظل التداخل الجوهري بين التوثيق والبحث والتاريخي والفن، تضيء لنا إيمان حرم فضاءً رحباً عن البرتقال الفلسطيني وتضعه في موقعه الصحيح عبر مسار التاريخ وهي بذلك تؤكد أن الفلسطيني سيبقى متصلا مع أرضه ويستمد خيوط سرديته وارثه التاريخي والثقافي والوجداني منها ليدافع في كل مرحلة عن ما تبقى من الورد في ساحة المذبحة.
تعرض ايمان حرم أعمالها في في دارة الفنون في عمان من ١ آذار إلى ٣٠ حزيران ضمن معرض جماعي بعنوان " نثر من الجذور" ويضم مجموعة من فنانين/ات: عبير صيقلي، آيلا هبري، ديمة عساف، ديما دعيبس، إيمان حرم، حارث رمزي، حسين الأزعط، كرمة الطباع، خالد البشير، ميس العزب، ملكا عبد الرزاق، سريا غزلباش، ميرنا بامية، نادية بسيسو، نجود عاشور، باولا فران، روان بيبرس، سارة الرشق، سيما زريقات، تغميس، وذكرى للتعلم الشعبي. وقام بتنسيق هذا المعرض القيمة رنا بيروتي.