عشرون عاما على رحيل إدوارد سعيد

إدوارد سعيد: أدب محظور (ترجمة)

2023-09-18 02:00:00

إدوارد سعيد: أدب محظور (ترجمة)

المفارقة هي أنَّ الموادّ الأدبيَّة الحديثة تُعقِّد المشهد الثقافيّ العربيّ الحاليّ وتجعله أكثر إثارةً للاهتمام إلى حدٍّ كبير. فخلال فترةٍ لا تتجاوز السنة، صدرَت ثلاثة كتبٍ ذات سماتٍ أدبيَّة فريدة، بترجماتٍ جيِّدة المستوى، بيد أنَّها لم تحظ بأيِّ اهتمامٍ على الإطلاق. مع العلم أنَّ كلَّ عملٍ منها من إنتاج مؤلِّفٍ معروف ومحطّ تقدير،

نُشر النصّ الأصليّ في مجلة "ذا نيشن" في 17 سبتمبر، 1990 (أعيد نشره بتصرُّف في كتاب The Politics of Dispossession الذي ضمَّ مجموعةً من المقالات المنشورة لسعيد. وهنُا ترجمة المقالة مثلما وردَت في الكتاب).

 

قبل ثماني سنواتٍ من فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب لسنة 1988، تواصل معي ناشرٌ تجاريٌّ بارز في نيويورك، معروف بآرائه الليبراليَّة والمنفتحة، طالباً منِّي اقتراح لائحةٍ بروايات من العالم الثالث بغية ترجمتها وإدراجها ضمن سلسلةٍ جديدةٍ كان يُخطِّط لنشرها. كان على رأس اللائحة التي قدَّمتُها عملان أو ثلاثة أعمالٍ لمحفوظ، ولم يكن أيُّ منها مُتوفِّراً في الولايات المتَّحدة حينذاك. صحيحٌ أنَّ بعض روايات المعلِّم المصريِّ كانت متداولة في لندن، لكن ليس في الولايات المتَّحدة، وكذلك الأمر على صعيد أوروبا حيث لم تكن تلك الأعمال متداولةً في الدرجة الأولى إلَّا لدى عددٍ قليلٍ من طلَّاب اللغة العربيَّة. عقب أسابيع قليلة من تقديم اللائحة، سألتُ عن الروايات التي وقع عليها الاختيار، حينها أُبلِغت بأن ليسَت هنالك نيَّة لترجمة أيٍّ من أعمال محفوظ المقترَحة. وعند استفساري عن أسباب ذلك، تلقَّيتُ إجابةً لا تزال تؤرِّقني منذ ذلك الوقت: "المشكلة، مثلما قيل لي، "هي أنَّ العربيَّة لغةٌ مثيرةٌ للجدل".

ما زال مقصَدُ الرجل غامضاً بعض الشيء بالنسبة إليّ، لكنَّ ما كان جليَّاً تماماً في الأمس، واليوم للأسف، هو أنَّ العرب ولغتهم لا يحظون بالاحترام بشكلٍ أو آخر- فالعربيَّة تعدُّ بالنتيجة مصدراً للخطر، ومبتذلة، ومن غير الآمن الاقتراب منها. ومن بين جميع الآداب العالميَّة الرئيسيَّة، يظلُّ الأدب العربيّ مجهولاً نسبيَّاً وغير مقروءٍ في الغرب، لأسبابٍ فريدةٍ، ولافتةٍ للنظر باعتقادي، وذلك في وقتٍ أصبحَت فيه الذائقة هُنا إزاء ما هو غير غربيّ أكثر تطوُّراً من أيِّ وقتٍ مضى، فضلاً عن أنَّ الأدب العربيَّ المعاصر، والجذَّاب، يشهد مفترق طرقٍ مثيرٍ للاهتمام إلى حدٍّ استثنائيّ.

هناك مؤشِّر طريف (لكنّ محبِطٌ أيضاً) بصدد البون الشاسع ما بين الاهتمام المولى للأدب العربيِّ مقارنةً بالآداب الأخرى خارج العالم الأطلسيّ، ويتجلَّى من خلال النظر إلى ما آلَت إليه سمعة محفوظ وأعماله باللغة الإنكليزيَّة بعد حصوله على جائزة نوبل لسنة 1988: لقد حصلت دار نشر دابلدي على حقوق أعماله، قبل أن تشرع بُعيد أشهرٍ بتقديم عددٍ قليلٍ من قصصه ورواياته إلى القرَّاء، بما في ذلك المجلَّد الأوَّل من عمله الرئيسيّ، "ثلاثيَّة القاهرة"، على نحوٍ يوحي بأنَّها طبعاتٌ جديدة. لكن في الواقع، ومع استثناءٍ وحيد، كانت الترجماتُ هي نفسها بالضبط تلك المنشورة في إنكلترا، ومع العلم أنَّ بعضها كانت ذات مستوى لائق، إلَّا أنَّ معظمها اتَّسمَت بالإهمال أو الرداءة. بدا واضحاً أنَّ الغرض من وراء ذلك كان استغلال شهرة محفوظ الجديدة وتسويقها، لكن، في الوقت نفسه، خفض التكاليف من خلال عدم ترجمة تلك الأعمال.

أشيرُ أيضاً إلى مُؤشّرٍ ثان، يمكن وصفه بأنَّه أكثر هزليَّة، يتعلَّق ببضع نبذات نُشرت عن محفوظ في مجلَّات أميركيَّة على غرار فانيتي فير، وذا نيويوركر، ومجلَّة نيويورك تايمز. في الواقع، لم تكن النبذات كلُّها سوى إعادة كتابةٍ للمقالة نفسها مراراً وتكراراً. تحدَّثت كلُّها عن مقهاه المفضَّل، وتواضعه، وموقفه من إسرائيل (في الجملة الثانية من مقالتها عن جائزة نوبل، أدرَجت ذا نيويورك تايمز باهتمامٍ رأيّ القنصل الإسرائيليِّ في نيويورك)، وأسلوب حياته غير المشوِّق والرتيب إلى حدٍّ كبير. كان جميع الكتَّاب، ومن بينهم كتَّاب مقالات بارعين إلى حدٍّ معقول، سُذَّجاً تماماً عندما يتعلَّق الأمر بكلٍّ من اللغة العربيَّة والأدب العربيّ، فاعتبَروا جميعاً أنَّ محفوظ يعبِّر عن مزيجٍ من الشذوذ الثقافيِّ والرمزيَّة السياسيَّة. بيد أنَّهم لم يأتوا على سيرة إنجازاته الرسميَّة، على سبيل المثال، أو مكانته في الأدب المعاصر بوجهٍ عامّ.

ثالثاً، استُبعِد محفوظ إلى حدٍّ ما من النقاش لكن من دون أن يستفزَّ ذلك أيَّاً من الأشاوس المشتغلين في الأدب باتِّجاه محاولة اكتشاف كتَّابٍ آخرين باللغة العربيَّة قد يكونون موضع اهتمام. فمن أين أتى نجيب محفوظ على أيِّ حال؟ إنَّه من المستحيل ألَّا يعتقد المرء بأنَّ أحد العوامل وراء هذه الحالة الغريبة يكمن في التحيُّز طويل الأمد ضدَّ العرب والإسلام، والذي لا يزال قويَّ التأثير داخل الثقافة الغربيَّة عموماً، والأميركيَّة على وجه خاصّ. في هذ الصدد، يتحمَّل الخبراء في الشؤون الإسلاميَّة والعربيَّة قدراً كبيراً من المسؤوليَّة إذ لا يزال عميدهم، برنارد لويس، يهذر عبر منابر، على غرار وول ستريت جورنال ومجلَّة الباحث الأميركيّ، عن الظلاميَّة والغرابة في كلٍّ من العرب، والمسلمين، وثقافتهم، ولغتهم، وغير ذلك. يُضاف إلى ما سبق أنَّه لا يزال هناك اعتقادٌ بأنَّه من الصائب طلبُ تعليقٍ من باحثٍ إسرائيليٍّ أو يهوديٍّ في شؤون إسلاميَّة؛ في حين أنَّ العكس -أي طلب تعليقٍ من عربيٍّ في شؤون تتعلَّق بالأدب العبريِّ أو الأدب اليهوديّ- مسألةٌ لن تكون حتَّى موضع تفكير. بل إنَّ واحداً من المراكز الجامعيَّة الأميركيَّة الرائدة للدراسات العربيَّة والإسلاميَّة لا يضمُّ في هيئته التدريسيَّة أيَّ متحدِّث أصليٍّ لتعليم اللغة العربيَّة أو الأدب العربيّ. وأمَّا فيما يتعلَّق بالنقَّاد، ومراجعي الكتب، ومحرِّري المجلَّات، فتراهم يحرصون بشدَّة على تجنُّب مناقشة الكتب العربيَّة، حتَّى في أثناء محاولاتهم إنجاز ملفَّاتٍ مذهلةٍ في القراءة والترجمة في سياق الأدب التشيكيّ، أو الأرجنتينيّ، على سبيل المثال لا الحصر.

لم يعد من المقبول التذّرع بعدم توفُّر ترجمات لأعمال أدبيَّة عربيَّة. لقد جمعَت دور نشرٍ صغيرة، لكن يقوم عليها أصحاب ضمير، على غرار الساقي وكوارتِت في لندن، وسندباد في باريس، وثري كونتيننت في الولايات المتَّحدة، شريحةً متنوِّعةً من الأعمال المعاصرة من العالم العربيّ، على الرغم من أنَّها لا تزال مهملةً، أو متجاهَلةً عن عمد، من قِبل المحرِّرين ومراجعي الكتب على حدٍّ سواء. بالإضافة إلى ذلك، أصدرَت مؤخَّراً دور نشر أكبر حجماً (على غرار بنغوان، وراندوم هاوس، وعددٍ قليلٍ من المطابع الجامعيَّة) بعض الأعمال الأدبيَّة رفيعة المستوى، لكنَّها لم تحظَ أيضاً باهتمامٍ أو مراجعة؛ كما لو أنَّ اللامبالاة والتحيُّز قد استبعدَت تسليط أيِّ ضوءٍ على النصوص التي تتضمَّن تكراراً للكليشيهات المعتادة عن "الإسلام" والعنف والشهوانيَّة وما إلى ذلك. ويبدو أنَّ هناك سياسةً متعمَّدةً من شأنها الحفاظ على نمطٍ من الاختزال المتجانس عندما تتعلَّق المسألة بالعرب والإسلام؛ والحديث هُنا عن تكريس الاستشراق الذي ينأى بالثقافة الأخرى ويجرِّدها من الصفة الإنسانيَّة، ويفضي في الوقت نفسه إلى توطيد المخيال الكاره للأجانب باعتباره مكوِّناً لهويَّة "غربيَّة" خالصة.

في وسعنا القول إنَّ بعض هذه الانعكاسات ناجمٌ في جزءٍ منه عن المستوى المشين حقَّاً للتقارير المُعدَّة عن التدخُّل العسكريِّ العراقيِّ الكارثيِّ في الكويت؛ فمعظم ما صدر من تعليقاتٍ للصحفيِّين والخبراء في وسائل الإعلام الأميركيَّة لم يكن سوى مجرَّد تكرارٍ للكليشيهات المروِّعة التي تنمُّ في أغلبها عن جهلٍ، ومنافاةٍ تاريخيَّة، وأخلاقويَّة، وقوامة، ونفاق. وكلُّ ما سبق مستوحى بطريقةٍ أو أخرى من سياسة الحكومة الأميركيَّة، والتي لطالما اعتبرت أنَّ العرب إمَّا إرهابيّون أو مهرِّجون حمقى يمكن استغلال ما لديهم من أموال أو نفطٍ رخيص ووفير. لم يُفسِّر أحدٌ هذا العمل غير القانونيّ باعتباره ضمن السياق الذي استحدثته حرب العراق الطويلة على إيران، والهجمات التركيَّة ضدَّ قبرص، والاجتياح الإسرائيليّ للبنان، والاحتلال الأميركيِّ لبنما... إلخ، ولم يتضمَّن أيُّ تقريرٍ إشارةً إلى أنَّ سكَّان الكويت كانوا بدرجةٍ كبيرة -أغلبيَّتهم الساحقة في الواقع- غير كويتيِّين؛ أو أنَّ الحكومة الكويتيَّة قدَّ قدَّمت لصدَّام، بطل العرب المزعوم، خمسة عشر مليار دولار أميركيّ كمساعداتٍ من أجل قتال إيران؛ أو أنَّه ليس لدى حكومات تلك المنطقة، عدا استثناءاتٍ قليلة، من شرعيَّةٍ تاريخيَّة إلَّا القليل، في حين أنَّها تستمدُّ مكانتها من الاستعمار أو القوَّة أو شراء السلطة فحسب، وأنَّه لطالما كان هذا الوضع محَّط متاجرة للقوى العظمى لزمنٍ طويل، وبالأخصّ الولايات المتَّحدة. بيد أنَّ هذه السقطات، وغيرها، متوقَّعةٌ في ظلِّ إعلامٍ مُتشبِّع بأوهامٍ مُعزَّزة ذاتيَّاً، وابتذالٍ فاسدٍ متعذِّر الإصلاح، وافتراءاتٍ بغيضة، يجري تصويرها كلُّها على أنَّها خبرة؛ الغريب في هذه المسألة هو مدى ضآلة حجم الضغط التعويضيِّ المنبثق عن الثقافة في العموم، والتي تبدو أنَّها تفضِّل بصورةٍ تلقائيَّة إعادة كتابة محفوظ والقوالب النمطيَّة الإسلاميَّة أكثر من أيِّ شيءٍ آخر تقريباً.

المفارقة هي أنَّ الموادّ الأدبيَّة الحديثة تُعقِّد المشهد الثقافيّ العربيّ الحاليّ وتجعله أكثر إثارةً للاهتمام إلى حدٍّ كبير. فخلال فترةٍ لا تتجاوز السنة، صدرَت ثلاثة كتبٍ ذات سماتٍ أدبيَّة فريدة، بترجماتٍ جيِّدة المستوى، بيد أنَّها لم تحظ بأيِّ اهتمامٍ على الإطلاق. مع العلم أنَّ كلَّ عملٍ منها من إنتاج مؤلِّفٍ معروف ومحطّ تقدير، يطرح بأسلوبه الخاصّ مخالفةً أو معارضةً ضمن إطار التقليد العربيّ والإسلاميّ؛ وبعبارةٍ أخرى، تُعبِّر هذه الأعمال عن نمط الاغتراب والقطيعة عن الثقافة العربيَّة الذي يعدُّ عنصراً أساسيَّاً في هجمات المستشرقين الغربيِّين؛ إذ يرى كلٌّ منها أنَّه لا بدَّ من إخضاع الثقافة للجدل والخلاف، وبالتالي تعارض كلَّاً من التعصُّب، والسلطة الجائرة، والدوغمائيَّة غير النقديَّة.

ربَّما أكثر هذه العناوين الثلاثة تحفيزاً فكريَّاً هو كتاب أدونيس المعنون بـ "مقدِّمة للشعر العربيّ"، والذي ترجمَته كاثرين كوبهام إلى الإنكليزيَّة بذكاء استثنائيّ. يُنظر اليوم إلى أدونيس باعتباره الشاعر العربيَّ الأكثر جرأةً واستفزازاً؛ رمزيٌّ وسرياليّ، مزيجٌ من مونتالي وبرتون وييتس وتي. إس. إليوت في شبابه. في هذه المجموعة التي تضمُّ أربع مقالاتٍ أُلقيَت في الأصل كمحاضراتٍ في كوليج دو فرانس، يعيُد أدونيس تفسير التراث العربيِّ الهائل برمَّته، ابتداءً من الشعر الجاهليّ، ومروراً بالقرآن، والحقبة الكلاسيكيَّة، وصولاً إلى الوقت الحاضر. ومن خلال اعتباره أنَّ الأدب ينطوي بصورةٍ دائمة على ميولٍ حَرفيَّةٍ وسلطويَّة، فهو يُقدِّمُ أطروحةً مفادها أنَّ هذه الميول لطالما كانت محطَّ اعتراض الشعراء والمفكِّرين الذين تمثِّل الحداثة بالنسبة إليهم التجديد مقابل الإمَّعيَّة، والتمرُّد مقابل القوميَّة، والإبداع مقابل الأصوليَّة.

بعيداً عن كونه بياناً أكاديميَّاً، يُعتبر كتاب "مقدّمة للشعر العربيّ" تحدِّياً لا هوادة فيه للوضع الراهن الذي تحافظ الثقافة العربيَّة الرسميَّة على إبقائه مثلما هو. وبعباراتٍ لا لبس فيها، يضع أدونيس هذه الأخيرة على قدم المساواة مع كلٍّ من السلطة والمرجعيَّات والبيروقراطيَّة، الدينيَّة والعلمانيَّة، والتي وضعتنا اليوم، نحن العرب، أمام أزمةٍ ثقافيَّةٍ من جرّاء انسحابها نحو ماضٍ ذاخرٍ أو راعٍ أجنبيّ. يتعاطى أدونيس مع النصوص بإلمامٍ مذهل، شأنّه شأن العبقريَّة الصرفة في حجّته. ولأنَّه يمكن القول إنَّ عمل أدونيس لا يختلف في أهميَّته عن أيِّ مانيفستو ثقافيٍّ مكتوبٍ اليوم، فإنَّ الصمت الذي قوبِل به إنَّما ينمُّ عن جهلٍ مذهل!

العملان الآخران الذين أشرت إليهما هما روايتا "تُرابها زعفران" لإدوار خرَّاط، و"مسك الغزال" للروائيَّة النسويَّة اللبنانيَّة حنان الشيخ، وقد صدر كلاهما عن دار نشر كوارتِت. ترجمَت فرنسيس ليارت أولاهما إلى العربيَّة ترجمةً مثيرةً للإعجاب، في حين ترجمَت كوبهام العمل الثاني بطلاقتها المعتادة. خرَّاط كاتبٌ مصريٌّ قبطي، شكَّلت سنوات حياته الأولى في الإسكندريَّة موضوعَ نصِّه الأقرب إلى سيرةٍ ذاتيَّة، والذي يحمل تشابهاً شكليَّاً مع رواية "صورة الفنَّان في شبابه" لجيمس جويس. إنّ سرديَّة الطفولة في هذا العمل ستجعل القرَّاء الذين صدَّقوا بسذاجةٍ المغالطات الصحفيَّة بصدد الكراهية المتبادلة بين الأقباط والمسلمين يدركون عكس ذلك، بما تنطوي عليه من تأمُّلاتٍ عميقة، وحميميَّةٍ باحتجاب، في الوقت نفسه. لا يشعر المرء في ثنايا هذا العمل بحالةٍ من رفض الانصياع لدى الفنَّان الناشئ فحسب، بل أيضاً باستكشافٍ مُطمئنٍّ لحياة عائلةٍ قبطيَّة من الطبقة العاملة، يكتنفها تفكُّكٌ مادِّيّ، وحياةٌ جنسيَّةٌ تعيسة، وقلاقل سياسيَّة. بمقدورنا هُنا أيضاً قراءة كشف خرَّاط باعتباره إلى حدٍّ كبيرٍ جزءاً من الثقافة المصريَّة المعاصرة، لكن من دون إغفال تشكيك الرجل بما تتبنَّاه المؤسَّسة الرسميَّة من صيغٍ سطحيَّةٍ لمعنى كلٍّ من "الواقعيَّة" والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة. أمَّا فيما يتعلَّق برواية حنان الشيخ، فيمكن وصفها بأنَّها قصةٌّ مُعقَّدةٌ وتتطَّلب عنايةً فائقةٍ بالتفاصيل، عن نساء خليجيَّات؛ مضطهداتٍ ومستغَلَّاتٍ وملوَّعاتٍ وحائرات. وبعيداً عن الرومانسيَّة البسيطة، فإنِّ رواية "مسك الغزال" صريحةٌ على نحوٍ مذهلٍ وصعبةٌ من الناحية التقنيَّة في آن، وتتعاطى مع تجارب على غرار المثليَّة الجنسيَّة والأبويَّة بمقدرةٍ غير متوقَّعة. ولعلَّ مزيداً من النسويَّات الغربيَّات يبدين اهتماماً أكبر بكاتباتٍ على غرار الشيخ، بدلاً من نوال السعداوي المبالغ في انتشارها (وتقديرها).

إنَّ القصد من استدعاء الأعمال الثلاثة آنفة الذكر هي أنَّ مواضيعها المباشرة أقلُّ أهميَّةً من إنجازاتها على مستويي الشكل والتقنيَّة إلى حدٍّ كبير، وهذا مؤشِّرٌ دقيقٌ جدَّاً لمدى التطوُّر المذهل الذي بلغه الأدب العربيٌّ منذ أن كان محفوظ في ذروة عطائه قبل خمسٍ وعشرين سنة. كما أنَّ أفضل الكتَّاب والكاتبات اليوم هم شخصيَّاتٌ معارضةٌ تَعمد في كثيرٍ من الأحيان إلى توظيف براعتها الأدبيَّة كوسيلةٍ غير مباشرةٍ لانتقاد الحياة في مختلف الدول العربيَّة، حيثُ الاستبدادُ والرجعيَّة سمتان شائعتان في الحياة اليوميَّة. لكن ربَّما ينبغي إضافة أنَّ هؤلاء ليسوا وحدهم؛ إذ إنَّ هناك العديد من الآخرين الذين يستلهمون إنجازاتهم ويدعمون استمرارها. أعود هُنا لأكرِّر مرَّةً أخرى حقيقة أنَّه لم يُبدِ أحدٌ في العالم الأدبيِّ الأنجلو-أميركيّ أيَّ اهتمامٍ بهذه المجموعة الغنيَّة من الكتابات. ظهرَت ترجماتٌ ممتازةٌ أخرى: على غرار مجموعة "مدن الملح" العظيمة لعبد الرحمن منيف (ترجمها فيليب ثيروكس لصالح راندوم هاوس)، وهي العمل الجادُّ الوحيد الذي يُسلِّط الضوء على تأثير كلٍّ من النفط والأميركيِّين والأوليغارشيَّة المحليَّة في دولةٍ خليجيَّة؛ و"الزيني بركات" لجمال الغيطاني (تعتبر ترجمتُها، من قِبل فاروق عبد الوهاب لصالح فايكنغ بينغوان، الأفضل مقارنةً بجميع نظيراتها) وهي روايةٌ جيمسيَّة بديعة عن القاهرة في القرن السادس عشر، لكنَّها في الواقع قصَّةٌ رمزيَّةٌ لمرحلة حكم عبد الناصر بما تنطوي عليه من مزيجٍ من الحماس الإصلاحيِّ الصادق والبارانويا والقمع السياسيَّين؛ و"الجبل الصغير" لإلياس خوري (صدرَت بترجمةٍ غنيَّةٍ من مايا ثابت عن منشورات جامعة منيسوتا)، وهي حكايةٌ رمزيَّةٌ ما بعد حداثيَّةٍ عن الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة؛ والرواية العظيمة "المتشائل" لإميل حبيبي (صدرَت بترجمةٍ لا بأس بها لكلٍّ من تريفور لي غاسيك وسلمى الجيوسي عن ثري كونتيننت)، المدهشة بما تنطوي عليه من سخريةٍ وإبداعٍ مُظلِمين.

هناك أعمالٌ أخرى مثل ترجمة حسين حدَّاوي الجديدة والمتميِّزة لـ "ألف ليلة وليلة" لصالح منشورات نورتون؛ ورواية الطيِّب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" الصادرة عن منشورات هاينمان بترجمة أبرز مترجمٍ عن العربيَّة إلى الإنكليزيَّة في عصرنا، وأتحدَّث هنا عن دنيس جونسون ديفز، وقد أعادت منشورات مايكل كسند نشرها في الولايات المتَّحدة؛ وعمل "رجال في الشمس" لغسَّان كنفاني، الذي يروي حكايةً مُتبصِّرةً عن ثلاثة لاجئين فلسطينيِّين يحاولون التسلُّل من العراق إلى الكويت داخل صهريج ماء، وتكون نهايتهم الموت من جرَّاء الاختناق وشدَّة الحرارة عند المعبر الحدوديّ؛ ومجموعة "ضحايا الخريطة" التي تضمَّنت قصائد لكلٍّ من محمود درويش وسميح القاسم (أبرز الشعراء الفلسطينيِّين اليوم) وأدونيس، وصدرَت في طبعةٍ ثنائيَّة اللغة عن بينغوان أعدَّها باقتدارٍ عبد الله الأظهريّ. بإمكاني القول إنَّ رواية الصالح، على سبيل المثال، تمتلك من السمات التي تصلح لمقارنةٍ مفيدةٍ للغاية مع رواية "منعطف النهر" لنيبول؛ وبغضِّ النظر عن مرجعيَّتها المشتركة مع عمل كونراد "قلب الظلام"، تظلُّ رواية الصالح أقلّ تبسيطاً وسخطاً أيديولوجيَّاً بكثير، روايةٌ تنضح قوَّةً وشغفاً ما بعد كولونياليَّين أصيلين.

صدر العديد من المجموعات أيضاً لسلمى الجيوسي عن منشورات جامعة كولومبيا على مدى عدَّة سنوات. ومن حسن الحظِّ أنَّ هذا العدد الكبير نسبيَّاً من الأعمال العربيَّة المترجمة حديثاً يتوافق مع ما لها في العالم العربيِّ من أهميَّةٍ وشهرةٍ على المستوى الأدبيّ. ومع ذلك، فمن المؤسف أيضاً أنَّ الكتَّاب العرب أنفسهم (فضلاً عن ناشريهم، ووزارات الثقافة، والسفارات في العواصم الغربيَّة) لم يتَّخذوا أيَّ خطواتٍ تقريباً بصدد الترويج لكلٍّ من أعمالهم وخطاب الثقافة العربيَّة في الغرب. ومن هذا المنطلق، فإنَّ غياب التدخُّل الثقافيِّ العربيِّ في نقاش الأدب على مستوى العالم مسألةٌ مُحبِطةٌ ومأساويَّة. أكتبُ هذه السطور تزامناً مع الحملة التي تقودها أميركا ضدَّ الغزو العراقيِّ غير المقبول للكويت، الحملة التي تُصعِّد من احتماليَّة حدوث اعتداءاتٍ وأعمال عنفٍ مروِّعةٍ في المستقبل القريب. هل ثمَّة مبالغةٌ في الربط ما بين كلٍّ من هذا الاستقطاب الصارخ على المستويين السياسيِّ والعسكريّ، والهوَّة الثقافيَّة الفاصلة ما بين العرب والغرب؟ إنَّ ما يثير الدهشة هو تلك الرغبة في تجاهل العرب الذين ما زالوا يَشغلون مواقع رئيسيَّةً ضمن الثقافة الغربيَّة واختزال وجودهم، وكذلك الانهزاميَّة غير المقبولة لدى بعض العرب الذين يؤمنون بأنَّه لا حلَّ سوى العودة إلى الدين والعداء العشوائيِّ للغرب في الضفَّة الأخرى. وربَّما يبدو من الطوباويِّ إلى حدٍّ مثيرٍ للشفقة أن يُقدِّم المرء كلّاً من قراءة الأدب المعاصر وترجمتِه باعتبارها أنشطةً من شأنها إصلاح الوضع الراهن أو التخفيف من حدَّته، لكن هل هناك ما يثير الاهتمام حقّاً بشأن الحرب التي نحنُ بصددها الآن؛ تلك التي تدور رحاها ما بين بغداد، العاصمة العبَّاسيَّة السابقة، والغرب بأسره؟