ضمن “أوراق رمان” البحثية

مقالة إيلان بابي «أرشيف دلالي: إنقاذ وثائق النكبة» (١/٢ – ترجمة)

Palestinian refugees in Haifa waiting to be exiled to an Arab city

رهام درويش

كاتبة من الأردن

حتى بعد أن أفرغت إسرائيل القرى من سكانها، حاول أهلها العودة إلى منازلهم بعد أن خمدت المعارك، ليتم إبعادهم عنها من جديد. في المستند 5، يمكن قراءة أمر بطرد سكان هذه القرى في مناطق المجدل عسقلان، والتي تتبع إقليم غزة.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/08/2020

تصوير: اسماء الغول

رهام درويش

كاتبة من الأردن

رهام درويش

ومترجمة

نشرت في Journal of Palestine Studies ربيع ٢٠٢٠، وهذه ترجمتنا لها.

يقوم هذا الملف الخاص بدراسة منع الوصول إلى وثائق تتعلق بالنكبة في الأرشيف الإسرائيلي، كما يشجع على النظر إلى هذا المنع في ضوء المحاولات الإسرائيلية والأمريكية التي زادت حدّتها مؤخراً، الهادفة إلى نزع الصيغة السياسية عن القضية الفلسطينية ولرفع الشرعية عن الرواية الفلسطينية بمجملها، خصوصاً فيما يتعلق بعام 1948.

تكمن أهمية هذه الوثائق في كشفها عن الطبيعة المنظمة للتطهير العرقي الذي حصل في فلسطين عام 1948، من حيث التخطيط والتنفيذ. بالرغم من أن الدارسين قاموا على مدار سنوات عدة بنسخ وتصوير العديد من هذه الوثائق، إلا أنها لم تعد متاحة للعامّة ولا للباحثين، ما يجعل من تجميع وحفظ هذه الوثائق في أرشيف رقمي الطريقة الأمثلة للاستجابة الأمثل لهذه المحاولة الرامية للتغطية على الجرائم التي اُرتكبت بحقّ الشعب الفلسطيني عام 1948.

في بداية الثمانينات من القرن الماضي، قام عدد من الباحثين الإسرائيليين الذين عُرفوا باسم المؤرخين الجدد بنشر عدد من المقالات المتخصصة التي تتحدى الرواية الإسرائيلية الصهيونية عن حرب 1948، والتي أدت إلى سلب وتهجير ثلاثة أرباع المليون من الفلسطينيين وتدمير أكثر من خمسمئة قرية وبلدة محلية في المنطقة التي عُرفت باسم فلسطين الانتدابية. 

كان مؤرخون فلسطينيون قد كتبوا باستفاضة بالفعل عن أحداث النكبة قبل ذلك، لكن لم يسبق حتى ذلك الحين أن دُعمت روايتهم بمواد أرشيفية رُفعت عنها السرية.

أصبحت الدراسة التاريخية ممكنة بفضل هذه المواد التي تشكل المساهمة الأساسية لجهد المؤرخين الجدد التأريخي، والذي تمكن وبشكل قاطع من تفنيد الادعاء الذي تأسست عليه الدعاية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين تركوا منازلهم طوعاً خلال الحرب التي تسميها إسرائيل بـ”حرب الاستقلال”، وذلك ليُفسحوا المجال للجيوش العربية التي كانت تتأهب لنُصرتهم، وبالتالي فقد جعلوا من أنفسهم لاجئين.

كانت الوثائق التي قامت عليها عمليات التأريخ الجديدة موجودة في عدة ملفات أرشيفية، أهمها أرشيف الهاغاناه التاريخي، وأرشيف بن غوريون، وأرشيف الجيش الذي يُعرف كذلك باسم (أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي)، إضافة إلى أرشيف ياد ياري الذي كان له أهمية بالغة في أعمال المؤرخين الجدد الأولى، خصوصاً أن الجيش ما كان ليرفع السرية عن الوثائق العسكرية ذات الصلة حتى أواخر التسعينات. 

يشتمل أرشيف ياد ياري على وثائق حزب مبام وحركة الشباب الخاصة به (هشومير هتسعير)، التي قام أعضاؤها بتشكيل نواة البالماخ، إحدى وحدات القتال التابعة للهاغاناه والتي ترأست العمليات العسكرية بين عامي 1947 و1949. 

