ضمن مشروع "فسيفساء القدس"، اختُتمت سلسلة من الجولات المسرحية في البلدة القديمة، وهو العمل المشترك بين المسرح الوطني الفلسطيني وجمعية برو تراسنطا. فسيفساء القدس هو عمل فني ثقافي، يجمع بين رحلة في البلدة القديمة ومسرحية فنية، جولة مكانية وزمانية، من خلال قصة حُب موديل الستينات بين صالح وبسمة. حيثُ تجولت مجموعات مختلفة من الجمهور على مدار أربعة أيام متفرقة في زقاق القدس، وعاش الجمهور قصة نسيج اجتماعي يربط بين الأرض والإنسان، متأثرين بالأحداث التي تحكي حكاية التراث الفلسطيني، ومروا خلال القصة في عدة محطات من البلدة القديمة و تعرفوا على معالمها و تاريخها.
يقول محمود درويش في إحدى قصائده" هذا هُوَ النسيانُ حوَلكَ: يافطاتٌ تُوقظُ الماضي، تحثُّ على التذكُّر"، وتقول فيروز في واحدة من أغنياتها " ما تنسوا وطنكم"، تلك هي جدلية الذاكرة والنسيان، فالتفاصيل المروية في الحكاية تحثّ على التذكّر، أننا كنا ولا زلنا هنا نغنّي ونُحبّ. وعلى وقع الأنغام بدأت الجولة المسرحية وبدأت حكاية "فسيفساء القدس" على لسان الراوية التي ترافقنا طيلة الجولة، من ساحة سبافورد، في البلدة القديمة مروراً بعدة محطات لكل منها تاريخ وحكاية، فهذه الأماكن شاهدة على كل حدث، وعلى كل صوت، منذ النكبة وحتى يومنا هذا. وتأتي هذه الجولة المسرحية نتاج عمل مشترك بين المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي وجمعية بروتراسنطا، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي.
إن هذا العمل بحكايته، ممثليه، مخرجته، وموسيقييه، هو نتاج أشهر من العمل المتواصل، والذي بدأ منذ لحظة كتابة النص، التدريب عليه، واجراء كافة التحضيرات، حتى الوصول للعرض بشكله النهائي، والذي يُعبّر عن حكاية مُمتدة في جذور الذاكرة وهي حكاية في حارة السعدية في البلدة القديمة تبدأ من مركز سبافورد، وتمرّ من محطة عين الملا، مخبز عودة، الكوّى، جامع المئذنة الحمراء، محطة دير راهبات صهيون، حوش العدس،مستشفى الهوسبيس، الزاوية الأفغانية، المدرسة العمرية، دير حبس المسيح، باب حطّة وكنيسة سانت إن. وهي حكاية عن المحبة والأمل، عن البساطة التي كان تغلف حياة الناس، في مجتمع صغير متعاون، ومترابط، يعيش أهله حياة بسيطة في مستوى معيشي متقارب. حيث يعود صالح من السفر حاملاً معه شهادته، بعد أن تغرّب ليدرس المحاسبة في بيروت، وتريد والدته أن تزوجه ابنة خالته لأنها تعتقد أنها مناسبة له، بينما يقع صالح في حب بسمة ابنة أبو خالد الّلحام.
ما تلبث الفرحة أن تحلّ على أهل الحارة حتّى تنتهي بأصوات القصف، التي جاءت لتفسد صوت الأمان وحسّ الأمل. لكن الحقيقة أن تلك الأصوات لم تكن قادرة على إفساد الحكايات في الذاكرة، فقد ظلّت عصيّة عن النسيان أو التحريف، وظلّ أهل الحارة يتناقلونها جيلاً بعد جيل، منتظرين اليوم الذي يأت فيه العرس الحقيقي.
يقول أحد الحاضرين من الجمهور "انّ هذا النوع من العروض المسرحية يعيد إحياء الأمل في نفوسنا بأن أبناءنا يستمعون إلى الحكاية ويشاهدونها، فتبقى خالدة في أذهانهم" ويقول آخر" إن المسرح يقوم بواحدة من أعظم مهامه وهي الوفاء بوعده للناس بأن يحمل لهم رسالة فنية وطنية"، وهذا دليل على أن الناس لا تزال تترقّب هذا النوع من الأنشطة وتشعر بالانتماء لها.
وكانت المخرجة جورجينا عصفور قد وصفت رؤيتها لهذا العمل بأنّه تصديّ الحب للحرب، فهذا الحب هو سلاح الصمود في وجه الحرب الخشن، الذي يأتي دائماً ليزعزع أفراحنا، فنحن بهذا الحب لدينا قوة البقاء والمحاربة. والقدس خير مثال على ذلك فقد كانت وما زالت فوق الزمان والمكان، تحمل في ذاكرتها كل ما مرّ عليها من حضارات، ثقافات، وديانات، فالقدس هي مهد التنوّع والمحبة، ووجه الأمل. كما يشير الفنان القدير حسام أبو عيشة مؤلف هذا العمل وممثل فيه، بأن المسرحية تحمل رسالة مفادها أنّنا أصحاب الحقيقة التي بُنيت عليها القصة، وهيَ أن هذه المدينة لا يستطيع أي أحد أن يدّعي أن الله كتبها له وحده أو أن يفرض هيمنته عليها، وأننا كشعب فلسطيني جزء رئيسي من هذه المدينة وحضارتها منذ الأزل. كما أن هذا العمل مهم اليوم لأنّه يسلّط الضوء على فترة مهمّة من حياة الشعب الفلسطيني، وليست صدفةً أنّ العمل ينتهي بحرب ال 1967، فهذا الشعب لا يزال ينتظر العُرس الفلسطيني بعد كلّ الحروب، وهو عرس حتمي إن لم نشهده نحن، سوف يشهده أبناؤنا.
وكان للموسيقى حضور لافت في هذا العرض، التي تعبّر عن أصالة الحدث، حيث يشير رائد سعيد صاحب الرؤية الموسيقية لهذا العرض بأنّ الموسيقى جاءت لتسير برفقة الحدث لكي تعبّر عن مضمون العمل ، حيث جاءت المقطوعة الأولى " باب حطة" لكي تعلن انطلاق العرض وتشدّ الجمهور، وقد ساعده على ذلك كونه ابن البلدة القديمة ويحفظها عن ظهر قلب، فكان من المهم بالنسبة إليه أن تكون الموسيقى مستوحاة من المكان وتخدم المشاهد المسرحية.