من مشوار بحث طويل، تمثّل في الكتب الثلاثة الأولى، جاء شهر في سيينا ليؤذن بالتسليم. الأب تلاشى تدريجيًا، مثل ذوبان ملح في الماء، المرحلة الحالية تنذر بانتفاء الحد الفاصل بين الحداد على الغياب وأمل العودة المُرّ.
للروائي الليبي إبراهيم الكوني جملة حول العلاقة بين الآباء والأبناء، ذكرها في رواية "التبر"، يقول "الأبناء حجاب الآباء.. الأبناء فناء الآباء". يمكن قراءة أعمال الروائي الليبي هشام مطر انطلاقًا من اتجاه عكسي لجملة الكوني، رغم أن الأخير ذكرها في سياق وجودي، بعيدًا عن حيثيات تجربة هشام في الكتابة.
كان والد هشام ضابط بارز في الجيش السنوسي الملكي، ورغم ميوله اليسارية لم يكن ضمن المجموعة الانقلابية التي قادها معمّر القذافي، لذلك عُزل من منصبه وابتُعِثَ إلى أمريكا، حيث ولد هشام. ترك جاب الله العمل الدبلوماسي وبرز كرجل أعمال، ثم غادر إلى مصر. في يونيو 1990، فوجئت عائلة مطر باعتقال الوالد جاب الله باتفاق بين الحكومتين المصرية والليبية، أُودِع في سجن "بو سليم"، المحطّة الأخيرة للمعارضة في أيام القذّافي. حتى اليوم، لم يُستدل على الوالد، ولم يُعثر حتى على جثّته للتأكد من وفاته.
خلق اختفاء الوالد رحلة ثرية لهشام، بحث خلالها عن زمن مفقود فيه ضلع مركزي، وعن أسئلة كونيّة، حول تعريفات الغياب، وجحيم الرمادي الواقع الذي يشوّش على الحدّ الفاصل بين الحياة والموت. تحوّل هشام من الهندسة المعمارية إلى كتابة الأدب وتدريسه (أستاذ الأدب الإنجليزي وثقافات آسيا والشرق الأوسط في كلية بيرنارد، جامعة كولومبيا).
بحثًا عن أبيه، وعن ذاته، وعن تاريخه الشخصي من خلال العائلة، و عن تاريخ موطنه الأول، كتب هشام مطر بالانجليزية أربعة كتب أدبية، روايتا "اختفاء" و "في بلاد الرجال"، وسيرة روائية بعنوان "العودة" لم تترجم بعد إلى العربية، وكتاب "شهر في سيينا" يصطدم فيه بإجابات محتملة لتكتلات الأسئلة الثقيلة التي شكّلت حياته لأكثر من عقدين.
اختبار الشمولية بعين طفل
يطلع الصباح الحاد، طاردًا نسمة الهواء الحانية في ليل مدينة "بلدى العُظمى" في ليبيا، يفاجيء سليمان الصبي الصغير، خلال رحلته المعتادة مع أمّه في السوق، يرى والده واقف على الناصية الأخرى في ميدان الشهداء، يراه من خلال الغياب، لأن من المفترض، أن الوالد في رحلة عمل خارج ليبيا، وسيعود بعد عدّة أيام. فعل الرؤية المشوّش، والمفاجئ، وحالة الارتباك الخام التي أصابت سليمان، وضعت هاجس مخيف في مطلع رواية اختفاء ، بأن ظهور الأب مؤشر لاختفائه.
"تمرُّ أوقات يثقل فيها غياب أبي عليّ كأن هناك طفلًا جاثمًا على صدري" يقول الصبي نوري، الذي يشارك سليمان -الطفل في رواية "في بلاد الرجال"- المرحلة العمرية و اختفاء الأب، وأيضًا في الامتصاص المخلص، بسذاجة، لتأثيرات السلطة على تشكيل شخصية كل منهما. يغيب أبو سليمان عن المنزل، ويعود، ثم يختفي مرة أخرى، وبالتوازي مع العلاقة المرتبكة، شديدة القرب/الإنفصال بين سليمان الصغير ووالدته، تتفتح عينه على تعريفات مفاجئة للسلطة، كيف تراقب وتمنع وتنزع الأمان البديهي المتمثل في ألوهة الأب؟ كمقدمة لاعتقال الأب، يرى سليمان اعتقال أستاذ رشيد أستاذة التاريخ بالجامعة وآخر الرجال المحترمين في عالمه الصغير، يمتلك شجرة توت وحيدة و أسطورية، وكذلك يمتلك صفات نبيلة وكونية، هي التي دفعته إلى الإعتقال أمام أعين سليمان وصديقه، ابن الأستاذ رشيد.
لاعتقال الأب عند سليمان تعريف أوليّ، مجرّد غياب عن البيت، بينما بقية تركيبات المعنى، المتعلق بالمقاومة والمعارضة واحتمالات الموت لأجل فكرة، أشياء يمتصها سليمان وهو غير واعٍ بحكم سنّه، لذلك يعكسها بسذاجة، ويُرى من خلاله كيف يمتد القمع إلى المجموعة، ويفتتها إلى أفراد يقوموا بعكسه على بعضهم، كأن السلطة حينما تتفحش فإنها تُجنّد ضحاياها.
تتصاعد آليّات دفاع سليمان عن أبيه، بعيدًا عن الحنكة والحيطة عند أصدقاء المقاومة وأمّه التي تتوسل إلى جارهم، مسؤول حكومي مقرّب للقذافي، ليتوسط للوالد عند أصحاب القرار ويتم العفو عنه. ما يفعله سليمان، ويراه محاولة لقطع المسافة بينه وبين أبيه، يجعل الوالد أكثر قربًا من الاختفاء الأبدي.
تشير حنّا أرندت، خلال تعريفها المؤسّس للشمولية، أنها " تتميّز بتخفيف الفرد، حدث سلبيّ بحت يدمّر الإنسان والسياسة ومعيّة العالم". نحن أمام صبي لم يدرك بعد تعريفات العالم الذي يعيش فيه، وبالتالي لم يكوّن تعريفاته الخاصة، لذلك فإن شمولية النظام حين يشمله، من خلال اعتقال أبيه، تشوّش على معاييره الأولية، التي يمكن أن تأتي من قاعدة دينية أو التزام أخلاقي. العالم عند سليمان تفككت تعريفاته دون أن يدرى، استحالت إلى سيولة مُربكة، وحينما أصبح القرار يأتي من رأسه، فإنه أصبح نموذج مقروء يمكن استيعابه بشكل مباشر عن تداعيات الحكم الشمولي على الفرد، على فصله عن الجماعة.
رغم صدامية العرض فيما يتعلق بأستاذ رشيد، حينما يتم اقتياده ويُعرض التحقيق معه على فضائيات ليبيا، وكذلك "حفلة" اعدامه ضمن حشد كبير في ملعب كرة قدم، لكننا اعتدنا مثل سليمان، كشعوب عربية، هذه الأحداث الكارثية، أو على الأقل لم تعد طازجة بنفس مرارة الفزع الأول أمام مثل هذه الأحداث.
منذ عدّة سنوات، تدور حملة اعتقال بالجملة في مصر، وجميعها يقوم على بعد خبري واحد، الشخص المعتقل، بينما هوية المختطفين دائمًا مُجهّلة. نعرف من هم طبعًا، لكن الموكّل بالاعتقال دائمًا مُجهّل. في "في بلاد الرجال" ثمّة شخصية تتلصص عليها الكتابة، شريف الذي يقف أمام منزل أبو سليمان المعتقل، ينتظر سليمان الصغير ليحكي معه، يسئله، وينتظر أن يأخذ منه أي معلومة جديدة تنفع في التحقيقات.
لدى سليمان رفاهية النظر في وجه أحد تمثيلات معتقلي والده، يرى في وجه الضابط "شريف" خطوط الصحراء محاصرة، وعلى شفتيه قتامة أيام أبيه، وفي وجوده يتمثّل، أخيرًا، ماهية لأحد نماذج أخ أورويل الكبير. يتم كسر قدسية الاحتفاظ بتجيهل المختطف، تجهيل الجلّاد، الطرف الأخير في حلقة تنفيذ القرار، لم يكن ذلك متمثلًا في شريف فقط، بل في التنصّت على تليفون منزل أبو سليمان أيضًا، يقترب الصبي سليمان من تعريفات شفافة وواضحة تجاه معتقلي أبيه، وجوه وأصوات ساخرة تدخل في المكالمة فجأة وتطلب منه، بسخرية، أن يجيبهم على سؤال ما.
لقاء مع بول أوستر
بعد انفصاله عن زوجته بخمسة عشر عامًا، والعيش وحيدًا في منزل بعيد بولاية نيوجيرسي، توفي والد بول أوستر فجأة، دون أن يمُهّد المرض لذلك. في الطريق إلى بيت الوالد، أدرك بول أن التركيبات الشعورية الساكنة في هوة بداخله، لن يستطيع النبش فيها إلا بالكتابة.
في الجزء الأول من كتاب "اختراع العزلة: بورتريه لرجل غير مرئي" يحكي أوستر عن وفاة والده المفاجئة، يخرج الشاعر الساكن بداخله ساحبًا استدعاءات الذاكرة من ياقتها، يكتب عن الوالد وعلاقتهما المرتبكة. يشترك أوستر وهشام مطر في نقطة الإنطلاق من الكتابة، أن تُعيد إنتاج الغياب بحضور موازٍ ينبش في جنبات الحكاية مجازيًا، بحرية. المجاز ذاته يقوم على أساس واقعي، أن تصدّق، أولًا، في حقيقة حدث الغياب.
إن كان أوستر يحاول استدعاء والده على بعد واحد في ذاكرة الواقع "رحل والدي، إذا لم اتصرف بسرعة، سأفقد معه حياته كلها"، فإن هشام حاول أن يستعيد والده من خلال ذاكرتا الواقع والخيال. الأب الناشط السياسي في "في بلاد الرجال" لا يشبه الوالد في "اختفاء"، ربما يكون كل منهما ضد للآخر، ما يشملهما شيئان: الاختفاء، وتطلع الإبن المهموم لإيجاد والده. ثمّة استقرار واضح على الفقد، حتى مع تقليب شخصية الوالد على أوجه كثيرة في الروايتين.
مآلات العودة
بعد التداخل بين الواقعي والمتخيل في "في بلاد الرجال"، تمتّع هشام مطر بحرية وتجرّد أكثر في "اختفاء"، مرّت سنوات البحث الحيوي، تداعى نشاط العائلة في البحث عن الوالد. في اتجاه مُعاكس لثيمة الروايتين، تحرّك مطر بجسارة فرضتها الكتابة، حينما انتقل هو ووالدته وأخوه إلى ليبيا للبحث عن الوالد بعدما فُتحت سجون ليبيا خلال الثورة.
في لقاء على "التلفزيون العربي"، مع بلال فضل، يذكر هشام أنّه كان يتتبّع نفسه بالكتابة منذ نزول المطار، حتى ولو بجمل صغيرة ومباشرة، من هذه الجُمل انتجت سيرة الكتابة والعائلة "العودة". في "العودة"، بحث هشام عن جماعية المشهد الذي يشمل والده. حضرت العائلة ومعتقليها، الأحياء منهم والأموات في سجن بو سليم الذي قُتل فيه أكثر من 1200 شخص في 1996.
يتسم "العودة" بدقّة الرصد، والتلحف بتعددية الكاتب التقنية، المراسل وصاحب القضيّة والراصد للمعارضة الليبية خلال حقبة قمع طويلة، هناك حراك سردي مع الحدث خطوة للأمام وخطوة للخلف، كأنهما طرفان يراوغان بعضهما، وهنا اُستعيدت تماثلات الغياب مرة أخرى، ومن خلالها كوّن بورتريه استعادي لسيرة الوالد، عمله في المعارضة، وحتى سنوات اعتقاله الأولى.
بعيدًا عن الوالد وشهداء العائلة، ثمّة شيء أكثر تعقيدًا أعاد هشام إلى ليبيا، ليس البحث عن والده فقط، بل البحث عن مبررات التخلّص من "ذنب عيش حياة حرّة" لكن ما وجده في ليبيا، أنّ العودة كانت ضرورية، ليس لمعرفة المزيد عن سنوات الاختفاء، بل لمعرفة أن فعل العودة انتهى إلى تحديد "الحزن الشبحي، المراوغ"، تجلّى الحزن مثل "مشروع نشط وحيوي، متجدد، شاق وصادق، يمكن أن يقسم ظهرك".
كان اختيار العودة إلى ليبيا المحطة الأخرى في ضباب البحث عن الوالد، أدرك هشام أن هذه كانت آليته الوحيدة ليعالج نفسه من بلده، من سلطة غياب والده، وما تركه بعيدًا في ليبيا فككّه الزمن، وعندما عاد، فوجئ بتشويه ما كان يعتزّ به.
بعد كتاب "العودة"، انقطع هشام مطر عن الكتابة والقراءة لعدّة شهور، ذهب في نزهة إلى مدينة سيينا بإيطاليا، وهناك حاصره شبح التلاشي الأول. عرف هشام خبر اختطاف والده وهو في المتحف الوطني بلندن، أدرك صدمة الخبر وهو أمام لوحة، وكذلك أدرك تشكّلاته النهائية في سيينا بعد أكثر من عقدين، وهو أمام لوحة "جئت لأحزن وحدي، لأفكر في المراحل الجديدة، واكتشف كيف يمكننى الاستمرار من هنا؟".
خلال كتابته عن إرث مدينة سيينا الفنّي، يقرأ هشام حزنه من خلال لوحة، يجلس أمامها عدّة ساعات، وربما يوم كامل. تحوّل التداخل اللوني، والنظر إلى الآخر، إلى نبش في ذوات مُختبأة ، ربما يكون إحداها لديه تعريفات واضحة تُنهي هذه المرحلة، وتبدأ واحدة أخرى.
من مشوار بحث طويل، تمثّل في الكتب الثلاثة الأولى، جاء شهر في سيينا ليؤذن بالتسليم. الأب تلاشى تدريجيًا، مثل ذوبان ملح في الماء، المرحلة الحالية تنذر بانتفاء الحد الفاصل بين الحداد على الغياب وأمل العودة المُرّ.
كانت انقباضة قلب هشام مطر، فجأة، أولى أدّلته على أبدية الغياب.