انطلاقًا من التصور السابق، لا يمكن النظر إلى التعبير الأدبي والفني والثقافي الفلسطيني عن الأرض، إلا بوصفه لحظةً متصلة من التعبير المتواتر، الوسواسيِّ، عن تجربة كيانية منشغلة بالأرض، ومعانيها الرمزية، ووجودها المتعيِّن، والرجراج غير المُتَيَقَّن منه، في الآن نفسه، في ثقافة الفلسطينيين، وأشكال تعبيرهم عن ذواتهم الفردية والجماعية.
يتزامن ظهور النماذج الناضجة الأولى من الأدب الفلسطيني مع الهجمة الصهيونية على فلسطين، وتبلور الدعوات والمشاريع لإقامة وطن قومي لليهود، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، لإنشاء مستعمرات يهودية عليها. فقد تم إنشاء الصندوق القومي اليهودي (أو حسب التسمية العبرية: كيرن كييمت) عام 1901، من أجل جمع الأموال من يهود العالم، لشراء الأراضي وإقامة مستعمرات عليها، في زمن الدولة العثمانية، تمهيدًا لإنشاء الدولة الصهيونية. وقد نشط هذا الصندوق، في زمن الانتداب البريطاني، بصورة جعلت النخب السياسية والثقافية الفلسطينية تتنبه إلى المصير الذي ينتظر فلسطين والفلسطينيين، بعد انتهاء الانتداب، ورحيل القوات البريطانية.
استنادًا إلى هذه الخلفية التاريخية، يمكننا قراءة الميراث الثقافي والأدبي الفلسطيني، خلال النصف الأول من القرن العشرين. فالأدباء والمثقفون الفلسطينيون، الذين ظهروا في هذه الفترة، وأصبحوا جزءًا من المدونة الشعرية أو السردية العربية، قبل حلول النكبة، تشكَّل وعيهم الثقافي والأدبي والسياسي في سياق الصراع على الأرض، والمكان، والهوية، والمصير المعلق على نتائج الصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع الصهيوني.
من هنا تبدو الأرض، لا بالمعنى الجغرافي، والمكاني، فقط، بل بالمعنى الوجودي، في الأساس، هي المحور الذي دار حوله معظم المنجز الأدبي الفلسطيني، منذ بدايات القرن العشرين، حتى هذه اللحظة. فالأرض، وكذلك الهوية، هما بؤرة الصراع، ومدار المتخيَّل الأدبي، بأنواعه وأشكاله المختلفة، السردية والشعرية. ولا أظنُّ أننا نعثر في ثقافة شعبٍ آخر، غير الشعب الفلسطيني، على تكرار ورود لفظة الأرض، ومرادفاتها ومشتقاتها، وصورها الرمزية، ومعانيها الحافَّة، إلى الحد الذي يُحيل الترابَ والمكانَ الجغرافيَّ إلى كيان وجودي نابض، يزاحم الفرد والجماعة. بل إنه يُحوِّل هذا الوجود إلى مأزق، إلى تجربة مؤجَّلة، إلى وعدٍ ينتظر التحقق. ولنتذكَّر، مصداقًا لهذا التصور، كلَّ الشعر الفلسطينيِّ تقريبًا، بعد النكبة، وكذلك كافَّة التعبيرات الخطابيَّة الأخرى، والسرد الفلسطيني، بأشكاله المختلفة، من يوميات، ومذكرات، وسير ذاتية، وبوح يوميٍّ، وحوارات تدور بين الفلسطينيين في الوطن والمنافي، وصولاً إلى القصة والرواية والمسرح والسينما، وأشكال التعبير الفني كافة. لا شيء غير الأرض، ودلالاتها الرمزية، ومعاني غيابها وانتظارها، ورغبات العودة إليها، والإيواء إلى حضنها، والالتحام بها،، ودخول فردوسها المفقود، بل إلى الغور فيها، والاندفان تحت سطحها. وهو ما يعادل (بسبب الإحساس بالمآزق التاريخية المتتابعة للتجربة السياسية للفلسطينيين) بين الرغبة في العيش في الأرض، والرغبة المهووسة بالموت من أجل الأرض، أو التضحية فداءً لها. ويمكن أن نعثر على تجسيد شديد الدلالة لهذه العلاقة بالأرض، الجسدِ الحي النابض، والأمِّ المفتقدة، والحبيبةِ المرغوب في الالتحام بها، وحمايتها من الدنس والاغتصاب (ولنتفكَّر هنا بالدلالة الرمزية لتكرار ورود كلمة "الاغتصاب" بديلًا من كلمة "الاحتلال" في الكلام اليومي، وكذلك السياسي والثقافي للفلسطينيين)، في أكثر مشاهد رواية غسان كنفاني (1936- 1972) "ما تبقى لكم" (1966) تعبيرًا عن البؤرة الرمزية للتجربة الكيانية – الوجودية، الفردية والجماعية، للفلسطينيين، عندما يلتحم البطل الهارب، الراغب في اللجوء إلى أمه، والناجي من الدنس والخيانة، المتطهِّر منهما، بجسد الأرض النابض الحي، مثل رحم أم.
في سياق متصل، كان الشعر، وهو حامل التجربة الثقافية الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، يطور ما يمكن أن نسميَه "استعارة الأرض الكبرى"، التي ستختزل علاقة الإنسان الفلسطيني بالأرض. وقد استطاع أبو سلمى (عبد الكريم الكرمي 1909- 1980)، لقربه من مزاج الرومانسية العربية، أن يبلور في شعره، قبل النكبة وبعدها، الملامحَ الأولى لهذه الاستعارة التي تعجن الأرض بجسد الحبيبة، وتجعل القصيدة تشع بدلالات تفيض عن كيان المحبوب، في اتجاه الأرض المفقودة، والبلاد التي أصبحت بعيدة. وتَمثَّل التحويلُ الجذري لصورة الأرض، الذي بدأه أبو سلمى في غزلياته، في اشتقاق رمز المرأة – الوطن، الذي يختزل عناصر عديدة من الوجود: التجربة الشخصية الكيانية للشاعر، وتجربة شعبه، والتجربة المشتركة التي تنصهر فيها ذات الشاعر بالجماعة. وقد شكَّلت هذه الاستعارة المركزية، في شعر أبي سلمى، أساسًا لتطويرات عديدة في شعر المقاومة، فيما بعد. ويمكن القول إن محمود درويش (1941- 2008) وصل باستعارة الأرض إلى آفاق بعيدة، متابعًا إرث أبي سلمى، وإبراهيم طوقان (1905- 1941)، وعبد الرحيم محمود (1913- 1948)، بعد حلول ليل النكبة الطويل. وبهذا المعنى عمل أبو سلمى على إنضاج البذور الأولى لتجربة وجودية جماعية تتعانق فيها الأرض الفلسطينية، كجسد بعيد وناءٍ، مع الذات الجماعية المهددة بالمحو، والذوات الفردية، التي تتحلل وتذوب في ذات الجماعة، لكتابة لحن جماعي يتخذ من الشعر وسيلته التعبيرية الناضجة.
انطلاقًا من التصور السابق، لا يمكن النظر إلى التعبير الأدبي والفني والثقافي الفلسطيني عن الأرض، إلا بوصفه لحظةً متصلة من التعبير المتواتر، الوسواسيِّ، عن تجربة كيانية منشغلة بالأرض، ومعانيها الرمزية، ووجودها المتعيِّن، والرجراج غير المُتَيَقَّن منه، في الآن نفسه، في ثقافة الفلسطينيين، وأشكال تعبيرهم عن ذواتهم الفردية والجماعية.
يجري التعبير عن هذه الدلالة الرمزية في "قصيدة الأرض" لمحمود درويش (ديوان "أعراس" 1977) التي تُعَدُّ، من وجهة نظري، أهمَّ نص شعري، أدبي، ثقافي، أنجزته الجماعة الفلسطينية، عن التئام ذاتها المبعثرة واستعصاء تمزيق وحدتها الكيانية، كما الرمزية، رغم جميع محاولات الكولونيالية الإحلاليَّة الصهيونية، وحروبها الكثيرة التي شنتها ضد الفلسطينيين.
يتخذ درويش من حدث استشهاد "خديجة ورفيقاتها"، في انتفاضة يوم الأرض، منصَّة للتعبير عن دلالات الخصب والولادة، والبعث والتجدد، التي يولِّدها فعل الاستشهاد، والالتحام بجسد الأرض، بالمعنيين الرمزي والوجودي. ونعثر في "قصيدة الأرض" على قاموس الشعراء التموزيين، والموتيفات المتكررة في أساطير الخصب والتجدد والبعث، حيث تحضر عناصر الطبيعة التي تفور في ربيع الخصوبة، التي يستثيرها ويبعثها مصرع خمس فتيات فلسطينيات، على بوابة مدرسة ابتدائية في فلسطين المحتلة 1948.
في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
أسرارها الدمويَّة، في شهر آذار مرَّت أمام
البنفسج والبندقية خمس بنات. وقفن على باب
مدرسة ابتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر
البلديّ. افتتحن نشيد التراب. دخلن العناق
النهائيّ – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض
يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلا
ليعبر صوت البنات. العصافير مدَّت مناقيرها
في اتجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
لكن، رغم هذه التموزيَّة الطاغية في القصيدة، والاندراج في تيار مهيمن في القصيدة العربية المعاصرة (بدءًا من السياب وخليل حاوي وأدونيس وليس انتهاءً بمحمود درويش)، فإن العنصر الأساسي البارز هو التشديد على الثيمة الخاصة بعلاقة الفلسطيني بالأرض، وحلوله فيها، وحلولها فيه. ويتردد في هذا التعبير تبادل المرأة والأرض موضعيهما، وغياب المسافة الفاصلة بينهما، لأن الأرض هي الأم، والأم هي الأرض (أنا الأرض/ والأرض أنت). وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى دلالات الخصب، واخضرار الطبيعة، بفعل التضحية والافتداء، وتخلل عناصر جسد الشهيد الترابَ وانسرابِه ذرَّاتٍ في جسد الأرض، واندلاع النشيد، في دلالة على الاحتفال بالموت، بوصفه بداية جديدة، وانبعاثًا وتجدُّدًا للحكاية الفلسطينية، والتئامًا لشطري البرتقالة الفلسطينية في الأرض والمنافي. ويتكرر ذلك كلما شعر الفلسطينيون بتهديد المحو، وتحولهم إلى جزر متقطعة متباعدة تسكن كلَّ أرض!
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيدتي الأرض
أيّ نشيد سيمشي على بطنك المتموج، بعدي؟
وأيّ نشيد يلائم هذا الندى والبخور؟
كأن الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة
هذا نشيدي
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل البنات يغطي مساميره وقيودي
يمكن أن نعثر على هذه المعاني لدى شعراء فلسطينيين آخرين، وخصوصًا في شعر عز الدين المناصرة (1946- 2021)، ووليد سيف، اللذين ينوعان على هذا البعد التموزي، الذي نعاينه في بعض شعر محمود درويش. ويبتدع كلٌّ من هذين الشاعرين نماذجه وشخصياته التموزية، التي تعبر عن صورة الأرض الخصيبة، والتحام الذات الفردية، والجماعية، بالأرض، ودورة التجدد الطقسيَّة، وقيامة العنقاء الفلسطينية من رمادها.
يمثل المناصرة تيارًا في الشعر الفلسطيني يمكن أن نطلق عليه وصف "الرعويَّة الكنعانية"، التي ينهمر فيها معجم الطبيعة الفلسطينية، ليؤثث تجربة الشاعر الذي يعلن انتماءه إلى الأرض، عبر التغني بموجوداتها وعناصرها، ونباتاتها، وحيواناتها، وحشراتها، وصخورها، ووديانها، وجبالها، وينابيعها، وبحرها الميت الذي يمثِّل تعزيمةً سحريَّة في شعر المناصرة كله.
يا سيدتي الكنعانيَّة
جرَّتُك دليل العشاق، عطاشٌ في بريَّة لوط
جرتك المشويَّة في الطابون
تحرسها هالاتٌ وإشاراتٌ سحرية:
نَقْمَشَةٌ لرغيف
حجرٌ منقوش كعروس في ليلة دخلتها
روثٌ ذكَّرني بسنابل راعوث
رأسك، قبّته كولي صالح
جرتك الراشحة بأنداء التين
جرتك لزيت الزيتون
جرتك لدبس يُثقل أدمغة في الصبح البارد
مجموعة أوتار تعزفها الريح الجبلية
فوق رؤوس الحطابين
غَدْفَتُها منديل ملفوف حول التفاحة
أسراب النورس في مُنعرجات البحر الأبيض
أبيضُ، أبيضُ ...
في مجموعتي "الخروج من البحر الميت"، و"قمر جرش كان حزيناً"، يطور المناصرة عالمه الشعري من خلال دمج العناصر الرعويَّة الكنعانيَّة، وتأثيرات التموزية الشعرية العربية، بالصوت الشعري الفلسطيني المقاوم، مُدرجًا "البحر الميت"، ككيان جغرافي ودلالي ورمزي، كعنصر من عناصر رعويَّته الكنعانية، وتعزيمة سحرية تحتلُ بؤرة العمل الشعري، وتشكِّلُ إطارًا معنويًّا وإيقاعيًّا يفيض خارج القصيدة، ويوحِّد الذات الشعرية المتكلمة ببحرها، بالمياه المالحة الساكنة في "بحره الميت".
هذا البحرُ المأكول المذمومْ
منذ خراب مدائنه العامرة الأرجاءْ
قاع العالم هذا البحر الحيْ
البحرُ الأخضر فوق سرير الموت الأحمر – أصفرْ
منذ رفيف فراشات الوعر المردوم
قرب الزلزال الناري
يتلوه صهيل بنات الرومْ
ثمَّ مؤامرة الصمت البيضاءْ
تتلوَّى خاصرة العالم كالجنيَّةْ
الحيَّةُ بنتُ الحيَّةْ/
.....البحرُ النائمُ في حضن فتاة مقتولةْ
البحر المتمدد في قلبي الوثنيْ
الضوء الطازج في قلبي كسراج الغولةْ
البحر الآثمُ ملحٌ أقوى من قهقهة الطفل الجنيّْ
البحر المشدود كقوسٍ... كهلام مرخيْ
البحر الميّتُ فوق الطاولة الحجريَّةْ
البحر النبطيْ
معتكر الروح، ضفيرته مبلولة
برذاذ الدمع البدويْ.
أما في مجموعتي "بالأخضر كفناه"، و"جفرا"، فتحضر العناصر الشعرية لقصيدة المقاومة. وهي وإن لم تكن العناصر الوحيدة التي تشكل عالم قصيدة المناصرة في هذه المرحلة (إذ إنها تنضاف إلى عناصر رعويَّته الكنعانية)، لكنها تقوم بإبراز البطولي، والصوت المقاوم، والاستشهادي، في الآن نفسه.
بالأخضر كفناه
بالأحمر كفناه
بالأبيض كفناه
بالأسود كفناه
نزف المطر على شجر الأرز لذكراه
وعلى الأكتاف حملناه
بكت المزن البيضاء لمرآه
لكن هذا المزج بين الشعريَّة الرعويَّة وعناصر البطولي والمقاوم تتأوَّج في مجموعته "جفرا" التي تنجح في الإفلات من النبرة العالية، والصراخ باسم المقاومة، الذي غلب على كثير من الشعر الفلسطيني في فترة صعود منظمة التحرير الفلسطينية، وتستبدل هذه النبرة العالية وإيقاع البطولة بعناصر الطبيعة وإيقاع الخصب الذي يلوِّن شعر المناصرة.
جفرا جاءت لزيارة بيروت
هل قتلوا جفرا عند الحاجز، هل صلبوها في بيروت؟؟!!
جفرا أخبرني البلبل لمّا نقَّر حبَّات الرمَّانْ
لمّا وَتْوَتَ في أذني القمرُ الحاني في تشرينْ
هاجت تحت الماء طيورُ المرجانْ
شجرٌ قمريٌّ ذهبيٌّ يتدلّى في عاصفة الألوان
جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ
هل قتلوا جفرا - قرب الحاجز، هل صلبوها في التابوت؟؟
من جانبه يطور وليد سيف في مجموعته الشعرية "وشم على ذراع خضرة"، التي كتبت إبان طلوع قمر المقاومة، وبروز الهويَّة الفلسطينية، وتظهيرها على خلفية المشهد المقاوم، المتحدي لسلب الأرض، ومحو الهوية، العلامةَ الأساسية في تجربة سيف الشعرية. إنها تمثل عنفوانها، وغناها، وطاقتها التعبيرية والتخييلية العالية، وتدفق صورها المبتكرة، وإيقاعها المتفجر، مثل نشيد طويل. قصائد هذه المجموعة منشغلة بتطوير احتفال شعري بالحياة، من خلال تزويج الشهيد بجسد الأرض، حيث تدور القصائد حول شخصية "زيد الياسين" وعلاقته بـ"خضرة"، المرأة والأرض، المعشوقة وعلامة الخصب والحياة والولادة والتجدد، ومقاومة المحو والاندثار. إن الثنائية الأسطورية – التموزية (زيد الياسين – خضرة) هي الموتيف الأساسي، المتكرر في شعر وليد سيف.
في قصيدة "أعراس"، وهي القصيدة الأولى التي نعثر فيها على رمز سيف التموزي المتكرر، نلتقي عناصر الرؤية التموزيًَّة: الخضرة والماء، والطمي، وعناصر الطبيعة التي تحتفل بالحياة والخصب والتجدد. لكن الشاعر يقوم بتحويل الأساطير التموزية إلى استعارة فلسطينية الدلالة، عن زواج الشهيد بحسد الأرض. وهكذا تتداخل عناصر تلك الأساطير بعناصر الحكايات الشعبية الفلسطينية (الزعتر، المأساة، ستر القمباز، الوشم الأخضر) لتشكل معًا قالبًا أسطوريا يعبر عن الالتحام بجسد الأرض، والطلوع منه، والعودة من الموت إلى الحياة. إن الهاجس الأساسي في شعر وليد سيف هو كيف نكتب ملحمة التاريخ الفلسطيني من منظور تموزي خالص، كيف نعيد الفلسطيني المطرود من فردوسه الأرضي (وطنه ومسقط رأسه) إلى بيته الأول؟
"زيد الياسين"
مسكونًا بالزعتر والمأساة
مسكونًا بعصافير الدم..
وبعض وجوه الموتى
(جارحة كالموسى..
شيقة تلهب مصطبة البيت)
"زيد الياسين"
مسكونًا برموز الطمي..
وستر القمباز
ولتحقيق هذه العودة يبتكر سيف حكاية شعبية أسطورية عناصرها "زيد الياسين" و"خضرة"، واحتفال الطبيعة والنبات بزواجهما المتكرر. "خضرة" هي المعشوقة، وهي الأرض، في الوقت نفسه، و"زيد الياسين" هو العاشق والفدائي الذي يموت ليعود ويحيا من جديد، متزوجًا جسد الأرض، ومخصبًا فيها الحياة كل مرة.
هكذا يبدو الاحتفال الطبيعي – النباتي ترجمةً لمحور الخصب والتجدد، الذي يسببه موت "زيد الياسين"، وعودته إلى الحياة ثانية. ويسعى وليد سيف إلى الوصول بتلك البؤرة الرمزية إلى مرتبة الرمز الأسطوري، رافعًا بذلك التجربة الفلسطينية إلى مقام التجربة الإنسانية الكونية، عبر إدخال التجربة الفلسطينية إلى مصهر الرموز الأسطورية التموزية التي تشير إلى أن في الموت حياة، وإخصابًا لها، وقيامة دائمة. في قصيدة "أعراس" نجد أن حكاية "إيزيس وأوزوريس" الفلسطينيين تصبح تعبيرًا عن حكاية الفلسطينيين، وتجربتهم التاريخية، ونكبتهم المستمرة. كما أننا نجد أن حضور الطبيعة، وفورانها، مصحوبان بعوامل التهديد والقتل، وكذلك بحضور قمر الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا المتلصص، الشبق، القاتل، الملتبس الدلالة، في شعر لوركا، كما في شعر وليد سيف.
حين تعرَّت
وانغرس النهدان بصدر الريح
طالت أشجار الصفصاف
والتهبت أجفان القمر الداعر
حين امتدت في كل طريق غابة
والتمعت خلف الأغصان خناجر!
"يا خضرة ردّي يا خضرة..
من طرف الثوب عليك"
غطست خضرة في ماء النهر
فتنفست الدنيا..
عطرًا محمومًا وفجيعة!
تشدد القصيدة، رغم حضور الفجيعة وعناصر المأساة، على الخصب والنماء، نتيجة اتصال خضرة بالأرض. إن أسطورة إيزيس وأوزوريس هي الخُطاطة الرئيسية التي يبني عليها وليد سيف عمله الشعري هنا، رغم تطعيمه هذه الأسطورة بحكاية "خضرة".
ركضت خضرةُ..
لسعت قدماها الأرض العطشانة
فنما النعناع البري على كل
الجدران.