لكون مبام شريكاً أساسياً في الحكومة المؤقتة التي تشكلت في الرابع عشر من مايو/أيار 1948 وفي الحكومة الإسرائيلية الرسمية التي تشكلت بعد الانتخابات الأولى في يناير/كانون الثاني 1949، فإن أرشيف ياد ياري يحتوي على نسخ من مذكرات اجتماعات الحكومة الإسرائيلية الأولى التي ما كانت لتتوفر بطريقة أخرى، إضافة إلى إتاحته وثائق لا تسمح سجلات أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ولا الهاغاناه بالوصول إليها. 

قدم المؤرخون الفلسطينيون ممن يتقنون اللغة العبرية إسهاماتهم الخاصة، وألقوا الضوء على أهمية هذه الوثائق في إعادة صياغة سرقة عام 1948. فقد كشفت أعمال مؤرخين فلسطينيين عن مدى وحشية الصهاينة كما وضّحت النضال ضدها، كأعمال نور مصالحة، مصطفى كبها، مصطفى العباسي، صالح عبدالجواد، عادل مناع، وآخرين.

ينظر الكثير من المؤرخين للنكبة على أنها كارثة بُنيوية (وهو سلوك تقليدي لمشاريع الاستعمار الاستيطاني مثل الصهيونية) تظهر فيها سياسات التطهير العرقي الإسرائيلية سواء في عام 1949 أو عام 2020 بصفتها جزءاً لا يتجزأ من نفس التاريخ والمأساة. لا يتم التثبت من أحداث النكبة سواءٌ أرّخها باحثون فلسطينيون أو غيرهم من خلال وجود وثائق في الأرشيف الإسرائيلي، بل أن قيمة هذه الوثائق تتمثل في كشفها عن طبيعة العنف المتجذرة في المشروع الصهيوني، لا بصفته حادثاً عابراً، وكذلك في دورها في نزع صفة المصداقية عن الخطاب الإسرائيلي الرسمي حول تأسيس الدولة. 

بالنظر إلى الدور التأسيسي للنكبة في الهوية والطموح الفلسطينيين، وفي طبيعتها المستمرة الظاهرة في حديث الفلسطينيين عن “النكبة المستمرة”، لا شك أن أجيال المستقبل من الباحثين والصحفيين والدارسين سترغب في العودة لزيارة هذا التوثيق الغنيّ بالمعلومات.

إلا أن زيارة هذه المواد الأرشيفية تزداد صعوبة باستمرار. على صفحات العدد الأخير من هذه المجلة، قام سيث أنزيسكا بتقديم تحليل من خلال جهد استقصائي مشترك بين هآرتز والمنظمة الإسرائيلية للبحث والتوثيق وحقوق الإنسان (عكيفوت)، كشف فيه عن مصاعب متعمدة وُضعت لتُعرقل الوصول إلى سجلات الأرشيف في إسرائيل، نتيجة للسياسة الرسمية المتمثلة في سحب وثائق أرشيفية محورية من المجال العام. تضمن ذلك التحقيق الاستقصائي وثيقة نشرتها عكيفوت من خمس وعشرين صفحة، فصّلت فيها سجل الأعمال المتلاحقة التي ارتكبتها القوات الصهيونية في شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار 1948، والتي توضح أن التهجير والتهديد كانا أسلوبين متعمدين وظّفتهما القوات الصهيونية للدفع بأعداد كبيرة من الفلسطينيين للهجرة.

بالإضافة إلى تقديم ستة وثائق إسرائيلية، لم يعد بالإمكان الوصول إلى النسخ الأصلية منها بالرغم من نزع السرية عنها، فإن ملف التوثيق الخاص هذا هو لهدف ثلاثي الأبعاد، يرمي إلى تحليل الأسباب وراء القمع المكثف الذي مارسته دولة إسرائيل ضد البحث المستند إلى سجلات الأرشيف، وإلى تقييم تبعات هذه السياسة على كل من العمل البحثي المستقبلي والنضال الأوسع من أجل العدالة في فلسطين، إضافة إلى عمله على تحدي هذه الحقيقة الجديدة التي تعيشها ملفات الأرشيف، إن صح التعبير، من خلال خلق ما سأُطلق عليه اسم (الأرشيف التوضيحي للنكبة).

تدمير الأرشيف

كما ورد في تقرير هآرتز عام 2019 عن التحقيق الاستقصائي الذي أجراه مركز عكيفوت، فإن تقييد إسرائيل لجهود الوصول إلى المواد الأرشيفية هو جزء من عملية رسمية تزعمها جهاز مالماب، وهو قسم الأمن السري في وزارة الدفاع. هذه المنظمة التابعة لوزارة الدفاع والتي تُسمّى وفقاً للاختصار العبري مالماب هي وحدة سرية تعد أنشطتها وميزانيتها في غاية السرية، ولم يُكشف عن وجودها إلا من قِبَل المؤرخ الإسرائيلي أفنر كوهين، وذلك ضمن جهوده لإلقاء الضوء على سياسات إسرائيل النووية.

على مدار التحقيق، وجدت هآرتز أن هييل حوريب الذي أدار مالماب لعقدين حتى نهاية 2007 كان قد بدأ العمل على إزالة مستندات من الأرشيف عندما ترأس القسم السري، وهذه ممارسة تستمر حتى اليوم على يد خلفائه. (كان حوريب أيضاً مسؤولاً عن منع كوهين من نشر أو الوصول إلى المواد الأرشيفية التي كان بحاجة لها في بحثه المتعلق بترسانة إسرائيل النووية.) في حديثه مع الصحيفة، زعم حوريب أن تدمير الأرشيف تمّ بحجة أن الكشف عن وثائق النكبة، وبحسب كلمات الصحيفة، “سيولد الاضطرابات في المجتمع العربي في البلاد”.

يثير هذا الرأي السخرية لسببين، الأول هو أن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل والتي يشير المسؤولون الإسرائيليون إلى أبنائها باسم “عرب إسرائيل” لطالما كانت ومنذ منتصف الثمانينات من ضمن أنشط المجموعات وأكثرها وعياً فيما يتعلق بالانخراط في أنشطة حماية ذكرى النكبة. تمكنت جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين التي تمثل المهجّرين الفلسطينيين داخل إسرائيل بالتعاون مع ناشطين وباحثين فلسطينيين آخرين من المحافظة على التبني الجمْعي للرواية الفلسطينية لأحداث عام 1948 دون الحاجة إلى الوثائق الإسرائيلية للتأكيد على تجاربهم الخاصة فيما يتعلق بالتطهير العرقي. السبب الثاني هو أن هآرتز أشارت إلى أن الكثير من الوثائق التي أُعيدتْ لها صفة السرية قد تم نشرها بالفعل، خصوصاً على يد المؤرخين الجدد. تمثل ردّ حوريب على الصحيفة بأن وثائق كهذه قد “تهدد مصداقية الدراسات الخاصة بتاريخ مشكلة اللاجئين”، وذلك بحسب تعبير الصحيفة.

تُدرك حركات الاستعمار الاستيطاني كالصهيونية المعنى الذي يعرّفه باتريك وولف باسم “القضاء على السكان الأصليين”. في وجود إسرائيل بصفتها دولة استعمار استيطاني، هناك توقع ضمني بالحاجة إلى إخفاء الأدلة على ارتكاب أفعال التصفية، خصوصاً في زمن لا يستسيغ الاستعمار حتى في سياق دولة تزعم أنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” وأنها “دولة يهودية ديمقراطية”. وبالتالي، فإن فعل التصفية لا يتجلى في نكبة 1948 فقط، بل كذلك في محوها من الأرشيف. بحسب وولف، فإنه يمكن تصنيف كل أفعال التصفية على أنها إبادة، كما حدث في أمريكا الشمالية وأستراليا. في الجزائر وجنوب أفريقيا مثلاً، تم التخلص من السكان الأصليين من خلال مصادرة الأرض والتطهير العرقي ونظام الفصل العنصري. في فلسطين كذلك، فإن أفعال التطهير العرقي التدريجية بدأت في منتصف عشرينات القرن الماضي، إذ كانت الوسيلة الأساسية المتبّعة لإنجاز “القضاء على السكان الأصليين”.

يُعدّ تعليق وولف بأن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثاً إنما بنية تأسيسية بالغة الأهمية في النقاش الحالي، إذ يكشف عن العنف المتأصل الذي تعيه أيدولوجيا الاستعمار الاستيطاني على مدار تاريخ الصهيونية، والأفعال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في وقت لاحق. بمصطلحات أكثر دقة، فإن الرؤية بإخلاء فلسطين من السكان العرب غذّت تحولات العنف المألوفة في تاريخ البلاد المعاصر، والتي تتمثل في التطهير العرقي خلال 1948، وفرض الحكم العسكري على مختلف مجموعات السكان الفلسطينية على مدار السبعين عاماً الماضية، إضافة إلى الهجوم على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1982 والعمليات العسكرية في الضفة الغربية عام 2002 وحصار غزة ومشاريع التهويد الجارية في كل مكان داخل فلسطين التاريخية، وهذه الأمثلة ليست إلا نقطة في بحر الممارسات الإسرائيلية العنيفة.

لايزال هذا التصوير غير مقبول لدى التيار السائد في الأوساط الأكاديمية أو الإعلامية، بالرغم من عدد كبير من الدراسات البحثية التي تصنف الحركة الصهيونية كحركة استعمار استيطاني، بما في ذلك صحيفة دراسات الاستعمار الاستيطاني الحديثة نوعاً ما، والتي تمكنت وإن كان على الورق من نشر عددين متخصصين بموضوع فلسطين.

بشكل عام، فإن قضية إسرائيل/فلسطين لا تزال تعتبر صراعاً بين حركتين قوميتين تتساويان في المسؤولية عن العنف: واحدةُ ذات نظام ديمقراطية غربيّ الأسلوب تلجأ في بعض الأحيان فقط إلى العنف المفرط، فيما أن الثانية هي مجتمع عربي ذو ثقافة عنيفة أصيلة.

في السنوات الأخيرة، أدت عدة أحداث جديدة بما في ذلك ظهور حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS والتحول اليميني المتطرف في النظام السياسي الإسرائيلي، وصعود جيل جديد من السياسيين الغربيين المناصرين للفلسطينيين، أدت كلها إلى أن يَعتبر أرفع المسؤولين في إسرائيل أن الذاكرة التاريخية والأعمال التأريخية أضحت أدوات يمكنها أن تستخدم كأسلحة ضد أي جهود إضافية لتعرية صورة إسرائيل التي تتدهور بالفعل في المجتمع الدولي. 

خلال ما أسمّيه بـ “عقد نتنياهو” الممتد بين 2009 و2019، تمكنت إسرائيل من إدارة أرضية التحولات هذه من خلال نزع الصيغة السياسية عن قضية فلسطين، بأسلوب مشابه لما قامت به الإدارة الأمريكية الحالية من خلال “صفقة القرن” التي أطلقتها على اعتبار أن فلسطين غير مسيسة سوف لن تتمكن من استخدام رواية تاريخية لدعم المطالب السياسية بالحصول على دولة، أو تقرير المصير، أو الحق بالعودة، وبالتالي فإن الخطة التي كشف عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2020 تصوّر القضية الفلسطينية كمشكلة اقتصادية واجتماعية يمكن دعمها بالتمويل المالي أو تسكينها بهدوء. إن تدمير الأرشيف من خلال إزالة المواد التي رُفعت عنها السرية ما هو إلا جزء من نفس الاستراتيجية للتخلص من المسألة الفلسطينية برمتها، وقد أقدمت إدارة ترامب بالفعل على الكثير من خطواتها، كإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وقطع التمويل الأمريكي عن منظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، والاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

الأبحاث المستقبلية عن النكبة

تشكل الوثائق الخاصة بالنكبة والتي يُزعم أنها تدمّر سمعة إسرائيل، وهي التي بنى على أساسها المؤرخون الجدد أعمالهم في الثمانينات، أقل من 2% من الوثائق التي رُفعت عنها السرية في إسرائيل، وهو رقم ضئيل بكافة المقاييس، هذه الوثائق هي ما يتم العمل على إخفائه الآن. بسبب هذا، فمن المنطقي أن نستخلص أن الجيل القادم من المؤرخين لن يتمكن من الوصول إلى مواد أرشيفية جديدة ولا زيارة الأعمال التي أشار إليها أسلافهم، على الأقل خلال المستقبل القريب. تعمل التحديات البحثية للصياغة المهيمنة والسائدة للصراع بصفتها صراعاً قديماً بين حركتين قوميتين، تعمل على ترسيخ النكبة بصفتها جريمة ضد الإنسانية، وهو تصور ترفضه إسرائيل والمدافعون عنها. ولكن وفي ضوء احتمالية المنع الكامل من الوصول إلى الأرشيف مستقبلاً، هل لدينا اليوم ما يكفي من الوثائق التي تعد أدلة دامغة على كون النكبة فعل تطهير عرقي ومحاولة لتطبيق “القضاء على السكان الأصليين”؟

يشهد اللاجئون الفلسطينيون على إفراغ فلسطين من سكانها، وهم بالتأكيد ليسوا بحاجة إلى مؤرخي إسرائيل الجدد لمعرفة ما إذا ما كانوا هم أو أسلافهم قد تعرضوا للتطهير العرقي، كما أننا لا نحتاج إلى وثائق أرشيفية لتخبرنا بأن مئات من القرى تعرضت للتدمير والدفن تحت المستوطنات اليهودية الجديدة فيما يسمى الآن بالغابات الوطنية. كان التاريخ الفلسطيني الشفهي ولا يزال المصدر الأساسي للعديد من القصص المروعة عن الوحشية بما في ذلك جرائم الحرب خلال النكبة، رغم أن الأمر استغرق جيلًا كاملاً لمعظم الناجين ليكونوا مستعدين أو قادرين على مشاركة تجاربهم وذكرياتهم مع الباحثين. بهذا، تصبح هذه المواد الأرشيفية على وجه الخصوص ذات أهمية كبرى في فهم الصلة المعاصرة للتطهير العرقي الذي حصل عام 1948، إضافة إلى الأيدولوجيا والدوافع وراء ذلك. كما يساعد ذلك في ملء الثغرات في أوصاف التاريخ الشفهي للأحداث بصفتها ذكريات تصبح أقل دقة مع مرور الوقت.  

فقدان وثيقة رئيسية

كقاعدة أساسية وفي سياق العوالم الأخرى، لا يمكن أن تشهد وثيقة واحدة بصفتها دليلاً دامغاً يوضح معالم الإبادة الجماعية أو الدعوات لها، سواءٌ كان الحديث عن إبادة الأمريكيين الأصليين في شمال أو جنوب أمريكا، أو اليهود أثناء المحرقة اليهودية، أو الروانديين خلال الحقبة المعاصرة. عادة ما تدفع الأعمال البحثية الخاصة بالإبادة الجماعية بسؤال عن النوايا على النطاق الواسع، في حالات لا يمكن العثور فيها على أي مخططات. لكن، يبدو أن غياب وثيقة الدليل القاطع يتسبب بالإرباك للأكاديميين أكثر منه للقانونيين. بحسب ملاحظة أليكس دي وال المؤسفة، فإنه “في حين أن عدم وجود مخططات أيديولوجية وتحويلية أمرٌ مهم بالنسبة للدبلوماسيين ودارسي الإبادة الجماعية، فإنه لا ينطوي على عدم وجود ذنب بحسب القانون”. يذكرنا دي وال بأن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا والتي تم إنشاؤها لمحاسبة المسؤولين عن الإبادة الرواندية خَلُصَت إلى أن ما حدث في رواندا لم يكن إبادة جماعية بسبب وجود دليل، إنما بسبب افتراض عدد من الحقائق بما في ذلك السياق العام الذي “وقع فيه أذى متعمد وممنهج على الجماعة المستهدفة”.

في تعليقه على الوضع في إقليم دارفور في السودان، فإنه أيضاً يسوق البراهين على حدوث جريمة ضد البشرية على مستوى إبادة جماعية دون وجود خطة شاملة، وهو الأمر الذي لا يتصل بوصف النكبة فحسب، بل بوصف الإبادة التدريجية التي تستمر إسرائيل في ممارستها ضد قطاع غزة منذ العام 2005. يكتب دي وال: “وضعت الحكومة السودانية خطة لعملية بهدف مكافحة العصيان، وأعطت ضبّاطها الحصانة الكاملة لدفعهم على ارتكاب الفظاعات، والتي كانوا يرتكبونها بشكل روتيني على نطاق واسع وعلى أساس عرقي. كانت تلك عملية غير أخلاقية لمكافحة التمرد واستمرت في التصاعد إلى حد كونها إبادة جماعية”.

يقدم الباحث القانوني أليسكاندر زاهار رأياً مشابهاً في قضية رواندا، إذ يدّعي زاهار أنه لا يمكن دائماً اعتماد الخطة الأساسية كتفسير وحيد لفداحة جريمة ما مثل التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية، ويؤكد أن للسياق التاريخي أحياناً أهمية مماثلة إن لم تكن أكبر. “كانت الإبادة في رواندا بيئة عدائية، وهي أشد ضراوة اليوم من غيرها، وذلك بفضل مسار طويل شكلته الصراعات المستمرة التي بدأت في تلك المنطقة قبل عدة سنوات وهي تستمر حتى اليوم”. بكلمات أخرى، يندر أن يوجد مستند لخطة رئيسية يوضح خطة حذرة وممنهجة لعمليات القتل الجماعي أو التهجير التي تستهدف جماعة عرقية أو دينية ما، بالرغم مما قاله وليد خالدي في صفحات هذه المجلة عن كيف توشك الخطة (دال) على أن تصنف كمستند مشابه.

إن غياب خطة رئيسية أدّى ببيني موريس للتوصل إلى خلاصة بأن تهجير الفلسطينيين لم يكن أمرأً متعمداً أو مخططاً له، وأن ما حدث في 1948 كان مجرد نتيجة حتميّة للحرب. وليكن كذلك، فإن وجود خطة رئيسية لا يقدم الدليل الرئيسي على تصوير حدث ما بصفته إبادة جماعية أو تطهيراً عرقياً. فالدليل واضح في العمل نفسه لا في الوثائق التي سبقت حدوثه. لكن وضع الدليل في السياقين التاريخي والأيديولوجي يساعد المؤرخين على تقييم درجة جهوزية الجناة، وفي فضح دور الأيدولوجيا في تنفيذ السياسات الوحشية المتمثلة في التهجير والتدمير. بنفس الأهمية تكون حقيقة إمكانية استخدام وثائق من الماضي كهذه لتحدي أمور سخيفة مثل خطة ترامب للسلام ومشاريع أخرى متعلقة بصفقة القرن التي تعتمد على عدم تسييس القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مشكلة اقتصادية ذات أبعاد إنسانية، وبالتالي تحقيق الهدف السياسي من “القضاء على السكان الأصليين”، وهو ما أسماه الراحل باروخ كيمرلينغ بالجريمة السياسية، إضافة إلى نسخة القرن الحادي والعشرين من فكرة الأرض المباحة .

في الحقيقة، كمؤرخين متخصصين، فإننا نحتاج إلى وفرة من المستندات للتّثبت من صحة الدليل على سياسات المستوطنات اليهودية الأولى وسياسات إسرائيل الإجرامية في عام 1948. في حين قد تبدو المهمة الموازية أكثر سهولة فيما يتعلق بما بعد 1967، فإن الدراسة المستمرة للنية والوحشية التي شهدتها نكبة 1948 هي في الواقع أكثر أهمية لفهمنا لطبيعة الصراع المعاصر. لحسن الحظ، فبالإضافة إلى العمل المذهل المستمر فيما يتعلق بالتاريخ الشفهي، فإن عدداً قليلاً من المؤرخين المتخصصين صادفوا عبر السنوات وثائق إسرائيلية مؤثرة، وبالطبع، فإن سجلات أرشيف أخرى، كتلك الخاصة بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الأمم المتحدة تبقى مفتوحة أمام العامّة. في العالم العربي، يتعذّر الوصول إلى سجلات الأرشيف، لكنها أقل أهمية عند الحديث عن الجدال المتعلق بالقضاء على السكان، أو التطهير العرقي أو العنف الهيكلي ضد الفلسطينيين.

وثائق في خطر: أرشيف توضيحي للنكبة

في الصفحات القادمة، سأناقش عدداً من الوثائق المرفقة بالصور عند توافرها، وسأعلّق على أهمية هذا الدليل الذي صادفتُه في الماضي وقمتُ بتصويره قبل بعض الوقت. 

تتبع هذه الوثائق المنطق ذاته، ذلك الخاص بالمسار الزمني لعمليات التطهير العرقي في فلسطين خلال 1948. قام الكثير من المؤرخين والصحفيين الذين عملوا في الأرشيف الإسرائيلي بالأمر ذاته، وبالتالي، بإمكاننا أن نفترض الاستمرار في العثور على نسخ من هذه الوثائق بحوزة الكثير من الأفراد حتى بعد ما تم اعتبار بعضها سرية مرة أخرى، والتي ستشكل مصدراً هاماً للأبحاث المستقبلية.

يبدأ مسار الاستيلاء في أبريل 1948 بطرد العرب من مساحات شاسعة من الفضاء الحضري في فلسطين، والاحتلال الصهيوني للمناطق الساحلية حول يافا وحيفا في الأسابيع التي سبقت نهاية الانتداب في 14 من مايو/أيار. (اقرأ المستندات 1 و2). تلت هذه المرحلة الأساسية من الاستيلاء العسكري على فلسطين فترة تأسيس الدولة في 15 من مايو/أيار، عندما استهدف ما يسمى الآن بالجيش الإسرائيلي الساحل الشمالي خلال شهر يوليو/تموز، واستولى على البلدات الثلاثة التي لم تكن قد وقعت بعد تحت الاحتلال، وهي اللد والرملة والناصرة (إقرأ المستند 3). حصلت بلدات الضفة الغربية على الحماية بفضل تفاهم ضمني بين الوكالة اليهودية والمملكة الهاشمية في شرق الأردن، والذي تم التوصل إليه قبل اندلاع الحرب. كذلك لم يقترب القتال من غزة، وهو ما جعلها مركزاً لاستقبال مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تم إبعادهم من المناطق التي تبدأ جنوب يافا وحتى الوصول إلى بئر السبع. شهدت المرحلة الأخيرة من الاحتلال العسكري والتي استمرت لشهر بعد بدايتها في أكتوبر/تشرين أول 1948 على استحواذ إسرائيل على السهول الشرقية بين يافا والقدس، إضافة إلى أقصى جنوب منطقة الخليل (إقرأ رسالة عزيزي الرفيق إليازر بيري). تزامن هذا مع احتلال القوات الإسرائيلية لمناطق الجليل الشمالي والجليل الأعلى. (تم توثيق بعض الفظاعات التي اُرتكبت هناك في المستند 4).

حتى بعد أن أفرغت إسرائيل القرى من سكانها، حاول أهلها العودة إلى منازلهم بعد أن خمدت المعارك، ليتم إبعادهم عنها من جديد. في المستند 5، يمكن قراءة أمر بطرد سكان هذه القرى في مناطق المجدل عسقلان، والتي تتبع إقليم غزة.

تتصل هذه المستندات بمراحل أساسية في العملية الإجمالية لسلب وتهجير السكان الأصليين لفلسطين، وقد تم تأكيدها من خلال الأبحاث الأخيرة المستندة إلى شهادات تاريخية شفهية.

عمليات إيهود وبن عامي

في أبريل/نيسان وبدايات مايو/أيار 1948، وضعت القوات الصهيونية أنظارها على مدن فلسطين. وخلال أسبوعين، تمكنت من إفراغ كل من طبريا وبيسان وصفد وحيفا والقدس الغربية ويافا وعكا من سكانها. اُرتكبت هذه الجرائم بحق المدن مع سبق الإصرار والترصد الكاملين، وذلك بدليل الاقتباس التالي من بن غوريون في كتاب سمحا فلابان الهام بعنوان (ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق):

“تمثل الهدف الاستراتيجي للقوات اليهودية في تدمير مجتمعات المدن، والتي كان أهلها أكثر سكان فلسطين تنظيماً ووعياً بالقضايا السياسية. لم يتم ذلك من خلال القتال على أبواب المنازل واحداً تلو الآخر داخل المدن والبلدات، لكن من خلال الاستحواذ على المناطق الريفية المحيطة بالمدن وتدميرها. أدت هذه الآلية إلى انهيار واستسلام حيفا ويافا وطبريا وصد وعكا وبيسان واللد والرملة والمجدل وبئر السبع. بعد أن تم حرمانها من وسائل النقل والطعام والمواد الأساسية، عانت مجتمعات المدن من التفسخ والفوضى والجوع ما أجبرهم على الاستسلام.”

منطقة أخرى تم استهدافها قبل نهاية الانتداب كانت السهول الساحلية التي أشار إليها القادة العسكريون والسياسيون الصهاينة باسم (هشارون هافيري)، أي السهول العبرية. تكونت سهول الشارون هذه من سهول ساحلية امتدت نحو الجنوب من يافا وحتى نهر الزرقاء، وهي المنطقة التي تُعرف اليوم باسم بلدة جسر الزرقاء الواقعة على بُعد 30 كيلومتراً جنوب حيفا. في تلك البقعة من الأرض، كانت هنالك أكثر من ستين بلدة فلسطينية، لم يبقَ منها بعد النكبة سوى اثنتين: جسر الزرقاء وفريديس‎.

قبل الشروع في احتلال ذلك الجزء من فلسطين، خضعت القوات الصهيونية لممارسات تلقينية أيديولوجية مكثفة على يد القادة السياسيين، وقد ركزت معظم هذه الممارسات على التاريخ القديم لكل منطقة كانوا يحاولون بسط السيطرة عليها. صوّرت روايات القادة السياسيين ما يسمى بمنطقة السهول العبرية وهي تتعرض للاجتياحات الأجنبية بين وقت وآخر. حتى حقبة الرومان، زخرت هذه القصص بالبطولات لكنها بعد ذلك، روَت أن المنطقة خلت من السكان بسبب حكم المسلمين الذين “اهتموا بالسيطرة على مساحات الأرض في الصحراء، لا الساحل”. تستمر هذه الروايات في الحديث عن السهول التي بقيت “مهجورة منذ العهد المملوكي وحتى وصول الصهاينة الأوائل الذين وجدوها في حال ترثى لها، حيث لم تكن أكثر من مستنقعات موبوءة بالأمراض”. بحسب روايات القادة الصهاينة، فإن “مرحلة من الازدهار في منطقة سهول الساحل لم تبدأ إلا عند بدء تدفق اليهود من كل أنحاء العالم وبناء المستوطنات اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر”.

تم تصوير هذه السهول أيضاً بصفتها منصة انطلاق “الخلاص اليهودي في أرض إسرائيل”، والتي لم يكن يعكّر صفوها بشكل دوري وعلى نحو غير إنساني سوى السياسات البريطانية. كذلك صوّرت الروايات الإسرائيلية أنه وبالرغم من بذل الصهاينة أقصى جهودهم، فإن المنطقة كانت لا تزال “مليئة بالغرباء” حتى كان على لواء ألكسندروني “الشروع في تحريرها”. يصف المجلد المنقّح عن هذا اللواء والذي ظهر للمرة الأولى عام 1964 عملية “التحرير” إذ يربط بدايتها بعمليات إخلاء مئتين من سكان قرية “سيدنا علي” في فبراير/شباط 1948، والتي تبعها طرد 100 شخص من قرية قيسارية. ارتكبت قوات الصهيونية شبه المنظمة عمليات الطرد الجماعي هذه فيما اكتفى البريطانيون المسؤولون عن تنفيذ القانون أثناء الانتداب بالمراقبة دون أن يحركوا ساكناً. بحلول مارس/آذار 1948 كان قد تم تطهير المنطقة على امتداد سهول الساحل بشكل شبه كامل إلا من بعض البلدات العربية، وهي عين غزال، جبع، وإجزم التي يصفها كتاب لواء إسكندروني بأنها الشوكة التي ظلت عالقة في الحلْق، إضافة إلى الطنطورة التي “كان يجب التعامل معها”. في أيام الانتداب الأخيرة، كان الساحل الشمالي لحيفا قد خلا من سكانه العرب، خصوصاً المنطقة الواقعة بين عكا والحدود اللبنانية التي حددها قانون التقسيم الذي وضعته الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن 181، وهي الحقيقة التي لم يكن لها أي تأثير يُذكر على الخطط الصهيونية في السيطرة على ما أَمكن من فلسطين.

تتصل أول وثيقتين بعملية بن عامي التي استهدفت سهول ساحل شمال فلسطين التي بدأت في منتصف مايو/أيار 1948. بالرغم من تجاهل معظم المؤرخين، إلا أن عملية بن عامي التي كان ينبغي لها أن تُنفذ قبل نهاية الانتداب البريطاني في 15 مايو/أيار، كانت تسمى عملية إيهود. لا يُمكن وصف عملية إيهود بأنها من ضمن أحداث الحرب التي لم يكن بالإمكان تفاديها، لأن الحرب لم تكن قد بدأت بعد عندما صدرت الأوامر بانطلاق العملية في أبريل/نيسان 1948، بل كانت القوات الصهيونية قد أُمرت بتطهير مساحات المدن الفلسطينية التي احتوت على ما يقرب الـ250 ألف شخص في حينه، إضافة إلى مناطق الجليل التي شكّل الفلسطينيون 97% من سكانها الذين اقترب عددهم حينها من الـ100 ألف. تقدّم وثائق كهذه الدليل الدامغ على أن التطهير العرقي كان ممنهجاً في فلسطين خلال 1948.

استهدفت عملية بن عامي ستّ قرى قامت قوات الهاغاناه بتدميرها بشكل كامل، وقد تضمن ذلك ارتكاب المجازر. كانت القرى جزءاً من الريف كثيف السكان الذي كانت دولة إسرائيل الجديدة عازمة على إفراغه من العرب، ولم تكن عمليات طرد العرب القسرية أمراً غريباً أو عشوائياً. بحسب الوثيقة الأولى، فإن العملية كانت مخططةً بدقة على مدار الساعة، حيث قدّرت القيادات العليا أن تدمير القرى الستة سيحتاج إلى أربع ساعات. (مقاطع وثيقة عملية بن عامي/إيهود)

الجزء الثاني من البحث… هنا.

الترجمة كاملة بصيغة PDF

الكاتب: رهام درويش

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع