جيل دولوز: مجد ياسر عرفات (ترجمة)

2023-07-21 11:00:00

جيل دولوز: مجد ياسر عرفات (ترجمة)
Palestine Liberation Organization leader Yasir Arafat attends a summit conference, Rabat, 1974. Photo by Hulton-Deutsch/Getty Images

كيف تعلَّم الشعب الفلسطينيُّ النضال والاستمرار بالنضال؛ كيف لشعبٍ من نسلٍ عريقٍ أن يتحوَّل إلى أمَّةٍ مُسلَّحة؛ كيف مَنحوا لأنفسهم صورةً لا تمثِّلهم فحسب بل تُجسِّدُهم، خارج أرضهم ومن دون أن تكون لهم دولة

نُشِر النصّ الأصليّ في مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة (بالفرنسيَّة) في أيلول ١٩٨٣، وترجمَه إلى الإنكليزيَّة تيموثي إس. مورفي.

إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة هي في المقام الأوَّل جملةُ المظالم التي ما زال هذا الشعب يرزح تحت نيرها، والتي لا تقتصر على كونها أعمال عنفٍ وحسب، بل هي أيضاً أعمالٌ منافيةٌ للمنطِق، زائفةٌ في مسوِّغاتها والضمانات التي تزعم أنَّها بصدد صيانتها أو الزود عنها. عندما وقعَت مجزرة صبرا وشاتيلا، لم يحتَج عرفات إلَّا لكلمةٍ واحدةٍ لتوصيف كلٍّ من الوعود المنكوثة والاتِّفاقيَّات المنتهكة: العار، العار!

قيل عمَّا حدَث إنَّه لا يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعيَّة. ومع ذلك، فهي قصَّةٌ شملت منذ مطلعها عدَّة قرى شبيهة بأورادور. فلم يكن الإرهاب الصهيونيُّ موجَّهاً ضدَّ الإنكليز دون غيرهم، بل عمَّ القرى العربيَّة أيضاً التي كان يرى أنَّه لا بدَّ من إزالتها عن الوجود؛ وكانت منظَّمة إرغون ناشطةً للغاية في هذا السياق (بدليل ارتكابها مذبحة دير ياسين). هي قصَّةٌ مبنيَّةُ، من البداية إلى النهاية، على أفعالٍ لا تقتصرُ على ضرورة إنهاء وجود الشعب الفلسطينيّ فحسب، وإنَّما على جعل الواقع يبدو وكأنَّه لم يكن للفلسطينيِّين أيُّ وجودٍ في الأصل.

كان الغزاة هم أولئك الذين عانوا أنفسهم من أفظَع إبادةٍ جماعيَّةٍ عرفها التاريخ. لقد حوَّل الصهاينةُ تلك الإبادة الجماعيَّة إلى شرٍّ مُطلقٍ، بيد أنَّ عمليَّة التحويل هذه صادرةٌ عن رؤيةٍ دينيَّةٍ وباطنيَّة، وليسَت رؤيةً تاريخيَّة. فهي لم تضع حدَّاً للشرّ؛ بل، على نقيض ذلك، عملَت على نشره، لتُنزله من جديدٍ على رؤوس أبرياء آخرين، وتطالبَ بتعويضاتٍ من شأنها أن تُلحِق بهؤلاء الآخرين جزءاً ممَّا عانى اليهود منه (من طردٍ وحصارٍ في أحياء معزولة، وإخفاء وجودهم كشعب). هكذا، وبوسائل "أكثر برودةً" من إبادة جماعيَّة، يصلُ المرء إلى النتيجة نفسها في نهاية المطاف.

تدين الولايات المتَّحدة وأوروبا بتعويض اليهود عمَّا لحق بهم، لكنَّهم أجبروا شعباً، أقلُّ ما يقال عنه إنَّه لا علاقة له بالمحرقة من قريبٍ أو بعيد، وربَّما لم يسمع بها حتَّى، على دفع ذلك التعويض. هُنا يبدأ التناقض الفجّ، والعنف أيضاً. سيطالبُ الصهاينة، ومن ثمَّ الدولة الإسرائيليَّة، الفلسطينيِّين بالاعتراف بحقِّهم (القانونيّ). بيد أنَّ الدولة الإسرائيليَّة لن تتوقَّف أبداً عن إنكار حقيقة وجود شعبٍ فلسطينيّ، ولن تتحدَّث إطلاقاً عن الفلسطينيِّين بحدِّ ذاتهم، بل عن عرب فلسطين، وكأنَّهم الأخيرين قد وجدوا أنفسهم هناك مصادفةً أو بالخطأ. لاحقاً، ستتصرَّف الدولة الإسرائيليَّة على اعتبار أنَّ الفلسطينيِّين المهجَّرين قسراً قد وفدوا من خارج البلاد في الأصل، ولن تنطق بأيِّ كلمةٍ عن حرب المقاومة الأولى التي قادها الفلسطينيّون وحدهم. وبما أنَّهم لم يعترفوا بحقِّ إسرائيل، فستحوِّلهم الأخيرة إلى نسلِ هتلر. والمفارقة في الحقيقة هي أنَّ إسرائيل التي تحتفظ لنفسها بالحقِّ في إنكار وجود الفلسطينيِّين. من هُنا تبدأُ سرديَّةٌ زائفةٌ تزداد اتِّساعاً أكثر فأكثر، لتثقلَ كاهل كلَّ من ينبري للدفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة. والغاية من هذه السرديَّة، من هذا الرهان الإسرائيليّ، هي جعلُ الذين يُعارضون ظروف الأمر الواقع وممارسات الدولة الصهيونيَّة يبدون كمعادين للساميَّة. تستمدُّ هذه العمليَّة وجودها من السياسات الباردة التي تتبنَّاها إسرائيل فيما يختصُّ بالفلسطينيِّين.

منذ اللحظة الأولى، لم تُخفِ إسرائيل هدفها: تفريغ الأراضي الفلسطينيَّة من سكَّانها. بل أكثر من ذلك؛ أن تتصرَّف كما لو أنَّ تلك الأراضي كانت فارغةً في الأصل، ومقدَّرةً للصهاينة. كان جليَّاً أنَّنا بصدد حالة احتلال، لكن ليس بالمفهوم أوروبا القرن التاسع عشر: أي أنَّه لن يتعرَّض السكَّان المحليُّون للاستغلال، بل سيُجبرون على الرحيل. وأمَّا الذين ظلّوا، فلن يجري تحويلهم إلى قوَّةٍ عاملةٍ إقليميَّةٍ مُستقلّة، بل بالأحرى إلى قوَّة عملٍ متنقِّلة وغير مترابطة، كما لو كانوا مهاجرين مودَعين في أحياء معزولة. منذ اللحظة الأولى، جرَت عمليَّة شراء الأراضي تحت شرط أن تكون خاليةً من قاطنيها، أو قابلةً للتفريغ. إنَّها إبادةٌ جماعيَّة، لكن من النوع الذي تكون فيه الإبادة الجسديَّة مرهونة بالتفريغ الجغرافيّ: لكونِهم عرباً فقط بصفةٍ عامَّة، فإنّه يجب على الفلسطينيِّين الناجين أن يرحلوا وينضمّوا للعرب الآخرين. الإبادة الجسديَّة حاضرةٌ بالطبع، سواءٌ أكان تنفيذها موكلاً إلى مرتزقةٍ أو غير ذلك؛ بيد أنَّهم لا يصنِّفونها كإبادة جماعيَّة، لأنَّها ليست، بحسب تعبيرهم، "الهدف النهائيّ": فهي في الواقع ليسَت سوى وسيلةٍ من بين وسائل أخرى.

ليس اللوبيُّ الصهيونيّ وحدَه مبعثَ التواطؤ الأميركيِّ مع إسرائيل. لقد بيَّن إلياس صنبر بوضوحٍ كيف أعادت الولايات المتَّحدة اكتشاف جانبٍ من تاريخها في إسرائيل: وذلك في إشارةٍ إلى الهنود الحمر (الأميركيِّين الأصليِّين) الذين تعرَّضوا أيضاً إلى إبادةٍ لم يكن شقُّ التصفية الجسديّة المباشرة فيها إلَّا جزئيّاً. كان محور المسألة هو التفريغ، وكأنَّه لم يكن هناك وجودٌ للهنود الحمر قطّ باستثناء الذين زُجّوا في أحياء العزل المبنيَّة في الأصل لاستيعاب وجودهم باعتبارهم نازحين داخليّاً. في نواحٍ عديدة، صار الفلسطينيُّون الهنودَ الحمر الجدد؛ هنود إسرائيل الحمر. تكشف المقاربة الماركسيَّة عن حركتين مُكمِّلتين للرأسماليَّة: الأولى هي الاستمرار بفرض الحدود التي تتطوَّر الرأسماليَّة ضمنها وتستغلُّ نظامها؛ والثانية هي المضي دوماً نحو تجاوز هذه الحدود الجديدة إلى حيَّز أوسع أكثر فأكثر بحيث تفضي إلى إعادة تأسيسها مرَّةً أخرى لكن ضمن نطاقٍ أكبر وأشدَّ كثافة. ولطالما كان تجاوزُ الحدود سمةَ الرأسماليَّة الأميركيَّة، الحلم الأميركيّ، والذي تبنَّته إسرائيل لاحقاً وكذلك حلم إسرائيل الكبرى في الأراضي العربيَّة، على حساب العرب.

كيف تعلَّم الشعب الفلسطينيُّ النضال والاستمرار بالنضال؛ كيف لشعبٍ من نسلٍ عريقٍ أن يتحوَّل إلى أمَّةٍ مُسلَّحة؛ كيف مَنحوا لأنفسهم صورةً لا تمثِّلهم فحسب بل تُجسِّدُهم، خارج أرضهم ومن دون أن تكون لهم دولة: تستلزم كلُّ هذه الأحداث شخصيَّةً تاريخيَّةً عظيمة، شخصيّةً يمكن أن نقول عنها، من منظورٍ غربيٍّ، أنَّها شكسبيريَّة الطابع؛ والحديث هُنا عن عرفات. لقد سبقَ أن شهدنا ظاهرةً تاريخيَّةً بهذا الحجم من قبل (يمكن للفرنسيِّين مقارنة الأمر بفرنسا الحرَّة، باستثناء حقيقة أنَّ الأخيرة كانت ذات قاعدةٍ شعبيَّةٍ أصغر في البدايات). كما أنَّه ليس بجديد تاريخياً ما يفعله الإسرائيليُّون في كلِّ الفرص التي يبدو الحلُّ فيها ممكناً، أو تتوافر عناصره؛ أي الفرص التي يجهضها الإسرائيليُّون عن عمدٍ وقصد. يتمسُّك الإسرائيليّون بموقفهم الدينيِّ الذي لا يتوقَّف عند إنكار الحقِّ الفلسطينيّ، بل الحقيقة الفلسطينيَّة. ومن أجل تطهير أنفسهم من الإرهاب الذي يمارسونه، فإنّهم يلجؤون إلى معاملة الفلسطينيِّين باعتبارهم إرهابيِّين غرباء. بيد أنَّ الفلسطينيّين ليسوا كذلك، بل هم بالأحرى شعبٌ بعينه يختلف عن العرب على غرار اختلاف الأوروبيِّين ما بين أنفسهم، ولهذا السبب تحديداً لم يتوقَّعوا من الدول العربيَّة أكثر من مجرَّد مساعدةٍ غامضةٍ وملتبسة، والتي كانت تنقلب ضدَّهم أحياناً لتتحوَّل إلى عنفٍ وإبادةٍ كلَّما شعرَت تلك الدول بأنَّ النموذج الفلسطينيّ يشكِّل خطراً عليها. لقد خاض الفلسطينيُّون دوائر التاريخ الجهنميَّة كلّها: فشلٌ دائمٌ في الحلول كلَّما كانت الفرصة مُتاحة، وأسوأُ انتكاساتٍ ممكنةٍ على صعيد التحالفات التي كانوا يتحمَّلون العبء الأكبر منها، ووعودٌ رسمَّيةٌ وجدِّيَّة لم تتحقَّق. ومع كلِّ ما سبق، كان عليهم أن يذكوا جذوة نضالهم بأنفسهم.

من الممكن القول إنَّ النيل من مصداقيَّة عرفات كان واحداً من أهداف مجزرة صبرا وشاتيلا. لقد وافقَ عرفات على خروج المقاتلين -القوَّة التي لم تتعرَّض لأذى- من المخيَّمَين شريطة ضمان الولايات المتَّحدة، وحتَّى إسرائيل، أمن ذويهم بشكلٍ كامل. لذا، بعد المجزرة، لم يجد أيَّ كلمةٍ لينطق بها سوى "العار". فإذا ما أفضَت الأزمة التي تعرَّضت لها منظمة التحرير الفلسطينيّة في أعقاب المجزرة، على المدى الطويل إن أمكن القول، إلى حالةٍ من الاندماج مع الدول العربيَّة أو الذوبان ضمن الأصوليَّة الإسلاميَّة، فسيمكن القول عندئذٍ إنَّ الشعب الفلسطينيَّ قد اختفى فعليَّاً. لكن حدوث هذا الأمر سيكون ضمن إطار مجموعة ظروف لن يتوقَّف العالم والولايات المتَّحدة خلالها، بل حتَّى إسرائيل، عن الندم على الفرص الضائعة، بما في ذلك الفرص التي لا تزال متاحةً إلى اليوم. وأمَّا بالنسبة إلى المعادلة الإسرائيليَّة المتعجرفة التي مفادُها "لسنا شعباً كبقيَّة الشعوب"، فإنَّ الفلسطينيِّين لم يتوقَّفوا عن ترديد الصرخة التي استندنا إليها في العدد الأوَّل من مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة (بالفرنسيَّة): "نحنُ شعبٌ مثل بقيَّة الشعوب، ولا نريد أن نكون أكثر من ذلك...".

عبر قيادتها للحرب الإرهابيَّة في لبنان، اعتقدَت إسرائيل أنَّها قادرةٌ على قمع منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة وحرمانها من دعم الشعب الفلسطينيّ، المحروم أصلاً من أرضه. وربَّما حقَّقَت نجاحاً في هذا الصدد إذ لم يعد في طرابلس المحاصَرة سوى الوجود المادّيّ لعرفات بين أتباعه، وجميعهم في حالة مجدٍ قيد العزلة. بيد أنَّ الشعب الفلسطينيَّ لن يخسر هويَّته من دون أن يخلِق في مكانها إرهاباً مزدوجاً، على صعيدي الدولة والدين، يستفيدُ من غيابهما ويجعل من المستحيل إيجاد أيّ تسويةٍ سلميَّةٍ مع إسرائيل. ولن تنعكس تبعات الحرب في لبنان على إسرائيل نفسها بصورة انقسامٍ أخلاقيٍّ وفوضى اقتصاديَّةٍ فحسب، بل ستواجه أيضاً صورتها في المرآة من جرَّاء تعصُّبها. إنَّ الإمكانيَّة الوحيدة للتوصُّل إلى حلٍّ سياسيّ، إلى تسويةٍ سلميَّة، تتمثَّل بوجود منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة مُستقلَّةً من دون أن تختفي في دولةٍ قائمةٍ بالفعل أو تضيع بين الحركات الإسلاميَّة المتنوِّعة. وأمَّا اختفاؤها، فلن يكون نصراً إلَّا لقوى الحرب العمياء، غير المكترثة ببقاء الشعب الفلسطينيّ.

 

هوامش:

- مجزرة صبرا وشاتيلا: هي المجزرة التي تعرَّض لها فلسطينيُّون في مخيَّمَين للاجئين في سنة 1982، وكانت من تنفيذ حزب الكتائب اللبنانيّ بمساعدة الجيش الإسرائيليّ.
- أورادور: قرية فرنسيَّة دمَّرتها قوَّات الاحتلال النازيَّة انتقاماً من نشاطات المقاومة الفرنسيَّة في أعقاب إنزال نورماندي.
- إرغون: مُنظَّمة صهيونيَّة يمينيَّة عُرفَت باستخدام تكتيكاتٍ إرهابيَّةٍ ضدَّ القوَّات البريطانيَّة وغيرها في فلسطين خلال مرحلة ما بعد الحرب العالميَّة الثانية.
 
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز