رهام درويش - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/176rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:30 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png رهام درويش - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/176rommanmag-com 32 32 تيري إيغلتون عن فالتر بنيامين: الماركسي والمسيح (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20716 Fri, 03 Dec 2021 11:01:08 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d9%8a%d8%b1%d9%8a-%d8%a5%d9%8a%d8%ba%d9%84%d8%aa%d9%88%d9%86-%d8%b9%d9%86-%d9%81%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1-%d8%a8%d9%86%d9%8a%d8%a7%d9%85%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b1%d9%83%d8%b3/ كتبها إيغلتون في LRB في ٩/٩/٢٠٢١، وهذه ترجمتنا لها. حول “ملفات بنيامين” لفريدريك جيمسون.   يشير فريدريك جيمسون في هذه الدراسة إلى أنه لم يسبق لفالتر بنيامين أن ألف كتاباً قطّ، على الأقل، ليس بالمعنى بالتقليدي. حيث كان في الأعوام الأولى بعد 1920 قد دوّن شهاداته عن مسرح الباروك الألماني والتي تُرجمت للإنجليزية باسم The Origin […]

The post تيري إيغلتون عن فالتر بنيامين: الماركسي والمسيح (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كتبها إيغلتون في LRB في ٩/٩/٢٠٢١، وهذه ترجمتنا لها.

حول “ملفات بنيامين” لفريدريك جيمسون.
 

يشير فريدريك جيمسون في هذه الدراسة إلى أنه لم يسبق لفالتر بنيامين أن ألف كتاباً قطّ، على الأقل، ليس بالمعنى بالتقليدي. حيث كان في الأعوام الأولى بعد 1920 قد دوّن شهاداته عن مسرح الباروك الألماني والتي تُرجمت للإنجليزية باسم The Origin of German Tragic Drama كأطروحة أكاديمية، حتى وإن تم نشرها ككتاب فيما بعد. حين فشل الدارسون في فهم أي كلمة من هذا العمل الأصلي المدهش، قام بنيامين بسحبه مدمراً بذلك آماله بالحصول على وظيفة في الجامعة، واضطر بدلاً من ذلك للعيش على الكفاف كصحافي ثقافي في مدينته برلين، قبل أن يغادر موطنه الذي سقط بيد الفاشية عام 1933 متجهاً إلى باريس، حيث عاش حتى وفاته عام 1940.
 

Terry Eagleton

يفتقر كتاب التراجيديا، كما باقي أعمال بنيامين، لوحدة حقيقية. كذلك هو حال كتابه “شارع ذو اتجاه واحد” ذي البنية الضعيفة، فيما يبدو كتابه “مشروع أركاديا” الذي ضم دراسة عظيمة لباريس في القرن التاسع عشر، مجموعة غير مكتملة من المقتطفات، بحسب عبارات جيمسون. أما كتاب “أطروحات فلسفة التاريخ”، فلا يمكن توصيفه بأكثر من كونه تدوينات شيوعي يهودي يحبذ ابتلاع جرعة هائلة من المورفين على أن يقع في قبضة النازيين، فتعكس البنية المتشظية لهذا النص أحداث التاريخ المدمّر الذي ظهر فيه.

يُذكّر كل هذا بمسيرة لاجئ آخر من الناطقين بالألمانية وهو لودفيغ فتغنشتاين، الذي لم يهرب من النازيين بل من الثروة والصيت الحسن. فكان “الأفضل أن تسير عاري القدمين” شعاراً لمسيرته. نشر فتغنشتاين كتاباً واحداً فقط وهو “مصنف منطقي فلسفي”، واعتقد أنه قدم من خلاله حلولاً لكل مشكلات الفلسفة. قُدّم هذا الكتاب أيضاً بصفته أطروحة أكاديمية، وكما حدث مع كتاب التراجيديا لبنيامين، فقد أثار الكتابُ الكثير من الحيرة والتساؤلات. لكن كان لفتغنشتاين حظاً أوفر مع النقاد، فقد ذكر الفيلسوف جورج إدوارد مور كتابه بشكل عابر واصفاً إياه بالعمل العبقري، وقد استوفى العمل متطلبات الحصول على درجة الدكتوراة. نُشرت بقية أعمال فتغنشتاين بعد وفاته، وتتخلى معظمها عن الكياسة الأكاديمية وتتسم بالحكم والأمثال بدلاً من ذلك، فتبدو كتبه مجموعة من المقتطفات الحوارية والتأملات المبهمة والتساؤلات المثيرة والتصورات القبيحة. كان بنيامين متمرساً في كتابة الحكم والأمثال كذلك، إلا أن صوره لم تكن لتُقارن مع صور فتغنشتاين التي تُحاكي الفلاحين البسطاء.

تسير حياة الرجلين في خطين متوازيين، فقد كان فتغنشتاين متجولاً روحانياً يتنقل من عِشة على مضيق نرويجي إلى كوخ على ساحل إيرلندا. فيما كان بنيامين مفتوناً بالـ “فلانور”، ذاك المتسكّع الباريسي المتأنق الذي كان يتجول عبر الشوارع دون هدف محدد. يسعى المتجول للهرب من الحياة الحديثة فيما يجد الفلانور توازنه فيها. هرب فتغنشتاين، وهو ابن أغنى الصناعيين في امبراطورية هابسبورغ، من كامبريدج ليصبح مدرّساً في قرية، حتى أنه عمل مؤقتاً بستانيّاً في دير. في حين وجد بنيامين في الثورة ملجأً لنفسه. بحسب بنيامين، فإن الثورة ليست قطاراً خارجاً عن السيطرة بقدر ما هي استخدام ضروري لمكابح الطوارئ، فالتاريخ بالنسبة له، يندفع خارجاً عن السيطرة، ما يجعل الثورة ضرورية إذا ما أردنا أن ننعم بنوم ليل هادئ.

لم يكن بنيامين أكاديمياً أبداً، فيما كان فتغنشتاين أكاديمياً مقاوماً لها. فقد تخلى عن ثروة من أجل العيش البسيط، فيما عاش بنيامين حياة بسيطة مجبوراً بفعل الفقر المدقع. فكّر بنيامين بتأليف كتاب يتكون جلّه من الاقتباسات، فيما تأمل فتغنشتاين فكرة تأليف كتاب من النكات. اتجه بنيامين نحو الماركسية متأثراً بصعود الفاشية، فيما عُرف فتغنشتاين الشاب بالرفيق الاشتراكي كثير التّرحال. لكن هذا التباين في حياة الرجلين لم يكن جلياً للجميع، إذ كان لبنيامين ظهوراً مستمراً في أعمال جيمسون منذ تحفته المبكرة “الماركسية والشكل”، فيما لا يُذكر فتغنشتاين أبداً.

كان بنيامين منظّراً حداثياً لا منظّراً في الحداثة. فكانت كتاباته جزءاً من التجربة الثقافية لا تعليقاً عليها. كما فتغنشتاين، فقد كان بنيامين من مناهضي الفلسفة والذي شعر بالحاجة لأسلوب كتابة مختلف يمكّنه من التعبير عمّا عناه، وقد كانت الكتب إحدى المفاهيم التي خضعت لتساؤلات وتشكيك مناهضي الفلسفة. هناك جزء ظريف في كتاب “شارع ذو اتجاه واحد” بعنوان (كيف تؤلف الكتب السمينة). فكان ينبغي للكتب الأكاديمية أن تكون مفهومة بصورة معقولة، أن تكون أفكارها نظرية وأن تُكتَبَ من وجهة نظر محددة. على النقيض من ذلك، فإن قدراً كبيراً من الفن المعاصر يفضّل تعدد وجهات النظر والسّرديات غير المتواصلة. فيُتاح للفنانين أن يلجأوا للإبهام بدلاً من التوضيح، أو أن يفضلوا الصورة على المفهوم. على الكتب أن تكون وحدة متسقة كذلك، لكن وحدة النص بالنسبة لروّاد الحداثة مفهومٌ مشكوك في جدواه.

من اللافت للنظر كم كانت هذه حركة أصلية، فمنذ أرسطو وحتى إيفور آرمسترونغ ريتشاردز، كان لزاماً على العمل الفني أن يشكل وحدة متماسكة، ولم يسبق أن تحدى أحدٌ هذه الإملاءات التعسفية قبل صعود المستقبلية والبنائية والسريالية وما إلى ذلك من اتجاهات فنية. من الدادائيين وحتى برتولت بريخت، ظهرت رغبة ملحة لتفكيك المفاهيم عِوضاً عن دمجها بهدف الكشف عن الصراعات بدلاً من حلها. فلطالما كانت الوحدة، بحسب روّاد الحداثة، مفهوماً سياسياً.

في الفن المعاصر يمكن للالتباس أن يكون استراتيجية مقصودة. فهو طريقة يمكن للعمل الفني من خلالها تفادي الاستهلاك السهل. فإذا ما رغبتْ قصائد الشعر في تفادي الانزلاق السهل الذي يحولها إلى سلعة، فإن عليها أن تكثّف قوامها وتعقد من تراكيبها. فلم تعد اللغة المحكية التي عفى عليها الدهر وسيلة لتناول الحقيقة، ولن يتمكن أحد من استخلاص شيء ذي قيمة إلا بتعريضها للعنف. بفعل ارتيابها منها، تستنزفُ الحداثةُ الأدبية اللغةَ. هنا، يترك جيمسون بعض التعليقات على فكرة بنيامين حول اللغة البدائية، وهي خطاب أصلي يعبر فيه كل شيء عن طبيعته بشكل مباشر، يتبع ذلك مرحلة السقوط، حيث يتكسّر الرابط بين الكلمة والشيء، وتصبح الكلمات إشارات على التحكم في الأشياء، ثم تنحدر قيمة اللغة إلى مجرّد صخب لساني.

إذا ما فُقدتْ الثقة في اللغة، فبوسع المرء أن يلتفت إلى الصورة. ومن هناك يأتي شغف بنيامين بالسريالية، حيث يتجلى الإلهام في الصّدام بين صورة وأخرى. يمكنك أن تفهم صورة بلمح البصر، وهو ما لا يحدث مع السرد. يفسح الوقت المجال للمساحة فيما يستغني عن التسلسل بالتزامن. فالحداثة، من بين أمور كثيرة، هي أزمة سردية في وقت يتوقف فيه العالم عن الظهور على هيئة قصة. لم يعد أحدٌ يروي التاريخ بصفته حبكة عُرفت يوماً بالتطور. فالتطور والاستمرارية ما هي إلا حِيلٌ تمارسها الطبقة الحاكمة. وهي كذلك من أوهام الاشتراكيين الذين آمنوا بأن الرأسمالية آيلةٌ للانهيار، وأن الفاشية كانت من أعراض قرب هلاكها.

تتكشف اللغة المحكيّة بشكل خطيّ، وبحسب الرؤية العامة، فإن التاريخَ خطيّ كذلك. فنحن نعتقد بانتهاء الماضي وبأن الحاضر لا يزال مفتوح النهايات، لكن بنيامين لا يتفق مع هذا الرأي. فيتحدث في كتابه “أطروحات فلسفة التاريخ” عن عدم اكتمال الماضي وعن فرصة الحاضر في تحقيق النهاية له. فقد حدث ما حدث بلا رجعة، لكن معنى أحداث الماضي لا يزال تحت وِصاية الأحياء. مثلاً، بمقدورنا نحن أن نقرر ما إذا انتمى طفلٌ من العصر الحجري الحديث لكائنات دمرتْ نفسها بنفسها. بمقدورنا نحن أيضاً أن نضمن لأولئك الذين هُزموا أثناء دفاعهم عن العدالة والصداقة أنهم لم يموتوا هباءً. بحسب عبارات بنيامين؛ بمقدورنا أن نضمن ذِكر أسماء هؤلاء الرجال والنساء من المجهولين في رسائل أثناء يوم الحساب. لا يُمكن فعلاً تعويض الأموات عمّا لقوه من معاناة، لكن يمكن استثمار معاناتهم تلك لتحمل معانٍ جديدة في أفعالنا في الوقت الحاضر. في تلك اللحظة، يبقى معنى الماضي مستمراً، ما يستوجب منا التوقف عن الحكم عليه. 

يعتقد بنيامين أن المسيح لن يصل استكمالاً لأحداث التاريخ، إلا أنه سيكشف عن سلسلة من اللحظات المنسوجة في الزمن التاريخي، فترات من الطوارئ السياسية التي قد تتيح فرصة عادلة لأولئك الذين ترغب الطبقة الحاكمة بإزالتهم من سجلات التاريخ. يمثل شريط اللحظات هذا تاريخ المضطهدين الذي يتسم بذات الانتشار والانقطاع الذي نراه في الفن الحداثي. فمن غير الممكن أن يُروى التاريخ في سردية مترابطة دون مجيء المسيح، إذ تتجلى الصلات السرية بين أفعال مقاومة بعينها. إن ما يبدو عديم الجدوى في وقت ما، سيصبح حينها مقروءاً، كنصّ مشفّر نتمكن أخيراً من حل ألغازه.

يعد العصر السياسي المظلم الذي عاشه بنيامين مثالاً على لحظة الخطر، حيث تتمزق فيه استمرارية التاريخ على نحو عنيف، ما يفتح المجال لفيض من صور من نضالات الماضي الرامية للتحرر والانعتاق. كما أن هناك مقايضة بين الماضي والحاضر، حيث يمكن للحاضر إنقاذ الماضي من النسيان، فيما يمكن استحضار الأموات لنجدة الأحياء. يمكن تكرار الوقت في نفسه، كما في رواية مارسيل بروست العظيم، للكشف عن تضامن مع المحرومين على مر العصور. فهذه أعظم الروايات على الإطلاق، بالرغم من أنها تقضي على حلم التقدم الحتمي الذي عُرفت به معظم الحكايات. من المؤكد أن المسيح سيأتي، لكنه لن يصل كنغمة الانتصار الأخيرة. بل على العكس، فهو صديق كل أولئك المسحوقين الذي يعيشون خسارات يومية على أيدي المنتصرين، ما يعني أن استحواذه على الحكم سيكون بمثابة انتصار لهم أيضاً. 

إن الذاكرة بالنسبة لبنيامين كما هي بالنسبة لفرويد، قوة تحرر، إذ يتوجب على الراغبين في التقدم للأمام أن يفعلوا ذلك من خلال النظر إلى الوراء. بوسع هذا الماركسيّ ذي الأسلوب الخاص جداً أن يحوّل حتى الحنين إلى مفهوم ثوري. فالتقليد هو المفهوم الهدّام، لا العمل على التخلص منه. يلاحظ بنيامين أن ما يدفع الرجال والنساء نحو الثورة ليس حلمهم بأحفاد أحرار، إنما ذكريات الأسلاف المضطهدين. فيُدير ملَاك التاريخ الخاص به ظهره للمستقبل، متجاهلاً بالتالي كل المدن الفاضلة المزيفة، ويُحدّق برعب في كومة الأنقاض المتفاقمة التي تمثّل الماضي. ولا يسعى الملَاك لإنهاء التاريخ لانعدام قيمته، بل لأن جزءاً كبيراً من قيمته ينبثق عن الاستغلال، ذي القيمة الأكبر. ومن هنا يأتي القول الأكثر اقتباساً عن بنيامين، عن أن كل وثيقة عن الحضارة هي سجلّ بربريّ.

لا يمكن للملَاك أن يتحرك بحريّة لأن أجنحته عالقة في عاصفة، ولا يبدو جيمسون متأكداً مما تمثله هذه العاصفة. في الحقيقة، يخبرنا بنيامين أنها أسطورة التقدم المستمر. فما يمنع الملَاك من إِحياء الميت هنا والآن، من الإشارة إلى الوقت في التاريخ ومن بدء الخلاص، هو اليقين بعدم حاجة التاريخ إلى تحوّل كهذا، حيث سيحملنا إلى مستقبل مجيد من خلال زخمه الخاص. إنه الرضا الخالص المتجسّد في الحتميّة التاريخية، ما يضلل الحاجة إلى التغيير.

يكتب بودلير عن الحداثة بصفتها عابرة وقابلة للتغيير من جهة، وبأنها خالدة وثابتة من جهة أخرى. تعلق الحداثة في فخ العشوائي والمؤقت، لكنها، ولو بحسب الشائعات، تعاني حنيناً لزمن تواجد فيه المطلق واللانهائي. هناك غياب في قلب العمل الفني المعاصر يمكّنك من إلقاء نظرة على الحقيقة والواقع، الأسس الراسخة والهويات المستقرة، وكل ما يُفترض أن العصر الحديث قد جرفه بعيداً عنا. على النقيض من ذلك، تبدو ما بعد الحداثة أصغر سناً وأكثر حيوية من أن تعيش مشاعر حنين كهذه.

ما من غياب مُطارِد في العالم، فأنت تحصل على ما تراه. أما الحقيقة والواقع فهي خيالات مريحة والهوية نشأت بمحض الصدفة. يتعين على الحداثة أن تتخلى عن تطلعاتها الميتافيزيقية. كان الفيلسوف ما بعد الحداثي ريتشارد روتي مولعاً بقول: لا تقرب موضعاً لا تشعر فيه بالحكّة.

في كتابات بنيامين، يتقارب الطارئ والأبدي طوال الوقت. فمن جهة، تفتنه أدوات الحياة اليومية: القفازات، المدن، المقامرة، معارض الطعام، الألعاب، بائعو الهوى، العنف، الحكايات الخيالية، الصراعات الطبقية، الغرف، التصوير الفوتوغرافي، والطفولة. فيما يجد ويليام بليك معنى الخلود في حبة رمل، إذ يجد بنيامين بنظرته السريالية معان عظيمة في التافه والمنبوذ. وعلى ذات النحو، فهو يرى في كل لحظة من الوقت، حتى أكثر الأوقات عادية، بوابة ضيقة سيتجلى منها المسيح. بالإضافة إلى كونه من أوائل منظري الثقافة الشعبية، فهو أيضاً عميق المعرفة في التنجيم والتصوّف ومعتقدات الكبالا، ناهيك عن الحشيش. فهو ماركسي ينتظر المسيح المخلّص، تتجاذبه المادية التي عرفها عن طريق صديقه بريخت واليهودية المتخصصة التي تعلمها عن صديقه غرشوم شوليم.

لا يكاد جيمسون يعرف شيئاً عن اللاهوت، ولا يفهم سوى القليل عن الأخلاق التي يعتقد أنها مواجهة سطحية بين الخير والشر. فهذه النظرة البيوريتانية الأمريكية للأخلاق التي ظهرت لاحقاً في أفلام رعاة البقر. كما يخفق جيمسون في الإلمام بالفرق بين الأخلاقيات ومذهب الأخلاق. حتى أنه يكاد يكون أفضل ناقد ثقافي في العالم لا تساوره الشكوك بخصوص قدرة بنيامين على تأليف الكتب. الآن وفيما يناهز التسعين عاماً، قام جيمسون بتأليف أكثر من خمسة وعشرين كتاباً ولا يزال واحداً على الأقل قيد التحضير. لا يبدو أنه نسي قراءة أي شيء ربما سوى الدليل الإرشادي لتربية الخنازير، كما تبدو الثروة المعرفية الثقافية التي أضافها على عمله الأخير هذا مذهلة، جامعاً إحساساً أوروبياً وطاقة أمريكية جبّارة. كما أن لجيمسون واحداً من أعظم أساليب الكتابة بين نقّاد الأدب، فتتوالى ببطء جمله في موجات متتالية تجبر القارئ على أخذ أنفاس عميقة تحميه من الغرق قبل وصول نهاية كل جملة.

عادة ما يفضل جيمسون أن يمنح نفسه مساحات كبيرة ومريحة من الصفحات، لهذا فلا يبدو مفاجئاً أنه كتب “ملفات بنيامين” في مجموعة من المقتطفات: “الأكوان”، “تنتحب الطبيعة”، “الفضاء والمدينة”، “التاريخ والمسيانيون” وهكذا. ربما يتساءل هو الآخر عن جدوى الكتب. في حين أن هناك إشارات على انفتاحه بعض الشيء فإن هناك علامات استفهام كثيرة قد ترفع من حدة التوتر. فلطالما كان جيمسون شاعراً فاشلاً وناقداً “كتابياً” كما يطلق على نفسه، لكن سرّ كل جملة يكتبها يكمن في حبه للغة. لا شكّ أن هذا واحد من الأسباب التي تجذبه لبنيامين، فمن المؤكد أنه يشير إليه حين يكتب عن أحد النصوص ويقول أنه “مكتوبٌ بحماس وسرور أدبي بالغ وبطاقة تتعارض مع الظاهر من الموضوع”.  كذلك تصحّ نظريته فيما يتعلق بالتعارض المستمر بين بنيامين المفكّر وبنيامين الكاتب، وهو ما يفرز تقلباً دائماً بين الكلمات والمفاهيم التي تُوجب على القارئ التنقل بينها بحذر شديد، فمثله يتأرجح جيمسون بين المفهوم والصورة، وبين الناقد والكاتب المبدع.

حتى الآن، يبدو أن أصول الكتابة الأكاديمية قد كبّلت نزعته الخيالية. لكن يبدو أنه يمنحها مساحة من الحرية في هذا الكتاب، وخصوصاً عند كتابة اللوائح، فهو يقدم مرة لائحة بمرادفات الفعل الألماني Aufblitzen ذاكراً: ومض، توهج، لمع، أشرق، برق، سطع، وتلألأ. أو هاك قائمة كتبها بمواضيع تناولها بودلير: “بائعات الهوى ومثلية النساء”، “قروح مرض الزهري وقمامة الشوارع”، “المتسولون”، “المكفوفون”، “النساء اللاتي يعانين من التهاب المفاصل”، “ترانيم الثورة”، “جثث”. في موضع آخر، يكتب جيمسون أن في شعر بودلير تمرّد حادّ كقطع سكين آلية، أو كالاستيلاء على ترسانة عسكرية ومحطة إذاعية ومكتب بريد أثناء تمرد مسلح.

لا يفترض بالنقاد الأدبيين أن يقرأوا من مسافة قريبة كهذه. بل أن الشكوى المعتادة تمثلت في وقوفهم على مسافة بعيدة جداً من النص. في الحقيقة، لا يوافق هذا الوصف أياً من المنظّرين المعروفين، بدءاً بمنظّري الشكلية الروس وصولاً إلى ما بعد البنيويين، من أمثال رومان ياكوبسون ورولان بارت وجوليا كريستيفا وجوزيف هيليز ميلر وهيلين سيكسوس وجاك دريدا، فقد كانوا جميعاً قراءً وثيقين. يكون النقّاد الماركسيون مثل جيمسون هدفاً ملحوظاً لهذا الجمود الفكري، وهذا السبب وراء تحميله إياهم مسؤولية التصالح مع شكل الجمل. لم يتبع أحدٌ نصيحته هذه بدقة كما فعل هو.

The post تيري إيغلتون عن فالتر بنيامين: الماركسي والمسيح (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
إيليا سليمان عن “فلسطنة” العالم (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20529 Tue, 15 Jun 2021 08:00:15 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a5%d9%8a%d9%84%d9%8a%d8%a7-%d8%b3%d9%84%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d9%86-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85%d8%a9/ كتبها توبايس غراي لفاينانشال تايمز في ١٠ حزيران/يونيو ٢٠٢١.   في البداية تحدثت غاربو، والآن دور إيليا سليمان. “إذن، من أي بلد أنت؟” يسأل سائق التاكسي النيويوركي كاتبَ ومخرجَ فيلم «إن شئتَ كما في السماء». يجيب سليمان مقدماً شخصية شبه ذاتية يقدمها في جلّ أفلامه: “الناصرة”. يرد سائق التاكسي: “الناصرة؟ هل هذه بلد؟” يرد سليمان: “أنا […]

The post إيليا سليمان عن “فلسطنة” العالم (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كتبها توبايس غراي لفاينانشال تايمز في ١٠ حزيران/يونيو ٢٠٢١.
 

في البداية تحدثت غاربو، والآن دور إيليا سليمان.

“إذن، من أي بلد أنت؟” يسأل سائق التاكسي النيويوركي كاتبَ ومخرجَ فيلم «إن شئتَ كما في السماء». يجيب سليمان مقدماً شخصية شبه ذاتية يقدمها في جلّ أفلامه: “الناصرة”. يرد سائق التاكسي: “الناصرة؟ هل هذه بلد؟” يرد سليمان: “أنا فلسطيني”.

يبدو الصوت واضحاً جلياً، تماماً كالصوت الذي يحييني من باريس خلال مكالمة الفيديو. ولكن، لماذا قرر سليمان أخيراً ولو عبر الشاشة أن يكسر صمتاً استمر لأربعة أفلام صنعها خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية؟ يخبرني: “ظننتُ أن هذا أكثر الأشياء التي يمكنني قولها أهميةً.”

لقد تحدّثتْ كلّ أفلام سليمان التي استهلّها بفيلم «سجلّ اختفاء» عام 1996 عن انعكاسات العيش بلا دولة. ففيها جميعاً أصوات سيارات الشرطة وأجهزة الإنذار، وحواجز عسكرية يتعين على المرء اجتيازها، إضافة إلى ذكريات ماضٍ أفضل يأبى أن يتلاشى. في فيلم «إن شئتَ كما في السماء» الذي صوّرَ الناصرة وباريس ونيويورك، يبدو أن العالم بأسره قد تورّط في هذه المظالم.

يقول سليمان: “لا يتحدث هذا الفيلم عن فلسطين، إنما عن فلسطنة العالم، أو كيف أصبح العالم كله كفلسطين. فهو عن التوترات المتصاعدة في كل مكان، وعن الاقتصاد العالمي الذي يزداد استغلاله تطرفاً.”

ومع ذلك، فإن «إن شئتَ كما في السماء» الذي فاز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما بمهرجان كان السينمائي أبعد ما يكون عن أن يكون فيلماً مُحبِطاً. يوافقني سليمان على أنه أظرف أفلامه حتى الآن. يعود معظم الفضل في ذلك لأداء السينمائي الستيني الذي وصل إلى أبعد الحدود التعبيرية. فوجهه الذي اعتاد في الماضي على تقديم ملامح خالية من المشاعر أشبه بأقنعة كابوكي المسرحية اليابانية، أصبح الآن مقياساً يُستدّل من خلاله على سخافات الحياة الحديثة.
 

Elia Suleiman’s 1996 film, ‘Chronicle of a Disappearance’ © Alamy

“أدركتُ في هذا الفيلم أنه ليس بوسعي بعد الآن أن أكون شخصية مراقِبة وكأنني غريبٌ عن المشهد”، يقول سليمان. “تقع معظم الأحداث لشخصيتي أنا، فقررتُ أن ذلك سيتطلب مني ردّ فعل ما، حتى ولو بالحدّ الأدنى.”

في أحد المشاهد التي تجري في الناصرة ظرافة انتقادية وصرامة خبيثة. يدخل إيليا سليمان إلى حانة ويجلس مقابل شقيقين يتجرّعان كؤوس الويسكي. يهدد الشقيقان مالك الحانة الفلسطيني بالقتل بعد أن قدّم طبق دجاج مطهو بالنبيذ لشقيقتهما ثم يحدّقان بإيليا سليمان. يسود شيء من الهدوء عندما يعتذر مالك الحانة ويحضر للشقيقان زجاجة ويسكي مجانية.

في مشهد لاحق، يقود إيليا سليمان سيارته على طريق سريع، تمر سيارة بالقرب منه وبداخلها جنديان إسرائيليان مختالان بنفسيهما إذ يتبادلان نظاراتهما الشمسية. يوجه إيليا سليمان إحدى نظراته نحوهما قبل أن ينظر إلى امرأة حبيسة في المقعد الخلفي للسيارة، حيث تجلس معصوبة العينين.

ليست هذه المشاهد القصيرة الشبيهة باللوحات بالشيء غير المعهود في أفلام سليمان، رغم حاجته لسنوات طويلة لينهي كتابتها وسنوات أطول ليحصل على تمويل يكفي لتصويرها. على الرغم من أن أفلامه عادةً ما تُقارن بأعمال بستر كيتن وجاك تاتي، إلا أنه يقرّ بعدم مشاهدة أي من أفلام الرجلين إلا بعد أن أنهى العمل على فيلم سجل اختفاء. بدلاً من ذلك، فإنه يدافع عن شخصيته الخاصة به.
 

A scene from ‘It Must Be Heaven’

“أشعر بالإرباك في الحياة الحقيقية بنفس قدر الإرباك الذي أبدو عليه عبر الشاشة”، يقول سليمان. “أجلسُ وأشاهد ما يجري، ودائماً ما أشعر بأنني أراقب أحداث حياتي وكأنني أتابعها من الخارج. أقوم بعد ذلك بإجراء التعديلات على مراقباتي وأحوّلها إلى لوحة سينمائية بشكل ما. أحياناً وأثناء تواجدي في الجوار، أشعر بأنني أقلد بعضاً من أفلامي.”

نشأ سليمان واحداً من خمسة أشقاء في الناصرة، دون الكثير من الاطلاع على عالم السينما. “لكن كانت الحياة مفعمة بالكثير من الرقّة والكثير من الموسيقى والكثير من الفُكاهة”. يقول سليمان: “أعتقد أن عائلتي هي السبب في حسّ الفكاهة هذا، لأن والديّ كانا ظريفين في حين تمتع أشقائي بخفة ظل شديدة. كنتُ أنا الأصغر ما جعلني أتلقى ذبذباتهم بكل فخر.”

انقطع سليمان عن المدرسة الثانوية في السادسة عشرة من عمره، وسافر إلى نيويورك وهو ابن الحادية والعشرين، حيث عمل في وظائف مؤقتة وبدأ بالتعرف إلى عالم السينما. كان أصدقاؤه من الطلاب يساعدونه في التسلل إلى محاضرات طلاب دراسات الفيلم في جامعة نيويورك. اعتاد هناك على مشاهدة الأفلام ومغادرة القاعة قبل وقت قصير من عودة الأضواء.

كانت أفلام المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو أبرز اكتشافاته. “كان فيلم «قصة طوكيو» السبب الذي جعلني أرغب في صناعة الأفلام. دائماً ما أتذكر الزوجين العجوزين اللذين كانا يراقبان عربات القطار التي تمرّ أمامهما بنظرة استغراب. فلقد ذكرتني بجلوس والديّ على الشرفة عندما كنتُ طفلاً صغيراً، بعد وقت قصير من نكبة عام 1948. فكثيراً ما كانا شارديْ الذهن، يحاولان بطريقة أو بأخرى استيعاب ما جرى لهما.”

في فيلمه الثالث «الزمن الباقي»، عام 2009، وصف سليمان مآسي أحداث عام 1948، التي شهدت تهجير أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني عربي من منازلهم. اعتمدت معظم أحداث الفيلم على ما ورد في مذكرات والد إيليا سليمان، التي سجلّ من خلالها أحداث تأسيس دولة إسرائيل والدور الذي لعبه في المقاومة الفلسطينية، وهو ما تسبب باعتقاله وتعرضه للتعذيب.

دفع هذا الفيلم بسليمان لصناعة فيلم «إن شئتَ كما في السماء»، الذي تقترب روحه من فيلمه الثاني «يد إلهية» الحائزة على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عام 2002. يقول أن صناعة فيلم «الزمن الباقي» كانت مؤلمة جداً. “فقررتُ أنني سأضفي ما استطعتُ من ضحكات وهزل على فيلمي التالي.” 

يحتوي الجزء الباريسي من فيلم «إن شئتَ كما في السماء»، والذي يسافر فيه إيليا سليمان للمدينة بحثاً عن تمويل لفيلمه القادم على الكثير من الأمثلة الواضحة على ذلك. في أحد المشاهد، ينظر إيليا سليمان خارج نافذة غرفة نومه ليرى ثلاثة من رجال الشرطة وهم يؤدون حركات أشبه برقص الباليه فيما يركب كل منهم دراجة كهربائية (Segway). في مشهد آخر ترافقه ألحان نسخة نينا سيمون من أغنية “I Put a Spell on You”، نراه يتأمل أفواج الباريسيات المارّات بالقرب من الرصيف مستعرضات سيقانهن الطويلة.

Suleiman in 2002’s ‘Divine Intervention’ © Alamy

يعرف سليمان، الذي انتقل إلى باريس قبل عشرين عاماً ويقيم فيها برفقة زوجته المغنية وكاتبة الأغاني اللبنانية ياسمين حمدان، يعرف المدينة جيداً، لكنه لا يحبها بالضرورة. يقول: “تشعر في البداية بافتنان كبير، ثم ترى إرث المدينة البرجوازي السخيف. يعجبني المكان الذي أعيش فيه، يعجبني الحي وتعجبني شقتي. لكنني لستُ فرانكوفونياً. أنا فقط لا أعرف مكاناً آخر بوسعي الذهاب إليه.”

أما بالنسبة لصناعة فيلم آخر، يقول سليمان أنه بحاجة لتجارب جديدة قبل التفكير في ذلك. “أنا فعلاً بحاجة للخروج إلى العالم. أحتاج للجلوس خارجاً ومراقبة العالم. أحتاج لنزهات المشي التي أقوم بها عادة. أحتاج للشعور بشيء من الطمأنينة دون كمامة. إن السبب وراء تأخري في تقديم أفلام جديدة أنني أرغب في تقديم أفلام فقط عندما أشعر بالدافع والحاجة لذلك، لا لأنني أرغب في الذهاب إلى مهرجان كان.”

The post إيليا سليمان عن “فلسطنة” العالم (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«أمكنة العقل» لتيموثي برينان… سيرة كريمة وصادقة لإدوارد سعيد (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20470 Sun, 25 Apr 2021 10:04:43 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%85%d9%83%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82%d9%84-%d9%84%d8%aa%d9%8a%d9%85%d9%88%d8%ab%d9%8a-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%83%d8%b1%d9%8a/ مقالة لأهداف سويف، نشرتها ذا غارديان في ٢٠ إبريل/نيسان ٢٠٢١.   “بعد سنوات على وفاته، عام ٢٠٠٣، يبقى إدوارد وديع سعيد شريكاً في العديد من الحوارات المتخيلة”، بهذا السطر المحقّ يبدأ تيم برينان سيرة إدوارد سعيد، فمن الصعب العثور على مفكر آخر تمكن من البقاء حاضراً في غيابه. كُتبَ عن سعيد أكثر من خمسين كتاباً، […]

The post «أمكنة العقل» لتيموثي برينان… سيرة كريمة وصادقة لإدوارد سعيد (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

مقالة لأهداف سويف، نشرتها ذا غارديان في ٢٠ إبريل/نيسان ٢٠٢١.
 

“بعد سنوات على وفاته، عام ٢٠٠٣، يبقى إدوارد وديع سعيد شريكاً في العديد من الحوارات المتخيلة”، بهذا السطر المحقّ يبدأ تيم برينان سيرة إدوارد سعيد، فمن الصعب العثور على مفكر آخر تمكن من البقاء حاضراً في غيابه. كُتبَ عن سعيد أكثر من خمسين كتاباً، وقد دُرّست كتاباته في الجامعات عبر العالم. إذا نظرتَ إلى وسائل التواصل الاجتماعي فستجدُ أن اسمه يُذكر باستمرار في حوارات مألوفة وبسيطة من قِبل شباب العالم، كما أن صورته مُعلقة على جدران أقدم مدن فلسطين إلى جانب صور الشهداء. شكّلت أحداث السنين الماضية لاسيما الانتفاضات العربية وانتصار الثورات المضادة التي تلتها مناسبات أعادت بالكثير منا لأفكاره وللاقتداء به.

لم يتخطّ سعيد عالماً واحداً فحسب، بل عوالم عدة. فإذا كان نيويوركياً في وقت هو فيه فلسطينيٌّ نشأ في مصر، فهو ناقد أدبي ومنظّر وناشط سياسي وموسيقيّ وغير ذلك. قد يكون هذا السبب في عدم وصوله إلى “النتيجة الصحيحة تماماً” في عالم بعينه، إلا أن عبقريته تمثّلت في تحويله لحالته تلك إلى محرّك للأفكار الذي تمحور حوله جزء لا بأس به من الحياة الفكرية والسياسية في كل من هذه العوالم.

كان برينان تلميذ سعيد وصديقه المطلع على أفكاره والمرتاح في صحبته. عمل برينان عن قرب مع عائلة سعيد أثناء كتابة “أمكنة العقل”، فأجرى المقابلات مع عدد كبير من أصدقائه وزملائه، ولا بد من أنه تفحّص عن قرب أرشيف سعيد في جامعة كولومبيا التي درّس فيها طوال مسيرته العملية. (في لحظة مُبهجة من الكتاب، يعثر برينان على ملاحظات سعيد الخاصة بالمحاضرات بين سنوات 1964 و1984 وفيها ما يثبت أن بعض أفضل أفكار معلمه السابق كانت نتيجة عمله في التعليم.)

أصرّ سعيد على أنه لا يمكن حصر أي شخص في أمر واحد فقط. يتمثل إنجاز برينان في إنصاف كل من الأدوار التي لعبها سعيد، وللتعبير عن التشابكات العصبية التي ربطت عوالمه المختلفة، لنرَ كيف كان لفكرة وُلدت في عالمٍ أن تدرك مغزاها في آخر. لقد قدم لنا برينان ما هو أشبه بالكتاب الإرشادي لعالم إدوارد سعيد، فكتابه خريطة لأفكاره ومواقعه التي على الرغم من تغيرها فلا صعوبة في تتبعها والوصول أخيراً لمجموعة أساسية من الأفكار والدوافع. لقد قام برينان بذلك دون المساس بذكاء وتمكّن سعيد ودون تلطيخ وضوح أفكاره.

فقد وضّح لنا كيف جذب سعيد أنظار العالم وأربك أعداءه في وقت نجح فيه بكسر القالب الأكاديمي الذي لطالما ارتبط بالعلوم الإنسانية، وكيف جعل النقد الأدبي أمراً رائجاً ونجح في تغيير الصورة الفلسطينية. كذلك أوضح أن ما من سبيل لفهم الطريقة التي نتناول بها أحداث التاريخ دون إدراك عدد من الخصال الشخصية التي قدّمها لنا.

يقدم برينان للقرّاء فرصة لتذوق دعابات سعيد المرحة، حسّ السخرية اللاذع لديه، والتعرف على ولائه وقربه وحميميته وصموده، وهي كلها سمات طبعت شخصية الصديق الذي يعتز به. كان المرور بهذه السطورممتعاً.

أثار ذكرُ برينان للمناظرة التاريخية التي قام بها سعيد من خلال جمعية دراسات الشرق الأوسط مع برنارد لويس عام 1986 فضولي فبحثتُ عنها على يوتيوب وشاهدتها بأكملها وأنا أقاوم مجدداً إعجابي بما مثّله حضور سعيد على المنصة: فطنة وتألق وشعبية لم يتمتع بها سوى النجوم.

في الفقرة الأخيرة من مذكراته “خارج المكان” (التي كتبها أثناء صراعه مع اللوكيميا الذي نجح أخيراً في التغلب عليه بعد تسع سنوات)، يقدم سعيد تلخيصاً لنفسه: “بين وقت وآخر، أرى نفسي كتلةً من التيارات المتدفقة، وأنا أفضّل هذه الفكرة على كوني كائناً صلباً، وهي الهوية التي يلصق بها الكثيرون أهمية كبرى. لا تتطلب هذه التيارات في أحسن أحوالها لا تصالحاً ولا تناغماً، فهي خارج المكان، لكنها على الأقل في حركة دائمة، في شكل من أشكال الحرية. على هذا النحو أحب أن أتخيلها، حتى ولو كنتُ بعيداً كلّ البعد عن الاقتناع بذلك.”

إن كتاب “خارج المكان” هو لا شك الرقاقة اللازمة لقراءة وفهم الصفحات المائة الأولى من “أمكنة العقل”. فمذكرات سعيد تشبه أعمال الطب الشرعي، إذ نقّب من خلالها على ذاته في طفولته والظروف التي أوصلته إلى حالة “الغريب” التي لازمته بقية حياته. كان شديد الصرامة مع سعيد الطفل حتى أن أي إضافة على ذلك تُضفي شعوراً بأنه غير مرغوب به. لكنني أتساءل عما إذا نبعَت صرامة برينان حيال سعيد الطفل من تشوقه للاستمتاع بصحبة سعيد الذي عرف وأحبّ مرة أخرى.

يكتب برينان: “بعد ثلاثة عقود غير مبشرة، نجح سعيد في الحفاظ على روح النقد حيّة، ومنحها شكلاً هو الأطيب والأصدق والأكثر غضباً والأكثر حميمية”. يعتقد برينان أن هذا جزء مما سيُبقي النقد الأدبي والاجتماعي مستمراً وذا أهمية. ستكون هذه السيرة الصادقة والكريمة حليفاً جاداً في المشروع الأدبي، وستستمر الحوارات.

The post «أمكنة العقل» لتيموثي برينان… سيرة كريمة وصادقة لإدوارد سعيد (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
التحدي… غابرييل غارسيا ماركيز عن كتابة قصصه الأولى (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20416 Tue, 16 Mar 2021 11:40:15 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a-%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%8a%d9%84-%d8%ba%d8%a7%d8%b1%d8%b3%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d8%a7%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%b2-%d8%b9%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d8%a9/ لم أتخيل يوماً أن تُنشر قصتي الأولى في “فين دي سيمانا”، الملحق الأدبي لصحيفة الإسبكتادور في بوغوتا بعد تسعة أشهر على إنهائي للمدرسة الثانوية، إذ كانت أصعب جهات النشر وأكثرها إثارة للاهتمام. وبعد اثنين وأربعين يوماً، نُشرت قصتي الثانية. لم يفاجئني شيء بقدر الملاحظة الافتتاحية التي كتبها محرر الملحق إدواردو زالاميا بوردا (الذي كان يكتب […]

The post التحدي… غابرييل غارسيا ماركيز عن كتابة قصصه الأولى (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لم أتخيل يوماً أن تُنشر قصتي الأولى في “فين دي سيمانا”، الملحق الأدبي لصحيفة الإسبكتادور في بوغوتا بعد تسعة أشهر على إنهائي للمدرسة الثانوية، إذ كانت أصعب جهات النشر وأكثرها إثارة للاهتمام. وبعد اثنين وأربعين يوماً، نُشرت قصتي الثانية. لم يفاجئني شيء بقدر الملاحظة الافتتاحية التي كتبها محرر الملحق إدواردو زالاميا بوردا (الذي كان يكتب باسم أوليسيس)، وقد كان أبرع نقاد كولومبيا في حينه، وأكثرهم تيقظاً لظهور التوجهات الجديدة.

حدث كل هذا على نحو غير متوقع لدرجة تصعّب عليّ استذكار الأحداث. في فبراير شباط عام 1947، التحقتُ بكلية الحقوق في جامعة بوغوتا الوطنية، وذلك بحسب الاتفاق مع والديّ. كنتُ أُقيم في قلب المدينة، في نزُل في شارع فلوريان الذي كان قد استوطن معظمه طلابٌ مثلي من ساحل الأطلسي. في أوقات فراغي بعد الظهر، وبدلاً من العمل حتى أتمكن من توفير مصروفي، كنتُ أقرأ في غرفتي أو في أحد المقاهي التي سمحت بذلك. كنتُ أحصل على الكتب بالصدفة والحظ، بل اعتمد ذلك على الصدف أكثر من حظي، فقد أعارني إياها أصدقائي القادرين على شراء الكتب ومنحوني مدة محدودة حتى أعيدها. ولكن، وبخلاف الكتب التي كنتُ أقرأها في المدرسة في زيباكويرا والتي لم تكن لتصلح سوى لضمّ رفات الكُتّاب، كانت هذه الكتب طازجة كخبز أُخرج لتوّه من الفرن، طُبعت في بيونس أيريس وبترجمات حديثة من بعد توقف أعمال النشر الذي تسببت به الحرب العالمية الثانية. بهذه الطريقة، اكتشفتُ ولحسن حظي كتّاباً معروفين مثل خورخي لويس بورخيس، ديفيد هربرت لورانس، ألدوس هكسلي، غراهام غرين، غلبرت كيث تشيسترتون، ويليام إيرش، كاثرين مانسفيلد، وغيرهم الكثيرين.

في الغالب، كانت تُعرض هذه الكتب في نوافذ المتاجر التي يصعب الوصول إليها، لكن نسخاً منها عادة ما تواجدت في مقاهي الطلاب التي كانت مراكز ترويج ثقافي نشيطة، خصوصاً للطلاب الآتين من الأقاليم. كان العديد من هؤلاء الطلاب يحجزون طاولاتهم سنة بعد سنة، وكانوا يستلمون البريد والحوالات النقدية في المقاهي كذلك. كان للخدمات التي قدمها أصحاب المقاهي وموظفيهم الكبار دوراً أساسياً في الحفاظ على عدد لا بأس به من الوظائف الجامعية، إضافة إلى أن عدداً من العاملين في البلاد يُرجعون الفضل في توظيفهم إلى الصّلات التي كونوها في مقاهيهم أكثر من مدربيهم الذين لم يكادوا يرونهم.

كان مقهى إل مولينو مكاني المفضل، وهو المكان الذي تردد عليه الشعراء الكبار، ولم يبعد أكثر من مئتي متر عن النّزل الذي كنت أقيم فيه، على زاوية شارعي خيمينيز دي كيسادا وكاريرا سبتيما. لم يكن يُسمح للطلبة بحجز الطاولات في إل مولينو، لكننا كنا متأكدين من أن ما سنتعلّمه من الحوارات الأدبية التي استرقنا السّمع إليها فيما جلسنا قرب الطاولات المجاورة سيكون أكثر قيمة مما نتعلمه من الكتب الدراسية. كان مقهى ضخماً، أنيقاً ذا طراز إسباني، وكانت جدرانه قد زُيّنت بلوحات الرسام سانتياغو مارتينيز دلغادو، بمشاهد من معركة دون كيشوتة ضد طواحين الهواء.

بالرغم من عدم وجود زاوية محجوزة لي، كنتُ دائماً ما أقنع الندل بتقريبي ما استطاعوا إلى السيد ليون دي غريف، الذي كان ملتحياً فظاً وساحراً في آن، إذ يوشك على افتتاح صالونه الأدبي في ساعة الغسق، بصحبة عدد من أشهر كتاب ذلك الزمان، قبل أن يُنهي يومه بلعبة شطرنج برفقة طلابه قبل منتصف الليل، وهم غارقين في المشاريب الرخيصة. لم يتبقَ سوى عدد قليل جداً من ألمع أسماء الفن والأدب في البلاد ممن لم يجلسوا على تلك الطاولة مرة على الأقل، فيما تسمّرنا نحن على طاولتنا حتى لا نفوّت أي كلمة. بالرغم من أنهم اعتادوا الحديث عن النساء والدسائس السياسية أكثر مما تحدثوا عن أعمالهم وفنونهم، لطالما أتوا على ذكر أمور جديدة بالنسبة لنا.

كان أكثرنا انتباهاً من ساحل الأطلسي، فلم تجمعنا مؤامرات الكاريبي ضد شعب الكاتشاكو الذي عاش في سلاسل الجبال بقدر ما وحّدتنا محتويات الكتب. في أحد الأيام، قام خورخي ألفارو إسبينوزا، وهو طالب الحقوق الذي علّمني قراءة الكتاب المقدس ودفعني لحفظ أسماء رِفاق أيوب، قام بوضع مجلد مذهل على الطاولة أمامي وأعلن بسلطة تحاكي سلطة الكهَنة: “هذا الإنجيل الآخر”.

كان ذلك بالطبع كتاب “يوليسيس” للكاتب جيمس جويس، والذي قرأتُ كلّ جزء منه بنهم حتى نفد صبري. كانت تلك جسارة سابقة لأوانها. بعد سنوات، وكبالغ مطيع، كلّفت نفسي بمهمة قراءتها مرة ثانية وبشكل أكثر جدية لم يسفر فقط عن اكتشاف عالَم عبقري لم أتوقع وجوده في داخلي من قبل، إنما مدّني بمساعدة تقنية لا تقدر بثمن من حيث تحرير اللغة ومواكبة الوقت والبُنية في كتبي.

كان دومينغو مانويل فيغا أحد رفاق السكن في النّزل، وهو طالب الطب الذي أصبح صديقي منذ أيام الطفولة في بلدة سكوري، وكان يشاركني نهم القراءة. في إحدى الليالي، جاء فيغا وبرفقته ثلاثة كتب قام بشرائها للتوّ، فأعارني واحداً باختيار عشوائي كما جرت العادة، بهدف مساعدتي على النوم. لكن الأثر هذه المرة جاء معاكساً، فلم أنعم بسكينة النوم بعد تلك الليلة. كانت رواية “المسخ” لفرانز كافكا، بترجمة لوسادا في بيونيس أيريس، وقد أسّست لاتجاه جديد في حياتي منذ السطر الأول الذي يُعرف اليوم بصفته أداة عظيمة في الأدب العالمي: “بينما استيقظ غريغور سامسا من كوابيسه في إحدى الصباحات، وجد أنه تحوّل إلى حشرة عملاقة”.

كانت تلك كتباً غامضة لم تكن تحولات أحداثها الخطيرة مختلفة فحسب، إنما مناقضة لكل شيء كنتُ قد تعلمته حتى ذلك الحين. فقد علّمتني أنه ما كان ضرورياً تقديم الحقائق، بل أن كتابة المؤلف لشيء ما تكفي لاعتباره حقيقة، حتى من دون أن يقدم دليلاً سوى قوة موهبته وسلطة صوته. كان الأمر بمثابة شهرزاد مرة أخرى، وإن لم يكن ذلك في عالم ألف ليلة وليلة الخاص بها، حيث كان كل شيء ممكناً، ولكن في عالم لا يمكن إصلاحه، في عالم ضاع فيه كل شيء بالفعل.

عندما أنهيتُ قراءة “المسخ”، شعرت بحنين لا يُقاوم للعيش في ذلك النعيم العجيب. في اليوم التالي، كنت أجلس مقابل آلة الطباعة المحمولة التي كان دومينغو مانويل فيغا قد سمح لي باستعارتها، محاوِلاً كتابة شيء يشبه حكاية كافكا عن الموظف الحكومي المسكين الذي تحول إلى صرصور هائل الحجم. لم أذهب إلى الجامعة في الأيام التالية خشية أن تنكسر التعويذة. كنتُ مستمراً في الكتابة تتصبب مني قطرات عرق من حسدٍ، حتى نشر إدواردو زالاميا بوردا مقالة كئيبة في رثاء قلة الأسماء البارزة ضمن جيل الكتّاب الكولومبيين الجدد، وحقيقة أنه عجز عن العثور على أي شيء مستقبلي بوسعه تحسين ذاك الوضع. لا أعرف بأي حقّ شعرتُ بالتحدي، باسم جيلي أو بسبب الاستفزاز الذي أثارته فيّ تلك المقالة، لكنني عدتُ لكتابة القصة مجدداً في محاولة لإثبات عدم صحة رأيه. فقمتُ بتطوير حبكة الجثة الواعية من رواية “المسخ”، وأعفيتُ القصة من الأسرار المزيفة والتحيزات الوجودية.

لكنني كنتُ لا أزال غير متأكد من القصة لدرجة أنني لم أجرؤ على إخبار أي من رفاق طاولتي في إل مولينو عنها، ولا حتى زميلي في كلية الحقوق غونزالو مالارينو، الذي كان القارئ الوحيد لأعمال النثر التي كنتُ أكتبها لأخفف عن نفسي عبء ضجر الصفوف الدراسية. كنتُ أعيد قراءة القصة وأغير تفاصيلها حتى أصابني الإرهاق، وفي النهاية، كتبتُ ملاحظة شخصية لإدواردو زالاميا الذي لم أكن قد التقيتُ به مسبقاً، ملاحظة لم أعد أتذكر أيّ كلمة منها. وضعتُ كل شيء في مغلف وأوصلته إلى مكتب الاستقبال في صحيفة الإسبكتادور. سمح لي موظف الاستقبال بالصعود إلى الطابق الثاني حتى أتمكن من تسليم الرسالة إلى زالاميا بشكل شخصي، لكن الفكرة أصابتني بالشلل ودفعتني لترك المغلف على مكتب الموظف والهرب سريعاً.

حدث ذلك في يوم ثلاثاء، ولم أكترث بأي مخاوف مسبقة بخصوص مصير قصتي. كنتُ متأكداً أنه في حال تم السماح بنشرها، فإن ذلك لم يكن ليحدث في أي وقت قريب. وفي خلال أسبوعين، كنتُ أمشي هائماً من مقهى إلى آخر لأُسكّن القلق الذي أصابني في ظهيرة كل سبت، حتى الثالث عشر من سبتمبر أيلول، عندما ذهبتُ إلى مقهى إل مولينو واصطدمتُ بعنوان قصّتي مطبوعاً بالخط العريض في صحيفة الإسبكتادور التي كانت قد صدرت لتوّها: “الإذعان الثالث”.

في ردّ فعل أوليّ، كان هناك إدراك مروّع بعدم امتلاكي للخمسة سنتات اللازمة لشراء الصحيفة. كان هذا أوضح مثال على مدى فقري، لأنني، وبالإضافة إلى عجزي عن شراء الصحيفة، لم أكن قادراً على شراء أي من أساسيات الحياة التي يكلف الكثير منها خمسة سنتات، مثل عربة المواصلات، والهاتف العمومي، وفنجان القهوة، أو تلميع حذاء. انطلقتُ مسرعاً نحو الشارع دون أن أحتمي بشيء في وجه رذاذ المطر الهادئ، ولم أجد أي شخص أعرفه بما يكفي لأستدين منه الخمسة سنتات في أيّ من المقاهي المجاورة. حتى في النّزل لم أجد أي أحد في تلك الساعة الهادئة من السبت سوى مالكة العقار، وهو بمثابة عدم عثوري على أي أحد، لأنني كنتُ متأخراً عن سداد ما يعادل خمسة سنتات لسبعئمة وعشرين مرة، مقابل أٌجرة شهرين. عندما خرجتُ مجدداً جاهزاً لأي شيء، صادفتُ رجلاً أرسَلته العناية الإلهية مغادراً سيارة الأجرة حاملاً عدد صحيفة الإسبكتادور في يده، وطلبتُ منه أن يعطيني إياها مباشرة.

وهكذا، قرأتُ أول قصة منشورة لي، مرفقةً برسمة لهرنان ميرينو، وهو الرسام المعتمد للصحيفة. قرأتُ القصة دفعة واحدة في حين كنتُ أختبئ في غرفتي وقلبي يخفق بقوة. اكتشفتُ في كل سطر القوة الساحقة للنشر، فقد تابعتُ تحوّل ما بنيته بالكثير من الحب والألم إلى تقليد متواضع لعبقري عالمي شعرتُ وكأنه حوار ذاتي مُبهم وركيك، بالكاد دعمته ثلاث أو أربع جمل على سبيل المواساة. مرّت قرابة العشرين سنة قبل أن أتجرأ على قراءة تلك القصة مرة ثانية، وفي حينها، كان حكمي وبالرغم من شغفي المتزايد، أقل تسامحاً.

كان انهمار الأصدقاء الذين غزوا غرفتي حاملين نسخاً من الصحيفة الأمر الأصعب، فقد غمروني بالمديح والثناء لقصة كنتُ متأكداً أنهم لم يفهموها. شعر بعضٌ من رفاق دراستي في الجامعة بالتقدير للقصة، فيما شعر آخرون بالحيرة تجاهها، فيما لم يُكمل البقية من العقلاء القراءة بعد السطر الرابع. لكن غونزالو مالارينو الذي لم أكن لأشكك في حكمه الأدبي، عبّر عن إعجابه بها بلا تحفظ.

كانت أعظم صعوباتي مع حكم خورخي ألفارو إسبينوزا، الذي كانت شفرته النقدية حادة حتى فيما يتعدى دائرتنا المباشرة. كانت لديّ مشاعر مختلطة، كنت أرغب في رؤيته مباشرة لأتخلص من شعور الشك إلى الأبد، بينما كنتُ أرتعب من فكرة مقابلته. اختفى حتى يوم الثلاثاء، وهو ما كان أمراً غير عاديّ بالنسبة لقارئ نَهِم مثله. وعندما عاد إلى مقهى إل مولينو، بدأ يحدثني لا عن القصة، إنما عن وقاحتي، فقال وهو يحدق بيّ بعينيه الخضراوان كعيني أفعى الكوبرا: “أفترض أنك تدرك مقدار المصاعب التي ورطتَ نفسك فيها، أنتَ الآن في واجهة الكُتّاب البارزين، وعليكَ القيام بالكثير حتى تستحق تلك المكانة”.

كان رأيه الوحيد القادر على التأثير فيّ بالإضافة إلى رأي أوليسيس، وهو ما أصابني بالرّعب. ولكن قبل أن يكمل حديثه، قررتُ استباقه بقول ما كنتُ ولا زلتُ أعتبره الحقيقة، بأن “تلك القصة كانت محض هراء”.

كان ردّه متزناً راسخاً فأخبرني بأنه غير قادر على قول هذا بعد، إذ لم يكن لديه المتسع من الوقت لأكثر من الاطلاع عليها دون قراءتها كاملة. ثم شرح أنه حتى وإن كانت بالسوء الذي تحدثتُ عنه أنا، فإنها بالضرورة ليست سيئة بما يكفي للتضحية بالفرصة الذهبية التي كانت الحياة قد قدمتها لي. فقال: “على أية حال، أصبحت هذه القصة جزءاً من الماضي، ما يهم الآن هو القصة التالية”.

كنت مذهولاً وأحمق بما يكفي للبحث عن أراء مضادة، حتى فهمتُ أن ما من نصيحة سمعتها ستكون بذكاء ما قدمه له. قام بتفسير فكرته الراسخة أن عليك نسخ القصة أولاً قبل الأسلوب، فيما اعتمد كل منهما على الآخر في شكل خدمات لا غنى عنها. كانت تلك العصى السحرية التي ميّزت الأعمال الكلاسيكية. كذلك أمضى بعض الوقت في شرح رأيه الذي كرره مراراً، أنني كنت في حاجة للتعمق في قراءة أعمال الإغريق، وليس فقط هوميروس، وهي الملحمة الوحيدة التي كنتُ قد قرأت نظراً لكونها متطلباً دراسياً. وعدته بأن أفعل وكنت أرغبُ في سماع أسماء أخرى، لكنه غيّر الموضوع بدلاً عن ذلك وبدأ بالحديث عن “المزيفون” لأندريه جيد، التي كان قد قرأها في نهاية الأسبوع ذاك. لم أتجرأ يوماً بما يكفي لأخبره بأن حوارنا ذاك كان قد حددّ لي مسيرة ما تبقى من حياتي. لم أنم في تلك الليلة التي قضيتها في كتابة الملاحظات لقصتي القادمة، التي لم يكن فيها شيء من صعوبات سابقتها.

أشكّ أن انبهار من تحدثوا معي عن القصة لم يكن بسببها هي، هذا إن قرأوها، وإن فعلوا فأنا متأكد أنهم لم يفهموها، بل كان انبهارهم بسبب الضجة غير الاعتيادية التي صاحبت نشرها على صفحات صحيفة هامة. ففي المقام الأول، أدركتُ أن عيبيّ الكبيرين كانا أكبر عيبين على الإطلاق: ركاكة كتابتي وجهلي بالقلب الآدمي، وقد كان هذان العيبان جليّان في قصتي الأولى، التي كانت تأملاً نظرياً مرتبكاً لم يزده سوءاً سوى سوء استخدامي للمشاعر المصطنعة.

باحثاً في ذاكرتي عن مواقف من الحياة الحقيقية من أجل القصة الثانية، تذكرتُ أن امرأة من أجمل النساء اللاتي رأيتُ في طفولتي كانت قد أخبرتني بأمنيتها لو كان باستطاعتها أن تعيش داخل القط الوسيم الذي كانت تداعبه في حجرها. عندما سألتُها عن السبب أجابتني: “لأنه أجمل مني”. منحني ذلك نقطة انطلاق قصتي الثانية وعنواناً جذاباً: “إيفا تتقمص قطتها”. أما البقية فكما القصة الأولى، كان مبتكراً من لاشيء، ولهذا السبب، وكما نقول في هذه الأيام، فقد حملتْ في طياتها بذور فشلها.

نُشرت هذه القصة مصاحبةً بذات الجلبة التي حصلت عليها سابقتها، وذلك يوم السبت الخامس والعشرين من أكتوبر 1947، إلى جانب رسم بريشة أنريكي غراو، النجم اللامع في سماء الكاريبي. صُعقتُ عندما وجدتُ أن أصدقاءً تقبلوا الأمر كحدث روتيني وكأنني كاتب معروف. في حين أنني عانيتُ بسبب الأخطاء وملأتني الشكوك بقدرتي على النجاح، لكنني عملتُ إلى إبقاء الأمل حياً. 

جاءت اللحظة الهامة بعد عدة أيام، عندما كتب إدواردو زالاميا ملاحظة في عموده اليومي باسمه المستعار أوليسيس، ملاحظة خاطبتْ الأمر مباشرة: “لاحظ قرّاء فين دي سيمانا، الملحق الأدبي للصحيفة ظهور موهبة جديدة أصيلة بشخصية صارمة”، وأضاف: “يمكن لأي شيء أن يحدث في المخيلة، لكن معرفة السبيل لإظهار ذلك بطبيعية وبساطة ودون جلبة ليس بالأمر الذي يمكن لكل الفتية في العشرينيات من عمرهم ممن لا زالوا في طورتأسيس علاقاتهم بالحروف تحقيقه”. ثم ختم ملاحظته دون تردد: “في غارسيا ماركيز، نرى كاتباً جديدا بارزاً يولد”.

تسببتْ الملاحظة بصدمة من السعادة لي، وكيف لا! لكن وفي الوقت ذاته، أزعجني أن زالاميا لم يترك لنفسه سبيلاً للتراجع. الآن وقد قال ما قال، كنتُ مجبراً على تفسير كرمه بصفته خطاب يتوجه به إلى ضميري حتى بقية حياتي.

بالرغم من تغيّبي المزمن وجهلي بالقضاء، نجحتُ في نهاية السنة الأولى، وهي الأسهل، من دراسة الحقوق، وذلك بفضل المذاكرة الحثيثة التي قمتُ بها في آخر لحظة، إضافة إلى خدعتي القديمة لمواجهة الأسئلة الصعبة، بالتملص الذكي. في الحقيقة، لم أكن على طبيعتي ولم أكن أعرف كيف كنت سأستمر في تلمّس طريقي حتى نهاية الطريق المسدود. لم أفهم من القانون شيئاً كما فعلتُ مع أي من المواضيع الأخرى التي درستها في المدرسة، وكنتُ أشعر أنني بلغت من العمر ما يكفي لأتخذ قراراتي الخاصة. باختصار، بعد ستة عشر شهراً من النجاة الإعجازية، لم أكتسب سوى مجموعة من أفضل الأصدقاء لبقية حياتي.

كان اهتمامي الضئيل بالقانون في أضعف مستوياته بعد ملاحظة أوليسيس. في الجامعة، بدأ بعض الطلبة بمناداتي بالأستاذ، وكانوا يعرفونني بالكاتب. تصادف ذلك مع اعتزامي تعلم كيفية بناء قصة مقنعة ومدهشة وبلا ثغرات. كنتُ أقتدي بعدد من الأمثلة المثالية والبعيدة، مثل قصة “الملك أوديب” لسوفوكليس، الذي يتحقق بطله من مقتل والده حتى يكتشف أنه هو نفسه القاتل. أو قصة “مخلب القرد” لويليام جاكوبس، وهي القصة المثالية التي لا يحصل فيها سوى الحوادث غير المتوقعة. أو قصة “كرة الشحم” لموباسان، وغيرهم الكثير من كبار المذنبين، عسى أن يبقيهم الله في مملكته المقدسة.

كنتُ منغسماً في ذلك في إحدى أمسيات الأحد عندما حدث لي ما يستحق أن أرويه. كنت قد أمضيتُ جلّ يومي تقريباً في التنفيس عن غضبي ككاتب بصحبة غونزالو مالارينو في منزله في شارع تشيلي، وفي أثناء عودتي إلى النزل وعلى متن آخر عربة مواصلات، انضمّ إلينا كائن إله الغابة الحقيقي في محطة تشابينيرو. صدقوني، كان كائن إله الغابة الخرافي من لحم ودم. لاحظتُ عندها أن أحداً من بقية الركاب القلائل في العربة التي انطلقت قرابة منتصف الليل لم يتفاجئ لرؤيته، ما جعلني أفكر فيما إذا كان أحد الأشخاص الذين يرتدون الأزياء التنكرية أثناء بيع المتفرقات في أيام الأحد في حدائق الأطفال. لكن الواقع أقنعني بأن عليّ التخلي عن شكوكي، فقرونه وجلده كانا بريّان كما لو كان ماعزاً، وعندما مرّ بقربي، كان بوسعي أن أشمّ رائحة جلده. بأخلاقيات رب أسرة محترم، ترجّل من العربة قبل محطة كالي 26، وهو الشارع الذي تقع فيه المقبرة، قبل أن يختفي بين أشجار الحديقة.

بعد نصف ليلة من تقلبي المستمر، سألني دومينغو مانويل فيغا عمّا إذا كنتُ بخير، فأخبرتُه وأنا في نعس شديد: “لا شيء سوى أن إله الغابة ركب العربة.” كان في حالة يقظة كاملة عندما سألني عما إذا كنتُ أتحدثُ عن كابوس رأيته بسبب سوء الهضم الذي يحدث عادة في أيام الأحد، ثم قال أنه يعتقد أنها فكرة مدهشة إذا ما كانت موضوعاً لقصتي القادمة. في الصباح التالي، لم أعرف إذا ما كنتُ قد شاهدتُ إله الغابة على العربة أو إذا كان ذلك من ضمن هلوسات يوم الأحد. بدأتُ بالاعتراف لنفسي أنني كنت قد غفوت وقد أرهقني التعب في نهاية اليوم، وربما شاهدتُ حلماً شديد الوضوح حتى عجزتُ عن التمييز بينه وبين الحقيقة. ولكن، في النهاية، لم يكن الأمر الأساسي بالنسبة لي هو ما إذا كان إله الغابة حقيقياً، إنما أنني عشتُ التجربة كما لو كان كذلك. ولذات السبب، سواءٌ كان الأمر حقيقياً أو مجرد حلم، لم يكن مشروعاً أن أعتبره سحراً خيالياً، ففي الواقع، كان تجربة حياتية مذهلة.

في اليوم التالي، كتبتُ القصة في جلسة واحدة، ثم وضعتُها تحت وسادتي وقرأتها مراراً وتكراراً لليالٍ عدة قبل الخلود إلى النوم وفور استيقاظي في الصباح. كانت القصّة وصفاً حرفياً ومجرّداً لواقعة العربة، تماماً كما حدثت، أما من ناحية الأسلوب، فكانت ببراءة إعلان عن عمّاد في صفحة المجتمع. أخيراً، وبرغم الشكوك الجديدة التي كانت تطاردني، قررتُ إخضاع القصة لاختبار النشر الذي لا يخطئ، ولكن ليس في الإسبكتادور، إنما في الملحق الأدبي لصحيفة إل تييمبو هذه المرة. ربما كانت هذه طريقتي في مواجهة حكم شخص غير إدواردو زالاميا، حتى لا أوّرطه في مغامرة ما من سبب ليشارك فيها. أرسلتُ قصتي برفقة صديق من النزل، بالإضافة إلى رسالة لدون خايمي بوسادا، وهو المحرر الجديد واليافع لملحق إل تييمبو الأدبي. لكن لم تُنشر القصة ولم يُجب أحد على رسالتي.

تسبب نشري لأعمال تقترب من ناجحة في الإسبكتادور بمشكلات أرضية مسلية لي، فقد بدأ أصدقائي المتعثرين بإيقافي في الشارع طلباً للنقود التي بوسعها أن تنقذهم، حيث أنهم لم يصدقوا أن كاتباً مشهوراً لم يحصل على مبالغ نقدية كبيرة لقاء قصصه. القليلون فقط صدقوني عندما أخبرتهم بالحقيقة وبأنني لم أحصل على أي سنت مقابل القصص، ولم أتوقع الحصول على أي شيء، لأن هذا ما اعتادت عليه الصحافة في البلاد. خيبة أمل أكبر أصابت والدي عندما أدرك أنني لن أتمكن من تحمل مسؤولية نفقاتي في وقت كان فيه ثلاثة من أبنائه الأحد عشر في المدرسة. كانت العائلة ترسل إليّ 30 بيزو في الشهر، كلّفني منها النزل 18 مقابل إقامتي فقط، دون خدمات الطعام، هذا غير المصروفات غير المتوقعة التي كنت أضطر بسببها لإنفاق المزيد من المال.

لأ أعرف كيف اعتدتُ على خطّ رسومات غير واعية على حواف الصحف والمناديل الورقية في المطاعم وطاولات الرخام في المقاهي. لكن شخصاً أعرفه بشكل عابر في مقهى إل مولينو ممن كان له تأثير كاف في وزارة جعلته يحصل على وظيفة كرسّام فيها دون أن يكون له أي فكرة عن الرسم، اقترح عليّ القيام بعمله وأن نتقاسم مرتبّه بالمقابل. كنتُ في تلك المرّة أقرب ما أكون للفساد، لكنني لم أكن قريباً جداً لدرجة أني ندمت.

نمَى اهتمامي بالموسيقى في ذلك الوقت أيضاً، في وقت كانت فيه أغنيات الكاريبي المشهورة، والتي رضعتها مع حليب أمي، تحظى بالاهتمام في بوغوتا. كان البرنامج الإذاعي ذو الجمهور الأكبر هو “الساعة الساحلية” من تقديم دون باسكوال دليفيكيو، والذي كان بمثابة سفير الموسيقى من ساحل الأطلسي. كان البرنامج يُبثّ في صباحات الأحد وحصل على شعبية كبيرة دفعت بالطلبة من منطقة الكاريبي لزيارة مكاتب الإذاعة للرقص حتى الظهر. تسبب البرنامج بشعبية طاغية لموسيقانا في المناطق الداخلية للبلاد، والمناطق النائية في وقت لاحق، حتى أن هذا منح الطلاب من الساحل وسيلة للشعور بالتقدم الاجتماعي في بوغوتا.

تمثل العائق الوحيد الذي واجهه طلاب الكاريبي في العاصمة في شبح الزيجات القسرية. لا أعرف ما هي السوابق الشريرة التي دفعت بالاعتقاد الساحلي أن فتيات بوغوتا كنّ متساهلات مع أبناء الساحل، فكنّ ينصبنَ لنا الفخاخ في السرر حتى نضطر للزواج منهن. ولم يفعلنَ ذلك بسبب الحب، إنما بسبب آمالهن في الحياة قرب نافذة تطل على البحر. لم أكن لأصدق ذلك. على العكس، فإن أثقل ذكريات حياتي كانت في بيت بغاء خبيث في ضواحي بوغوتا، حيث كنا نتجه لنتخلص من نوبات السكر الكئيبة. في أكثر بيوت الدعارة دناءة، كدتُ أفقد الحياة الصغيرة التي كانت تسكنني عندما ظهرت امرأة عارية كنتُ برفقتها في الممر، وكانت تصرخ مدعيةً أنني سرقت 12 بيزو من جارور ملابسها. فضربني اثنين من البلطجية بشدة، ولم يكتفوا بأن أفرغوا جيوبي من الـ2 بيزو اللتان كانتا في حوزتي بعد الجولة الحميمة التي دمرتني، فجرّدوني من كل شيء بما في ذلك حذائي، بحثاً عن النقود المسروقة في كل إنش. كانا قد قررا عدم قتلي والاكتفاء بتسليمي للشرطة قبل أن تتذكر المرأة بأنها كانت قد غيّرت المكان الذي أخفت فيه نقودها في اليوم السابق، وقد وجدَتها في المكان الجديد دون أن يمسّها أحد.

بعد وقت قصير على تلك الحادثة، اتخذتُ قراراً بعدم إضاعة المزيد من الوقت في كلية الحقوق، لكنني لم أمتلك الشجاعة لمواجهة والديّ بذلك. أخبراني أنهما كانا في غاية الرضا لحصولي على شهادة الثانوية وإنهاء السنة الأولى من كلية الحقوق بنجاح، ولذلك فقد أرسلا لي أخف وأحدث آلة طباعة في السوق كهدية حملها لي شقيقي لويس إنريكي، الذي أتى إلى بوغوتا بحثاً عن وظيفة جيدة في فبراير شباط 1948.

كانت تلك أول آلة طباعة امتلكتها، وكانت كذلك الأقل حظاً، لأنني وفي ذات اليوم رهنتها مقابل 12 بيزو بهدف استكمال حفلة ترحيب برفقة شقيقي وأصدقائي من النزل. في اليوم التالي، وبرفقة الصداع توجهتُ إلى مكتب الرهن لأتأكد من أن آلة الطباعة كانت لا تزال موجودة هناك وأن أختامها بخير، ولأتأكد من أنها ستبقى في حالة جيدة حتى تمطر عليّ النقود التي ستمكنني من فكّ رهنها من السماء. كان لدينا فرصة لا بأس بها بسبب ما دفعه لي صديقي الرسام المزيف، لكننا في اللحظة الأخيرة تراجعنا عن فكّ رهنها.

في كل مرة مررنا أنا وشقيقي قرب مكتب الرهن معاً أو كلاً على حدى، كنا نتأكد من وجود الآلة الطابعة هناك، كانت ملفوفة كالجوهرة في ورق السوليفان مع ربطة من قماش الأورغاندي، ضمن أرفف من الأجهزة المنزلية المحاطة بالعناية. بعد شهر، لم تنجح حسابات مبهجة كنا قد أجريناها تحت وطأة نشوة السّكر، لكن الآلة كانت آمنة في مكانها، وكان يمكن الإبقاء عليها هناك طالما كنا نقوم بدفع الفائدة الربع سنوية.

نُشرت في “ذا نيويوركر” في ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٣.

The post التحدي… غابرييل غارسيا ماركيز عن كتابة قصصه الأولى (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (٢/٢ – ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20240 Sun, 04 Oct 2020 10:12:08 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%af-%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%b4%d9%86%d9%88%d8%a7-%d8%b9%d9%85%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%86-2/ هذا الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول، من هنا.   يصف راز أعمال السطو على الممتلكات العربية من قبِل اليهود بالظاهرة “الفريدة”، لأن اللصوص كانوا مدنيين من اليهود الذين سرقوا جيرانهم المدنيين العرب. “لم يكن هؤلاء أعداء غير معروفين عبر البحار، لكنهم جيران الأمس”.  على أي أساس تدّعي أن هذا كان حدثاً فريداً؟ يخبرنا التاريخ أنه […]

The post الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (٢/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هذا الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول، من هنا.

 

يصف راز أعمال السطو على الممتلكات العربية من قبِل اليهود بالظاهرة “الفريدة”، لأن اللصوص كانوا مدنيين من اليهود الذين سرقوا جيرانهم المدنيين العرب. “لم يكن هؤلاء أعداء غير معروفين عبر البحار، لكنهم جيران الأمس”. 

على أي أساس تدّعي أن هذا كان حدثاً فريداً؟ يخبرنا التاريخ أنه وخلال الحرب العالمية الثانية، قام عامة البولنديون بنهب ممتلكات جيرانهم اليهود الذين عاشوا بجوارهم بسلام لعدة قرون. قد يكون هذا رد على ادعائك بأنه حدث فريد من نوعه. أليست هذه الطبيعة البشرية؟

راز: “إن النهب أثناء الحرب ظاهرة تاريخية قديمة تم توثيقها في الكتب عبر آلاف السنين. لا يتحدث كتابي عن هذه الظاهرة بشكل عام، لكن عن الحالة الإسرائيلية-الفلسطينية العربية. كان من المهم بالنسبة لي أن أؤكد على أن نهب ممتلكات العرب كان حدثاً مختلفاً عن أعمال النهب التي تشهدها الحروب. على سبيل المثال، لم يكن هؤلاء جنود أمريكيون ممن يقومون بالاستيلاء على ممتلكات الفيتناميين. ولا هم ألمان على بعد آلاف الكيلومترات من وطنهم. هؤلاء مدنيون قاموا بسرقة جيرانهم الذين عاشوا في نفس شارعهم. لا أعني بذلك أنهم بالضرورة كانوا على علاقة وثيقة بأحمد أو نور الذين سرقوا ممتلكاتهم، لكن هؤلاء الجيران كانوا جزءاً من النسيج المجتمعي المدني المشترك.

“مثلاً، عرف اليهود من حيفا والمنطقة الذين سرقوا ممتلكات قرابة السبعين ألف عربي في حيفا السكان العرب الذين أغاروا على منازلهم. كذلك كان الحال بالنسبة لمعظم المدن والقرى المختلطة التي تواجدت على مقربة من تجمعات الكيبوتس والمستوطنات. يمتلئ الكتاب بأمثلة تشهد على حقيقة أن اللصوص كانوا يدركون مدى لاأخلاقية تصرفاتهم. إضافة إلى ذلك، عرف العامة أن أغلبية الفلسطينيين لم يشاركوا في أعمال القتال. في الحقيقة وفي معظم الحالات، حدثت أعمال النهب في الأيام والأسابيع التي تلت مغادرة وتهجير الفلسطينيين”. 

لكنها لا تزال ليست الحالة الوحيدة من نوعها.

“بصفتي مؤرخاً، فأنا لا أناصر التاريخ المقارن، ولم أتوصل من تاريخ أعمال النهب إلى الكثير مما يمكن استخلاصه عن الحالة الإسرائيلية.”

راز: ” كان لأعمال النهب أثر، كان ولا يزال مستمراً على العلاقات بين الشعبين الذين يتشاركان هذه الأرض.”

ينتقل كتاب راز من حيفا إلى القدس، حيث استمرت أعمال النهب لعدة أشهر بحسب ما يقول. يقتبس جملة من يوميات موشيه سولومون وهو قائد سرية قاتل في المدينة: “لقد انجرفنا جميعاً بذلك، جنوداً وضباطاً. تملّكنا جميعاً نهم للسيطرة على الممتلكات. فتّشوا كل المنازل إذ عثروا في بعضها على الطعام وفي بعض آخر على ممتلكات ثمينة. أصابتني حالة الجنون أنا كذلك، وبالكاد تمكنت من السيطرة على نفسي. لا حدود لما يمكن للناس القيام به في هذا الصدد. ففي مواقف كهذه يبدأ الانحدار الأخلاقي والإنساني، وهنا يمكنك أن تدرك معنى أن تسود الضبابية على القيم الأخلاقية والإنسانية أثناء الحرب”.

يقول يائير غورين، وهو أحد سكان القدس أن البحث عن الغنائم كان مكثفاً. كان الرجال والنساء والأطفال يتدافعون في كل اتجاه كالفئران المخدرة. تشاجر الكثيرون فوق أكوام القطع للسيطرة على شيء أو أكثر، حتى وصل الأمر لحد إراقة الدماء في بعض الأحيان. 

وصف إلياهو سيلا ضابط العمليات من لواء هاريل كيف تم تحميل آلات البيانو والمقاعد الذهبية والقرمزية اللون في شاحنات تابعة للجيش. “كان ذلك مروّعاً. شاهد المقاتلون جهاز راديو وقالوا: “أنا بحاجة إلى راديو”. ثم وقعت أعينهم على مجموعة من الأطباق وأدوات تناول الطعام. كان الجنود يقفزون على الأسرّة فيما خبأوا الكثير والكثير من الأشياء في معاطفهم.” 

وصف ديفيد ويرنر سيناتور وهو أحد قادة تحالف بريت شالوم الذي يدعو للتعايش بين العرب واليهود في دولة واحدة وأحد كبار موظفي الجامعة العبرية في القدس ما رآه، فيقول: “عندما تمر هذه الأيام في أحد شوارع حيّ رحافيا الراقي القدس، فإنك ترى كبار السن والشباب والأطفال العائدين من القطمون وأحياء أخرى محملين بأكياس مليئة بالقطع المسروقة. تتنوع الغنائم: ثلاجات وأسرّة وساعات وكتب وملابس بما فيها الداخلية منها. يا له من عار جلبه علينا اللصوص اليهود. لقد تسببوا لنا بخراب أخلاقي. من الواضح أن هذا المستوى من الفجور الشنيع ينتشر بين صغار وكبار السن على حد سواء. 

وصف إلياهو أربيل ضابط عمليات من لواء عتصيوني الجنود وهم ملفوفين بقطع السجاد الفارسي الذي كانوا قد سرقوه. في إحدى الليالي، صادف عربة مدرعة مشبوهة فقال: “اكتشفنا أنها مليئة بالثلاجات وأجهزة التسجيل والسجاد وكل ما يخطر على البال”. طلب منه السائق أن يعطيه عنوانه وأخبره أنه سيقوم بإيصال أي شيء يريده إلى منزله. يستكمل أربيل: “لم أعرف ما كان عليّ القيام به. هل أعتقله أم أقتله؟ أخبرته بأن يغادر بعيداً عني فانطلق بسيارته”. بعد ذلك، يستذكر أن جاراً له أخبر زوجته بتوافر ثلاجة بخيسة الثمن في أحد المتاجر. “ذهبتُ إلى المتجر لأجد سائق المدرعة هناك. قال لي: سأعطيك إياها بسعر خاص، مئة ليرة فقط.” فأجبتُه: “ألا تخجل من نفسك؟” فقال: “إن كنتَ غبياً فقط ستظن أن عليّ أن أخجل.”

أحضرتُ بعض الأشياء الثمينة من صفد. وجدتُ لسارة ولنفسي بعض الأثواب العربية المطرزة بغاية الروعة، وقد يكون بوسعهم إجراء تعديلات عليها من أجلنا. كذلك أحضرتُ ملاعق ومناديل وأساور وخرز، إضافة إلى طاولة دمشقية الطراز ومجموعة من أكواب القهوة الفضية المذهلة، وفوق كل هذا، حصلت سارة أمس على سجادة فارسية ضخمة جديدة وذات جمال لم أشهد له مثيلاً من قبل. بفضل هذه القطع، يمكن لغرفة المعيشة أن تنافس تلك التي يمتلكها أغنياء تل أبيب. 

مقاتل بالماخ عن أعمال النهب في صفد

لا يوجد في كتاب راز سوى إشارات هامشية تشير إلى الظاهرة المعاكسة، كأن يقوم العرب بأعمال نهب لممتلكات يهودية. 

كتبتَ في ملاحظة هامشية أن “العرب كذلك سلبوا ونهبوا خلال الحرب.” قد يتسائل البعض عن السبب الذي منعك من سرد أحداث السلب التي تعرضت لها ممتلكات اليهود في الدول العربية بعد أن هرب اليهود أو أجبروا على المغادرة منها. ألم يكن من المناسب أن تشير إلى ذلك؟

“هذا الكتاب وثيقة تاريخية وليس لائحة اتهام. دعني أخبرك بقصة. كنتُ مدعوّاً لإلقاء محاضرة في جامعة أرئيل في الضفة الغربية عقب نشر كتابي عن مجزرة كفر قاسم. في النهاية، سألني أحد الحضور الذي بدا أن ما قلتُه قد أثاره: “لماذا لم تكتب عن المجازر التي ارتكبها العرب ضد اليهود في الخليل عام 1929؟”. عنوان الكتاب هو “أعمال نهب اليهود لممتلكات العرب خلال حرب الاستقلال”، لا “أعمال النهب والسرقة في تاريخ الصراع الإسرائيلي-العربي منذ بداية توافد اليهود إلى البلاد وحتى خطة ترامب”.

“أعتقد أن أعمال نهب ممتلكات العرب أثناء الحرب حالة غريبة وفريدة، على الأقل فريدة بما يكفي لتأليف كتاب عنها. أعتقد أن لأعمال النهب هذه أثراً كان ولا يزال مستمراً على العلاقات بين الشعبين الذين يتشاركان هذه الأرض. بالاعتماد على الكثير من التوثيق، يوضح الكتاب أن جزءاً أصيلاً من الشعب اليهودي شارك في أعمال نهب وسرقة ممتلكات تعود لأكثر من 600 ألف شخص. لا يشبه هذا المذابح والسرقات التي قام بها العرب أثناء أعمال الشغب الفلسطينية. إن أعمال السلب التي تعرضت لها ممتلكات اليهود في البلاد العربية موضوع مدهش بحد ذاته، لكن لا علاقة له بموضوع كتابي، الذي حاولت من خلال قسمه الأول الحديث عن أعمال النهب كظاهرة اتسع انتشارها على مدار عدة أشهر، فيما يشرح جزؤه الثاني كيف تشابكت هذه الأفعال مع النهج السياسي”.

تقول في كتابك: “لا توجد مقارنة بين نطاق النهب الذي ارتكبه العرب وذاك الذي قام به اليهود”، وأن أعمال نهب العرب في معظمها حدثت على يد قادمين من دول مجاورة لا من السكان المحليين. ما هو أساس هذا التأكيد؟

“إنه أمر بسيط. فالسكان العرب هربوا أو هُجّروا في وقت قصير. لم يكن لديهم الوقت ولا القدرة على التصرف بخزاناتهم أو ثلاجاتهم أو آلات البيانو أو الممتلكات في آلاف المنازل والمتاجر التي تركوها وراءهم. هربوا على عجل وقد اعتقد أغلبهم أنهم سيعودون بعد وقت قصير. لقد تم إفراغ البلاد من السكان العرب في غضون أيام، ثم تحرك المدنيون والجنود بسرعة لنهب ممتلكاتهم. 

حوّلت أعمال النهب اللصوصَ إلى متواطئين في الوضع السياسي، فأصبحوا شركاء سلبيين في النهج الذي وضع الأسلوب السياسي التي سعت إلى إفراغ الأرض من السكان العرب، مع اهتمام راسخ بعدم السماح لهم بالعودة

آدم راز

في ذات الوقت، شاركت القوات العربية المقاتلة التي لم يكن أغلبها من السكان المحليين في أعمال النهب، لكن على نطاق مختلف تماماً. لحسن الحظ، كانت مكاسب المقاتلين العرب قليلة جداً. تعرض كيبوتس نيتسانيم الذي سيطرت عليه القوات المصرية لأعمال نهب وتدمير واسعة النطاق. أشيرُ في أماكن معينة أن القوات العربية شاركت في أعمال السلب كما حدث في يافا ومستوطنة عتصيون. حتى القوات البريطانية كانت قد ارتكبت بعض أعمال السرقة وسط اضطرابات الإخلاء المتسرعة، لكن على نطاق مختلف. عليكَ أن تدركَ أن القوات اليهودية سيطرت على طبريا وحيفا والقدس الغربية ويافا وعكا وصفد والرملة واللد وعدد من البلدات الأخرى. في المقابل، سيطر المقاتلون العرب على كيبوتس ياد مردخاي وكيبوتس نتسانيم مستوطنة عتصيون.

“كان عدد سكان حيفا قبيل الحرب، على سبيل المثال، يقارب السبعين ألف يهودي إضافة إلى عدد مشابه من العرب. بعد السيطرة الإسرائيلية على الجزء العربي من حيفا، بقي قرابة الثلاثة آلاف وخمسمئة عربي في المدينة. تعرضت ممتلكات 66 ألف وخمسمئة عربي ممن تركوا المدينة للنهب على يد اليهود، لا على يد الأقلية العربية المهزومة والخائفة آنذاك”.

“ماذا حلّ باللصوص؟” توضح الوثائق الأرشيفية أن عدداً يتراوح بين مئات وآلاف القضايا وجهت الاتهامات ضد اللصوص المشتبه بهم سواءً كانوا من المدنيين أو الجنود. لكن راز يشير إلى أن “العقوبات كانت بشكل عام بسيطة، إن لم تكن سخيفة”، إذ تراوحت بين غرامة وستة أشهر في السجن”. على ما يبدو أن عدداً من وزراء الحكومة تشاركوا وجهة نظر راز وقتها، وذلك بحسب ما تكشفه مراسلات من عام 1948. 

إذ كتب وزير العدل بنحاس روزن: “تعد كل الأحداث التي ارتكبت في هذه المنطقة عاراً على دولة إسرائيل، وما من رد مناسب من قِبل الحكومة”. فيما شكى زميله وزير الزراعة آهارون زيسلينغ أن “أكبر السرقات التي نوقشت في عدد من المحاكمات حصلت على أخف العقوبات.” في حين تساءل وزير المالية أليعازر كابلان “عمّا إذا كانت هذه الطريقة المناسبة لمواجهة السرقات وأعمال السطو”.

“انتقل الأفراد الذين أحضروا مركبات نقل من منزل إلى آخر حيث حمّلوا أثمن القطع: الأسرّة والمراتب والخزانات وأدوات المطبخ والأواني الزجاجية والأرائك والستائر وغيرها من الأدوات. عندما عدتُ إلى المنزل، تملكتني رغبة شديدة لسؤال والدتي عن سبب قيامهم بذلك، فهذه ممتلكات أشخاص آخرين في نهاية الأمر. لكنني لم أملك الجرأة الكافية لأوجه هذا السؤال لها. لطالما سكنني شبح مشهد المدينة الخالية والاستحواذ على ممتلكات سكانها والأسئلة التي بعثها كل ذلك فيّ. 

فوزي الأسمر عن النهب في مدينة اللد.

في أعقاب مناقشة شاملة لأعمال النهب التي دارت في البلاد، يشير راز إلى التداعيات السياسية للحدث، فيكتب: “ليس الأمر متوقفاً على أعمال النهب، فالقصة سياسية”. ثم يتحدث عن “التسامح” الذي أبداه القادة السياسيون والعسكريون تجاه أعمال السطو، وقد بدأ ذلك ببن غوريون، بالرغم من عبارات الاستنكار في الأوساط الرسمية.

علاوة على ذلك، يقول راز أن أعمال النهب “لعبت دوراً سياسياً في تشكيل شخصية المجتمع الإسرائيلي. فقد سُمح بها دون تدخل، وهذه حقيقة تستوجب تفسيراً سياسياً.”

وما هذا التفسير برأيك؟

“كانت أعمال النهب وسيلة لتحقيق سياسة إفراغ البلاد من السكان العرب. بداية وبأبسط المعاني، حوّلت أعمال النهب السارقين إلى مجرمين. ثانياً، فقد حولت اللصوصَ الذين ارتكبوا أعمالاً فرديةً طواعية إلى متواطئين في النهج السياسي الذي سعى إلى إفراغ الأرض من السكان العرب، مع اهتمام راسخ بعدم السماح لهم بالعودة.

قد يكون هذا صحيحاً في بعض الحالات، لكن هل تعتقد أن شخصاً عادياً من المارّة الذين رأوا طاولة جميلة في أحد الشوارع قد فكّر وقال لنفسه “سأسرق هذه الطاولة حتى لا أسمح لمالكيها بالعودة لأسباب سياسية؟”

“لم يكن الشخص الذي قام بسرقة ممتلكات جاره واعياً للعملية السياسية التي كان متواطئاً في تنفيذها والتي تتمثل في منع عودة العرب. لكنك في اللحظة التي تدخل فيها إلى بناية جيرانك وتقوم بإزالة ممتلكات الأسرة العربية التي كانت تعيش إلى هناك حتى قبل يوم مضى، فلا تملك في تلك اللحظة مبرراً لعودتهم خلال شهر أو ربما عام كامل. لهذه الشراكة غير المقصودة بين النهج السياسي واللص الفردي أثر طويل الأمد. فلقد قامت بتعزيز الفكرة السياسية التي تبنّت الفصل العنصري بين الناس خلال السنوات التي تلت الحرب”.

دون تبرير ما قام به اللصوص، برأيك ما الذي كان عليهم القيام به بخصوص هذه الممتلكات؟ هل كان عليهم إرسالها إلى الصليب الأحمر؟ أو ربما توزيعها على اليهود بصورة منظمة؟

“لا يجب أن نتساءل عما كنت أفضل أنا المؤرخ القيام به فيما يتعلق بممتلكات العرب. من الجنون أن أقدم النصيحة بعد مرور سبعين عاماً على ما حدث. يشير الكتاب إلى صناع القرار الذين كان لهم دور شديد الأهمية فيما يتعلق بما كان يحدث في ذلك الوقت، على المستويين الميداني والسياسي. اعتقدوا في ذلك الحين أن موافقة بن غوريون على أعمال النهب كان يهدف إلى خلق واقع سياسي واجتماعي معين، وأنه كان وسيلة بيد بن غوريون لتحقيق أهدافه تلك. يتمثل السبب في هذا النهج في حقيقة أن هناك فرقاً جوهرياً بين أعمال نهب جموع اليهود لممتلكات الفلسطينيين الذين تركوا منازلهم ومتاجرهم ومزارعهم، وبين سيطرة المؤسسات المخولة على الممتلكات. يختلف الأمر على نحو كبير سياسياً واجتماعياً.

“هذا بالضبط ما اعتقده منتقدو بن غوريون: أن أعمال النهب خلقت مجتمعاً فاسداً ووضعت خطوط الفصل التي رُسمت بين العرب واليهود. كان عدد من الوزراء وصنّاع القرار من معارضي أعمال النهب التي قام بها الأفراد، من ضمنهم وزير شؤون الأقليات بخور شالوم شيطريت وزيسلينغ وكابلان. فمن وجهة نظرهم، كان ينبغي تأسيس سلطة واحدة فعالة وذات قوة ملموسة، وذلك لجمع كل الممتلكات والإشراف على توزيعها والتصرف بها. عارض بن غوريون هذه الفكرة وقام بنسفها”.

ما الذي استخلصتَه بشكل شخصي من هذا البحث الشامل الذي قمت به؟ بعيداً عن التوثيق التاريخي وبشكل شخصي، كيهودي وكصهيوني؟

“تشكل أعمال النهب للممتلكات العربية والتآمر على الصمت حيالها أحداثاً يتوجب على المجتمع اليهودي والصهيوني الذي أنتمي أنا إليهما الاعتراف بها والتصالح معها. في هذا السياق، يقول مارتن بوبر في رسالة كُتبت في تلك الفترة: “لا يمكن تحقيق الخلاص الداخلي ما لم نقف وننظر في وجه الحقيقة المقيت”.

The post الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (٢/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (١/٢ – ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20239 Sun, 04 Oct 2020 09:11:52 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%af-%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%b4%d9%86%d9%88%d8%a7-%d8%b9%d9%85%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%86/ ثلاجات وكافيار وشامبانيا وسجاد… دراسة شاملة قام بها المؤرخ آدم راز للكشف عن المستوى الذي وصلت إليه عمليات نهب اليهود لممتلكات العرب أثناء حرب «الاستقلال»، والسبب وراء تصريح بن غوريون بأن “أغلب اليهود لصوص”. كتبها لجريدة هآرتس عوفر أديريت، وهذه ترجمتنا لها. في الرابع والعشرين من يوليو/تموز من عام 1948، وبعد شهرين من قيام دولة إسرائيل، وجّه […]

The post الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (١/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

ثلاجات وكافيار وشامبانيا وسجاد… دراسة شاملة قام بها المؤرخ آدم راز للكشف عن المستوى الذي وصلت إليه عمليات نهب اليهود لممتلكات العرب أثناء حرب «الاستقلال»، والسبب وراء تصريح بن غوريون بأن “أغلب اليهود لصوص”.

كتبها لجريدة هآرتس عوفر أديريت، وهذه ترجمتنا لها.

في الرابع والعشرين من يوليو/تموز من عام 1948، وبعد شهرين من قيام دولة إسرائيل، وجّه رئيس الحكومة المؤقتة ديفيد بن غوريون انتقادات لاذعة لشعب إسرائيل، قائلاً: “اتضح أن معظم اليهود لصوص… أقول هذا متعمداً وببساطة، لأنه للأسف صحيح”. تظهر تعليقات بن غوريون مطبوعة في محضر مخزن في أرشيف اجتماع اللجنة المركزية لحزب ماباي، الذي سُمّي لاحقاً باسم حزب العمل.

“لقد قام أبناء مرج يزرعئيل بالسرقة! الرّواد الأوائل، آباء وأمهات أبناء البالماخ (قوات مقاتلة قبل «الاستقلال»)! لقد شارك الجميع بهذه السرقة. فليبارككم الرب يا شعب موشاف نهلال. هذه ضربة للجميع. أنه لأمر مخزٍ يدلّ على خطأ بنيوي. السرقة والسطو… من أين أتينا بهذا؟ لماذا قام أبناء هذه الأرض من البُناة والمبدعين والرواد بأفعال كهذه؟ ما الذي حصل؟”

“حوّلنا خزانة من خشب الماهوجني لحظيرة دجاج، وكنسنا النفايات بصينية فضية. كانت الأواني الخزفية مرصّعة بالذهب، وكنا نضع ملاءة على الطاولة وفوقها الأواني الخزفية والذهبية. عند الانتهاء من الطعام، كان كل شيء يُجمع و يُؤخذ للقبو. في مكان آخر، وجدنا  مخزناً فيه عشرة آلاف صندوق من الكافيار، هذا ما تمكنوا من إحصائه. بعد ذلك اليوم، لم يتمكن الشباب من لمس الكافيار مرة أخرى طوال حياتهم. من جهة، كان هناك شعور بالعار من هذا السلوك، وشعور بغياب القانون من جهة أخرى. أمضينا اثني عشر يوماً هناك، بينما كانت القدس تعاني من شحّ رهيب. كان وزننا يزداد، إذ قمنا بتناول الدجاج ومأكولات شهية لن تصدقها. في المقر الرئيسي في نوتردام، استخدم البعض الشمبانيا للحلاقة.”

دوف دورون، في شهادته عن عمليات النهب في  القدس.

تم الكشف عن البروتوكول من قِبل المؤرخ آدم راز من خلال بحث قدمه في كتابه الجديد الذي ـ كما يوحي عنوانه- يتطرق لقضية حساسة ومشحونة: “نهب الممتلكات العربية خلال حرب «الاستقلال»” (دار كرمل للنشر، بالتعاون مع معهد عكيفوت لأبحاث الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني؛ باللغة العبرية). كانت المهمة التي قام بها عسيرة، إذ تمثلت بجمع كل المعلومات عن عمليات نهب اليهود للممتلكات العربية خلال حرب «الاستقلال» الإسرائيلية بين عامي 1947 – 1949 لأول مرة، والتي حدثت في مختلف المدن، من طبريا في الشمال لبئر السبع في الجنوب من يافا إلى القدس، مروراً بالقرى والمساجد والكنائس المنتشرة فيما بينها في مجلد واحد. قام  راز بدراسة أكثر من ثلاثين وثيقة أرشيفية في مختلف أنحاء البلاد، مطلعاً على صحف تلك الفترة كما قرأ كل الأعمال السابقة التي تم نشرها حول الموضوع؛ كانت النتيجة محطّمة للآمال.

“الكثير من الإسرائيليين، مدنيين وجنود على حد سواء، كانوا قد تورطوا في نهب ممتلكات السكان العرب” يخبر رازهآرتز. 

“انتشرت أعمال النهب كالنار في الهشيم بين الناس”. وأضاف أن الأمر اشتمل على محتويات عشرات الآلاف من المنازل والمحلات ومصانع المعدات الميكانيكية والمنتجات الزراعية، والمواشي، وغيرها. إضافة إلى آلات البيانو والكتب والملابس والمجوهرات والأثاث والأجهزة الكهربائية والمحركات والسيارات. ركز راز في بحثه على الأغراض التي يمكن حملها في أكياس أو تحميلها في المركبات، وترك التحقيق في مصير الأراضي والمباني التي هجرها أو طُرد منها 700 ألف عربي خلال الحرب.

لم يكن بن غوريون الشخص البارز الوحيد الذي اقتبسه راز. بل وقد تناول هذه الظاهرة أيضاً إسحاق بن تسفي، وهو زميل بن غوريون في كلية الحقوق والذي أصبح لاحقاً الرئيس الثاني لإسرائيل. فإن أولئك الذين شاركوا في أعمال النهب “كانوا يهوداً “محترمين” يعتبرون السرقة أمراً طبيعياً ومسموحاً به”. في رسالة اقتبسها راز موجهة لبن غوريون بتاريخ 2 يونيو/حزيران 1948، وصف بن تسفي الضرر الذي كان يلحق بشرف الشعب اليهودي والقوات المقاتلة بـ”الأمر المروّع”.

وكتب “لا يمكنني الاستمرار في الصمت حيال السرقات، سواء تلك التي تنظمها الجماعات المنظمة أو الأفراد”. “أصبحت السرقة ظاهرة عامة… سيتفق الجميع أن لصوصنا وقعوا على الأحياء المهجورة مثل الجراد على حقل أو بستان”.

احتوت أعمال راز الأرشيفية الشاملة اقتباسات لا حصر لها، مما يجعل قراءتها أمراً مؤلماً. صاغ هذه الاقتباسات كبار وصغار الشخصيات في المجتمع والمؤسسات الإسرائيلية، من أرفع القادة إلى أصغر الجنود.
 

في ملف أرشيفي خاص بالوصيّ على أملاك الغائبين (أي العقارات التي يملكها الفلسطينيون الذين تركوا منازلهم أو غادرواً الدولة بعد تمرير قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين ثاني 1947، والتي صادرتها الحكومة الإسرائيلية)، وجد راز تقريراً للوصي الرسمي دوف شافرير كتبه عام 1949 جاء فيه: “هرب السكان العرب ذُعراً تاركين وراءهم ممتلكات هائلة تقدّر بالمئات والآلاف من الشقق والمحلات والمخازن والورش، وقد تخلوا عن المحاصيل في الحقول والفاكهة في الحدائق والبساتين وكروم العنب، حدث كل ذلك وسط جلبة الحرب… لقد ورّطت كل تلك الإغراءات المادية الشديدة إضافة إلى عواطف الانتقام والتبريرات الأخلاقية الكثيرَ من أبناء المجتمع اليهودي المقاتل في فلسطين قبل قيام إسرائيل والذين يطلق عليهم اسم يشوڤ. تسارعت الأحداث وتضخمت الأحداث الميدانية دون رادع”.

في أرشيف ياد تبنكين في رمات جان، تم العثور على شهادة حاييم كريمر الذي خدم في لواء النقب في البالماخ وأُرسل إلى طبريا لمنع عمليات النهب، فيقول: “مثل الجراد، اقتحم سكان طبريا المنازل، ما اضطرنا إلى ضربهم واستخدام الهراوات لإجبارهم على ترك الأشياء على الأرض.”

يوسف نحماني هو أحد سكان طبريا ممن أسسوا منظمة هاشومير اليهودية المسلحة. في مذكراته التي عُثر عليها في أرشيف المنظمة، يمكن قراءة تفاصيل الأحداث في طبريا خلال عام 1948 إذ يقول: “اقتحم غوغاءٌ من اليهود المحلات التجارية وبدأوا بنهبها. كان هناك العشرات والعشرات منهم. استمرت مجموعات اليهود في سرقة منازل ومتاجر العرب”. 

يقول ناحوم أف وهو قائد الهاغانا في الجزء القديم من مدينة طبريا في مذكراته: “لم يرتدع بعض الجنود كذلك، وشاركوا في ما كان يشبه المهرجان”. ويضيف: “تم نشر الجنود الذين انتهوا للتّو من قتال العرب على مدخل البلدة القديمة”، وذلك بهدف منع السكان اليهود من اقتحام منازل العرب. “كانوا مسلحين عند مواجهة اليهود الذين حاولوا دخول البلدة بالقوة بهدف السرقة والنهب”. على مدار اليوم “تجمّعت الحشود حول الحواجز وحاولت اقتحامها حتى اضطر الجنود لاستخدام القوة في مقاومتهم”.

في هذا الصدد، أشار كريمر إلى أنه “كانت هناك منافسة بين عدد من وحدات الهاغانا الذين وصلوا في عربات وقوارب وقاموا بتحميل مختلف أنواع الممتلكات؛ ثلاجات وأسرّة وما إلى ذلك.” يضيف: “بطبيعة الحال، اندفعت حشود اليهود المتواجدة في طبريا للقيام باقتحام مماثل”. ترك ذلك القبح انطباعاً قاسياً لديّ. فقد لوثّت هذه الأفعال رايتنا وألحقت الضرر بنضالنا ومستواه الأخلاقي. كان أمراً مشيناً! يا له من انحدار أخلاقي.”

كانت هذه الطريقة التي حدثت بها الفظائع لنا، في الهولوكوست وعلى مدار الحرب العالمية وغيرها من المذابح. هنا، كنا نرتكب هذه الأفعال بحق الآخرين. 

ناتيفا بن يهودا

أضاف ناحوم أف في شهاداته: “شُوهد الناس وهم يتجولون بين المتاجر المنهوبة ويأخذون منها كل ما تبقى بعد السرقات المشينة. قمت بدوريات في الشوارع ورأيت مدينة لم تكن قبل وقت قصير مضى سوى مدينة طبيعية، لكنها أصبحت حينها مدينة أشباح منهوبة تعرضت متاجرها للتكسير وأخليت منازلها من سكانها. كانت صورة الناس وهم ينقبون في أكوام بقايا السرقات الكبرى واحدة من أكثر المشاهد المخزية. بوسعك أن ترى مشاهد كهذه في كل مكان. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ كنت أفكر: ما كان ينبغي السماح لذلك بالحدوث أبداً”.

كانت ناتيفا بن يهودا وهي إحدى أبرز مقاتلات البالماخ اللواتي شاركن في معركة طبريا متشددة في وصفها للأحداث. فكتبت: “كانت هذه الصور مألوفة بالنسبة لنا. كانت هذه الطريقة التي حدثت بها الفظائع لنا، في الهولوكوست وعلى مدار الحرب العالمية وغيرها من المذابح. آه كم نعرف هذه المشاهد جيداً. وهنا، كنا نحن نرتكب هذه الأفعال بحق الآخرين. قمنا بتحميل كل شيء في الفان بأيدٍ مرتعشة على نحو رهيب. ولم يكن ذلك بسبب ثقل وزنها. حتى الآن، فإن يديّ ترتجفان جرّاء الكتابة عن تلك الأحداث”.

كانت طبريا التي وقعت في قبضة القوات اليهودية في أبريل/نيسان من عام 1948 أول مدينة مختلطة بين اليهود والعرب سقطت أثناء حرب «الاستقلال». يقول راز أن طبريا كانت نموذجاً مبدئياً مصغراً لكل ما سيحدث في الأشهر المقبلة في المدن العربية والأخرى المختلطة حول البلاد. في إطار بحثه: يقول إنه اكتشف انعدام أي بيانات رسمية عن أعمال النهب ونطاقيها المادي والمالي. لكن كان من الوضع أن مثل هذه الأعمال قد اُرتكبت على نطاق واسع في كل مدينة مشابهة. 

بالفعل، وجد راز شهادات مماثلة لتلك الخاصة بطبريا في وثائق معركة حيفا التي حدثت بعد أيام قليلة، في الحادي عشر والثاني عشر من أبريل/نيسان. بحسب زئيف يتسحاقي الذي قاتل في حي حليسة في المدينة: “بينما كانوا يقاتلون ويبسطون سيطرتهم من جهة، وجد المقاتلون وقتاً لارتكاب أعمال النهب والسلب التي شملت ماكينات الخياطة وأجهزة التسجيل والملابس وغيرها”. 

قام الناس بنهب كل ما تمكنوا من حمله. فتح أصحاب المبادرات المتاجر المهجورة وحملوا البضائع في كل مركبة متوفرة حتى عمّت الفوضى”، يقول صادوق إيشل من لواء كرملي: “إلى جانب الابتهاج بتحرير المدينة والارتياح بعد شهور من الحوادث الدامية، كان صادماً أن نرى تشوق المدنيين لانتهاز فرصة غياب القانون واقتحام منزل الأشخاص الذين حولهم مصيرهم الوحشي إلى لاجئين”.

كتب يوسف نحماني الذي زار حيفا بعد احتلال القوات اليهودية لها: “انشغل الجميع بأعمال النهب، المسنين والنساء بغض النظر عن العمر والمكانة الدينية، ولم يوقفهم أحد. غمرتني مشاعر الخزي والعار حتى أنني شعرت برغبة عارمة في البصق على المدينة ومغادرتها. سيظهر الانتقام منا في تعليم الشباب والأطفال. لقد فقد الناس كل معاني الخجل، إذ تقوض أفعال كهذه الأسس الأخلاقية للمجتمع”.

انتشرت أعمال النهب والسرقة على نطاق واسع ما اضطر المدعي العام موشيه بن بيرتس الذي رافق القوات المحاربة في حيفا على الإدلاء بتصريح في يونيو/حزيران 1948 قال فيه: “لم يبق شيء يُسلب من العرب. هذه مذبحة ببساطة. والقادة…؟ لدى كل منهم الأعذار فيقول أحدهم: لم يتبقَ لي سوى أسبوعين في الخدمة، ويقول آخر: ما من أحد نعتقله.

كانت هناك الكثير من المنازل المدمرة والأثاث المحطم وسط أكوام من الأنقاض. تم اقتحام أبواب المنازل على جانبي الشارع وتبعثرت القطع المنزلية على جوانب الطريق. على عتبة المنزل كان هناك مهد مائل على الرصيف إلى جانب دمية عارية تم تحطيمها بعض الشيء وقد رُميت على وجهها. أين الطفل؟ إلى أي منفى ذهب؟ أي منفى؟

موشيه كرمل، قائد لواء كرملي عن أعمال النهب في حيفا

كان أعضاء غرفة التجارة والصناعة في يشوف قد حذروا من احتمال اندلاع أعمال النهب. “في المستقبل، سنواجه التاريخ الذي سيتناول هذا الأمر”، هذا ما كتبوه في رسالة إلى جهاز القيادة ولجنة الطوارئ قبل قيام الدولة. في أحد المستندات بعنوان “وباء السرقة والنهب”، قال طاقم الخدمة القضائية في الجيش، وهو جزء من جهاز القضاء العسكري: “انتشر هذا البلاد في جميع الوحدات وبين جميع رتب الضباط. اتخذت أعمال السرقة والنهب أبعاداً مروعة فيما ينشغل جنودنا بهذه الأعمال لدرجة تعرضهم استعدادهم للمعارك وتفانيهم في عملهم للخطر”.

كذلك تحدث أعضاء الحزب الشيوعي عن هذا الموضوع، فأشار الحزب في مذكرة إلى الإدارة الشعبية (أعضاء الحكومة المؤقتة) ومقر الهاغانا إلى “حملة نهب وسرقة مخيفة الأبعاد تستهدف أملاك العرب. بالفعل “تم إفراغ غالبية منازل العرب من كل المقتنيات الثمينة، كما سُرقت البضائع من المحلات وأزيلت الآلات من الورش والمصانع”. 

بعد احتلال حيفا، كتب بن غوريون في مذكراته عن “السرقة التامة والكاملة” في حيّ وادي النسناس والتي ارتُكبت على يد ميليشيات الإرغون التي سبق نشاطها تأسيس الدولة وقادها مناحيم بيغن وقوات هاغاناه: “في بعض الحالات، عُثر على أفراد من الهاغاناه بما في ذلك قادة عسكريين وهم يقومون بسرقة الممتلكات”. بعد أيام قليلة وفي اجتماع بين موظفي الوكالة اليهودية، أشارت غولدا مائير إلى أنه وفي “أول يوم أو اثنين بعد احتلال المدينة، كان الوضع في المنطقة التي تمت السيطرة عليها قاتماً. خصوصاً في المنطقة التي سيطرت عليها قوات الإرغون، لم يُترك أي خيط في أي منزل”. 

على طول الطريق، لم يسلم منزل ولا متجر ولا ورشة من سرقة كل المحتويات، أغراض قيّمة وأخرى لا قيمة لها. استحوذوا على كل شيء حرفياً. لم يتركوا سوى انطباع صادم جراء صورة الخراب وأكوام الأنقاض التي يتجول بينها الرجال الذين ينبشون بين الخرق البالية بحثاً عن شيء لا حاجة لهم به. ولم لا؟ هل لدينا أي شفقة؟”

روث لوبيتز، شهادة عن النهب في يافا

كذلك ظهرت التقارير عن عمليات السرقة في الصحافة. في نهاية عام 1948، كتب أرييه نيشر وهو مراسل هآرتز في حيفا: “اتضح أن الشعب اليهودي تعلم مهنة السرقة أيضاً، وذلك بالاحتراف الذي تعود عليه الشعب اليهودي. امتدت حرفية العبرانيين إلى هذا المجال كذلك. فعلاً، لقد ضربت كارثة السرقة حيفا. لقد شاركت كل دوائر المجتمع اليهودي في هذا، بصرف النظر عن المجتمعات العرقية والبلاد التي ينحدرون منها. مهاجرون جدد ومساجين سابقون من سجن عكا ومقيمون قديمون من الشرق والغرب على حد سواء. فأين الشرطة؟” بعد جولة في القدس عام 1948، كتب مراسل لصحيفة معاريف قائلاً: “أحضروا القضاء ورجال الشرطة إلى القدس اليهودية، فلقد أصبحنا كبقية الشعوب.” 

يعمل راز البالغ من العمر 37 عاماً ضمن فريق موظفي معهد عكيفوت (الذي يركز على قضايا حقوق الإنسان المتعلقة بالصراع)، ويقوم بتحرير مجلة تيليم لصالح مؤسسة بيرل كاتزنيلسون. كذلك فهو يساهم باستمرار في كتابة مقالات تاريخية لصحيفة هآرتز. بالرغم من أنه لم يحصل على شهادة الدكتوراة، فإن سيرته الذاتية تضم عدداً من الدراسات التي ترقى أي منها لمستوى الدراسات البحثية التي يقدمها طلبة الدكتوراة، من ضمن ذلك دراسات تخص مجزرة كفر قاسم والمشروع النووي الإسرائيلي وثيودور هرتزل. لقد قام آخرون بكتابة دراسات سابقة عن نهب ممتلكات العرب من قِبل اليهود، لكن من الواضح أن راز هو أول من سخّر دراسة كاملة لهذا الموضوع.

“كان الرجال والنساء والأطفال يتدافعون في كل اتجاه كالفئران المخدرة. تشاجر الكثيرون فوق أكوام القطع للسيطرة على شيء أو أكثر، حتى وصل الأمر لحد إراقة الدماء”. 

يائير غورين

يشير المؤرخ: “على عكس باحثين آخرين ممن كتبوا عن الحرب، فإنني أرى أن النهب كان حدثاً أكبر بكثير مما تم تصويره سابقاً. في الكتاب، أستعرض كمّ الانزعاج الذي شعر به معظم صنّاع القرار فيما يخص النهب والأخطار التي شكلها على المجتمع اليهودي، ودرجة الاختلاف في وجهات النظر بينهم فيما يتعلق بهذه القضية”.

كما يؤكد على وجود ما يسميه بالتآمر للصمت عن هذه الظاهرة. “في النتيجة، اليوم في عام 2020، تفاجأ الزملاء الذين قرأوا الكتاب قبل نشره بمستوى انتشار هذه الأعمال”، يقول راز.
 

من هنا… لقراءة الجزء الثاني من المقالة

The post الجنود و المدنيون اليهود شنوا عمليات نهب واسعة لممتلكات الجيران العرب عام ١٩٤٨ (١/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (٢/٢ – ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20180 Wed, 05 Aug 2020 11:12:49 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a5%d9%8a%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%8a-%d8%a3%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d9%81-%d8%af%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d8%a5%d9%86%d9%82%d8%a7%d8%b0-%d9%88%d8%ab-2/ ضمن "أوراق رمان" البحثية

The post مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (٢/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هذا الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول… هنا.

 

المستند 1

أبريل/نيسان 1948 أمر عسكري يفصل القرى التي ينبغي مهاجمتها من قِبل كتيبة كرملي في شمال فلسطين

ترجمة النص العبري للمستند 1:

“شنّوا الهجوم على قرى الكابري، النهر، البصة، والزيب. دمّروا العصابات والرجال، وخربوا الممتلكات وأجمعوا الغنائم… بعد ساعة الصفر (بداية العملية) بأربع ساعات: أكملوا المهمة في الكابري والنهر والغابسية من خلال إلحاق أكبر قدر من الضرر، ولتنتقل كتيبة الكابري إلى أم الفرج لتدمر القرية. على كتيبة النهر القيام بتدمير قرية التل.”

يحتوي المستند رقم 2 على تعليمات مماثلة لما جاء في المستند الأول، وقد تم إصداره عشيّة عملية حدثت في 20 مايو/أيار 1948.

ترجمة النص العبري للمستند 2:

 “لا تتواجد أي قوات أجنبية في القرى الواقعة بين نهاريا وترشيحا في الوقت الحالي (في إشارة إلى جيش التحرير العربي بقيادة فوزي القاوقجي). سكان القرية مسلحون وجاهزون للقتال. نأمركم بالسيطرة على الأرض وقتل الرجال وتدمير وحرق قرى الكابري وأم الفرج والنهر.”

بالنظر إلى هاتين الوثيقتين في الوقت ذاته، يبدو واضحاً أن القوى شبه النظامية التي تشكلت قبل 15 مايو/أيار اعتقدت أن القرى كانت مدعومة من قبل جيوش أجنبية أو مقاتلين متطوعين، قبل أن يدركوا عشية انطلاق العملية أن عدداً من القرى لن تحصل على دعم مشابه.

اللد، الرملة والناصرة

استمرت عمليات الاستيلاء الصهيونية خلال شهر يونيو/حزيران 1948 متفوقة على وحدات الجنود النظاميين التي كانت قد قدِمت من مختلف مناطق العالم العربي لنجدة الفلسطينيين. في هذه المرحلة من الحرب، تركزت الهجمات على الجليل الأسفل والسهول الداخلية وشمال النقب، إضافة إلى مدينتين فلسطينيتين لم تكونا قد وقعتا بيد الاحتلال بعد، وهما اللد، بما في ذلك بلدة الرملة المجاورة، والناصرة.

تتضارب المعلومات داخل وخارج الأرشيف بشأن ما حدث بالضبط في قلب مدينة اللد والرملة. فبخلاف طرد السكان، هناك الكثير من الأدلة العلمية والصحفية على أن 250 رجلاً وامرأةً وطفلاً ممن كانوا قد لجؤوا إلى مسجد اللد الكبير قد تعرضوا للتنكيل في مذبحة دامية، ما سرّع عمليات إفراغ بلدتين من سكانهما وأفسح المجال لتهويد المنطقة الواقعة بين يافا والقدس بشكل كامل. رشَحت معلومات إضافية عن المجزرة بفضل اعترافات غير مسبوقة أدلى بها بعض الرجال الذين شاركوا في العملية، وذلك بين عامي 2012 و2013، عندما قمتُ أنا والباحث والسينمائي إيال سيفان بعقد مقابلات مع أكثر من ثلاثين رجلاً ممن قاتلوا خلال عمليات الاستيلاء التي جرت عام 1948، وقد عمل اثنان منهما في منطقة اللد.

مقطع من مقابلتهما:

بنيامين روسكي:

هناك شيء واحد، أنني لن أتمكن من إخبارك بما حدث أو ما لم يحدث، فلا أهمية لذلك.

مُجري المقابلة:

ما هو؟

روسكي:

إنسَ الأمر.

مُجري المقابلة:

ماذا عن المذبحة التي حدثت في المسجد؟

روسكي:

أنت قلتَ هذا، لا أنا (ويبتسم). لقد هربوا إلى المسجد اعتقاداً منهم بأنه مكان آمن سيحميهم من القتل. اعتقدوا أن الإسرائيليين لن يدمروا المسجد.

يريشميل خانوفيتز:

هل تعرف سلاح PIAT الذي يستخدمه المشاة ضد الدبابات؟ هل تعرف البازوكا المستخدمة لمهاجمة الدبابات؟ استخدمتُ هذه لإطلاق النار على المسجد الذي كانوا يحتمون بداخله.

مُجري المقابلة:

أي مسجد؟

خانوفيتز:

مسجد اللد. ذهبتُ إلى هناك حاملاً سلاح PIAT الخاص بي وأطلقتُ قذيفة هناك.

مُجري المقابلة:

هل أطلقتَها على المسجد؟

خانوفيتز:

أطلقتُها على ساحته. لم يبقَ أحدٌ على قيد الحياة.

مُجري المقابلة:

ماذا كانت الأوامر؟

خانوفيتز:

ماذا تقصد بماذا كانت الأوامر؟ “أطلقوا النار عليهم بواسطة سلاح PIAT”. لا يمكن لشيء أن ينجوا من هذا السلاح.

مُجري المقابلة:

كم كان عدد القتلى؟

خانوفيتز:

كانوا كُثُر.

مُجري المقابلة:

كم كان عددهم؟

خانوفيتز:

الكثير. فتحتُ الباب وألقيتُ نظرة إلى الداخل ثم أغلقتُ الباب.

مُجري المقابلة:

ماذا رأيتَ عندما فتحت الباب؟

خانوفيتز:

ساحة خاوية وقد تناثرت أشلاء الجميع على الجدران.

مُجري المقابلة:

هل كان هناك الكثير من الأشخاص؟

خانوفيتز:

كانوا كُثُر.

مُجري المقابلة:

بأي أعمار كانوا؟

خانوفيتز:

مَن القادر على تذكّر هذا؟ لكنّ ما رأيتُه كان كافياً.

المستند 2

تعليمات بتاريخ 19 مايو/أيار 1948 للاستيلاء على قرى الكابري وأم الفرج والنهر وتدميرها.

حملت التعليمات باحتلال وتدمير قرى الكابري وأم الفرج والنهر تاريخ 19 مايو/أيار 1948.

كانت الناصرة المركز الحضري الثاني المتصل بسياق نقاشنا الحالي، حيث وقعت في يد الاحتلال في 16 يوليو/تموز 1948. باحتلال الناصرة، أحكمت القوات الإسرائيلية السيطرة على كل المدن في ذلك الجزء من فلسطين التاريخية، والتي أصبحت في 1948 تسمى إسرائيل. كانت الناصرة البلدة الفلسطينية الوحيدة التي خضعت للاحتلال لا للتطهير العرقي، ولدينا وثيقة في غاية الأهمية، وهي برقية تشرح سبب ذلك. فور احتلال البلدة، أرسل القائد العسكري المسؤول برقية لمركز الجيش في تل أبيب وحصل على رد خطي من ديفيد بن غوريون. في الرسالة كتب القائد العسكري: “أعلمني فوراً. هل عليّ التخلص من السكان من مدينة الناصرة؟ في رأيي أن علينا القيام بذلك، مع استثناء الشخصيات الدينية رفيعة المستوى”. يوضح المستند 3 والذي تظهر على حواشيه كتابات بخط بن غوريون إذ يكتب: “لا تتخلص من سكان الناصرة”.

اعتمد سؤال القائد العسكري على الفهم الضمني السائد للعمليات السابقة، على اعتبار أن كل المراكز الحضرية الفلسطينية الأخرى أُخليت من سكانها بالقوة، فقد افترض أن عليه تنفيذ أمر مشابه في الناصرة. لكن قرار بن غوريون بعدم طرد سكان الناصرة من الفلسطينيين جاء نتيجة خوفه من ردة فعل العالم الغربي ذو الغالبية المسيحية. فشلت كتابات المؤرخين عن قرار بن غوريون في إدراك الجزء الأكثر أهمية من البرقية، الذي يتلخص في كوْن سؤال القائد العسكري يدلّ على أن التصرف التقليدي مع سكان البلدات الفلسطينية تمثّل في الطرد، أيّ التطهير العرقي.

تم تخصيص شهري أكتوبر/تشرين أول ونوفمبر/تشرين ثاني من عام 1948 للسيطرة على ما تبقى من فلسطين الانتدابية، باستثناء ما أصبح يُعرف لاحقاً باسم الضفة الغربية وقطاع غزة. خلال خريف 1948، عملت قوات الجيش الإسرائيلي بنشاط لتطهير شرق وشمال البلاد من الفلسطينيين. في ذلك الوقت، أظهر الفلاحون الفلسطينيون مقاومة قوية لسياسات التهجير الصهيونية، ما أدى إلى المزيد من المذابح والأعمال الوحشية. بينما لا أرغب في المقارنة بين فظاعة الجرائم المرتكبة، لكن يبدو أن مشهد الرعب في مجزرة الدوايمة تضمن سلسلة من العمليات الوحشية.

مستند 3

برقية بتاريخ 16 يوليو/حزيران 1948 من القائد الميداني لمقر الجيش في تل أبيب مع رد خطي من غوريون بالتعليمات. “لا تطردوا سكان الناصرة”.

الدوايمة

بعد أن احتلت القوات الإسرائيلية الدوايمة في 29 أكتوبر/تشرين أول 1948، تضمن تقرير شهادة أحد الجنود رسالة إلى صحيفة “عل همشمار” اليومية التي أصدرها حزب اليسار الصهيوني مبام بتاريخ 8 نوفمبر/تشرين ثاني 1948. بالرغم من أن الصحيفة لم تنشر الرسالة يوماً، بقيت الرسالة محفوظة في أرشيف مبام حيث عَثر عليها بيني موريس، والذي قام حينها بإرسال نسخة منها إلى المؤرخ يائير أورون. تسردُ الرسالة تفاصيل مذبحة الدوايمة كما رواها الكاتب على لسان الجندي الذي شارك في العملية.

قام عدد من الباحثين باستخدام الرسالة كمستند يحمل الدلائل القاطعة، حيث يكمن اهتمامهم، المفهوم، بها في الوصف الدقيق للفظاعات التي ارتكبها الجنود. لكن الأمر الذي يحمل أهمية أكبر في رأيي (إقرأ التأكيد في المقطع أدناه) هو أن الرسالة توضح الوحشية واللا إنسانية التي كانت تُمارس بشكل روتيني وشائع لتسهيل تحقيق الهدف المتمثل في “القضاء على السكان الأصليين”.

“عزيزي الرفيق إليازر بيري

قرأتُ مقالة اليوم في عل همشمار عن إجراء يقوم به جيشنا، والذي يتغلب على كل شيء ما عدا الغرائز الأساسية.

شهادة حية قدمها لي جندي ممن تواجدوا في الدوايمة بعد يوم من السيطرة عليها. هذا الجندي منا، فهو مفكر موثوق فيه 100%. أخبرني بما كان في قلبه بسبب حاجة نفسية للبوح بما في روحه فيما يتعلق بوعي فظيع بأن شعبنا المثقف المتعلم قادرٌ على تحقيق هذه الدرجة من البربرية. أخبرني بما كان في قلبه لأن قلوباً قليلة فقط قادرة على الاستماع هذه الأيام.

لم يكن هناك معركة ولا مقاومة ولا مصريين. قام أوائل الجنود الواصلين إلى القرية بقتل بين 80 و100 رجل وامرأة وطفل من العرب. قتلوا الأطفال من خلال سحق جماجمهم بالعصي. لم ينجُ أي بيت من القتلى. كان الجندي الشاهد ضمن سريّة وصلت إلى القرية في الدفعة الثانية من الجيش.

تم حبس الرجال والنساء الذين بقوا في القرية في منازل دون طعام أو شراب، حتى وصل المهندسون العسكريون المكلفون بتفجير المنازل. أمر أحد القادة العسكريين مهندساً بوضع سيدتين مسنتين من العرب في أحد المنازل التي كان سيفجرها وهما بداخله. رفض المهندس العسكري قائلاً أنه لن ينفذ إلا أوامر وحدته العسكرية، فأمر القائد جنوده بوضع النساء داخل المنزل ليتم تنفيذ الجريمة المرعبة.

تفاخر أحد الجنود بأنه اغتصب امرأة عربية قبل أن يطلق النار عليها. أُمِرتْ امرأة أخرى كانت تحمل طفلاً حديث الولادة بتنظيف الساحة التي كان يتناول فيها الجنود طعامهم، وقد قامت بتنفيذ الأمر ليوم او اثنين قبل أن يتم إطلاق النار عليها وعلى رضيعها. يروي الجندي أن القادة رفيعي الأدب والثقافة ممن يُعتبرون أشرافاً في المجتمع تحولوا إلى قتلة محترفين، وأن ذلك لم يحدث في معمعة القتال، بل كان ضمن عمليات تهجير وتدمير ممنهجة، على اعتبار أنه كلما قلّ عدد العرب الباقين كلما كان أفضل. كان هذا المبدأ هو القوة السياسية الدافعة لسياسات التهجير والقتل التي لم يعترض عليها أحد، لا في مستوى قيادة العمليات ولا القيادات العليا. كنتُ أنا على الجبهة بنفسي لمدة أسبوعين وسمعتُ حكايات الجنود والقادة العسكريين المتفاخرين بتفوقهم في القنص والاغتصاب. فاغتصاب عربية كان ببساطة وفي كل الظروف مهمة مشرّفة تحتدم فيها المنافسة.

إننا في مأزق. إن إطلاق صرخة في الصحافة سيكون مساعدة للجامعة العربية، فيما يرفض ممثلونا اتهاماتهم دون أخذها بعين الاعتبار. إن عدم إظهار ردة فعل ما هو إلا تعبير عن التضامن مع خِسّة الروح. أخبرني الجندي بأن مذبحة دير ياسين ليست منتهى الجنون. هل بوسعنا أن نحتجّ على دير ياسين فيما نبقى صامتين عمّا هو أسوأ؟

فورَ معرفته بأمر هذه الرسالة، قام وزير الزراعة في ذلك الحين آهارون زيسلينغ والذي كان عضواً في حزب مبام بإخبار زملائه في الحكومة:

“شعرتُ بأن ما حدث كان يُحدِثُ الجروح في روحي وروح عائلتي وكل واحد منا هنا. لم يكن بمقدوري أن أتخيل الفجوة بين ما كنا نرغب في تحقيقه وبين ما قمنا به فعلاً. بالرغم من أن البريطانيين لم يرتكبوا جرائم النازية، يتصرف اليهود الآن بطريقة مماثلة لما فعله النازيون، ما هزّ جلّ كياني. علينا إخفاء هذه الجرائم عن الجمهور، وأتفق مع ضرورة عدم الإفصاح عن قيامنا بالتحقيقات، لكن أحداث كهذه لا بد أن تخضع للتحقيق”.

تمت الإشارة إلى هذه الرسالة من قِبل توم سيغف وموريس في كتبهما عن الموضوع، لكن عندما ذهب أورون إلى سجلات الأرشيف لقرائتها، اكتشف أنها اختفت.

قائمة يوسف فاشيتز عن الجرائم الوحشية

كان يوسف فاشيتز عضواً في هشومير هتسعير قبل أن ينضم في وقت لاحق إلى البالماخ، وهي قوات العاصفة الخاصة بعصابات الهاغاناه. عمل فاشيتز في القسم العربي لهشومير هتسعير. في أوراقه الشخصية، يشيرُ نصف صفحة في وثيقة لا تحمل أية تواريخ إلى عملية حيرام التي استمرت لثلاثة أيام، ووصف خلالها قيام الجيش الإسرائيلي باحتلال الجليل الأعلى في أواخر شهر أكتوبر/تشرين أول 1948. يتحدثُ المستند عن صفصاف فيقول: “أُلقي القبض على 52 رجلاً رُبطوا ببعضهم البعض، قبل أن يتم إطلاق النار عليهم في حفرة. كان عشرة منهم على قيد الحياة عندما رميوا في الحفرة. جاءتْ النساء يطلبن الرحمة. تمّ العثور على جثث ستة رجال متقدمين في السن. كان هناك واحداً وستين جثة، وثلاث حالات اغتصاب إحداها لفتاة في 14 من عمرها، إضافة إلى أربعة رجال قُتلوا بالرّصاص، وقد قُطعت أصابع أحدهم بالسكين طمعاً في خاتمه”.

في هذا المستند، يقتبس فاشيتز مباشرة من ملاحظات أحد زملائه في مبام، وهو آهارون كوهين الذي أدين لاحقاً بتهم التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي. أخذ كوهين ملاحظاته خلال اجتماع مع يسرائيل غاليلي وهو أحد أعضاء عصابة صهيونية أسسها بن غوريون وعُرفت باسم “اللجنة الاستشارية”، والتي كانت خططت ونفذت التطهير العرقي عام 1948. يظهر الاقتباس الكامل في عدد من المصادر، بما في ذلك كتاب “نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينين” لبيني موريس. ظهر وصفٌ مماثل للمجزرة التي وقعت في صفصاف في مذكرات يوسف نحماني التي ظهرت على صفحات هذه المجلة في مقالة محفوظة لبيني موريس قبل خمسة وعشرين عاماً.

لدى فاشيتز كذلك بنداً خاصاً بقرية الجِش، يذكر فيه:

“400 من السكان، امرأة تحمل طفلاً وكلاهما أموات. أربع نساء ميتات. 11 مقاتلاً ميتاً.” 

كانت الجش قرية في إقليم صفد قاومت بدايةً محاولات الاستيلاء كغيرها من القرى المجاورة. كانت واحدة من القرى الوحيدة التي نجت بعد انتهاء عملية حيرام. بعد أسبوع على نهاية العملية، صدر قرار بتطهير كل القرى المحاذية للحدود مع لبنان عرقياً، لكن الصداقة التي جمعت بعضاً من كبار السن في قرية الجش والزعماء الصهاينة خصوصاً إسحق بن تسفي الذي أصبح فيما بعد رئيساً لإسرائيل حال دون حدوث ذلك، ما حمى القرية من التهجير. لكن قرى حدودية أخرى مثل النبي روبين وتربيخا وسروح والمنصورة وإقرت وكفر برعم تعرضت للتدمير الكامل. في قرية عين الزيتون في الإقليم ذاته، والتي تحتضن أحداث رواية إلياس خوري “باب الشمس”، قام الجنود الإسرائيليون بنزع أقراط النساء عن آذانهن. من المثير للاهتمام بأن قائمة فاشيتز لا تشتمل على بعض الفظاعات الأكثر بشاعة والتي تذكرها مصادر أخرى عديدة. تعدّ الفظاعات التي ذكرها هنا من ضمن أبشع الجرائم بالنسبة له:

كفر برعم:

المشهد ذاته. أقراط وآذان. قتلى دون سبب.

سعسع:

(قرية في الجليل الأعلى، تم تدميرها) حالات قتل خصوصاً ضمن الأكبر سناً.

عيلبون:

(قرية في الجليل الأسفل، في إقليم طبريا) ألف شخص. استقبل الجيش المستسلمين. مذبحة. سرقة الطعام. بدأ تهجير سكان القرية بإطلاق النار. قُتل 30 شخصاً. أمٌر بطرد سكان القرية. وصلت الإشاعة إلى ما بعد الحدود مع لبنان.

الملّاحة:

اثنان وتسعون رجلاً مسناً وطفلاً وامرأة، تم تفجير المنزل بهم.

مشهد:

(قرية في الناصرة) رغبنا في الاستسلام أثناء تواجد فوزي قاوقجي، قائد قوات التحرير العربية التي تطوعت لتقديم المساعدة للفلسطينيين. أخذ بثأره والآن انتقمنا نحن.

بينما تأتي عدة مصادر على ذكر بعض من هذه الفظاعات، فإنها دائماً ما تُذكر في سياق جرائم الحرب التي ارتكبت في ذروة اشتعال المعركة. لكن وكما ذكرتُ سابقاً في هذه المقالة، فإن ارتكاب هذه الأعمال كان القاعدة لا الاستثناء.

كانت المؤرخة الإسرائيلية تامار نوفيك أول من عثر على قائمة فاشيتز في أرشيف ياد ياري قبل إغلاقه. كنا أنا وموريس على عِلم بهذه الوثيقة، حيث كنتُ أنا مديراً لمعهد السلام في ياد ياري قبل سنوات. شاركَتْ نوفيك النتائج التي توصلت إليها مع معهد عكيفوت، وكانت ترجمتُها للمستند 4 جزءاً من تقرير نشرته هآرتز سبق وأشرتُ إليه. عندما عادت نوفيك إلى الأرشيف وسألت عن الوثيقة، تم إخبارها بأن أمراً صدر من وزارة الدفاع يفيد بمنع الباحثين من الاطلاع عليه.

المستند 4

نصف صفحة من أوراق يوسف فاشيتز الشخصية تأتي على تفاصيل الفظاعات التي ارتكبت في عملية حيرام في قرى الجليل الأعلى: صفصاف، الجِش، كفر برعم، سعسع، عيلبون، صلحة، ومشهد.

المجدل عسقلان

كانت آخر منطقتين لم تخضعا للسيطرة الصهيونية في نوفمبر/تشرين ثاني 1948 في النقب، خصوصاً في خاصرته إلى الشمال الغربي، وهي التي شكّلت كذلك الساحل الجنوبي للبلاد الممتد بين يافا وغزة والجليل الأعلى. كما ذكرتُ سابقاً، فإن أبناء مناطق الريف في فلسطين كانوا قد بدأوا بمقاومة الهجمات الصهيونية، بما في ذلك محاولاتهم للعودة إلى قراهم التي سبق وغادروها. أدت محاولات العودة “غير المصرح بها” هذه إلى وضع خطط لعمليتي تطهير عرقي جديدتين.

المستند 5

الأمر رقم 40 بتاريخ 25 نوفمبر/كانون أول 1948 يقدم تفاصيلاً على كيفية طرد اللاجئين الفلسطينيين من قرى قطاع غزة التي عادوا عليها بعد التهجير الأول.

يهتم المستند 5 والذي يحمل تاريخ 25 نوفمبر/تشرين ثاني 1948 بعودة اللاجئين إلى بلدة المجدل عسقلان والقرى المحيطة بقطاع غزة. لهذه القرى صلة خاصة بسياق تظاهرات العودة التي تحدث أسبوعياً قرب السياج الحدودي في غزة منذ مارس/آذار 2018. المتظاهرون قرب السياج هم في غالب الأحيان أبناء الجيل الثالث من اللاجئين المنحدرين من هذه القرى، والذين يطالبون بحقهم في العودة إلى منازل أسرهم فيها:

دوركُم هو طرد اللاجئين العرب من هذه القرى ومنعهم من العودة من خلال تدمير القرى. 

الطريقة: (بعد) تمشيط قرى الخصاص، جيرة، خربة خزعة، بعلين، الجية، بيت جرجة، هربيا، ودير سنيد، قوموا بجمع السكان وحمّلوهم في السيارات واتركوهم في غزة. يجب إزالتهم من هذه المناطق ووضعهم في ما وراء الخطوط الإسرائيلية في بيت حانون.

افصلوا بين اللاجئين والسكان المحليين في المجدل وتخلصوا من اللاجئين.

احرقوا القرى واهدموا المنازل الحجرية.

توضح بقية المستند تفاصيل لوجستية تتعلق بالمهمة. لا يمكن العثور على هذا المستند في الأرشيف بعد اليوم.

في شهادة أدلى بها لمنظمة زوخروت/ذاكرات، وهي المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية التي تعمل على تعزيز مفهومي المساءلة والإصلاح فيما يتعلق بمظالم النكبة المستمرة، يأتي جندي من البالماخ ممن شاركوا في جهود إخلاء السكان الأولى والثانية على ذكر حرق القرى بشكل خاص، كأسلوب يرمي إلى إفراغ القرى من السكان. في شهادته، يقول أمنون نيومان: 

“أصبحت القرى بعد احتلالنا لها مساحات خالية. مساحات يمكنك استكشافها. لم ندخل القرى بقصد البقاء فيها، إنما كان الهدف إفراغها من سكانها. بحلول الصباح، لم يبقَ أحد هناك. قمنا بحرق منازلهم ذات الأسطح المصنوعة من القش.”

من يتحمل المسؤولية عن أفعال كهذه في الفترة الممتدة بين فبراير/شباط وديسمبر/كانون أول 1948؟

لا يملك محاربا البالماخ القدامى خانوفيتز ويهودا كيدار الكثير من الشكوك. في المقطع التالي، يشير خانوفيتز إلى تهجير الفلسطينيين من شرق فلسطين:

مُجري المقابلة:

هل كانت خطة إيغال آلون المتعلقة بقرى شرق الجليل أن يتم طرد الجميع؟

خانوفيتز:

(بعد تردد) كانت تلك خطة بن غوريون كذلك في نهاية الأمر.

مُجري المقابلة:

ماذا تقصد؟

خانوفيتز:

كنا نسمع أن بن غوريون أعطى الأوامر بإبعادهم. 

أما كيدار، فهذا ما قاله عن عمليات التهجير أثناء النكبة:

كيدار:

كان الأمر الذي أعطانا إياه قائدي زفيكا بالطرد.

مُجري المقابلة:

زفيكا زامير؟

كيدار:

نعم، حصل زفيكا زامير على الأمر من بن غوريون، أي أعلى مركز للسلطة، بأن لا نقتل. لم تكن هناك نية للقتل. لكننا قتلنا أولئك الذين رفضوا المغادرة.

مُجري المقابلة:

إذن، كان الأمر بأن يتم التعامل مع رافضي المغادرة بـ…

كيدار:

نعم نعم. كان علينا “الاهتمام بأمر” كل من يرفض مغادرة المكان. لم نكن هناك لجمع الضرائب منهم، بل لبسط السيطرة على أرض الغرباء. كان هذا أساس تفكيرنا. أن نرث الأرض، وهذا ما فعلناه. إن كل من يرث شيئاً يجرّد الآخرين منه. لهذا السبب، لم يُسمح لهم بالعودة في أي مكان شمالاً ولا جنوباً.

في ضوء شهادات كهذه من المحاربين القدامى من حرب 1948 الرامية إلى تغليف الحقيقة والتي تتلهف إسرائيل إلى إخفائها والتغطية عليها، لا يوجد بديل عن الدليل التوثيقي المتمثل في الأوامر العسكرية المحددة، ومواد أخرى لا يمكن الوصول إليها بعد الآن.

ليست الوثائق المقدّمة هنا إلا غيضاً من فيض، فهناك الآلاف إن لم نقل عشرات الآلاف من الوثائق الموجودة بحوزة الناشطين والصحفيين والباحثين.

في حين قد تتوفر نسخ وصور عن الوثائق الأصلية، لتوفر أدلة دقيقة وتفصيلية عن التطهير العرقي الذي حصل في فلسطين عام 1948. إن الاستمرار في جمع ومشاركة ونشر وثائق كهذه هو جزء مهم في النضال ضد إنكار النكبة ومحاولة عدم تسييس المسألة الفلسطينية.

تزداد أهمية كل هذا في ضوء الكشف عن خطة إدارة ترامب مؤخراً عن “صفقة القرن” والتي تتجاهل بشكل صارخ الرواية التاريخية التي تشرح بوضوح حقيقة النكبة “المستمرة” كمَظلمة لا أخلاقية وجريمة ضد الإنسانية.

الترجمة كاملة بصيغة PDF

The post مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (٢/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (١/٢ – ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20179 Wed, 05 Aug 2020 11:05:30 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a5%d9%8a%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%8a-%d8%a3%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d9%81-%d8%af%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d8%a5%d9%86%d9%82%d8%a7%d8%b0-%d9%88%d8%ab/ ضمن "أوراق رمان" البحثية

The post مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (١/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نشرت في Journal of Palestine Studies ربيع ٢٠٢٠، وهذه ترجمتنا لها.

يقوم هذا الملف الخاص بدراسة منع الوصول إلى وثائق تتعلق بالنكبة في الأرشيف الإسرائيلي، كما يشجع على النظر إلى هذا المنع في ضوء المحاولات الإسرائيلية والأمريكية التي زادت حدّتها مؤخراً، الهادفة إلى نزع الصيغة السياسية عن القضية الفلسطينية ولرفع الشرعية عن الرواية الفلسطينية بمجملها، خصوصاً فيما يتعلق بعام 1948.

تكمن أهمية هذه الوثائق في كشفها عن الطبيعة المنظمة للتطهير العرقي الذي حصل في فلسطين عام 1948، من حيث التخطيط والتنفيذ. بالرغم من أن الدارسين قاموا على مدار سنوات عدة بنسخ وتصوير العديد من هذه الوثائق، إلا أنها لم تعد متاحة للعامّة ولا للباحثين، ما يجعل من تجميع وحفظ هذه الوثائق في أرشيف رقمي الطريقة الأمثلة للاستجابة الأمثل لهذه المحاولة الرامية للتغطية على الجرائم التي اُرتكبت بحقّ الشعب الفلسطيني عام 1948.

في بداية الثمانينات من القرن الماضي، قام عدد من الباحثين الإسرائيليين الذين عُرفوا باسم المؤرخين الجدد بنشر عدد من المقالات المتخصصة التي تتحدى الرواية الإسرائيلية الصهيونية عن حرب 1948، والتي أدت إلى سلب وتهجير ثلاثة أرباع المليون من الفلسطينيين وتدمير أكثر من خمسمئة قرية وبلدة محلية في المنطقة التي عُرفت باسم فلسطين الانتدابية. 

كان مؤرخون فلسطينيون قد كتبوا باستفاضة بالفعل عن أحداث النكبة قبل ذلك، لكن لم يسبق حتى ذلك الحين أن دُعمت روايتهم بمواد أرشيفية رُفعت عنها السرية.

أصبحت الدراسة التاريخية ممكنة بفضل هذه المواد التي تشكل المساهمة الأساسية لجهد المؤرخين الجدد التأريخي، والذي تمكن وبشكل قاطع من تفنيد الادعاء الذي تأسست عليه الدعاية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين تركوا منازلهم طوعاً خلال الحرب التي تسميها إسرائيل بـ”حرب الاستقلال”، وذلك ليُفسحوا المجال للجيوش العربية التي كانت تتأهب لنُصرتهم، وبالتالي فقد جعلوا من أنفسهم لاجئين.

كانت الوثائق التي قامت عليها عمليات التأريخ الجديدة موجودة في عدة ملفات أرشيفية، أهمها أرشيف الهاغاناه التاريخي، وأرشيف بن غوريون، وأرشيف الجيش الذي يُعرف كذلك باسم (أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي)، إضافة إلى أرشيف ياد ياري الذي كان له أهمية بالغة في أعمال المؤرخين الجدد الأولى، خصوصاً أن الجيش ما كان ليرفع السرية عن الوثائق العسكرية ذات الصلة حتى أواخر التسعينات. 

يشتمل أرشيف ياد ياري على وثائق حزب مبام وحركة الشباب الخاصة به (هشومير هتسعير)، التي قام أعضاؤها بتشكيل نواة البالماخ، إحدى وحدات القتال التابعة للهاغاناه والتي ترأست العمليات العسكرية بين عامي 1947 و1949. 

لكون مبام شريكاً أساسياً في الحكومة المؤقتة التي تشكلت في الرابع عشر من مايو/أيار 1948 وفي الحكومة الإسرائيلية الرسمية التي تشكلت بعد الانتخابات الأولى في يناير/كانون الثاني 1949، فإن أرشيف ياد ياري يحتوي على نسخ من مذكرات اجتماعات الحكومة الإسرائيلية الأولى التي ما كانت لتتوفر بطريقة أخرى، إضافة إلى إتاحته وثائق لا تسمح سجلات أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ولا الهاغاناه بالوصول إليها. 

قدم المؤرخون الفلسطينيون ممن يتقنون اللغة العبرية إسهاماتهم الخاصة، وألقوا الضوء على أهمية هذه الوثائق في إعادة صياغة سرقة عام 1948. فقد كشفت أعمال مؤرخين فلسطينيين عن مدى وحشية الصهاينة كما وضّحت النضال ضدها، كأعمال نور مصالحة، مصطفى كبها، مصطفى العباسي، صالح عبدالجواد، عادل مناع، وآخرين.

ينظر الكثير من المؤرخين للنكبة على أنها كارثة بُنيوية (وهو سلوك تقليدي لمشاريع الاستعمار الاستيطاني مثل الصهيونية) تظهر فيها سياسات التطهير العرقي الإسرائيلية سواء في عام 1949 أو عام 2020 بصفتها جزءاً لا يتجزأ من نفس التاريخ والمأساة. لا يتم التثبت من أحداث النكبة سواءٌ أرّخها باحثون فلسطينيون أو غيرهم من خلال وجود وثائق في الأرشيف الإسرائيلي، بل أن قيمة هذه الوثائق تتمثل في كشفها عن طبيعة العنف المتجذرة في المشروع الصهيوني، لا بصفته حادثاً عابراً، وكذلك في دورها في نزع صفة المصداقية عن الخطاب الإسرائيلي الرسمي حول تأسيس الدولة. 

بالنظر إلى الدور التأسيسي للنكبة في الهوية والطموح الفلسطينيين، وفي طبيعتها المستمرة الظاهرة في حديث الفلسطينيين عن “النكبة المستمرة”، لا شك أن أجيال المستقبل من الباحثين والصحفيين والدارسين سترغب في العودة لزيارة هذا التوثيق الغنيّ بالمعلومات.

إلا أن زيارة هذه المواد الأرشيفية تزداد صعوبة باستمرار. على صفحات العدد الأخير من هذه المجلة، قام سيث أنزيسكا بتقديم تحليل من خلال جهد استقصائي مشترك بين هآرتز والمنظمة الإسرائيلية للبحث والتوثيق وحقوق الإنسان (عكيفوت)، كشف فيه عن مصاعب متعمدة وُضعت لتُعرقل الوصول إلى سجلات الأرشيف في إسرائيل، نتيجة للسياسة الرسمية المتمثلة في سحب وثائق أرشيفية محورية من المجال العام. تضمن ذلك التحقيق الاستقصائي وثيقة نشرتها عكيفوت من خمس وعشرين صفحة، فصّلت فيها سجل الأعمال المتلاحقة التي ارتكبتها القوات الصهيونية في شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار 1948، والتي توضح أن التهجير والتهديد كانا أسلوبين متعمدين وظّفتهما القوات الصهيونية للدفع بأعداد كبيرة من الفلسطينيين للهجرة.

بالإضافة إلى تقديم ستة وثائق إسرائيلية، لم يعد بالإمكان الوصول إلى النسخ الأصلية منها بالرغم من نزع السرية عنها، فإن ملف التوثيق الخاص هذا هو لهدف ثلاثي الأبعاد، يرمي إلى تحليل الأسباب وراء القمع المكثف الذي مارسته دولة إسرائيل ضد البحث المستند إلى سجلات الأرشيف، وإلى تقييم تبعات هذه السياسة على كل من العمل البحثي المستقبلي والنضال الأوسع من أجل العدالة في فلسطين، إضافة إلى عمله على تحدي هذه الحقيقة الجديدة التي تعيشها ملفات الأرشيف، إن صح التعبير، من خلال خلق ما سأُطلق عليه اسم (الأرشيف التوضيحي للنكبة).

تدمير الأرشيف

كما ورد في تقرير هآرتز عام 2019 عن التحقيق الاستقصائي الذي أجراه مركز عكيفوت، فإن تقييد إسرائيل لجهود الوصول إلى المواد الأرشيفية هو جزء من عملية رسمية تزعمها جهاز مالماب، وهو قسم الأمن السري في وزارة الدفاع. هذه المنظمة التابعة لوزارة الدفاع والتي تُسمّى وفقاً للاختصار العبري مالماب هي وحدة سرية تعد أنشطتها وميزانيتها في غاية السرية، ولم يُكشف عن وجودها إلا من قِبَل المؤرخ الإسرائيلي أفنر كوهين، وذلك ضمن جهوده لإلقاء الضوء على سياسات إسرائيل النووية.

على مدار التحقيق، وجدت هآرتز أن هييل حوريب الذي أدار مالماب لعقدين حتى نهاية 2007 كان قد بدأ العمل على إزالة مستندات من الأرشيف عندما ترأس القسم السري، وهذه ممارسة تستمر حتى اليوم على يد خلفائه. (كان حوريب أيضاً مسؤولاً عن منع كوهين من نشر أو الوصول إلى المواد الأرشيفية التي كان بحاجة لها في بحثه المتعلق بترسانة إسرائيل النووية.) في حديثه مع الصحيفة، زعم حوريب أن تدمير الأرشيف تمّ بحجة أن الكشف عن وثائق النكبة، وبحسب كلمات الصحيفة، “سيولد الاضطرابات في المجتمع العربي في البلاد”.

يثير هذا الرأي السخرية لسببين، الأول هو أن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل والتي يشير المسؤولون الإسرائيليون إلى أبنائها باسم “عرب إسرائيل” لطالما كانت ومنذ منتصف الثمانينات من ضمن أنشط المجموعات وأكثرها وعياً فيما يتعلق بالانخراط في أنشطة حماية ذكرى النكبة. تمكنت جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين التي تمثل المهجّرين الفلسطينيين داخل إسرائيل بالتعاون مع ناشطين وباحثين فلسطينيين آخرين من المحافظة على التبني الجمْعي للرواية الفلسطينية لأحداث عام 1948 دون الحاجة إلى الوثائق الإسرائيلية للتأكيد على تجاربهم الخاصة فيما يتعلق بالتطهير العرقي. السبب الثاني هو أن هآرتز أشارت إلى أن الكثير من الوثائق التي أُعيدتْ لها صفة السرية قد تم نشرها بالفعل، خصوصاً على يد المؤرخين الجدد. تمثل ردّ حوريب على الصحيفة بأن وثائق كهذه قد “تهدد مصداقية الدراسات الخاصة بتاريخ مشكلة اللاجئين”، وذلك بحسب تعبير الصحيفة.

تُدرك حركات الاستعمار الاستيطاني كالصهيونية المعنى الذي يعرّفه باتريك وولف باسم “القضاء على السكان الأصليين”. في وجود إسرائيل بصفتها دولة استعمار استيطاني، هناك توقع ضمني بالحاجة إلى إخفاء الأدلة على ارتكاب أفعال التصفية، خصوصاً في زمن لا يستسيغ الاستعمار حتى في سياق دولة تزعم أنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” وأنها “دولة يهودية ديمقراطية”. وبالتالي، فإن فعل التصفية لا يتجلى في نكبة 1948 فقط، بل كذلك في محوها من الأرشيف. بحسب وولف، فإنه يمكن تصنيف كل أفعال التصفية على أنها إبادة، كما حدث في أمريكا الشمالية وأستراليا. في الجزائر وجنوب أفريقيا مثلاً، تم التخلص من السكان الأصليين من خلال مصادرة الأرض والتطهير العرقي ونظام الفصل العنصري. في فلسطين كذلك، فإن أفعال التطهير العرقي التدريجية بدأت في منتصف عشرينات القرن الماضي، إذ كانت الوسيلة الأساسية المتبّعة لإنجاز “القضاء على السكان الأصليين”.

يُعدّ تعليق وولف بأن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثاً إنما بنية تأسيسية بالغة الأهمية في النقاش الحالي، إذ يكشف عن العنف المتأصل الذي تعيه أيدولوجيا الاستعمار الاستيطاني على مدار تاريخ الصهيونية، والأفعال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في وقت لاحق. بمصطلحات أكثر دقة، فإن الرؤية بإخلاء فلسطين من السكان العرب غذّت تحولات العنف المألوفة في تاريخ البلاد المعاصر، والتي تتمثل في التطهير العرقي خلال 1948، وفرض الحكم العسكري على مختلف مجموعات السكان الفلسطينية على مدار السبعين عاماً الماضية، إضافة إلى الهجوم على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1982 والعمليات العسكرية في الضفة الغربية عام 2002 وحصار غزة ومشاريع التهويد الجارية في كل مكان داخل فلسطين التاريخية، وهذه الأمثلة ليست إلا نقطة في بحر الممارسات الإسرائيلية العنيفة.

لايزال هذا التصوير غير مقبول لدى التيار السائد في الأوساط الأكاديمية أو الإعلامية، بالرغم من عدد كبير من الدراسات البحثية التي تصنف الحركة الصهيونية كحركة استعمار استيطاني، بما في ذلك صحيفة دراسات الاستعمار الاستيطاني الحديثة نوعاً ما، والتي تمكنت وإن كان على الورق من نشر عددين متخصصين بموضوع فلسطين.

بشكل عام، فإن قضية إسرائيل/فلسطين لا تزال تعتبر صراعاً بين حركتين قوميتين تتساويان في المسؤولية عن العنف: واحدةُ ذات نظام ديمقراطية غربيّ الأسلوب تلجأ في بعض الأحيان فقط إلى العنف المفرط، فيما أن الثانية هي مجتمع عربي ذو ثقافة عنيفة أصيلة.

في السنوات الأخيرة، أدت عدة أحداث جديدة بما في ذلك ظهور حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS والتحول اليميني المتطرف في النظام السياسي الإسرائيلي، وصعود جيل جديد من السياسيين الغربيين المناصرين للفلسطينيين، أدت كلها إلى أن يَعتبر أرفع المسؤولين في إسرائيل أن الذاكرة التاريخية والأعمال التأريخية أضحت أدوات يمكنها أن تستخدم كأسلحة ضد أي جهود إضافية لتعرية صورة إسرائيل التي تتدهور بالفعل في المجتمع الدولي. 

خلال ما أسمّيه بـ “عقد نتنياهو” الممتد بين 2009 و2019، تمكنت إسرائيل من إدارة أرضية التحولات هذه من خلال نزع الصيغة السياسية عن قضية فلسطين، بأسلوب مشابه لما قامت به الإدارة الأمريكية الحالية من خلال “صفقة القرن” التي أطلقتها على اعتبار أن فلسطين غير مسيسة سوف لن تتمكن من استخدام رواية تاريخية لدعم المطالب السياسية بالحصول على دولة، أو تقرير المصير، أو الحق بالعودة، وبالتالي فإن الخطة التي كشف عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2020 تصوّر القضية الفلسطينية كمشكلة اقتصادية واجتماعية يمكن دعمها بالتمويل المالي أو تسكينها بهدوء. إن تدمير الأرشيف من خلال إزالة المواد التي رُفعت عنها السرية ما هو إلا جزء من نفس الاستراتيجية للتخلص من المسألة الفلسطينية برمتها، وقد أقدمت إدارة ترامب بالفعل على الكثير من خطواتها، كإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وقطع التمويل الأمريكي عن منظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، والاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

الأبحاث المستقبلية عن النكبة

تشكل الوثائق الخاصة بالنكبة والتي يُزعم أنها تدمّر سمعة إسرائيل، وهي التي بنى على أساسها المؤرخون الجدد أعمالهم في الثمانينات، أقل من 2% من الوثائق التي رُفعت عنها السرية في إسرائيل، وهو رقم ضئيل بكافة المقاييس، هذه الوثائق هي ما يتم العمل على إخفائه الآن. بسبب هذا، فمن المنطقي أن نستخلص أن الجيل القادم من المؤرخين لن يتمكن من الوصول إلى مواد أرشيفية جديدة ولا زيارة الأعمال التي أشار إليها أسلافهم، على الأقل خلال المستقبل القريب. تعمل التحديات البحثية للصياغة المهيمنة والسائدة للصراع بصفتها صراعاً قديماً بين حركتين قوميتين، تعمل على ترسيخ النكبة بصفتها جريمة ضد الإنسانية، وهو تصور ترفضه إسرائيل والمدافعون عنها. ولكن وفي ضوء احتمالية المنع الكامل من الوصول إلى الأرشيف مستقبلاً، هل لدينا اليوم ما يكفي من الوثائق التي تعد أدلة دامغة على كون النكبة فعل تطهير عرقي ومحاولة لتطبيق “القضاء على السكان الأصليين”؟

يشهد اللاجئون الفلسطينيون على إفراغ فلسطين من سكانها، وهم بالتأكيد ليسوا بحاجة إلى مؤرخي إسرائيل الجدد لمعرفة ما إذا ما كانوا هم أو أسلافهم قد تعرضوا للتطهير العرقي، كما أننا لا نحتاج إلى وثائق أرشيفية لتخبرنا بأن مئات من القرى تعرضت للتدمير والدفن تحت المستوطنات اليهودية الجديدة فيما يسمى الآن بالغابات الوطنية. كان التاريخ الفلسطيني الشفهي ولا يزال المصدر الأساسي للعديد من القصص المروعة عن الوحشية بما في ذلك جرائم الحرب خلال النكبة، رغم أن الأمر استغرق جيلًا كاملاً لمعظم الناجين ليكونوا مستعدين أو قادرين على مشاركة تجاربهم وذكرياتهم مع الباحثين. بهذا، تصبح هذه المواد الأرشيفية على وجه الخصوص ذات أهمية كبرى في فهم الصلة المعاصرة للتطهير العرقي الذي حصل عام 1948، إضافة إلى الأيدولوجيا والدوافع وراء ذلك. كما يساعد ذلك في ملء الثغرات في أوصاف التاريخ الشفهي للأحداث بصفتها ذكريات تصبح أقل دقة مع مرور الوقت.  

فقدان وثيقة رئيسية

كقاعدة أساسية وفي سياق العوالم الأخرى، لا يمكن أن تشهد وثيقة واحدة بصفتها دليلاً دامغاً يوضح معالم الإبادة الجماعية أو الدعوات لها، سواءٌ كان الحديث عن إبادة الأمريكيين الأصليين في شمال أو جنوب أمريكا، أو اليهود أثناء المحرقة اليهودية، أو الروانديين خلال الحقبة المعاصرة. عادة ما تدفع الأعمال البحثية الخاصة بالإبادة الجماعية بسؤال عن النوايا على النطاق الواسع، في حالات لا يمكن العثور فيها على أي مخططات. لكن، يبدو أن غياب وثيقة الدليل القاطع يتسبب بالإرباك للأكاديميين أكثر منه للقانونيين. بحسب ملاحظة أليكس دي وال المؤسفة، فإنه “في حين أن عدم وجود مخططات أيديولوجية وتحويلية أمرٌ مهم بالنسبة للدبلوماسيين ودارسي الإبادة الجماعية، فإنه لا ينطوي على عدم وجود ذنب بحسب القانون”. يذكرنا دي وال بأن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا والتي تم إنشاؤها لمحاسبة المسؤولين عن الإبادة الرواندية خَلُصَت إلى أن ما حدث في رواندا لم يكن إبادة جماعية بسبب وجود دليل، إنما بسبب افتراض عدد من الحقائق بما في ذلك السياق العام الذي “وقع فيه أذى متعمد وممنهج على الجماعة المستهدفة”.

في تعليقه على الوضع في إقليم دارفور في السودان، فإنه أيضاً يسوق البراهين على حدوث جريمة ضد البشرية على مستوى إبادة جماعية دون وجود خطة شاملة، وهو الأمر الذي لا يتصل بوصف النكبة فحسب، بل بوصف الإبادة التدريجية التي تستمر إسرائيل في ممارستها ضد قطاع غزة منذ العام 2005. يكتب دي وال: “وضعت الحكومة السودانية خطة لعملية بهدف مكافحة العصيان، وأعطت ضبّاطها الحصانة الكاملة لدفعهم على ارتكاب الفظاعات، والتي كانوا يرتكبونها بشكل روتيني على نطاق واسع وعلى أساس عرقي. كانت تلك عملية غير أخلاقية لمكافحة التمرد واستمرت في التصاعد إلى حد كونها إبادة جماعية”.

يقدم الباحث القانوني أليسكاندر زاهار رأياً مشابهاً في قضية رواندا، إذ يدّعي زاهار أنه لا يمكن دائماً اعتماد الخطة الأساسية كتفسير وحيد لفداحة جريمة ما مثل التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية، ويؤكد أن للسياق التاريخي أحياناً أهمية مماثلة إن لم تكن أكبر. “كانت الإبادة في رواندا بيئة عدائية، وهي أشد ضراوة اليوم من غيرها، وذلك بفضل مسار طويل شكلته الصراعات المستمرة التي بدأت في تلك المنطقة قبل عدة سنوات وهي تستمر حتى اليوم”. بكلمات أخرى، يندر أن يوجد مستند لخطة رئيسية يوضح خطة حذرة وممنهجة لعمليات القتل الجماعي أو التهجير التي تستهدف جماعة عرقية أو دينية ما، بالرغم مما قاله وليد خالدي في صفحات هذه المجلة عن كيف توشك الخطة (دال) على أن تصنف كمستند مشابه.

إن غياب خطة رئيسية أدّى ببيني موريس للتوصل إلى خلاصة بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن أمرأً متعمداً أو مخططاً له، وأن ما حدث في 1948 كان مجرد نتيجة حتميّة للحرب. وليكن كذلك، فإن وجود خطة رئيسية لا يقدم الدليل الرئيسي على تصوير حدث ما بصفته إبادة جماعية أو تطهيراً عرقياً. فالدليل واضح في العمل نفسه لا في الوثائق التي سبقت حدوثه. لكن وضع الدليل في السياقين التاريخي والأيديولوجي يساعد المؤرخين على تقييم درجة جهوزية الجناة، وفي فضح دور الأيدولوجيا في تنفيذ السياسات الوحشية المتمثلة في التهجير والتدمير. بنفس الأهمية تكون حقيقة إمكانية استخدام وثائق من الماضي كهذه لتحدي أمور سخيفة مثل خطة ترامب للسلام ومشاريع أخرى متعلقة بصفقة القرن التي تعتمد على عدم تسييس القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مشكلة اقتصادية ذات أبعاد إنسانية، وبالتالي تحقيق الهدف السياسي من “القضاء على السكان الأصليين”، وهو ما أسماه الراحل باروخ كيمرلينغ بالجريمة السياسية، إضافة إلى نسخة القرن الحادي والعشرين من فكرة الأرض المباحة .

في الحقيقة، كمؤرخين متخصصين، فإننا نحتاج إلى وفرة من المستندات للتّثبت من صحة الدليل على سياسات المستوطنات اليهودية الأولى وسياسات إسرائيل الإجرامية في عام 1948. في حين قد تبدو المهمة الموازية أكثر سهولة فيما يتعلق بما بعد 1967، فإن الدراسة المستمرة للنية والوحشية التي شهدتها نكبة 1948 هي في الواقع أكثر أهمية لفهمنا لطبيعة الصراع المعاصر. لحسن الحظ، فبالإضافة إلى العمل المذهل المستمر فيما يتعلق بالتاريخ الشفهي، فإن عدداً قليلاً من المؤرخين المتخصصين صادفوا عبر السنوات وثائق إسرائيلية مؤثرة، وبالطبع، فإن سجلات أرشيف أخرى، كتلك الخاصة بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الأمم المتحدة تبقى مفتوحة أمام العامّة. في العالم العربي، يتعذّر الوصول إلى سجلات الأرشيف، لكنها أقل أهمية عند الحديث عن الجدال المتعلق بالقضاء على السكان، أو التطهير العرقي أو العنف الهيكلي ضد الفلسطينيين.

وثائق في خطر: أرشيف توضيحي للنكبة

في الصفحات القادمة، سأناقش عدداً من الوثائق المرفقة بالصور عند توافرها، وسأعلّق على أهمية هذا الدليل الذي صادفتُه في الماضي وقمتُ بتصويره قبل بعض الوقت. 

تتبع هذه الوثائق المنطق ذاته، ذلك الخاص بالمسار الزمني لعمليات التطهير العرقي في فلسطين خلال 1948. قام الكثير من المؤرخين والصحفيين الذين عملوا في الأرشيف الإسرائيلي بالأمر ذاته، وبالتالي، بإمكاننا أن نفترض الاستمرار في العثور على نسخ من هذه الوثائق بحوزة الكثير من الأفراد حتى بعد ما تم اعتبار بعضها سرية مرة أخرى، والتي ستشكل مصدراً هاماً للأبحاث المستقبلية.

يبدأ مسار الاستيلاء في أبريل 1948 بطرد العرب من مساحات شاسعة من الفضاء الحضري في فلسطين، والاحتلال الصهيوني للمناطق الساحلية حول يافا وحيفا في الأسابيع التي سبقت نهاية الانتداب في 14 من مايو/أيار. (اقرأ المستندات 1 و2). تلت هذه المرحلة الأساسية من الاستيلاء العسكري على فلسطين فترة تأسيس الدولة في 15 من مايو/أيار، عندما استهدف ما يسمى الآن بالجيش الإسرائيلي الساحل الشمالي خلال شهر يوليو/تموز، واستولى على البلدات الثلاثة التي لم تكن قد وقعت بعد تحت الاحتلال، وهي اللد والرملة والناصرة (إقرأ المستند 3). حصلت بلدات الضفة الغربية على الحماية بفضل تفاهم ضمني بين الوكالة اليهودية والمملكة الهاشمية في شرق الأردن، والذي تم التوصل إليه قبل اندلاع الحرب. كذلك لم يقترب القتال من غزة، وهو ما جعلها مركزاً لاستقبال مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تم إبعادهم من المناطق التي تبدأ جنوب يافا وحتى الوصول إلى بئر السبع. شهدت المرحلة الأخيرة من الاحتلال العسكري والتي استمرت لشهر بعد بدايتها في أكتوبر/تشرين أول 1948 على استحواذ إسرائيل على السهول الشرقية بين يافا والقدس، إضافة إلى أقصى جنوب منطقة الخليل (إقرأ رسالة عزيزي الرفيق إليازر بيري). تزامن هذا مع احتلال القوات الإسرائيلية لمناطق الجليل الشمالي والجليل الأعلى. (تم توثيق بعض الفظاعات التي اُرتكبت هناك في المستند 4).

حتى بعد أن أفرغت إسرائيل القرى من سكانها، حاول أهلها العودة إلى منازلهم بعد أن خمدت المعارك، ليتم إبعادهم عنها من جديد. في المستند 5، يمكن قراءة أمر بطرد سكان هذه القرى في مناطق المجدل عسقلان، والتي تتبع إقليم غزة.

تتصل هذه المستندات بمراحل أساسية في العملية الإجمالية لسلب وتهجير السكان الأصليين لفلسطين، وقد تم تأكيدها من خلال الأبحاث الأخيرة المستندة إلى شهادات تاريخية شفهية.

عمليات إيهود وبن عامي

في أبريل/نيسان وبدايات مايو/أيار 1948، وضعت القوات الصهيونية أنظارها على مدن فلسطين. وخلال أسبوعين، تمكنت من إفراغ كل من طبريا وبيسان وصفد وحيفا والقدس الغربية ويافا وعكا من سكانها. اُرتكبت هذه الجرائم بحق المدن مع سبق الإصرار والترصد الكاملين، وذلك بدليل الاقتباس التالي من بن غوريون في كتاب سمحا فلابان الهام بعنوان (ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق):

“تمثل الهدف الاستراتيجي للقوات اليهودية في تدمير مجتمعات المدن، والتي كان أهلها أكثر سكان فلسطين تنظيماً ووعياً بالقضايا السياسية. لم يتم ذلك من خلال القتال على أبواب المنازل واحداً تلو الآخر داخل المدن والبلدات، لكن من خلال الاستحواذ على المناطق الريفية المحيطة بالمدن وتدميرها. أدت هذه الآلية إلى انهيار واستسلام حيفا ويافا وطبريا وصد وعكا وبيسان واللد والرملة والمجدل وبئر السبع. بعد أن تم حرمانها من وسائل النقل والطعام والمواد الأساسية، عانت مجتمعات المدن من التفسخ والفوضى والجوع ما أجبرهم على الاستسلام.”

منطقة أخرى تم استهدافها قبل نهاية الانتداب كانت السهول الساحلية التي أشار إليها القادة العسكريون والسياسيون الصهاينة باسم (هشارون هافيري)، أي السهول العبرية. تكونت سهول الشارون هذه من سهول ساحلية امتدت نحو الجنوب من يافا وحتى نهر الزرقاء، وهي المنطقة التي تُعرف اليوم باسم بلدة جسر الزرقاء الواقعة على بُعد 30 كيلومتراً جنوب حيفا. في تلك البقعة من الأرض، كانت هنالك أكثر من ستين بلدة فلسطينية، لم يبقَ منها بعد النكبة سوى اثنتين: جسر الزرقاء وفريديس‎.

قبل الشروع في احتلال ذلك الجزء من فلسطين، خضعت القوات الصهيونية لممارسات تلقينية أيديولوجية مكثفة على يد القادة السياسيين، وقد ركزت معظم هذه الممارسات على التاريخ القديم لكل منطقة كانوا يحاولون بسط السيطرة عليها. صوّرت روايات القادة السياسيين ما يسمى بمنطقة السهول العبرية وهي تتعرض للاجتياحات الأجنبية بين وقت وآخر. حتى حقبة الرومان، زخرت هذه القصص بالبطولات لكنها بعد ذلك، روَت أن المنطقة خلت من السكان بسبب حكم المسلمين الذين “اهتموا بالسيطرة على مساحات الأرض في الصحراء، لا الساحل”. تستمر هذه الروايات في الحديث عن السهول التي بقيت “مهجورة منذ العهد المملوكي وحتى وصول الصهاينة الأوائل الذين وجدوها في حال ترثى لها، حيث لم تكن أكثر من مستنقعات موبوءة بالأمراض”. بحسب روايات القادة الصهاينة، فإن “مرحلة من الازدهار في منطقة سهول الساحل لم تبدأ إلا عند بدء تدفق اليهود من كل أنحاء العالم وبناء المستوطنات اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر”.

تم تصوير هذه السهول أيضاً بصفتها منصة انطلاق “الخلاص اليهودي في أرض إسرائيل”، والتي لم يكن يعكّر صفوها بشكل دوري وعلى نحو غير إنساني سوى السياسات البريطانية. كذلك صوّرت الروايات الإسرائيلية أنه وبالرغم من بذل الصهاينة أقصى جهودهم، فإن المنطقة كانت لا تزال “مليئة بالغرباء” حتى كان على لواء ألكسندروني “الشروع في تحريرها”. يصف المجلد المنقّح عن هذا اللواء والذي ظهر للمرة الأولى عام 1964 عملية “التحرير” إذ يربط بدايتها بعمليات إخلاء مئتين من سكان قرية “سيدنا علي” في فبراير/شباط 1948، والتي تبعها طرد 100 شخص من قرية قيسارية. ارتكبت قوات الصهيونية شبه المنظمة عمليات الطرد الجماعي هذه فيما اكتفى البريطانيون المسؤولون عن تنفيذ القانون أثناء الانتداب بالمراقبة دون أن يحركوا ساكناً. بحلول مارس/آذار 1948 كان قد تم تطهير المنطقة على امتداد سهول الساحل بشكل شبه كامل إلا من بعض البلدات العربية، وهي عين غزال، جبع، وإجزم التي يصفها كتاب لواء إسكندروني بأنها الشوكة التي ظلت عالقة في الحلْق، إضافة إلى الطنطورة التي “كان يجب التعامل معها”. في أيام الانتداب الأخيرة، كان الساحل الشمالي لحيفا قد خلا من سكانه العرب، خصوصاً المنطقة الواقعة بين عكا والحدود اللبنانية التي حددها قانون التقسيم الذي وضعته الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن 181، وهي الحقيقة التي لم يكن لها أي تأثير يُذكر على الخطط الصهيونية في السيطرة على ما أَمكن من فلسطين.

تتصل أول وثيقتين بعملية بن عامي التي استهدفت سهول ساحل شمال فلسطين التي بدأت في منتصف مايو/أيار 1948. بالرغم من تجاهل معظم المؤرخين، إلا أن عملية بن عامي التي كان ينبغي لها أن تُنفذ قبل نهاية الانتداب البريطاني في 15 مايو/أيار، كانت تسمى عملية إيهود. لا يُمكن وصف عملية إيهود بأنها من ضمن أحداث الحرب التي لم يكن بالإمكان تفاديها، لأن الحرب لم تكن قد بدأت بعد عندما صدرت الأوامر بانطلاق العملية في أبريل/نيسان 1948، بل كانت القوات الصهيونية قد أُمرت بتطهير مساحات المدن الفلسطينية التي احتوت على ما يقرب الـ250 ألف شخص في حينه، إضافة إلى مناطق الجليل التي شكّل الفلسطينيون 97% من سكانها الذين اقترب عددهم حينها من الـ100 ألف. تقدّم وثائق كهذه الدليل الدامغ على أن التطهير العرقي كان ممنهجاً في فلسطين خلال 1948.

استهدفت عملية بن عامي ستّ قرى قامت قوات الهاغاناه بتدميرها بشكل كامل، وقد تضمن ذلك ارتكاب المجازر. كانت القرى جزءاً من الريف كثيف السكان الذي كانت دولة إسرائيل الجديدة عازمة على إفراغه من العرب، ولم تكن عمليات طرد العرب القسرية أمراً غريباً أو عشوائياً. بحسب الوثيقة الأولى، فإن العملية كانت مخططةً بدقة على مدار الساعة، حيث قدّرت القيادات العليا أن تدمير القرى الستة سيحتاج إلى أربع ساعات. (مقاطع وثيقة عملية بن عامي/إيهود)

الجزء الثاني من البحث… هنا.

الترجمة كاملة بصيغة PDF

The post مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (١/٢ – ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يوميّات بيدرو ألمودوڤار أثناء الحَجْر في إسبانيا، والأفلام التي يشاهدها (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20036 Sat, 11 Apr 2020 12:38:41 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d9%91%d8%a7%d8%aa-%d8%a8%d9%8a%d8%af%d8%b1%d9%88-%d8%a3%d9%84%d9%85%d9%88%d8%af%d9%88%da%a4%d8%a7%d8%b1-%d8%a3%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8e%d8%ac%d9%92/ الرحلة الطويلة حتى حلول المساء كنتُ رفضتُ ممارسة الكتابة حتى الآن، لأنني لم أرغب في ترك أي دليل على المشاعر التي أيقظتها فيّ هذه الأيام القليلة من العزلة. قد يكون السبب الأول في ذلك اكتشافي غير السعيد بأن الوضع الحالي لا يختلف كثيراً عن روتيني اليومي، فأنا معتادٌ على العيش وحدي والبقاء في حالة من […]

The post يوميّات بيدرو ألمودوڤار أثناء الحَجْر في إسبانيا، والأفلام التي يشاهدها (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

الرحلة الطويلة حتى حلول المساء

كنتُ رفضتُ ممارسة الكتابة حتى الآن، لأنني لم أرغب في ترك أي دليل على المشاعر التي أيقظتها فيّ هذه الأيام القليلة من العزلة. قد يكون السبب الأول في ذلك اكتشافي غير السعيد بأن الوضع الحالي لا يختلف كثيراً عن روتيني اليومي، فأنا معتادٌ على العيش وحدي والبقاء في حالة من التيقّظ. رفضتُ خلال الأيام التسعة الأولى كتابة أية ملاحظات، حتى قرأتُ هذا الصباح عنواناً إخبارياً بدا لي وكأنه من مجلة مخصصة للكوميديا السوداء “تحولت حلبة تزلج في مدريد إلى مشرحة مؤقتة”. يهيء إليّ أنه عنوانٌ مكتوب بأسلوب جيالو الإيطالي، بيد أنه يحدث في مدريد، ويشبه العناوين التي درجتْ في برنامج تلفزيونيّ يسردُ أكثر أخبار اليوم شراً.

اليوم هو الحادي عشر من أيام الحجر الصحي الذي بدأتُ بالالتزام به يوم الجمعة التي صادفت الثالث عشر من مارس آذار. بدأتُ من ذلك الحين بترتيب أموري لأتمكن من مواجهة الليل وما يجلبه من ظلام. فأنا أعيش في مكان يبدو وكأنه وسط غابة، وأتتبع الإيقاع الذي يدلني إليه النور الساطع عبر الشرفة والنوافذ. لقد بدأ فصل الربيع والطقس ربيعيّ فعلاً. هذا أحد أروع المشاعر اليومية التي كدتُ أنسى وجودها. ضوء النهار ومسيرته الطويلة حتى يحل المساء، ولا أعني أن هذه المسيرة شيء مروّع، بل على العكس، فهي تبعثُ على البهجة. (أو أن هذا ربما ما أحاول التركيز عليه متجاهلاً عذابات الأخبار التي تَرِدُ باستمرار.)

توقفتُ عن تفقد ساعتي، ولا أنظر إليها إلا لأعرف عدد الخطوات التي قطعتُها مشياً عبر الممر الطويل في منزلي، الممرّ الذي عاتَبتْ فيه جوليتا سيرانو أنطونيو بانديراس لعدم كونه ابناً جيداً فيما أشارت إليّ. يخبرني الظلام  في الخارج أن المساء قد حلّ بالفعل، لكن ليس الليل ولا للنهار جدول زمني. توقفتُ عن الاستعجال. من بين كل الأيام، اليوم هو الثالث والعشرون من مارس وتخبرني حواسّي بأن اليوم قد أصبح أطول أي أن بإمكاني الاستمتاع بضوء النهار لمدة أطول.

لستُ في مزاج سعيد بما يكفي لأبدأ بكتابة عمل مسنود إلى الخيال. يحدثُ كل شيء في وقته، بالرغم من قدرتي على التفكير بعدد من الحبكات لبعضها طبيعة أكثر حميميّة. (أكاد أجزم أننا سنشهد طفرة في المواليد بنهاية هذا الوضع، كما أنني متأكد من أن حالات الانفصال ستكون كثيرة، فكما قال سارتر، الآخرون هم الجحيم. ستضطر بعض الأسر لمعايشة الواقعين في آن: الانفصال وولادة فرد جديد لأسرة تفككت للتوّ.) 

كان ليسهلَ فهم الواقع الحالي لو كان أدباً خيالياً أكثر منه كقصة واقعية. إذ يبدو وكأن العالم والفايروس الجديد أجزاءً من قصة خيال علمي من الخمسينيات أو من سنوات الحرب الباردة. وكأن الواقع فيلم رعب يمتلئ بالبروباغندا القاسية المناهضة للشيوعية. أو أنه فيلم أمريكي جيد من الدرجة الثانية، خصوصاً تلك الأفلام التي استندت إلى روايات ريتشارد ماثيسون مثل “The Incredible Shrinking Man,” “I Am Legend,” “The Twilight Zone”، على الرغم من سوء نية منتجي هذه الأفلام. بالإضافة إلى هذه الأسماء، أفكر أيضاً بأفلام “The Day Earth Stood Still,” “D.O.A.,” “Forbidden Planet,” “Invasion of the Body Snatchers”، وأي فيلم يظهر فيه سكان المريخ.

لطالما جاء الشرّ من الخارج، فهناك الشيوعيون واللاجئون وسكان المريخ، وشكلت هذه ذرائعاً خدمت الشعبوية القاسية. (مع ذلك، فإنني أنصحُ وبحماسة بالغة بمشاهدة كل الأفلام التي ذكرتُها، فلا زالت ذات جودة عالية). في الواقع، لا يدّخر ترامب جهداً ليضمن أننا نعيش في فيلم رعب من الخمسينات، وهو يطلق على الفايروس اسم الفايروس الصيني. ترامب هو الآخر مرضٌ عضال نعيشه في هذا العصر.

أقررُ الحصول على بعض التسلية. عادةً ما أرتجلُ شيئاً (لكن هذه ليست عطلة نهاية الأسبوع التي أسخرها عادة لعزلتي)، لذا فأنا الآن أخطط برنامجاً يتكون من مشاهدة الأفلام والنشرات الإخبارية والقراءة بهدف ملئ أوقات الفراغ خلال اليوم. أصبحَ منزلي بمثابة معهد وأنا ساكنُه الوحيد. أضفتُ مؤخراً بعض التمرينات المنزلية كذلك. كنتُ أشعر بإحباط شديد حتى الآن، فلم أكن أقوم بأي تمارين سوى الاستيقاظ والسّير عبر ممر في منزلي، شاهدتم كلاً من جوليتا سيرانو وأنطونيو بانديراس يسيران عبرهُ في فيلم “Pain and Glory”.

أقوم باختيار فيلم الظهيرة “Dirty Money/Un flic” للمخرج جان بيري ميلفلي، وأفاجئ نفسي باختياري لفيلم المساء إذ أقرر اختيار أحد أفلام جيمس بوند “Goldfinger”. اعتقدتُ أنني في يوم كهذا بحاجة إلى نوع من أنواع التسلية الصرفة، أو الهروب التام.
 

Goldfinger

أسعدُ فيما أشاهد فيلم “Goldfinger” باختياري، فبدلاً من أن أقوم أنا باختيار الفيلم، اختارني هو. التقيتُ شون كونري حين جمعتنا طاولة على عشاء في كان. تفاجئتُ حينها بمعرفته السينمائية وخصوصاً فكرة اهتمامه بأيّ من أعمالي. كان ذلك بعد رحيله عن مدينة ماربيا، فيما لم يتوقف عن حب إسبانيا من ذلك الوقت. انتهى ذاك اللقاء ببدء صداقة بيننا حتى أننا تبادلنا أرقام هواتفنا التي كنتُ متأكداً أن أياً منا لن يستخدمها أبداً. بالرغم من ذلك، وبعد عدة شهور بين عامي 2001 و2002، هاتفني بعد أن أنهى مشاهدة فيلم “Talk to Her”. لستُ ممن يولعون بشيء ما ولا أؤمن بالأساطير، لكن الاستماع لحديثه عن أحد أفلامي ترك فيّ أثراً كبيراً لا يقل عن تأثير كونه ممثلاً متميزاً جذاباً وذا صوت عميق. فكرتُ بكل هذا فيما كنتُ أشاهد فيلم “Goldfinger” في ذلك المساء. تنافستُ أنا والحجر الصحي والمساء وشون كونري على أفكاري بما في ذلك ما شابها من انقطاعات.

أسترقُ لحظات لتشغيل التلفزيون بين فيلم وآخر لأعلم أن إعصاراً لا نعرف عنه سوى اسمه قد أودى بحياة لوسيا بوس، لأذرف أولى دموع اليوم. كنتُ مفتوناً بلوسيا بصفتها الفنية وصفتها الشخصية. أتذكرُها من فيلم  “Story of a Love Affair” لأنطونيوني، إذ كانت امرأة بجمال لا مثيل له، غريبة بالنسبة لزمانها وذات مشية حيوانية عجيبة تجمع بين أسلوب الرجال والنساء، وهي مشية ورثها عنها ابنها ميغيل بوس إضافة إلى أشياء أخرى. سأُدرِجُ فيلم أنطونيوني على برنامج الغد.

كنتُ واحداً من الكثير من أصدقاء ميغيل الذين ذُهلوا ووقَعوا تحت تأثير التعويذة القوية لهذه المرأة التي بدا أنها خالدة. مثل جين مورو وشافيلا فارغاس وبينا باوش ولورين باكال، كانت لوسيا جزءاً من ظاهرة مرموقة جمعتْ نساءً أحراراً مستقلات أكثر رجوليّة من الرجال في محيطهن. أعتذرُ عن سلسلة الأسماء التي ذكرتُها للتّو لكنني حظيتُ بلقائهن جميعاً وكنتُ قريباً منهن. هذه إحدى سلبيات أن تكون عالقاً من المنزل، تصبحُ فريسة سهلة للنوستالجيا.

أتمكنُ من التواصل مع ميغيل في مكسيكو سيتي ويستغرق حديثنا وقتاً طويلاً. مرّت سنوات عدة على آخر حديث بيننا، وبالرغم من الحدث المأساوي، كنتُ أرغبُ في التعبير عن شكري له على كل أزهار الأوركيد البيضاء التي لا يزال يرسلها إليّ في عيد ميلادي على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. بغضّ النظر عن مكان تواجدي، وهو مدريد في أغلب الأحيان، تصلني في الخامس والعشرين من سبتمبر من كل عام مزهرية من أزهار الأوركيد البيضاء التي تدوم لأشهر عدة، وتُرافقُ كل منها بطاقة كبيرة موقّعة بالحروف الأولى من اسمه.

من فوائد عدم وجود جدول زمني أثناء الاحتجاز أن تتخلص من الشعور بالعجلة والضغط والتوتر. أنا بطبيعتي كثيرُ القلق، لكنني أكاد لا أشعر بشيء منه في هذه الأيام. نعم، أدركُ أن الواقع مروّع ومليء بالغموض خارج حدود نافذتي، ولهذا فأنا متفاجئ من عدم شعوري بالقلق. أحاولُ جاهداً التشبّث بهذا الشعور الجديد الذي يساعدني في التغلبِ على خوفي وشكوكي. فأنا لا أفكرُ في الموت ولا في الأموات. مهمتي الرئيسية هي الردّ على كل رسالة وصلتني لتسأل عن حالي وعن عائلتي، وهو أمرٌ جديد أقوم به بكل الأحوال إذ أنّ من عاداتي السيئة أن أتجاهل الرسائل أو معظمها. للمرة الأولى، أشعر أن لهذه الرسائل معنى حقيقياً غير مبتذل. أتعامل مع الرد على هذه الأسئلة بجديّة كبيرة وأقوم بالرد على جزء منها كل ليلة، لأتعرف بشكل أكبر على ما يقوم به أفراد أسرتي وأصدقائي.

عندما يغيب النور عن نافذتي، أبدأ بمشاهدة فيلم “Goldfinger”. ومرة أخرى، أشعر بإعجاب شديد تجاه شيرلي باسي وشيرلي أخرى تظهر لمدة قصيرة، وهي الممثلة الجميلة  شيرلي إيتون التي دفعت ثمناً باهظاً لوقوعها في قبضة بوند. يُعدّ المشهد الذي يظهر فيه جسدها بلون الذهب ملقى على السرير دون أن تبقى أي من خلاياها على قيد الحياة، واحداً من أقوى المشاهد التي تم تصويرها في سلسلة الأفلام، وهو تعبير عن الرغبة والجشع والإثارة الإيروتيكية وجنون الأشرار شديدي القوة الذين لا يطمحون لشيء سوى تدمير العالم بحيث لا يتمكن من النجاة سوى أتباعهم.

عليّ أن أتوقف عن متابعة الفيلم لأجيب على مكالمة هاتفية من شقيقتي تشوس التي تخبرني بأنها تشاهدني ضمن وثائقي يُعرض على القناة الإسبانية الثانية، وقد انقضى نصف الفيلم حتى الآن. أسارع في الانتقال من جهاز الفيديو لأتابع القناة الثانية لأجد فيلماً وثائقياً عن شافيلا فارغاس من إعداد داريشا كاي وكاثرينا غوند. أكاد أذرف الدموع في كل مشهد ومع كل صوت. باغتني الأمر بالرغم من أنني شاهدتُ هذا الوثائقي في وقت سابق، لكن هذه لحظة تختلف تمامأً عن كل ما عشته من قبل، وليس بوسعي أن أقوم بأي مقارنات الآن. كل ما أعرفه هو أنني محبوس وأوشك على الانفجار في الوقت ذاته. أتابع الأخبار بوتيرة أقل في كل يوم في محاولة لإبعاد القلق والذعر عن نفسي. يمكن وصف الملاذ الذي أشير إليه، من أساليب التسلية والهرب من الواقع، بأي شيء إلا الرّتابة. حتى وإن كنتُ قد شاهدتُ الوثائقي عن شافيلا والذي فاجئني بمشاعر لا أستطيع التحكم بها، ولا أملك حتى الرغبة للقيام بذلك. أبكي حتى المشهد الأخير، وتغمرني ذكريات كل الليالي التي قدمتُها فيها على خشبة مسرح سالا كاراكول أو مسرح ألبينيز الذي كان أول مسرح اعتلتْ هي خشبته كمُغنية. لم يَسمح لها التمييز الجنسي الملعون في المكسيك بالغناء على المسرح مرتدية بنطالاً وعباءة البونشو، وقد تذرّع القائمون حينها بحجة استحالة ارتداء امرأة حقيقية لهذه الملابس.

قدمتُها على مسرح أولمبيا في باريس. كان ذلك أمراً صعباً لكننا تمكنّا من الحصول على جمهور يملأ المسرح. في الصباح وخلال فحص الصوت، سألتْ شافيلا أحد العاملين عن المكان الذي كانت تقف فيه السيدة إديت بياف أثناء عروضها على المسرح، وقامت بالغناء من ذلك الموقع. منذ تلك الليلة، بدأتُ طقساً خاصاً بي كانت فيه شافيلا إديت بياف خاصتي، فبدأتُ بتقبيل السنتميترات القليلة التي كانت تقف عليها شافيلا على المسرح في وقت لاحق.
 

Chavela Vargas

لم أكن جاهزاً للاستماع مرة أخرى إلى صوت الساحرة العظيمة في حديثها ولا غنائها بعد متابعة فيلم جيمس بوند المسلّي، كذلك لم أكن جاهزاً لأشاهد نفسي وأنا أغني “Vámonos” معها أو أن أسترجع الكثير من لحظات حياتها سواء في مدريد أو في المكسيك.

أذكرُ أنني هاتفتُها من طنجة خلال عيد الميلاد عام 2007. أخافني يومها صوتها وصياغتها للكلمات القليلة التي تفوّهت بها. كان اللفظ القشتالي الرائع واحداً من مميزات شافيلا الخاصة، فكانت الكلمات تصدر من فمها في غاية الكمال دون أن ينقصها حرف واحد. لكنها لم تتمكن أثناء تلك المكالمة من قول أي شيء سوى “أحبكَ كثيراً” و”يمرّ الزمن سريعاً”، وهو ما أصابني بالقلق. بعد أسبوعين، وصلتُ إلى لا كوينتا لا مونينا في مدينة تيبوزتلان حيث كانت تتلقى عناية صديقة من أيام شبابها. كنت جاهزاً لأسوأ الاحتمالات، إذ كنتُ أعلم أنها خضعت للعلاج في المستشفى قبل ذلك بثلاثة أيام. لكنها عندما علمتْ بأنني قادمٌ لزيارتها طلبت أن يُسمح لها بالخروج في الليلة السابقة. ما كان لأحد أن يرفض طلباً لشافيلا. وبالفعل، كانت حاضرةً في استقبالنا في منزلها الصغير

في تيبوزتلان كما لو كانت زهرة من فصيلة بنت القنصل: مشرقةً وبرّاقة وبنفس الصوت الذي اعتدنا عليه، فلم تتوقف عن الكلام طيلة فترة زيارتنا التي استغرقت ثلاث ساعات.

افترقنا في ظهيرة ذلك اليوم وتركناها وحيدة مقيدة بوحدتها. اعتنت بها امرأة من السكان الأصليين حتى الخامسة من عصر ذلك اليوم، ثم بقيت وحدها حتى اليوم التالي، فلم تسمح شافيلا يوماً لأحد من العاملين لديها برعايتها خلال الليل. كان لوالدتي سلوكاً مشابهاً في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاتها. لسببٍ غير مفهوم تصبح النساء القويات أكثر حدة وأقل عقلانية، ولا يمكن بأي طريقة أن تحذرهنّ من الليالي الطويلة، والسبب الرئيسي وراء ذلك أنهنّ يعرفن تلك الليالي تمام المعرفة وأنهن يتمتعنّ بقوى خارقة على التحمّل. تحدثنا عن مرضها وعن الموت وأخبرتني كما تفعل أي ساحرة طيبة: “لستُ خائفة من الموت يا بيدرو، نحن الساحرات لا نموت، بل نُرفع للسماء.” كنتُ متأكداً من كلامها. كذلك قالت لي: “أنا هادئة، سأتوقف عن الحياة في إحدى الليالي ببطء وسأستمتع بذاك الشعور.” 

استقبلتنا في اليوم التالي واقفة ومتحمسة لنصحبها لتناول الغداء خارجاً. كان لشافيلا خبرة كبيرة في العودة إلى الحياة كما لو كانت تُبعث من جديد. بعد أن تعافت بشكل تام، عرضت علينا بسعادة بالغة أن تأخذنا في جولة حول تيبوزتلان. بدأت رحلتنا من تلة تشاتشبيتل مقابل المنزل الذي كانت تعيش فيه. في تلك المنطقة، قام جون ستورجس بتصوير مشاهد فيلم  “The Magnificent Seven”. بحسب الأسطورة فإن أبواباً خفية في تلك التلة ستظهر من بين الصخور والأعشاب وتُفتح عند حلول نهاية العالم القادمة، وحينها لن ينجوا إلا أولئك القادرين على الدخول إلى رحم الأرض عبر هذه الأبواب. أنظر إليها بدهشة جديدة، فقد كانت تتحضر بالفعل لنهاية العالم الجديدة، ولا يسعني إلا أن أفكر في النهاية التي نعاصرها اليوم.

بالدموع على خدودي ألتقط أنفاسي وأستعد للعودة لمتابعة فيلم جيمس بوند، لكن القناة الإسبانية الثانية تبدو مستمرة بلا توقف، فتقدم بعد الوثائقي عن شافيلا فيلماً آخراً يحتوي اسمه على كلمة “نور”، فيلم “La luz de Antonio”/“Dream of Light”. كان أنطونيو لوبيز رساماً من لامانشا، وكانت زوجته ماريا مورينو نور عينيه. كانت ماريا رسامة من مدرسة الواقعية العظيمة، ولطالما بقيت على الهامش خلف أنطونيو وغيره من مجموعة رسامي الواقعية العظماء الذين عاشوا أثناء الخمسينيات. أنصحُ بمتابعة هذا الوثائقي بشدة، كما أنصح بهذه المناسبة بمتابعة القناة الإسبانية الثانية لما تقدمه من برامج بديعة.

ماتت ماريا مورينو قبل أسابيع قليلة. أذكر أنها كانت ملاكاً على العكس من شافيلا، إذ تترك رسوماتها انطباعاً طيباً وسارّاً وغامضاً، وتختلف كثيراً عن أعمال أنطونيو لوبيز الذي تشاركت معه الرسم في الموضوعات ذاتها ولم تتأخر عنه سوى بضع خطوات. يتحدث الوثائقي كذلك عن عملها في إنتاج فيلم “The Quince Tree Sun“ للمخرج فيكتور إريثيه، وهو فيلم جيد آخر، أظن أنه الأفضل على الإطلاق في التعبير عن معجزة النور الطبيعي التي تنعكس لتشكّل عالمنا. نجد النور، وحده النور في الرحلة الطويلة نحو المساء، وهو ما يجعلنا نمرّ بفصول السنة المختلفة. 
 

“The Quince Tree Sun

في تحفة إريثيه الفنية، يمكننا رؤية أنطونيو لوبيز في مرسمه، يكنس الأرض ويحضر اللوحات التي سينفّذ عليها عمله الجديد. يا له من طقس جميل! يخرج أنطونيو إلى فناء منزله المتواضع حاملاً كأساً من النبيذ، ونراه مأخوذاً بالثمرة الصفراء لشجرة السفرجل كثيفة اللحاء، وهي شجرة بسيطة ورثة قليلاً. لثمار السفرجل لون أصفر زاه وهي محاطة بأوراق من الأخضر الداكن. في الصباح، يتجول أنطونيو حول الشجرة ويركز نظره على الملمس الخشن لحبات السفرجل، وينظر إليها مفتوناً ومنبهراً. ثم يقرر أن يرسمها، حتى وهو يعلم مدى استحالة قدرته على نقل الصورة التي يمعن النظر إليها إلى اللوحة، لأن الثمرة حيّة وستستمرّ في التغير كل يوم حتى أن نورها لن يستمر على نفس الصورة. يتحدث الفيلم عن المعركة التي يخوضها الفنان لالتقاط نور الشمس على السفرجل، وهي معركة خاسرة سلفاً.

في عام 1992، عُرض فيلم إريثيه في مهرجان كان للأفلام حيث كنتُ عضواً في لجنة التحكيم. حاز الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة باستحقاق بعد أن كنتُ أوشكتُ على خوض مشاجرة مع رئيس اللجنة جيرارد ديبارديو الذي لم يحبّ الفيلم أبدأً واعتبره فيلماً وثائقياً. لحسن الحظ، تمكنتُ من الحصول على دعم بقية أعضاء اللجنة.

فيما أنتهي من متابعة القناة الثانية، أدركُ أن الوقت أصبح متأخراً، لكن هذا شيء عادي، فلا حدود للوقت أثناء الاحتجاز ولا رغبة لديّ في تخييب آمال جيمس بوند. لا أريد أن أخلد إلى النوم قبل أن يتمكن شون كونري من إحباط كل خطط المكيافيللي وGoldfinger السمين ونجاحه في إنقاذنا جميعاً. 

نُشرت في إنديواير في ٨ أبريل ٢٠٢٠ وهذه ترجمتنا لها.

The post يوميّات بيدرو ألمودوڤار أثناء الحَجْر في إسبانيا، والأفلام التي يشاهدها (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20006 Wed, 18 Mar 2020 13:06:43 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b9%d8%b4%d8%b1%d8%a9-%d8%a3%d9%81%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d8%b8%d9%8a%d9%85%d8%a9-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%81%d9%8a%d8%a7-%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85%d8%a9/ كتبها أوليفر لن لـ BFI وهذه ترجمتنا لها لا يختلف فيلم GoodFellas الملحمي الذي أخرجه مارتن سكورسيزي عام 1990 عن بقية تحفه الفنية التي صوّرت عالم المافيا، إذ تميّز الفيلم بالحديث الصارم لرجال العصابات وبألحان فرقة رولينغ ستونز إضافة إلى أعمال عنف شديدة. يُزيح هذا الفيلم السّتار عن عالم الصفقات المشبوهة والقَتَلة المتجردين من مشاعر […]

The post عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كتبها أوليفر لن لـ BFI وهذه ترجمتنا لها

لا يختلف فيلم GoodFellas الملحمي الذي أخرجه مارتن سكورسيزي عام 1990 عن بقية تحفه الفنية التي صوّرت عالم المافيا، إذ تميّز الفيلم بالحديث الصارم لرجال العصابات وبألحان فرقة رولينغ ستونز إضافة إلى أعمال عنف شديدة. يُزيح هذا الفيلم السّتار عن عالم الصفقات المشبوهة والقَتَلة المتجردين من مشاعر الرحمة ممن يرتكبون جرائمهم في عتمة مدينة نيويورك. سواءً كان يصوّر عملية نقل نصف جثة في صندوق سيارة أو زوجاً يصوّب مسدّسه نحو رأس زوجته، لا يمكن لكاميرا سكورسيزي أن تجفل، حتى وإن فعلنا نحن.

يروي فيلم GoodFellas قصة حقيقية لواحدة من أعنف عصابات المافيا في أمريكا، عصابة تجاوز عُنفها في الواقع ما صوّره الفيلم، على عكس توقعات المُشككين. يتابع الفيلم صعود وتراجع عصابة هنري هيل (راي ليوتا) في حي بروكلين. في البداية نرى ألق حياة المافيا في الأموال الطائلة والاحترام والمعاملة التي يحظى بها بطل الفيلم بحصوله على أفضل طاولة في ملهى كوباكابانا، ثم نصل إلى الجانب المظلم حيث يكون جنون الارتياب ونظرات التّرقب المليئة بالشك، والخوف الدائم من التعرض للقتل. يتم التعبير عن كل هذه المشاعر في عيون ثلاثة من الشخصيات، الشرير تومي ديفيتو الذي يلعب دوره جو بيشي، ومجرم العصابات جيمي ذا جاينت كونواي الذي يقدمه روبرت دي نيرو، إضافة إلى هنري هيل الذي مثّل دوره ليوتا، وهو رجل عصابات مدمن على الحياة بقدر ما هو مدمن على الكوكايين.

مع الأداء المذهل الذي قدمته هذه الشخصيات والجُملة الشهيرة “لطالما أستطيع أن أتذكر أني كنت أريد دائماً أن أكون رجل عصابات” وقدرة سكورسيزي الفنية على السّرد، يمتلك فيلم GoodFellas كل المكونات التي تجعل منه عملاً كلاسيكياً يمكن مشاهدته عدداً غير محدود من المرات. لا عجب أن أعمالاً كثيرة حاولت تقديم محاكاة له، ولا عجب أن كل أفلام العصابات التي تلته قدّمت رجال عصابات ينفثون دخان السيجار ولا يمكن أن يموتوا إلا بسبب من اثنين: رصاصات رشاش تملأ أجسادهم أو بسبب ارتفاع شديد في الكوليسترول.

كما تعرفون، فهذا ليس فيلم سكورسيزي الوحيد عن العصابات أو الجدير بتصدّر لائحة لأفلام المافيا، إذ سترون في السطور القادمة بعضاً أهم أفلام المافيا التي تثير الجدل.
 

The Big Heat

1953 – إخراج فريتز لانغ
 

يتمحور فيلم فرينز لانغ الذي كتب نَصّه صحفي الجرائم سيدني بوهم حول شرطي يلاحق مجموعة مشبوهة بعد مقتل زوجته، ويُعدّ الفيلم أحد أكثر أفلام النوار التي تم إنتاجها في الخمسينات سوداوية، إذ يحتوي على مشهد وحشيّ يظهر فيه لي مارفين الذي يلعب دور الرجل الخشن فينس ستون وهو يصبّ إبريقاً من القهوة المغلية على غلوريا غراهام، متسبباً بحرق جانب من وجهها. (تنجح هي في الانتقام منه لاحقاً). في مكان آخر، يقوم ستون العصبي والحاقد على النساء بإطفاء سجائره على جسد امرأتين أخريين. قد تدور أحداث فيلم The Big Heat حول محقق الجرائم المنضبط غلين فور، لكن شخصية مارفن الشريرة تُلقي بظلالها على الفيلم، فهو ممثل يبدو وكأنه وُلد ليمثل أدوار رجال العصابات بفضل أسلوب كلامه وملامحه الخشنة.
 

The Godfather trilogy

1972-90 – إخراج فرانسيس فورد كوبولا
 

يمكن من الدقائق الثلاثين الأولى التي تصوّر حفل زفاف مطوّل التعرف على كل الشخصيات الرئيسية في هذا الفيلم، حيث لا تقتصر شهرة The Godfather الذي قدّمه فرانسيس فورد كوبولا على أنه واحد من أفضل أفلام المافيا، لكنه أيضاً واحد من أفضل الأفلام التي تروي حكايات العائلة. في المشهد الأول، لا تُطلق أي رصاصة ولا تسيل أي قطرة دم. يتركز جمال هذه الثلاثية بأكملها في أنها تروي الأحداث التي تعقب الانقسامات بين أجيال العائلة وما يحدث عندما تصبح أعمال العصابة أمراً شخصياً، كأن يضطر ابن لمساندة والده. تستمر الأحداث حتى تجد نفسك منغمساً عند وفاة إحدى الشخصيات، وتذكر نفسك أن أحدهم هو المسؤول عن مقتل الكثيرين. ذكّر نفسك بأن ألحان نينو روتا الكئيبة هي التي أسَرَتْك.
 

The Long Good Friday

1980 – إخراج جون ماكنزي
 

“المافيا؟ لقد سيطرتُ عليها”. هكذا يتعامل رجل عصابات لندني مثل هارولد شاند الذي يلعب دوره بوب هوسكينز مع رجال العصابات الأمريكيين في فيلم الجريمة البريطاني الكلاسيكي The Long Good Friday من إخراج جون ماكنزي. فهو زعيم عالم الجريمة في العاصمة الذي يقوم بتأسيس الشراكات وبناء الكازينوهات ويزداد جشعاً باستمرار. قبل أن تبدأ انفجارات القنابل وجرائم القتل التي تتسبب في انهيار عالمه. تبدو هذه أموراً قليلة الأهمية، لكن أداء هوبكينز لدور شاند الصغير الذي يتمتع بأهمية كبيرة ينمّ عن جانب شديد الذكاء في عالم الجريمة، فنسمع خلال الفيلم عباراته البارعة مثل قوله: ” Shut up you long streak of paralysed piss.””.
 

Scarface

1983 – إخراج براين دي بالما
 

لأل باتشينو حضور مثير على الشاشة في فيلم Scarface الذي يعد فيلم الجريمة الكلاسيكي الأشهر للمخرج براين دي بالما. يتناول الفيلم صعود وانهيار المهاجر الكوبي توني مونتانا (أل باتشينو) الذي يحقق نجاحات متواصلة في عالم المخدرات في ميامي في الثمانينات. تشير كل تفصيلة في شخصيته إلى هويته المرتبطة بالمافيا، فنراه في بدلات أنيقة وبأنف معتاد على تعاطي الكوكايين، كما يظهر غالباً شاهراً مسدّسه الذي أطلق عليه اسم “رفيقه الصغير”، كما لو كان مجنوناً خطيراً. أثناء مشاهدة الفيلم، لا يمكنك أن تشيح أنظارك عنه، فله سطوة مماثلة لتلك التي تمتع بها رجال العصابات الذين مثّلهم دي نيرو في هذه الفئة، إذ لا يليق بأل باتشينو إلا شخصيات يقدم من خلالها دور الزعيم. لا عجب أن هذين الممثلين حصلا على العديد من أدوار الرجل القوي، حيث حقق هذين الرجلين نجاحاً كبيراً في هذه الفئة تماماً كما فعل سكورسيزي وكوبولا كمُخرجين.
 

Once upon a Time in America

1984 – إخراج سرجيو ليون
 

رغم أنك ستتمنى لو كان هذا الفيلم الذي يستمر لمدة أربع ساعات أقصر قليلاً حتى تتمكن من الذهاب إلى الحمّام ، إلا أن بوسع تحفة سرجيو ليون الفنية متعددة الأطراف Once upon a Time in America أن تشدّك للاستمرار في المشاهدة عبر ظهيرة يوم أحد. يتبع الفيلم عقوداً من حكاية مجموعة من أبناء أحياء الغيتو اليهودية في نيويورك خلال العشرينات من القرن الماضي، بينما يواصلون الغرق في عالم الجريمة المنظمة. تُمهّد أسماؤهم مثل “نودلز” و”باغزي” لهذه المفاجأة.

بفضل عدم تنظيم أحداث الفيلم زمنياً، يمكن للمشاهد أن يرى كيف دمرت حياة الجريمة عيشة كل منهم. في نهاية الأمر، وإلى جانب الأحداث التي تحاكي معاني الصداقة وتغيّر شكل حياة المجتمع الأمريكي، فإن الأثر الأكبر يبدو جليّاً في الحيوية التي تطغى على نيويورك قبيل بدء الحرب، كما لو كان بإمكانك زيارة العالم عبر الشاشة، فتصعد إلى مقعد خلفي في عربة خشبية تدور بك عبر الأحداث، برفقة ألحان إنيو موريكوني الموسيقية.  
 

A Bronx Tale

1993 – إخراج روبرت دي نيرو
 

في تلك المرحلة من تاريخ السينما، كان وجه دي نيرو قد أصبح دليلاً يشير إلى كل ما يتعلق بأعمال العصابات، لكنه في عمله الإخراجي الأول A Bronx Tale احتفظ لنفسه بدور الأب المتوازن والذي يحصل ابنه على عمل في حانة يرتادها أفراد المافيا. بفضل وعود بالثراء والحصول على الاحترام يشعر الابن المراهق بالحماسة للعمل في الحانة، وسرعان ما تتملكه الحيرة بين شخصية الوالدين في حياته، والده سائق الحافلة الكادح، ومديره زعيم العصابة المحلية سوني لوسبيتشيو الذي يمثّل شاز بالمينتري دوره.

بفضل مقطوعات موسيقى دو ووب المليئة بالحنين واسترجاعه لزمن قضى فيه مراهقو نيويورك وقتهم على الرصيف ومارسوا لعبة التقاط العصيّ في الشوارع، يعدّ فيلم المافيا الذي قدمه دي نيرو عملاً كلاسيكياً متقناً. لكن أهم ما في الفيلم هو العثور على طفل يبدو وكأنه بلا شك من سلالة أسرة دي نيرو. كان هذا أمراً لا يصدّق فعلاً.
 

Casino

1995 – إخراج مارتن سكورسيزي
 

لا تعد أي لحظة من ساعات فيلم سكورسيزي الملحمية الثلاثة مضيعة للوقت، وذلك بسبب تصويره الذي يحبس الأنفاس لامبراطورية قمار وعصابات لا رحمة لدى أفرادها، إضافة إلى زوجة يافعة تتعاطى الكوكايين. عند متابعة الفيلم للمرة الأولى، يكون من الصعوبة تجاوز مشهد جو بيشي وهو يثبّت رأس رجل بملزمة نجّار، أو عندما يطعن رجلاً في حنجرته عند قيامه بإهانة صديقه، أو مجرّد كونه جو بيشي نفسه. في المتابعة الثانية، يبرز ثراء العلاقات في الفيلم، مثل الزواج الخالي من الحب بين جنجر التي تقدمها شارون ستون وسام الذي يلعب روبرت دي نيرو دوره، أو علاقة الصداقة القديمة التي جمعت بين الرفاق سام ونيكي اللذين ابتعدا عن بعضهما بشكل مأساوي. لكن ما من شك أن الممثلين الثلاثة، دي نيرو وبيشي وستون نجحوا في أداء أدوارهم على نحو باهر. كيف يمكن لمخرج واحد أن يأتي بهذا القدر من التحف الفنية؟
 

The Departed

2006 – إخراج مارتن سكورسيزي
 

في فيلم The Departed نرى فيلم جريمة جديد لسكورسيزي، يروي خلاله حكاية ملتوية اُشتقت أحداثها من فيلم Infernal Affairs الذي صدر عام 2002 في هونغ كونغ، مع نقل أحداثه إلى مدينة بوسطن ليتمركز حول مافيا أيرلندية. يتبع الفيلم شخصية جاسوس (مات دامون) زرعه رجل العصابات الأيرلندي القوي فرانك كوستيلو (جاك نيكلسون) في قسم شرطة ولاية ماساتشوستس، فيما زرعت الشرطة أحد أفرادها ضمن صفوف المافيا (ليوناردو ديكابريو)، لتبدأ ملاحقة مثيرة لا نهاية لها عبر أنحاء بوسطن يكاد ينكشف خلالها أمر الجواسيس عدة مرات. على المتابع أن يتوقع مشاهدة لقاءات مشبوهة بين أفراد العصابات خلف حانات سيئة السمعة، إضافة إلى لهجة بوسطن الثقيلة والكثير من أغنيات Dropkick Murphys ومشاهد سينمائية مفعمة بالحيوية كما هي عادة أعمال مُصوّر سكورسيزي السينمائي الخاص مايكل بولهاوس.
 

Eastern Promises

2007 – إخراج ديفيد كروننبرغ
 

في فيلم الإثارة والجريمة الذي أبدعه ديفيد كروننبرغ، تصل المافيا الروسية إلى لندن حيث يباشرون أداء مهامهم بجدية. تؤدي نعومي واتس دور الداية التي تنغمس في عالم الجريمة لدورها في ولادة طفل مومس روسية مدمنة على المخدرات تبلغ من العمر أربعة عشر عاماً. بينما تستمر أحداث الفيلم، نتعرف على حضور عائلة Vory v Zakone السرّي في المدينة، وعلى عصابة الاتجار بالجنس التي يديرونها. كما نشاهد سائق عصابة فيغو مورتينسين كثير الوشوم الذي فقد كل معاني الرحمة، حتى أثناء قتاله شابين يواجهانه بالسكاكين أثناء تواجده عارياً من الملابس والسلاح في حمّام عام.
 

Gomorrah

2008 – إخراج ماتيو غاروني
 

“بتقديم من مارتن سكورسيزي” وبناءً على قصة حقيقية، يتبع فيلم ماتيو غاروني اللاذع والخاص بمافيا مدينة نابولي قصص عائلات المافيا المعاصرة في إيطاليا. يمكننا خلال الفيلم مشاهدة كل شيء، حرب مستمرة من الشجارات وجريمة منظمة في نابولي نتعرف على أثرها في تدمير كل مستويات المجتمع، وذلك من خلال تجارب مراهقيْن هزيليْن مهووسيْن بـ Scarface. يناضل الصبيان ليصبحا زعيمين محليين كما فعل أل باتشينو في دور توني مونتانا، وذلك على الرغم بعدهما عن ميامي وهوليوود. يتفرّد فيلم غاروني الذي يعد شديد الواقعية مقارنة ببقية أفلام هذه الفئة بغياب دور الشرطة والسلطات عن القصة. ربما كان هذا سبب كون الفيلم عميقاً ومباشراً بشكل لا نراه في غالبية أفلام العصابات الأمريكية، كما لو أن هذه الفئة قد خضعت لعدسة أحد مخرجي الواقعية الجديدة.

The post عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>