القاهرتان... في نقد المفهوم

2024-03-26 01:00:00

القاهرتان... في نقد المفهوم
.Louis Comfort Tiffany. On the Way between Old and New Cairo, Citadel Mosque of Mohammed Ali, and Tombs of the Mamelukes, 1872

كانت تلك العوامل الرئيسة التي سبقت تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر مؤثرة بشكل بالغ في تأسيس حي جديد ليكون امتدادًا عمرانيًا للقاهرة، بهدف توسيع رقعة القاهرة العمرانية بشكل يقلل من التكدس، ويزيد من الفراغات العمرانية بين المنشآت السكنية، بما يُراعي الصحة العامة.

يقال إن المعز لما رأى القاهرة، لم يعجبه مكانها في البرية بغير ساحل، فقال لجوهر (جوهر الصقلبي): "يا جوهر، فاتتك عمارتها هاهنا"، مشيرًا إلى منطقة المقس على ضفة نهر النيل (وهي المنطقة التي تُعرف الآن بميدان رمسيس). وأضاف أنه لما رأى سطح الجرف المعروف اليوم بالرصد (أو جبل إسطبل عنتر)، قال: "يا جوهر، لما فاتك الساحل، كان ينبغي عمارة القاهرة بهذا الجبل على هذا السطح، وتكون قلعة لمصر". هكذا أورد المقريزي تعليق الخليفة الفاطمي المعز لدين الله أبو تميم معدّ بن منصور بشأن موقع بناء القاهرة التي أسسها جوهر الصقلبي في المنطقة الواقعة شمال شرقي مدينة القطائع، التي أسسها أحمد بن طولون قبل ذلك.

على الرغم من شيوع هذه الرواية، فإنه قد يكون مشكوك بصحتها، وخاصة أن هناك بعض الروايات الأخرى التي تتحدث عن تحديد الخليفة الفاطمي لموقع القاهرة نفسه قبل أن يتحرك جوهر نحو مصر من المغرب. كما لا يمكن البت بالهدف من إيراد هذا التعليق بشأن موقع القاهرة؛ فهل كان لغرض عسكري بحيث أن موقعها في الحالتين التي ذكرهما المعز أكثر تحصينًا، أم أنه لهدف مرتبط بتسهيل التجارة والتنقل بوجودها على ساحل النيل؟ وفي كل الأحوال، فقد تأسست القاهرة في موقعها الحالي وتطورت بشكل جعل اندماجها مع ما سواها من المدن أكثر سهولة. 

في مشهد آخر، يعود الخديوي إسماعيل إلى القاهرة من باريس، حيث زيارته الأشهر لمدينة الأنوار أواخر عام 1867، وهو العام الذي شهد تغييرات حاسمة في نمط العمران القاهري؛ إذ تقرر إنشاء حيٍ في الجزء الواقع بين القاهرة الفاطمية ونهر النيل. وعلى الرغم من أنه لا رابط تاريخي أو فكري بين الحدثين - اختيار المعز لموقع القاهرة الفاطمية، واختيار الخديوي إسماعيل لموقع حي الإسماعيلية -، فإن موقع القاهرة الفاطمية بطبيعة الحال أتاح فرصة إنشاء حي آخر في هذا الموقع الساحلي. إلا أن الخديوي إسماعيل لم يحقق آمال المعز في تلك الرواية الشهيرة، بل هي آمال الخديوي نفسه في تأسيس مدينة سماها على اسمه في ذلك الموقع، حتى يتسنى له أن يؤسسها كيفما يشاء، متّبعًا نمطًا عمرانيًا مغايرًا تمامًا لما قامت عليه القاهرة منذ نحو ألف عام قبله. أوكَل الخديوي إسماعيل إنشاء هذا الحي إلى صديقه وزميل دراسته علي باشا مبارك، الذي تولى منصب ناظر ديوان الأشغال مباشرة عند العودة من زيارة باريس التي صحبه فيها. 

اعتُبر هذا الحي الجديد حيًا كولونياليًا منعزلًا تمامًا عما كانت عليه الحياة في القاهرة السابقة. ومنذ تلك اللحظة، بات اسم القاهرة وحده غير كاف لتحديد طبيعة الحي المعني. شكلت العلاقة بين هذين المكانين/ الطرفين مادة أساسية لنظريات العمران والدراسات التاريخية، وسؤال الاختلاف بين ما بدا وكأنه قاهرتان متقابلتان، تباينت بينهما طرائق العيش والسلوك. لكن الملاحظ أن غالبية تلك الرؤى والروايات للفروق بين المدينتين كانت أجنبية، وجاءت بناءً على ملاحظات عينيّة دوّنها رحّالة أوروبيون زاروا القاهرة في تلك الفترة، أو في فترات تاريخية لاحقة. تتناول هذه المقالة القاهرة الخديوية، أو حي الإسماعيلية، أو كما سُمّيت: القاهرة الكولونيالية، وكل اسم من هذه الأسماء له مآل ومقصد. أما مقصد ما أكتبه فهو نقد المنهج الذي بحسبه صيغت تلك المفاهيم التي عبرت عن الأسماء المختلفة لهذا الحي، وكيف ترسب ذلك في أدبياتنا العمرانية والتاريخية. 

هل انتقلت باريس إلى القاهرة؟

في عام 1867 شاركت مصر في معرض باريس العالمي، وهو معرض عالمي تشارك فيه دول شتى في أجنحة عرض مختلفة، احتفاءً بالإنجازات الحضارية للقرن السابق. وقد أتت المشاركة المصرية مستقلة عن الدولة العثمانية حينها، فكان الجناح المصري منفصلًا عن جناح الدولة العثمانية. بُني الجناح على نمط وُصف حينها بالشرقي، ولكن بنظرة أعمق، نرى أن عناصره الفنية اقتُبست من عمارة القاهرة، وتحديدًا العمارة المملوكية. وهو ما تبلور أكثر في المعارض اللاحقة، وتحديدًا معرض فيينا في عام 1873 الذي شاركت فيه مصر أيضًا مستقلة.

عاد الخديوي إسماعيل من هذا المعرض غاضبًا، بعدما أدرك الفجوة الحضارية الضخمة بين الشرق ممثلًا بالأجنحة الشرقية التي شاركت في المعرض، ومنها جناح مصر، والغرب الذي تمثّل صورته مدينة باريس باعتبارها عاصمة الدولة المضيفة. وبناءً على خدعة من القيمين على المعرض، كان الخديوي بنفسه، مرتديًا طربوشه، جزءًا من العرض، يبيت داخل إحدى غرف الجناح المصري. تزامنت تلك الزيارة مع كون عمدة المدينة، البارون هوسمان، يعمل على تطوير نسق باريس العمراني، من خلال توسيع شوارع وإقامة بنية تحتية ضخمة للمدينة، روعيت في تصميمها السيطرة والهيمنة على عنصر الحركة والانتقال داخل المدينة وفراغاتها.

أوكَل الخديوي إسماعيل إلى علي باشا مبارك مهمة إنشاء حي جديد في القاهرة أسماه باسمه، كما جرت العادة في مشاريع الخديوي الأخرى استلمها مبارك. فكان حي الإسماعيلية، كما المدينة التي أنشأها على قناة السويس وأطلق عليها الاسم نفسه: مدينة الإسماعيلية. كان الطراز الأوروبي شرطًا رئيسًا لبناء الحي الجديد للقاهرة، بالإضافة إلى اعتماد أسس تصميمية توفر ميادين وساحات واسعة لوضع تماثيل لشخصيات عامة، وهي الصفة العمرانية التي ارتبطت بهذا الحي دون غيره. وقد منحت الحكومة قطع أراضٍ للنخب المصرية في حينه بسعر رمزي من أجل البناء عليها، مع شرط حظر بيع تلك الأراضي مدة زمنية محددة، وأحقية الحكومة في استرجاع تلك الأراضي في حال عدم بدء البناء عليها. 

القاهرتان كما لم تكونا

بدا التعامل مع القاهرة الخديوية - حي الإسماعيلية - كأنها مدينة أخرى لا تمت إلى القاهرة القديمة بصلة، فأنشئت من عدم تلبية لرغبة الخديوي في ذلك فحسب، أسوة بباريس، من دون معرفة تاريخ ما قبل الإسماعيلية. فأصبحت المدينة القديمة التي أسسها المعز بتراكماتها الحضرية والتاريخية على مدار ألف عام تنفصل عن القاهرة الإسماعيلية بحدود جغرافية حادة، جعلت كل مدينة فيهما ذات طبيعة عمرانية واجتماعية مختلفة. يمكننا أن نرى ذلك الفصل بوضوح في كتابات الرحّالة الأجانب ممن زاروا القاهرة في تلك الفترة وما تلاها. كذلك يتجلى الفصل لدى المؤرخين الذين بنوا وجهة نظرهم على أساس تلك الروايات العينية التي أبرزت الفوارق الطبقية والعرقية بين كل من الجماعتين ممن سكنوا القاهرة القديمة وحي الإسماعيلية. فاضت تلك الروايات والأوصاف برسم صور لملابس الناس المتباينة بين المدينتين؛ الزي الغربي والإفرنجي في الإسماعيلية، مقابل الزي التقليدي المصري في الدروب والأحياء القديمة، فضلًا عن تباين المحلات التجارية الفخمة والشوارع الواسعة والسيارات والطعام والنظافة وغيرها من نواحي الحياة. 

بطبيعة الحال أبرز هذا الوضع تعاملًا مع القاهرة الجديدة باعتبارها مدينة كولونيالية، كحال المدن الكولونيالية التي أنشئت في فترات تاريخية متقاربة، مثل نيودلهي. كانت تعليقات الرحّالة الأوروبيين، وكذلك مؤرخي العمران(1)، متقاربة على نحو ما بشأن الفصل شبه العنصري بين القاهرتين، وهو ما صاغ مفهوم "القاهرتان" نفسه، فلم يكن ليظهر هذا المصطلح من غير الفارق الجلي والواضح في تلك الكتابات. أُهمِل جانب التاريخ العمراني للمدينة في القرن الثامن عشر الذي كان على تماسٍ مع طبيعة المجتمع المتباينة في صياغة مفهوم عمراني جديد يعبر عن تلك التكوّنات الجديدة، بينما أُعطي ما يتحدث عنه المؤرخ والأكاديمي المصري خالد فهمي "البصر مكان الصدارة" في كتابه السعي للعدالة(2) في تلك الرواية، مع إهمال تام لما أشار إليه فهمي كذلك "بوجود شواغل خفية ومخاوف دفينة ربما تكون قد لعبت دوراً في وضع السياسة الحضرية"، فضلاً عن إغفال دور أسلاف الخديوي إسماعيل أنفسهم في تغيير نمط القاهرة العمراني. 

سأعتمد هنا بشكل رئيس على عنصرين لفهم طبيعة تلك التطورات اللاحقة: الأول، رؤية تحليلية لعمران قاهرة القرن الثامن عشر؛ والثاني هو تاريخ التطور العمراني للمدينة. يمكن القول إن القرن التاسع عشر  شهِد تطورًا عمرانيًا أكبر لمدينة القاهرة، إلا أن مؤشر التحولات العمرانية في القرن الثامن عشر جدير بالملاحظة لفهم تلك التراكمات في المدينة. إضافة إلى لوائح تنظيم شوارع القاهرة في القرن التاسع عشر التي اعتمد عليها خالد فهمي في تفسيراته عن طبيعة العمران الجديد في المدينة التاريخية. 

القاهرة زمنيًا وتاريخ الأحياء

بدا التحول المعماري في القرن الثامن عشر كما لو أنه يمهّد لتغيّر لاحق أكبر، وهو ما أثبتته بدايات القرن التاسع عشر من تغيير جذري لعمران القاهرة وتفاعلات الناس معه. فالنظر بعين واحدة على طبيعة العمران في القرن التاسع عشر سيؤدي بطبيعة الحال إلى حكم أقل وعيًا وإدراكًا مما هو في الحقيقة. من بين تلك المؤشرات العمرانية التي يمكن الولوج إليها لفهم طبيعة التباين هو الفارق بين الأحياء الغنية وتلك الفقيرة. في دراسته عن جغرافية الأحياء الأرستقراطية في القاهرة العثمانية، يبيّن أندريه ريمون الاختلاف بين الأحياء الفقيرة والأحياء الأرستقراطية في المدينة من خلال عوامل محددة، مثل زيادة عدد السكان في الحي الواحد، وتراص البيوت من دون مساحات فراغ تمكّن جريان الهواء فيها. إضافة إلى أمر آخر أكثر أهمية يعتبر عاملًا مؤثرًا وحيويًا في تباين المدن هو كثرة المحال والأسواق والحرف المختلفة داخل الزقاق الواحد، والأنشطة الصناعية والتجارية في قلب أحياء القاهرة الفاطمية المسوّرة، وهو ما جعل إمكانية خلق فراغ داخل الأحياء السكنية أمرًا بالغ الصعوبة من جهة، ومن جهة أخرى يفسّر بطبيعة الحال اتساخ الشوارع وانتشار دخان الحرائق وفساد الهواء، فضلًا عن انتشار المخلفات من الذبائح والسلخانات في الحارات والأزقة. علاوة على أمر آخر غاية في الأهمية، وهو وجود الصناعات التقليدية التي تؤثر بشكل ملحوظ في الصحة العامة وجودة الهواء النقي، مثل المدابغ التي ظهرت في الشمال الغربي لباب زويلة، وهو الأمر الذي حال دون سكن الطبقة الغنية فيها في القرن السابع عشر. 

مثل تلك الظواهر المنتشرة بشكل ملحوظ داخل أسوار القاهرة الفاطمية وظواهرها، كانت عاملًا مؤثرًا في هجرة الطبقات الميسورة منها، إذ كان هذا الحيز العمراني محل سكن العوام الكادحين من الناس والحرفيين وصغار التجار والطبقة الأدنى من الشعب، نظرًا إلى تكلفته الزهيدة، بما يتناسب مع الدخل المتواضع لتلك الفئات. يحدد أندريه ريمون عام 1715 باعتباره حدًا فاصلًا لوجود طبقة البكوات وغيابهم من أحياء القاهرة الفاطمية، فقد كانت المدينة طاردة للميسورين ممن تتوفر لديهم إمكانية الخروج منها إلى أحياء أكثر هدوءًا، وذات طبيعة عمرانية أكثر اتساعًا، مثل حي بركة الفيل الذي يعبر عن الأرستقراطية، فاستقطب الطبقة الغنية التي هجرت القاهرة المسوّرة. يشير أندريه ريمون إلى أن 40 في المئة من كبار الشخصيات يقطنون فيها، وتحديدًا على جانبي الخليج، كذلك بركة الأزبكية وحي القلعة اللذان كانا محل استقطاب كبير للطبقة العليا، بمن فيهم البكوات والتجار الأثرياء. اللافت للانتباه أيضًا أن نظرة الرحّالة الأوروبيين ممن زاروا القاهرة في تلك الفترة ووصفوا الأحياء الأرستقراطية، أثرت بشكل لافت في التعامل السطحي مع القاهرة في القرن الثامن عشر، فالوصف الاستشراقي المبالغ فيه بشكل أو بآخر خلق مخيّلة مغلوطة عن عمران القاهرة في ذلك الوقت، ما أنتج رؤية تعبر عن قاهرات مختلفة تنفصل عن بعضها البعض لأسباب متعددة. 

لوائح التنظيم ومجالسه

تولى محمد علي حكم مصر في بداية القرن التاسع عشر، وقد وصلت القاهرة في عهده إلى نمط عمراني غاية في التعقيد، فضلًا عن تدهور الصحة العامة في أحيائها القديمة بشكل بالغ الخطورة، في عام 1843. بعد فهم طبيعة المشكلة التي كانت مفهومها غائبًا حتى ذلك الحين، بدأت عملية إعادة هيكلة لشوارع القاهرة. لم يكن التعامل مع مشاكل الصحة العامة في القاهرة يتّسم بالوعي للمشكلات الناتجة وأسبابها. وفي ظل هجرة القادرين من الأحياء المكتظة بالسكان، حيث البرك المتعفنة ومشاكل الصرف الصحي، من دون الوعي إلى أن المشكلة لها تأثير أكبر مما تبدو عليه.  حينئذ أُسّس مجلس للإشراف على تجميل القاهرة وآخر لتنظيم المحروسة، فعُمل بين عامي 1859 و1866على وضع لوائح تنظيمية بهدف إعادة تخطيط شوارع القاهرة، والاهتمام بتنظيم الشوارع واستقامتها، وإزالة التعديات، إضافة إلى إصدار قوانين صارمة لعمليات البناء الجديدة داخل أحياء المدينة. يمكن اعتبار تلك العملية عاملًا مؤثرًا في الفكر العمراني للقاهرة في تلك الفترة. استفاض خالد فهمي في كتابه السعي للعدالة، وتحديدًا في الفصل الثالث من الكتاب المعنون بـ "الأنف تروي قصة مدينة"، عن طبيعة تلك اللوائح وعلاقتها بتطوير القاهرة وإعادة تخطيطها، مشيرًا إلى أهمية معرفة أن تلك اللوائح التي صدرت ونفذت قبل زيارة الخديوي إسماعيل إلى باريس في الأساس، مع أهمية وضعها في سياق ضروري لفهم عملية بناء الإسماعيلية. 

أما عنصر الصحة العامة، فهو عامل حيوي، وله علاقة بالعنصر الأول المرتبط بعمران مدينة القاهرة في القرن الثامن عشر. إلّا أن الوعي به كان له وزن أكبر في القرن التاسع عشر، إذ إن ما حرك الطبقة الميسورة وأخرجها من القاهرة الفاطمية كان له علاقة بشكل أو بآخر بعوامل مرتبطة بالصحة العامة، وأساسها الهواء الفاسد بسبب ازدحام الصناعات المختلفة، مثل الدباغة والسلخانات وأسواق اللحوم والأسماك. أقرت القوانين واللوائح المنظمة للقاهرة في القرن التاسع عامل الصحة العامة، وكانت أحد الأسباب الأساسية في تغيير نمط القاهرة العمراني. 

واجهت القاهرة مشاكل متفاقمة في الصحة العامة لقرون طويلة، وهو ما تسبب قبل ذلك في الأوبئة الكثيرة التي أودت بأعداد ضخمة من سكان القاهرة. يشير فهمي إلى أن الصحة العامة كانت المشكل الرئيس والجذري في تغيير نمط القاهرة العمراني في القرن التاسع عشر، إلى درجة تفوق تلك التي نفذها الخديوي إسماعيل من تحسينات جمالية، إذ سعت السياسات الجديدة إلى حل مشاكل مثل النظافة والنفايات ونقل مدافن الموتى خارج حدود المدينة، كذلك نقل السلخانات والحِرف التي تنبعث منها روائح كريهة مثل الجزارين وباعة السمك، وتصريف المياه الراكدة التي كانت سببًا في انتشار الأوبئة، إضافة إلى التأثير في جودة الهواء في المدينة.

أتت اللوائح فشددت على كل هذه التفاصيل بشكل دقيق، إلى درجة أنها وصفت طبيعة حياة الناس في الأحواش والمساكن داخل القاهرة، وما يتعرضون له من مخاطر صحية تتعلق بانعدام النظافة وتراكم النفايات. اللوائح التي أوردها فهمي في كتابه، وحفظتها دار الكتب، ضرورية لفهم هذا السياق وفهم الكثير من المسائل التي تتعلق بإعادة تنظيم القاهرة بشكل يتوافق مع الصحة العامة.

تراكمات المدينة العمرانية

لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال إنشاء الإسماعيلية بزيارة الخديوي إسماعيل لباريس ضمن مشاركته في معرض باريس الدولي وافتتانه بها، لينسخ نموذجًا مشابهًا لها في عاصمته، وهو ما تؤكده وثائق اللوائح التنظيمية وسياق القاهرة التاريخي في القرن الثامن عشر، الذي لا يمكن عزله عن سياق تطور القاهرة في القرن التاسع عشر، وكأنه انبعث من فراغ.

كانت تلك العوامل الرئيسة التي سبقت تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر مؤثرة بشكل بالغ في تأسيس حي جديد ليكون امتدادًا عمرانيًا للقاهرة، بهدف توسيع رقعة القاهرة العمرانية بشكل يقلل من التكدس، ويزيد من الفراغات العمرانية بين المنشآت السكنية، بما يُراعي الصحة العامة.

إن الفيصل بين المدينتين ليس كبيرًا لهذا الحد الذي يجعل مصير كل واحدة منهما مستقلًا، بل إنهما تتصلان بشكل يؤثر في مصيرهما بشكل متّصل وعميق؛ فالضرر الذي يتعرض له أهالي القاهرة داخل الأسوار هو نفسه الذي تعرض له سكان الإسماعيلية. لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار الفارق الطبقي بين الحيين، أو اختلاف العمران بينهما، لكن العوامل الذي ذكرت هنا ضرورية لفهم سياق تطور المدينة العمراني في مرحلة فاصلة من تاريخها الحيوي. 

 
هوامش
1-    راجع سلسلة مقالات "القاهرتان" لمجيب عبد الرحمن موقع باب مصر، فصل الأنف تروي قصة مدينة في كتاب السعي للعدالة خالد فهمي، الشروق. 
2-    خالد فهمي، السعي للعدالة، صفحة 243، الشروق، 2022.