جولان حاجي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/87rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:43:03 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png جولان حاجي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/87rommanmag-com 32 32 نظيف كقميص يوم الأحد: جان بيير سيميون https://rommanmag.com/archives/21272 Tue, 18 Jul 2023 07:54:06 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%81-%d9%83%d9%82%d9%85%d9%8a%d8%b5-%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ad%d8%af-%d8%ac%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d9%8a%d9%8a%d8%b1-%d8%b3%d9%8a%d9%85%d9%8a%d9%88%d9%86/ كانت أمسية بصحبة الموسيقا والخط العربي، في كاتدرائية سان دني شمال باريس- الحاضرون، الجمهور والممثلاث والخطّاط وعازف العود، متوارون خلف المذبح، حيث مساحة فسيحة للقراءات وفّرتها البلدية التي كان الشيوعيون يديرونها وقتذاك.  قُرِئتْ قصائد جان بيير سيميون وسط الأضرحة الفاخرة لشارلمان، وفرانسوا الأول، والملك الشمس، وكاترين ميديشي، وآن دو بروتاني… جلس المدعوون في ظلال التاريخ، […]

The post نظيف كقميص يوم الأحد: جان بيير سيميون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كانت أمسية بصحبة الموسيقا والخط العربي، في كاتدرائية سان دني شمال باريس- الحاضرون، الجمهور والممثلاث والخطّاط وعازف العود، متوارون خلف المذبح، حيث مساحة فسيحة للقراءات وفّرتها البلدية التي كان الشيوعيون يديرونها وقتذاك.

 قُرِئتْ قصائد جان بيير سيميون وسط الأضرحة الفاخرة لشارلمان، وفرانسوا الأول، والملك الشمس، وكاترين ميديشي، وآن دو بروتاني… جلس المدعوون في ظلال التاريخ، فوق السراديب الزاخرة بعظام رُوكمت كالذخائر على مرّ القرون، حيث نُضّدت بقايا المحاربين والقديسين وتمازجت. الجلساء استمعوا إلى شعرٍ ضد التاريخ، صامتين في تلك العراقة، الجاثمة على صدور الموتى والأحياء، بين القبور المشيدة بالمرمر والأبنوس، حيث ملوك منحوتون على أغطية نواويسهم، وأسفل قدمي كل ملك يثوي كلبُ صيده. 

كانت منصة القراءة محروسة بتمثال سان دني، سَميّ تلك الكاتدرائية وشفيع باريس، حيث يقف القديس كما في اللقطات التذكارية، ولكن ممسكاً برأسه المقطوع في حجره، ووراءه ضريحان آخران يرقد فيهما رأسان آخران مقطوعان لأسباب أخرى، عائدان إلى ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر. 

يُخيل إليّ أن كلمات الشاعر قد لاقت صدى آخر بالفرنسية والعربية، متواضعاً في مكان يناسب احتجاجها الإنساني، وسط الأصداء التي يضاعف من حدّتها معمارُ الكنائس، ذلك المساء أواخر أيلول 2016، في سان دني التي لا يتوانى الإعلام الطاغي عن وصمها بأنها أفقر بلدات فرنسا، وأكثرها ازدحاماً بالمنفيين والمهاجرين من أربع رياح الأرض. 

أعادتني مقالة للشاعر السوري محمود الحاج عن جان بيير سيميون إلى هذه الترجمات التي كنتُ قد نسيتها، بعدما أنجزتها من أجل تلك القراءة في خريف 2016. لعلّ هذه القصائد قد اكتستْ معاني أخرى بعدما أشعل العنف أرجاء فرنسا بين 27 حزيران و3 تموز 2023. 

 

لن أتكلَّمَ عن الأشجار

 

لن أتكلَّمَ عن الأشجار

ولا عن ضوضاءِ الليل

في راحةِ السماء

ولا عن السواحلِ المزركشة بالضوء

 

ما دام ثمة رجلٌ

يجاهِرُ بألمه 

إنه ليس جائعاً

إلا إلى الخبزِ والماء

 

ما دامتِ امرأةٌ

تنبشُ الأنقاض

بحثاً عن طفلها

 

ما دام هناك نهارٌ يُشرِق

على الجبينِ الأسود

للذي قُتِلَ رمياً بالرصاص

 

لن أتكلَّمَ

عن الأشجار

 

الرأسُ تحت الوسادة

 

غريبٌ هو النوم

عندما صرخاتٌ كثيرة

ترفعُ جداراً

أمام الآفاقِ كلِّها

 

عندما سقوطُ جسدٍ

على الأحجار

يجعلُ الليلَ يرتجف

حتى ذرواتِ غصونه

 

عندما الهواءُ في كلِّ الأرجاء

يردّدُ هذا الصمتَ

الذي ينهالُ مع التراب

على القبورِ الجماعية

 

عندما شهقةُ طفلٍ تحت المِدية

تحدِثُ جلبةَ

نهايةِ العالم

 

حقاً

تحدثُ في مدنِنا

نَوْماتٌ غريبة

في رابعةِ النهار

 

العيونُ المفتوحة

 

لا يتوجّبُ أبداً

إيصادُ القفل ِعلى الليل

 

ولا التخلّي 

نهائياً

عن إيماءاتٍ مخذولة

عن خطواتٍ أحرقَها

الندمُ

ولا إيلاءُ الظهرِ أبداً

لهزيمةِ البشر

 

لا ينبغي لنا أن نغلِقَ ثانية

حجرةَ الموتى

فالذكرى أحياناً

خَفْقةُ جناح

 

الأحرى إبقاءُ

الذاكرةِ مفتوحةً  

بين ريحِ الأمس

وطائرِ الظهيرة

إصراراً على الحياة

 

لن ننتهي

من هذه الرائحةِ وهذا الدم

اللذين يتصاعدانِ في كلِّ الأنحاء

مع الفجر

 

الكراهية التي فتّقتِ الساعات

الأمكنة المبعثرة في السخَط

 

لن ننتهي

مِن أن نكون ما يرتجفُ

ما يتعثّرُ ويرتبك 

كعشبةٍ تحت الريح

 

ثمّة في البؤس

ما يشبهُ الأبدية ولكن

فلنبرمِ الوعدَ بأننا لن نهاوِدَ 

في بناءِ لحظةِ الفرح من جديد

وأن نعيشَ هبوبَها العاصف 

 

توارَثُوا العالم

 

ابتكرِ السماء

استولدِ الحجر

كما فعلَ العربيُّ وهنديُّ الأنكا

 

كما فعلَ الأفريقيُّ

ابتكرِ النارَ والشجرةَ والثمرة

 

في صمتِ الصينيِّ العجوز

اَدرِكِ الغناءَ الأبكمَ للزهرة

 

تعلّمْ من البحر

ما تعلّمَهُ يوليسيس التائه

حين ثنى الموجَ والحبَّ

في قوسِ رغبته

 

امتلئْ بالعالم

وفي كلِّ لحظة

كُن جديراً بالنهارِ الذي استولدك

 

مُعتَقَد

 

أؤمنُ بالذين يمشون

 بخطواتٍ عارية

في وجهِ الليل

 

أؤمن بالذين يحارون

وقدّام حيرتِهم

يمشون

 

أؤمنُ بالجمال، أيْ نعم،

لأنه يأتيني من الآخرين

 

أؤمن بالشمسِ بالسمكة

بالورقةِ التي ترتجف

ثم تموت

لا أزالُ أؤمنُ بها

بعد موتها

 

أؤمنُ بالذي

 ليس له بلادٌ

إلا في غناءِ البشر

 

وأؤمنُ بأنّا نحبُّ الحياة

كــــأننا نكافح

وأذرعُنا لا تفلِتُ ما نصارِعُه 

 

عنصريُّون

 

هذا هو ما يقولون:

شقيقةُ النُّعمان أذكى من الوردة

الرملُ أجملُ من القطّ

وكان الحجرُ دائماً

أسمى من اليقطين

 

يُوبِّخون الأسود

لأنه أشدُّ سواداً من الأبيض

كمَن يوبِّخُ النار

لأنها أحرُّ من الثلج

والعسلَ لأنه أحلى

من الموجة

 

وإذا خافوا من ظلّهم

فلأنهم حدسوا قليلاً

إنّ كراهيةَ الغريب

هي الخوفُ من الذات

 

نحنُ دائماً أصغرُ مما نظنّ

 

مَن بوسعه القولُ إنّ يدَهُ

أكبرُ من الظلِّ الذي تُلقيه؟

مَن بوسعهِ القولُ إنه موجودٌ في كلِّ مكان

حيث تركتْ خطوتهُ بصمة؟

 

مَن سيجرؤ على القول إنه سيّدُ

الهواءِ الذي يتنفَّسُه

الغناءِ الذي يسمعُه

اليدِ التي تمتدُّ إليه؟

 

مَن يستطيعُ القَسَم إنه ليس الآخرَ

الذي مرَّ تحت نافذتِه؟

 

ومَن يقدرُ على الاعتقاد

بأنّ قلبَهُ غنيٌّ بما فيه الكفاية

ليحدّث نفسَه

حديثَ حياةٍ بأكملها؟

 

أخوّة

 

اقتَلِعوا كلَّ الرايات

راياتِ الأممِ كلِّها

اقتلِعوها من ساريةِ الاستعلاء

 

صيّروها قِماطاً

لاستقبالِ المولود

 

صيّروها فستاناً 

للرقص

أو ربما وِشاحاً

على أكتافِ البؤساء

 

ابسطُوها كشرشف

لرُقادِ

العجوز

 

ارفعوها تحت الريح

لتمْخرَ الموجة

 

اقتلِعوا الراياتِ

لتصيرَ الغطاءَ الشاسع

على مائدةِ البشر

 

الرَّصْد

 

مَنِ الآتي

في ضجيجِ مدننا

مَنِ الآتي

ويا لهشاشته

مُنثنياً كالقمح

تحت عاصفةٍ رعدية

وفي كلّ مرة، رغم كل شيء،

يبسطُ راحتيهِ كشقيقٍ لنا

 

مَنِ الآتي

ظلاً بين الجدران

وسط النقماتِ والخرائبِ

وأشغالِ الأسى

مَنِ الآتي

 

اِخرسي يا رعودَ المدن

وصريرَ المشنقة

وصرخاتِ المجاعة

اِخرسي

 

ولننظرْ إلى أملٍ لا وجهَ له

يعبرُ

ظلّاً بين الجدران

 

صِرْ رفضاً

 

قولوا لا

لما يُعرقِل

لما يكسِر

لما يَبْلى

صيروا رفضاً

 

في وجهِ الاستعجال

تحت العضّة

أمام القوّةِ التي تهدر

كونوا العثَرة

 

مَنْ

أطاعَ الليل

اِلتهمَه

 

في الأراضي كلِّها

لتعلوَ الصرخة

مثلُ شجرة

 

الغضبُ الصحيح

 

هذا هو غضبي:

ذو الجبينِ العالي

والفمِ الصافي

كمثلِ كلِّ ما يعضّ

على سعادةِ النهار

 

هذا هو غضبي

خفيفٌ كنَفَس

وقويٌّ كغناءٍ في عُرس

غضبي الذي يفصِم

النارَ عن رمادِها

ويجدّدُ شبابَ الخطوة

 

هكذا هو غضبي

شبيهٌ بخفقةِ جناح

تسرّحُ من أسْرِ الظلال

الشعوبَ المدفونةَ بين الجدران

 

النهارُ ينتظر

 

خرساءُ مغلَقةٌ

القبضةُ المطبقةُ على قلبه

ينامُ النهار

ينتظرُ النهار

ليستيقظ

 

ينتظرُ

 

أنْ يتوقّفَ الإنسانُ أخيراً

عن الكراهيةِ

التي تخيّطُ أجفانَه

 

أن يغسلَ يديه

من الدمِ

الذي يقيِّدُ الأصابع

 

وإلا فلن يأتي

 

اللغزُ الجميل

 

ماذا يلزمُ

لنجعلَ من الصرخةِ غناءً

لنبنيَ جداراً

ثم نفتحُ فيه باباً

يُسفِّهُه

 

لكي نجعلَ من المنفى

وطناً

كما نجعلُ من الحلم

شجرةً كبُرتْ

 

لنحوّلَ الظلَّ

إلى نرجسٍ بريّ والصخرةَ

إلى حجرٍ يُرمَى على المياه

 

ماذا يلزمُ إذن

لنجعلَ من الإنسان

قصيدةً مفتوحةً للرياحِ كلِّها؟

 

عوالم متوارية

 

كلُّ إنسانٍ يحملُ عالماً

لا نعرفُ عنه شيئاً

 

إلا

إذا كان الجوُّ فيهِ لطيفاً فابتسامةٌ على الشفتين

وإنْ كان بارداً فأسنانٌ تصطكّ

 

إذا كان الوقتُ فيه نهاراً فالكلامُ صافٍ

وإنْ كان ليلاً فالفمُ مخيط

 

هذا يكفي

للفهم

إذا كانوا في هذا العالم

يعيشون في سلام أو يخوضون الحرب

 

كافٍ لمعرفةِ

إذا كان السكوتُ واجباً

أم القُبلة

 

الغريب

 

وُلدتُ في باريس

لأبوين فرنسيّين:

سجلّي المدنيُّ نظيفٌ

كقميصِ يومِ الأحد

 

لكنّي غريب

غريبٌ أكثر من الغريب

في بلدي حين يكون

قاسياً وبارداً كالحجر

ومغلقاً كبوّابة

قُبالةَ السماءِ المتحوّلةِ للوجوه

أنا غريبٌ عن الجميلة

التي لا تمنحُ نفسها إلا لمرآتها

غريبٌ عمَّن

يقرعُ ناقوسَ الحرب

بسببِ نسمةِ هواء

 

غريبٌ حقاً

غريبٌ أكثر من الغريبِ نفسه

في بلدٍ يكنزُ

قمحَهُ وَضَوءَه

في قبوِ القلب

 

من أجل الآخر

 

في شوارعِ مدننا

نؤمنُ بالله نمشي

نغيّرُ الدُّولاب

نأكلُ نصرخُ ننتظرُ

نهايةَ رمضان الثلجَ عند طبيبِ الأسنان

نجتازُ الشوارع نحيّي بأحرّ السلام

نموتُ نتصدَّقُ

نزدحِمُ نقطعُ الخلاء

نضيعُ نكسبُ عيشنا

 

مَن معه الحقُّ مَن عليه

مَن يخونُ حِسَّ الشارع؟

 

وفي شوارعِ العالم

مَنِ المخطئ مَنِ المصيب

حين يقومُ على رصيفِه

بفعلِ شيءٍ آخر

مختلفٍ تماماً

عن العابرِ المقابل؟

 

ولادة ثانية

 

في بعضِ الأماسي نأوي إلى السرير

كحجرٍ ضجران

مُطوَّقٍ بالبؤس

راجين أنْ ننسى أنفُسَنا

تحت المياهِ الوئيدةِ للنوم

 

نردُّ مُلاءةً على جبينِنا

لنتوارى عن العالم

 

لا نريدُ

الحلمَ ولا الظلّ

ولا العينَ العنيدةَ للمصباح

 

ولا سيما الشعورَ بالخوف

الذي يزحفُ على بطونِنا

مثل قطّ

 

بل أنْ نستيقظَ في الصباح

بشمسٍ بين الأصابع

 

حجرٌ للبناء

 

أنْ تعرفَ شقَّ طريقٍ

في فوضى الأيام

 

أنْ تمدَّ لنفسِك

اليدَ

بعد السُّقوط

 

أنْ تستطيعَ تسميةَ

كلِّ خوفٍ من مخاوفك

وتشكر المجهول

لأنه يُطلِق سراحَنا

 

بإيماءةٍ واحدة ونظرةٍ واحدة

ستتحقّقُ

من جمالِ الآخر

 

أنْ تُجوِّع كلَّ لحظة

 

هكذا يكونُ البنّاءُ

الذي يبني بالحجر

 

دون حدودٍ راسخة

 

 طُوبى للأنهار

التي ليسَ لها حدود

طُوبى للرياح

التي تقفزُ عن الأسوار:

إنّها من البلادِ التي تتنفّسُ فيها

 

طُوبى لليل

الذي نلقاهُ في كلّ مكان

كصديقٍ منذ الأزل

وطُوبى للسنديان

الذي يتقاسمُ صُدْفتَه

مع الحَورِ ووَرْدِ السياج

 

آهِ اخلقوا لي إنساناً

كنهرٍ

كريحٍ كشجرة

يستمتعُ بحقِّ السماء

 

مُواطِن الحلم

حيث تحطُّ نظرته

 

استطاعاتُ الضعيف

 

أطالبُ بكلِّ استطاعات الضعيف

كان يقول

فنُّ المشي حافياً قدّام الأمراء

والبصقِ على أحذيتهم

فنُّ اقترافِ ملذّاتِ الحلم

والعبورِ خلل ثغراتِ الكلام

فنُّ رمي الكلمات

على الواجهاتِ الزجاجيةِ العمياء

فنُّ أنْ تكبِّلَ الكراهيةَ والنسيان

بقيودِ الرفض

 

أحدّقُ في عيونِ

عملاقِ العاصفةِ الرعدية

وإذا اجتازتني الصاعقةُ

وُلِدتُ من جديد

غناءً على شفتيّ ابني

 

باب في سان دني

The post نظيف كقميص يوم الأحد: جان بيير سيميون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فراديس باتريك موديانو https://rommanmag.com/archives/21237 Tue, 30 May 2023 15:10:38 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%b3-%d8%a8%d8%a7%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d9%88%d8%af%d9%8a%d8%a7%d9%86%d9%88/ صادفت العلامة على فراديس باتريك موديانو في قرية بيزالو القروسطية، القريبة من جيرونا. في تلك الأنحاء، تتمازج الألسنة، الإسبانية والفرنسية والكاتالونية والأوكسيتانية، وقد تحضر أربعتهنّ معاً في مكتبة واحدة للكتب المستعملة، على الجانب الفرنسي أو الجانب الإسباني من الحدود، المرسومة بجبال البيرينيه.  ربيع 2019، زرت العديد من القرى شمال كاتالونيا. زيارات أخرى سبقت تلك الرحلة، […]

The post فراديس باتريك موديانو appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صادفت العلامة على فراديس باتريك موديانو في قرية بيزالو القروسطية، القريبة من جيرونا. في تلك الأنحاء، تتمازج الألسنة، الإسبانية والفرنسية والكاتالونية والأوكسيتانية، وقد تحضر أربعتهنّ معاً في مكتبة واحدة للكتب المستعملة، على الجانب الفرنسي أو الجانب الإسباني من الحدود، المرسومة بجبال البيرينيه. 

ربيع 2019، زرت العديد من القرى شمال كاتالونيا. زيارات أخرى سبقت تلك الرحلة، وأخرى أعقبتها. تجوّلت وحدي. كنت أختار وجهتي، ثم أركب باصاً من باصات “تييزا”، تصادف، أكثر من مرة، أن أكون راكبه الوحيد. بيزالو واحدة من تلك القرى. كانت مضاءةً بشمس آذار، حين قصدتُها للوقوف على أطلال الكنيس، المطلّ على نهر فلوفيا، وقربه “حمّام الطهارة” تحت الجسر الروماني العالي، الطويل. لقب “الإسفاراد” مشتقّ من الكلمة العبرية التي تعني “إيبيريا”. صار اسم المكان لقب لمطرودين من المكان.

مشتتاً في الدُّوار اللغوي بين العربية والعبرية، وقعتُ على متحف العوالم الصُّغرى Micromundi، المتواضع تواضعَ بيزالو. هادئٌ وحميم، كمعظم المتاحف في الريف. ثلاث قاعات صغيرة: الأولى لمنازل الدمى، والثانية لمنحوتات مصغّرة منصوبة وراء المكبرات، والثالثة لمنحوتات مثبتة على شرائح زجاجية تحت المجاهر. 

في بيت عائلتنا، الكردية الشيوعية شمال سوريا، كنت ولداً يتصفّح كتاباً مصوّراً بالأبيض والأسود، محاولاً قراءة ما كتبه الماركسيّ فالتر بنيامين عن الدمى الروسية في “يوميات موسكو”. كانت المكبرات جزء من ولع الطفولة بالحشرات وإشعال الحرائق الصغيرة، ثم أمست المجاهر جزء من عملي الذي انقطعت عنه منذ غادرت دمشق خريف 2011، بعد سنوات من العمل طبيباً في مختبرات التشريح المرضي وعلوم السرطان. وقتذاك، أحببتُ نزوع و. ج. زيبالد إلى التقارير العلمية، ولعله رأى فيها شكلاً مبتوراً من الأدب بسبب هوسه الحزين بالدقّة. 

مرة بعد مرة، سمعتُ شهقاتِ سيدة فرنسية تتعجّب في ظلال القاعات الثلاث: “أُوْ لا لا!” كنا الزائرَين الوحيدين في ذلك النهار المشرق. لا أعلم كيف نحت الفنانون قافلةً من الجمال داخل ثقب إبرة، وسفينتين تتحاربان على بحرٍ من جناح بعوضة، وفيلاً يتوازن على رأس إبرة، وفلكَ نوح في قشرة جوز… كانت كهدايا الجنود لحبيباتهم في سوق الحميدية الدمشقي، يوصون عليها الباعة الجوالين، بين بطاقات اليانصيب، حول الجامع الأموي: “اكتبْ اسم مَن تحبّ على حبة رزّ”. 

لاحقاً، في باريس، بحثتُ عن كتاب موديانو “28 فردوساً” الذي قدّمته زوجته دومينيك زيرفوس، وأرفقَتْه بثمانية وعشرين رسماً منمنماً. انطلق الزوج من رسوم زوجته وأحلامها ليكتب قصيدته. تسترجع زيرفوس، في مقدمتها الوجيزة، ولع المشرقيين بعوالم الأشياء المتناهية في الصغر. بعض الرسامين اليابانيين من القرن الثامن عشر نجحوا في رسم حديقة على حبّة رزّ، آخرون نحتوا مشاهد الطوفان على نوى الكرز. كان حلم اليقظة باباً من أبواب الرسامة للخروج من حزنها في باريس، حيث قلّما يتجلى الفردوس المفقود، أحياناً في حبة رمل على ضفة السين، أو ورقة تسقط من شجرة عملاقة. ما حدا بها إلى التفكير بالضآلة لم يكن الرغبة في الاختفاء، وإنما الرجاء “ولادة جديدة في عالم آخر، جنة عدن”.
 

Miniature Stand for Game of Go, Edo period, late 18th century, Japan, Porcelain with underglaze blue

 

28 فردوساً

 

كنتُ في بلدةٍ صغيرة

على حدود بعيدة جهة الشرق

على تخوم تلك البلدان التي تكنّى بأسماء الثلج والقمر

نزيلَ غرفة في نزُل “الدبّ الذهبيّ”

 

كنتُ في نزهة المساء

أجوبُ الجادّة المقفرة حتى المحطّة

حيث تنتظرُ عربةٌ مربوطة إلى حصان أبيض

ولكن ما مِن سائق

لا أحدَ في الساحة

 

كانت المحطة مطفأة الأنوار

في الصمت تساءلتُ

إذا ما كان القطار السريع سيتوقّف عند الساعة التاسعة

مثل كلّ مساء.

 

وحلمتُ بالفراديس

كنتُ أغمض عينيّ وأراها تمرّ

العربةَ التي تجرّها البجعات

 

التقيتُ

الفيلَ والحلزون

سربروس والسنطور

 

أبو منجل والتمساح

والعصفور الطنّان

تحت السماء فيروزيةِ اللون

 

ولا شوكَ للورد الطالع

 

في تلك البلدةِ الصغيرة على حدود بعيدة

وصلتُ إلى أقاصي نفسي

 

عشتُ حياتي

ما عاد الماضي يؤرّقني

والمستقبل بدرجةٍ أقلّ

 

فيما مضى

كنتُ تلميذاً كسولاً جداً

طفلاً عنيداً وشقيّاً

يحلمُ بالفردوس

 

شارع النخلات العريض

مشاجب للملائكة

 

تساءلتُ عمَّ سترعى الدوابّ

الفراولة البرّية أم الخلنج الرماديّ

 

وعدَدْتُ على طول الشارع

اثني عشر غصناً من زنابق الوادي

اثنتي عشرة أقحوانة ذهبية

 

موعدك على شاطئ البحيرة  

عند شروقِ الشمس

لتلاقي الذين فقدتَهم
 

على الطاولات المجاورة لطاولتي في المقهى

كان زبائن يلعبون الورق والشطرنج

وأنا لا ألعب شيئاً

لو كنتُ أدري كم ستطولُ

الليالي والنهارات في المستقبل البعيد

لكنتُ قد تعلّمتُ هذه الألعاب الجماعية

 

تزجيةً للوقت

حلمتُ بالفراديس

 

وشوشني صوتٌ في أذني    

انظرْ هناك

القصر والشلال

إذا اجتزتَ المرج

سمعتَ

الموسيقى الصامتة

 

وفهمتَ أنّ عرائسَ الماء

أجملُ

حين يسكُتْنَ

 

في أقصى البلدة وراء الثكنات

في شارعٍ يتضوّع بجَنْبة الرباط

كان دكّان العاديّات للسيد جورج كاراغوسلو

لا يفتح إلا الثلاثاء والخميس

بين الثالثة والخامسة عصراً

لطالما تردّدتُ عليه

ظاناً أنّ زبائن السيد كاراغوسلو، ما عداي، قليلون 

 

متوغّلاً في الدكّان اكتشفتُ 

ثماني وعشرين لوحة منمنمة

سمواتُها ومروجها حنونةُ الألوان

حيث حيواناتٌ طليقة تعدو

 

تفرّجتُ عليها الواحدة بعد الأخرى

محملقاً أكادُ أدخلُ كلَّ لوحة

 

دون أن أدري إذا ما كنتُ سأعود مرة أخرى

إلى ما ينبغي تسميته

الحياة الواقعية

لكنها، بالنسبة إليّ، لم تكُنْ واقعية أبداً

 

هذه ثمانٍ وعشرون صورة للفردوس

قال لي بائع العاديّات

باعها مسافرٌ

مرَّ ببلدتنا ذات يوم

قبل عبور الحدود

رسَمَتْها منذ زمن طويل

امرأةٌ توقيعُها “عقلة الإصبع”

 

لم أقلْ شيئاً

إذ روى لي قصّتي أنا

 

عقلة الإصبع

كنتُ أعرفها جيداً

فأوشكتُ أبكي

متهدّجَ الصوت

قلتُ له

سأشتري منكم لوحاتكم

 

ولمّا خرجتُ من المتجر

نازلاً شارع جَنْبة الرّباط

متأبّطاً فراديسي

فكّرتُ أنّ الذكرياتِ ليست للبيع

علّقتُها إلى جدران غرفتي في “الدبّ الذهبي”

 

 كنّا على مشارف الخريف

عندما تتقاصر النهارات

لكنّ النظر إلى الفراديس الثمانية والعشرين

كان كافياً ليدخلَ إلى الغرفة

عبر شقوق المصاريع

ضوءُ أصيافٍ مضَتْ

 

في زمانٍ آخر

حياة أخرى

كنتُ في باريس

في زقاق دُواينِهْ المسدود

 

في المرسم عند المساء

نقيم الحفلات والعشاءات

وندعو مُلهِماتنِا والفتيانَ الجمهوريّين

كنا نرقص حتى الفجر

تهدهدنا 

أرجوحةُ “سارة الشقراء”

 

كانت النافذة الكبيرة مطلّة على مضمار الخيل وإسطبلات الملك

وعلى ساعة البرج التي كانت تشير دوماً إلى الساعة نفسها

ساعة الشباب والظهيرات الأبدية

آناء النهار

كانت عقلة الإصبع ترسم فراديسها

وأنا 

بجوارها

كتبتُ قصيدة.

*

ملاحظات حول “28 فردوساً”

ثمة تعديلان صغيران. أولهما، في السطر الثاني من القصيدة اكتفيتُ بـ “على حدود بعيدة جهة الشرق”، بدلاً من “على حدود بعيدة جهة الشرق بل أبعد بكثير”؛ والثاني تعريبُ اسم النزل l’Ours d’Or . اعتمدت توزيع الفقرات المعتمد في الطبعة الفنية للكتاب الصغير.

كان حيّ دُواينِهْ (أي العمادة، حرفياً) يقع في قلب باريس القديمة، بجانب اللوفر، مشرفاً على حديقة التويلري. كان رومانسيّو “فرنسا الشابّة” يلتقون في “فندق دُواينِهْ”، وهو شقة واسعة من تسع غرف، نزلاؤها وروّادها العديد من كتاب الرومانسية الفرنسية وفنّانيها (تحديداً الشقّ الجمهوري منها، لأن الشقّ الأرستقراطي كان في وادٍ آخر). دارت حياة رخيّة في تلك الشقّة، عامرة بالولائم والحفلات. استعرض جيرار دو نرفال جوانب من تلك الحياة في عمله “قصور بوهيميا الصغرى” 1853 (أعتمد هنا ترجمة صلاح الدين المنجّد للعنوان، أثناء مراجعته كتاب دو نرفال في مجلة “الرسالة”). تنطوي قصيدة موديانو، الحالمة المشوّشة للأزمنة، على إحالات عديدة إلى “الرومانسيين الصغار” في باريس، منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى منتصفه:

-أغنية “سارة الشقراء” (1846) التي ألّف ألحانها للبيانو جاك أوفنباك في شبابه؛

إضافة إلى مصطلحات درجت وقتذاك بالفرنسية، مثل:

– cydalise: المرجّح أنه لقب فتاة كانت تتردّد على هذا الحي البوهيمي الذي اختفى من الوجود بعد إصلاحات أوسمان المعمارية، ثم بات يطلَق على ملهمات الرسّامين والكتّاب حتى طواه الزمن؛

-“الجمهوريون الفتيان”: هم الشبّان البوهيميون الذين أتى على ذكرهم شارل بودلير وتيوفيل غوتييه، ولم تدُمْ حركتهم أكثر من سنة واحدة.

The post فراديس باتريك موديانو appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
المنْفَذان https://rommanmag.com/archives/21203 Tue, 18 Apr 2023 11:45:40 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d9%92%d9%81%d9%8e%d8%b0%d8%a7%d9%86/ أيّ شاعر، في أيّ أندلس، زجَرتْ شراكُ أهدابه طيرَ النوم؟ النوم طائران قطعت أسنانُ الفخاخ لسانيهما، يتناقران يتغازلان، يحومان ويبتعدان، ثم يقتربان ويحطّان فيعاودان الابتعاد. الآن وقد غاضَ طوفان الصُّور، يصعب إغراؤهما – حمامةٌ بغصن الزيتون لتكليل العروس، وغرابٌ بغصن الشوك لتتويج الشهيد.  المؤرّق مشرع عينيه- إحداهما بيضة الحمامة والأخرى بيضة الغراب. كلُّ رمش عود […]

The post المنْفَذان appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

أيّ شاعر، في أيّ أندلس، زجَرتْ شراكُ أهدابه طيرَ النوم؟

النوم طائران قطعت أسنانُ الفخاخ لسانيهما، يتناقران يتغازلان، يحومان ويبتعدان، ثم يقتربان ويحطّان فيعاودان الابتعاد. الآن وقد غاضَ طوفان الصُّور، يصعب إغراؤهما – حمامةٌ بغصن الزيتون لتكليل العروس، وغرابٌ بغصن الشوك لتتويج الشهيد.

 المؤرّق مشرع عينيه- إحداهما بيضة الحمامة والأخرى بيضة الغراب. كلُّ رمش عود من عيدان العشّ، أرضه ندية مدفّأة بالدمع. العين قبة من قباب الروح، قصرٌ لا باب له يطوف حوله السندباد وحيداً على جزيرة مهجورة.

 

 

قطرة نار في قعر النظرة، آخر النفق الذي يشقّه الضوء عبر الجسم الزجاجي. يرتطم الشعاع بالقاع فيدميه. ما يلوح من هذا النزيف نقطة قرمزية كالحروف فوق أبواب المومسات، كشعاع الليزر في نزهة المساء ينقّله متحرّشون من عجيزةٍ غافلة لأخرى، كالنقطة ينتظر مراهق وحيد ظهورها بعد انتصاف الليل فيما الأوصياء نائمون- القطرة القانية النابضة في زاوية الشاشة، شافيةُ المرضى ومنجّستهم: 

قمرٌ من الدم فوق ساحات الوغى في فيلم إباحي؛ علامةُ بدء التسجيل على كاميرا الموت حين ينطلق المشهد الأول من الحياة؛ إعصارٌ على كوكب المشتري؛ كاشف الحرارة في مفكّ كهرباء؛ لؤلؤةٌ يفصدها الحجّام من نتن الأوهام في لحم مجنون؛ ياقوتةٌ في خاتم قوّاد؛ عينُ ذبابة تلمّعها بقائمتيها الأماميتين ومقصّ جناحيها لتطير عن بركة الدم وتحطّ على منديل كُوّرت فيه بقايا اللذة، بقايا الذنب…

لا قانون للعتمة إذا انبجستْ من الرؤوس. الصواعق تشقّ بالفؤوس شجر الأجساد. الفاقع سامّ. الداكن متفسّخ. المكان غابة سوداء- في دبال أرضها ستضرب العين الهاربة برموشها وتتجذّر وتتوارى، مرتجفة مما جرى، مرتجفة مما سيجري، من انقضاض الخائفين على ما يخافون. ستنبض عروق بياضها بدم الزهور، وتفور النمال من بصيص الحدقة. وذات يوم، ذات يوم قد أتى، سيصل المنتقمون ويقتلعونها بأظفارهم ويمضغونها ظافرين كحبة كمأ أنضجتها رعود الربيع تحت حقلٍ من السيكلامان. 

هكذا تُستوفى من خزي المفلسين دِيّة الأجداد. العين التي ترمقُ شزراً تُكْسَر.

                                                                    العينُ بالعين-خوف لحظة، خوف العمر.

 

 

الأحمر وراء الحدقة آتٍ من مجمرة القلب. شبحٌ يشعل شمعة وراء العينين أو يرفع وردة. 

العنقاء معتنَقُ الرومانسيين وطريدتهم- طيرٌ هو طُهر القلب، النيران مهده ولحده، بيته وطعامه-

                                                           كلّما أضاء لهم برقٌ هُرعت أرواحهم إلى نوافذ العيون

                                                                وعادوا من صبرهم صِفْرَ الأيادي،

                                                            فخاخهم فارغة إلا من فتات الطُّعم الذي ركَزوه:

                                                                   دودة كبرياء تلوّتْ في تفاحة القلب، 

                                                                        دمعة زرقاء…

                                                                 فإذا انتهى البرْد وأزغبتِ الأرض 

                                                                     رسم الموتى بمنثور الحَبّ 

                                                                               حيث نُصبت الفخاخ

                                                                                     عيوناً خضراء مالئُها التراب.

 

 

بذراعين مفتوحتين يُنادى الطفل:

                           “إليّ ركضاً يا بيتي!” 

                الابن منزلٌ ينامُ فيه أجداده كلُّهم مدَّثرين بلحاف واحد. 

                                 جلده سماؤهم الأولى-

                                  تحتها تمرّ العربات محمّلة بالأكباش وسلالِ العسل وأجبانٍ كالنهود في أغاني القوّالين.

      بنَتْهُ قطرةٌ مُنِيتْ في الظلام. لا فساد في المبنى-

                        نقص التبن مقصود منذ البدء ليتشقّق التراب وتنشأ الأفواه والفروج والعيون…

                                                        لتدخل الروح وتخرج أنّى شاءت

                                                                     مثل أغنية قديمة تتهادى بين شبّاكين مفتوحين

                                                                                ولا يلتقط العابرون كلماتِها.

                                  استتر الفم بالصمت والعينُ بالجفن

                                     ستارة العذراء غشاء كورقة توت مثقّبة بأفواه المنّ

                                                   سترقّطها عند السقوط بضع قطرات دم.                                               

 

الطفلُ بيتُ أمه

           لاؤه سبّاقةٌ نعَمَه

         الريح باذرةٌ سطحَه بالزهور البرية

                والقمر بعينه الباردة يذرو الملح ليقتل الجذور

                                   وإلا تنقّط السقف في المطر ونشجت المزاريب

                                      ونُودي على الموت سِراعاً ليسدّ الثغرات

                                              قبل أن تنطبق الحجرات على رؤوس النائمين.

 

 

النهارُ مخرِجٌ ما يَرهَبون، والقابلةُ الفجر

                                   ليلةٌ صلعاء قصاصها أن تجزَّ شعرها كلّه بمقصّ الولادات.

مؤلمٌ نبضانُ النظرة كجُرح الناقِه في الخطوات الأولى بعد استلقاء طويل. الباهر أليم. الرأرأة إذا بوغتت العين بسلاطة الضوء. يضيق سوادها حتى يستدقّ البؤبؤ كالدبوس. العالم كله يُقذف من ثقب ويولد من ثقب ويُدفن في آخر إذا سخَتِ الأقدار. العقل مهرّبٌ يُجزِل الوعود، مرجئاً الموعد ليلةً بعد ليلة، حاملاً كلّ مرة بضع كلمات في زورق النظرة، فارّة من الظلّ إلى الظلّ، من زنزانة الخوف إلى سجن الرجاء. 

مخاض النظرة عسير آنذاك- تشرخ بقبضتيها الصغيرتين انزمامَ الجفنين، يزمّلها الدمع ويتقدّمها كرأس الوليد يتقدّم ببطء في نفق المهبل حتى تفاجئ برودةُ الهواء رأسَهُ البليل. 

                                                             النظرة تستصرخ، يائسة في ألم النور.

 

 

داخل الرأس يتلقّف كلّ الصور. 

تتقطّع المعرفة، خافقة كالنجمِ كالندم، ناراً مشقوقة اللسان يحذرها الأطفال والمجانين. 

             رتابة قطراتها لا تثقب الصخر، ولا تحفر ما تحت الحصون لتنساب هادئة والعالم ينهار وراءها. 

تخلّف المعرفة فراغاً مخيفاً أحياناً. ينحبس هذا الفراغ متكثّفاً خلف العينين فيضغطهما كالفساء الذي يُخصب به ديكٌ دجاجةً؛ ما يتبقى من ريح الخصوبة فقاعةٌ محبوسة تحت قشرة بيضة.

 

 

بأيّ عين يُقْرأ

         ما انتهى على الأرض

              ولا ينتهي في القلب؟

سخونة الدم لا تدفئ أهل الأربعاء. توقّف جريانه ولم تتوقّف الحياة. 

في هذا المِرجل، البرد قاطنٌ صميمَ اليدين، مخَّ العظام. 

عينان تستطلعان. عينان غابرتان تتفقّدان عينين غائبتين. 

                                              لا يُقاس الغياب بالزمان وسنوات الضوء. لا شيء يُرى في كلّ الأنحاء.

لِمَن أصمّتْه فظاظة الكلمات وأصمتته وأعمَتْه، لمن شقّقت عقله بالهزّات وجفّفت روحه كاللحاء:

                  مَن تشوّه بارز مَن سلم                                           ومَن سلم؟

                                           الماضي السيفُ. الحاضر مصلوب. 

                                                                               الجسد عشبةٌ ترقص-

                                                                    وُريقةُ عشب تدوسها الأظلاف والعجلات

                                                                                يستعطفها المسحوقون

                                                                                   تمضغها القطط  

                                                                                   تتأمّلها الراهبات

                                                                            ملتمعةً بقطرةٍ من بول الشيطان

                                                                            النظرة هي الموسيقا

                                                                            الكلمات بلهاء وسخة

                                                                  العين ترى العالم انتهى وما بدأتِ الروح 

 

استوى الداخل والخارج، الظاهر والباطن، السافل والعالي، السرّ والعلن، العقل والجنون، الفحولة والعنانة، الظل والضوء، الذاكرة والنسيان، المستوحش والمستأنس، البداية والنهاية، الأبيض والأسود، الأول والتالي، الرجل والمرأة، الخوف والرغبة، مَن رأى ومَن لم يرَ، قلق السؤال وقلق الجواب، كل الوميض الذي أطفأ العيون… 

 

                                                   حتى سجا الليل وسكن الهواء.

                                                          صمَتَ الصمت. 

 

                                       القمر بازغ كربّ إبراهيم. العقل خرابٌ مضاء مثل حلب. 

 

ما عادت بأحد حاجةٌ إلى مواصلة الهروب وتغيير الأسماء. 

العينُ النابعة من الليل ينبوعُ الليل، ولا منبع لهذا النور. لا ذكرى. لا تاريخ. لا قواميس.

                               لا وِجهةَ لهذا الوجه. لا قصة في هذه القصة. لا جدوى من أيّ شرح. 

 

*

صدر حديثاً، عن دار “خان الجنوب” في برلين، كتاب “الكلمة المرفوضة” لجولان حاجي. يضمّ الكتاب مقدمة نثرية في قسمين: أولهما قراءة في ديوان “أجزاء الحيوان” للشاعر السوري فؤاد م. فؤاد، والثاني قراءة في علوم النظر، يليهما نص شعري طويل عنوانه “المنْفذان”. 

صمم الكتاب فادي عبد النور. لوحة الغلاف والرسوم الداخلية منتقاة من مجموعة “الطاووس” للفنان السوري وليد المصري. جمعت الكاتب والرسام لقاءات عديدة منذ 2012، والتعاون بينهما مستمرّ من أجل أعمال أخرى قادمة. 

The post المنْفَذان appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
المضحّي بصوته من أجل الصمت https://rommanmag.com/archives/21182 Wed, 29 Mar 2023 07:23:58 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b6%d8%ad%d9%91%d9%8a-%d8%a8%d8%b5%d9%88%d8%aa%d9%87-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%ac%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%85%d8%aa/ بضعة أشياء يتوجّب عليّ القيام بها قبل أن أموت أولاً، هناك أشياء في منتهى السهولة، أستطيع القيام بها ابتداء من هذا اليوم، مثل ركوب زورق في نهر السين ثم هناك أشياء أهمّ بقليل، تتطلّب قراراً، وأقول لنفسي إني إذا ما قمتُ بها فقد تتيسّر حياتي أكثر، مثل اتّخاذ قرار برمي عدد معين من الأشياء التي […]

The post المضحّي بصوته من أجل الصمت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

بضعة أشياء يتوجّب عليّ القيام بها قبل أن أموت

أولاً، هناك أشياء في منتهى السهولة، أستطيع القيام بها ابتداء من هذا اليوم، مثل ركوب زورق في نهر السين

ثم هناك أشياء أهمّ بقليل، تتطلّب قراراً، وأقول لنفسي إني إذا ما قمتُ بها فقد تتيسّر حياتي أكثر، مثل اتّخاذ قرار برمي عدد معين من الأشياء التي أحتفظ بها دون أن أعرف سبب احتفاظي بها

ثم هناك أشياء تتعلق برغبة أعمق في التغيير، مثل اللباس بطريقة مختلفة كلياً، أو العيش في فندق (في باريس)، أو العيش في الريف

ثم هناك أشياء تتعلق بأحلام الزمان والمكان، وهي قليلة، مثل العبور من النقطة التي يتقاطع فيها خط الاستواء مع خطّ غرينيتش، أو ركوب الجمل من المغرب إلى تمبكتو في 52 يوماً

(…)

إلخ. إلخ.

هناك أشياء أخرى كثيرة بالتأكيد.

يسعدني التوقف عند الرقم 37.

مقتطفات من قراءة إذاعية لجورج بيريك، 1981

Joe Brainard, Untitled, 1972

مترجم الضباب

جورج بيريك، يتيم باريس المهووس باللغة، مصمّم شبكات الكلمات المتقاطعة وموظف الأرشيف في مختبر للبحوث الطبية، حاول أن يشيد مبنى بالكلمات، شاهقاً ومتواضعاً في آن، أركانه الصفاء والدقّة والدأب على التدوين. كان مسكوناً بالأدب والرياضيات. لاذ بالفهرسة وترتيب القوائم، قدّام اليأس وفوضى العالم وقسوتهما. حيلة أخرى من حيل الحزانى، الدقيقين المرهفين مثله في الكتابة، هي الانتباه إلى ما تحتويه اللحظات العابرة. عارض بيريك، في كتابه “أتذكّر”، كتاب “أتذكّر” للرسام الأمريكي جو براينارد، ثم عُورضت معارضة بيريك في “أتذكّر إني أتذكّر”، وهلمّ جرّا. لا نهاية لأيّ ذكرى. ما من مكانٍ آخر كالكتاب حوى مِزق الذكريات. مثل ذاك التذكر الوجيز، المرح والدقيق، المشتّت والمنضبط في آن واحد، حاجة من حاجات النفس إلى اللطف والصدق، وربما مواجهة رقيقة لهول الغياب، أو نقضٌ للبراعة والصنعة في الأدب، وسخرية الإنسان من جلالة الكمال

يُنصح المشتّتون، في عصر العبث الإلكتروني، بوجوب العمل على تقوية الذاكرة، بطرق بسيطة ما أمكن. برغم ما يعتور مفردة البساطة من غموض وسأم، وبرغم النبرة السمجة لهذا النصح، وخصوصاً المفردتان “وجوب” و”تقوية”، يطبّق اليائسون توصيات عجائبية أحياناً، فيلجؤون إلى تفعيل أدمغتهم بمنشّطات شتّى من قبيل ركوب الدراجة، أو تمارين الحساب في دروس الموسيقا، أو التأملات في جلسات اليوغا. قد يحسدون المدجّجين بقوة الذاكرة، أولئك الذين لا يكادون ينسون شيئاً- من أرقام الهواتف وعناوين الأغاني وأفلام السينما إلى كلمات السر في حساباتهم الإلكترونية العديدة.

ليس التذكر ضرورة تاريخية ولا مسعى إلى شفاء أو خلاص، حتى لو كان الخلاص الوحيد الذي يمكنني التفكير به أحياناً. أفكّر بالمخلّصين والمخلّصات، فتنهار الفكرة أو يخبو ألقها، إذْ أسترجع مصائرهم وأتخيّل وجوههم التي تخيّلها الأقدمون في الجداريات والمخطوطات، فيمتزج الحزن على إسراع الوقت بالخوف من الموت- كم من بني آدم حسد المسيح، أو بوذا، أو تبريزا الأفيلية، أو ذا الكفل على مصائرهم، لا على خلودهم؟ 

تسعى الكتابة إلى الاصطدام بمخاوف صغيرة، قديمة وغامضة، بمباهج ولذّات، نائمة أو منسية. التذكّر حضورٌ مفتوح في قلب الحاضر، دخول إلى أحلام اليقظة. العقل شرطيّ يلوّح بالهراوة لينظّم السير بين الصور والأصوات والكلمات، ويقبل الرشاوى. صفّارته السليطة تُجفِل المشاة الشاردين الذين لا مهرب لهم من العراقيل: تعطف خطواتهم حفرياتٌ لا تنتهي للأرصفة والشوارع، تعثّرهم جذورُ أشجار عملاقة، زقاق مسدود يغيّر وجهتهم، أو منزل اختفى من الخارطة…    

الفنّ يحوّل الذاكرة إلى شكل من الحلم. ذاكرة مَن يكتب أو يرسم تخلق وجوداً آخر في قلب الوجود. استعادة الماضي خلق واختلاق. الكاتب عتّال الكلمات، ينقلها من صمت إلى صمت. ستشلّ خطوته، ولن يكمل أي طريق، لو فكّر بجدوى الكلمة أو معناها. جنون الحلم أرحم من جنون العقل، ولهذا يفكّر كمَن يتذكر حلماً ناقصاً، جرى في يقظته أو منامه، مادته الخام موجودة داخل جسده، في العتمة والغبش، ثم يحاول أن يقصّ بمجزّات اللغة جزء ضئيلاً من هذا الضباب الكبير، ويجمّده داخل ما يستطيع من أشكال، منتحلاً هذا الشكل من ذاته أو من العالم. (كانت قوانين الإغريق، المكتوبة على لفافات من جلود الحيوانات، تصاغ منظومة مقفّاة، ولعلّ المشرعين الأوائل في طفولة اللغات كانوا كالأطفال، منقادين إلى القوافي والمقارنات). وأخيراً، يضيف الوعي أو اللاوعي إلى كلّ هذا النقصان، أو كلّ هذا التزييف، بعض الزوائد والكماليات. قد تنتهي العملية، بضربة حظ شديدة الندرة، إلى جمالٍ يشرح صدور الوحيدين والسجناء، أو يُبكيهم أو يفجّر ضحكاتهم، وقد تُنقل الحصيلة إلى صفحة شاشة أو صفحة كتاب. 

يعلم قرّاء القرآن أنّ “كل شيء أحصيناه في كتاب مبين”. لعلّ الرهبان هم الذين ابتكروا مفهوم الصفحات في العصور الحديثة، حين تصوّروا دفّتي الكتاب، أو جِلدتيه بالأحرى، كما يتخيّل المختنقُ رئتين نقيتين أو نافذةً مفتوحة. لعلهم آمنوا بأنّ الروح طائر غريب في هذا العالم، يصفّر في الضباب ويدلّهم عبر المجهول.

Joe Brainard, Untitled, Pepsi-Cola Black-Eyed Susans, 1969

حمَلَة الظلال

الكارثة تحطّم الزمن، فتغيّر الماضي وتخلقه من جديد.

خسر السوريون المكان. كوفئوا على هذا الخسران المبين بحريةٍ حزينة في شتات منافيهم ومناجيهم. حقنتهم هذه الحرية بأوهام جديدة تغيّرت معها معاني الإهانة والطموحات. كافحوا في بلاد الآخرين، انزووا واحتجّوا واعتصموا وأضربوا عن الطعام، وتباهوا بالمأساة وتباغضوا وتفرّقوا وتآزروا، مقتصدين على الدوام ليسدّوا من صناديق تكافلهم نفقاتِ دفن أمواتهم في مقابر الغرباء، حتى انضمّوا كجرحى التاريخ الجدد إلى فقراء الضواحي، الساعين للعثور على عمل، ملتحقين بدورة العذابات العادية والإخفاقات العادية لسائر الناس. ما عاد للهتاف صدى. الأحزان تهرم والحنين. محظوظٌ مَن يسعفه المرح بالسخرية من همومه.

ثمة سوريون قوّاهم اليأس فواصلوا التفكير بأنفسهم حتى داخوا، وساقت العذابات والأرق بعضهم إلى دُوار التصوف ومبهمات الروح وهدوء الحكمة. انسلاخهم عن واقعهم نفّذته “الأحداث” التاريخية نيابة عن إرادتهم، أو إرادة الله، ولم يتقصّدوه. حاولوا سدى أن يُلغوا المكان، توقاً للخروج من صفاتهم التي بدأ التاريخ يسجنهم فيها ليطويهم النسيان، أو ليدرسهم ويعظ باسمهم مَن لا يتّعِظ.

حين توسوس النفس بأنّ ما جرى لا يصدَّق كأنه حلم داخل حلم، وتصمّ الذكريات أذنَ القلب، يجوب العقل الحطامَ والمهملات وسِيَر المنسيين، متعثراً بمبعثرات الأفكار وأحجار الأحاسيس الملطخة بدماء الجرائم، وتجرحه شظايا منازل القلب التي انهارت. فماذا يتبقى بعد الزلزلة، ما بعد اللحظة القصوى التي استطالت وحبست المنكوبين معلَّقين داخلها؟ التخلّي فنّ المنفيين، وفاقدُ الشيء يلتذّ بذاكرته ويلعنها. الأدب يبتكر الماضي كأنه أرض أخرى للمستقبل، فيفكّ أسره ويستردّ بعضه من الذين احتكروه ولفّقوه وشوّهوه. في انطلاق معكوس، من الكلمة إلى الكون، من زوال الثمرة إلى بقاء الجذر، يتقهقر المغتربون حين يسترجعون جهنمات الماضي وفراديسه، فيما الحاضر الذي يعيشونه ينوّمهم بالآمال ويوقظهم بالكوابيس، ولا يني ينتشلهم من ذاكرتهم التي يكادون يغرقون فيها، مأخوذين بضباب جمالها وألطاف وهمها.

لا يسمح الواقع لضعاف المغتربين بفرض أسمائهم، ولا تمكّنهم أسنانهم وأظافرهم من انتزاع أيّ اعتراف “حقيقيّ”- يتعزّى بهذه الذريعة الواهمون بينهم من شعراء وروائيين فتّقتِ المصائب بذورَ مواهبهم، ثم حرمتْ عزلاتهم من الترف، وحجّرتها بالحسد والمرارات، وأجهزت على أحلام المجد والجمهور والجوائز، وأهالت على الفراغ الذي يتخبّطون فيه ركاماً من الصور والكلمات، كمدت تحته وجوههم وتهدّلت أكتافهم، حتى نفد صبرهم فاستسلموا. ربما ارتضوا أخيراً بأن يصيروا ورثة الألم، حمَلَة الظلال بدلاً من حمَلة المشاعل. من جهة أخرى، لا يكفّ القدر عن التهكّم بهم، إذ لم يتِحْ لهم ميراث الآلام، خلال العقد الذي مضى، إلا بقاعاً صغيرة قد تصلح لبناء صومعة أو كوخ من أنقاض اللغة، ولا تشيَّد فوقها الصروحُ التي يشتهون.  

أواخر 2020

 

Joe Brainard, Untitled: Toothbrushes. 1973-74

مختارات من كتاب “أتذكّر” لجو براينارد

أتذكّر ولداً بديناً كان والداه أصمّين أبكمين. علّمني كيف أقول “جو” بيديّ.

أتذكّر ذاك الشريط من اللحم باهت البياض، بين أسفل البنطلون والجورب، عندما يضع العجائز ساقاً على ساق.

أتذكّر أحلام يقظة عن العيش فوق شجرة.

أتذكّر أحلام يقظة عن إنقاذي أحدهم من الغرق فأغدو بطلاً.

أتذكّر أحلام يقظة عن إصابتي بالعمى، وكم سيشعر الجميع بالأسف تجاهي.

أتذكّر أحلام يقظة عن اكتشافي على يد مخرج في هوليوود، كان سيرسلني إلى مكان خاص في كاليفورنيا، حيث يعيدون تأهيل الناس. التكاليف باهظة. سيقوّمون أسناني، ويجمّلون شعري، ويزيدون وزني، ويربّون عضلاتي، فأبدو في النهاية رائعاً. على الطريق إلى النجومية. أوّل ما أقوم به هو العودة إلى البيت لأصدم الجميع.

أتذكّر كراهيتي لنفسي بعد اللقاءات والتجمّعات، لأنني كنت خنزيراً مضجراً.

أتذكّر عدم ثقتي بطناجر الضغط.

أتذكّر مراوح كهربائية صغيرة، قد “تقطع أصابعك على الفور” إذا اقتربت منها كثيراً.

أتذكّر أحذية أطفال معلّقة إلى مرايا الرؤية الخلفية في السيارات.

أتذكّر إني لم أكن أفهم لماذا لا تتجمّد سيقان النساء اللواتي يرتدين التنانير في الشتاء.

أتذكّر قصصاً عن أطفال وُلدوا في سيارات التاكسي.

أتذكّر ملأ أواني الثلج إلى حافتها، ومحاولتي أن أعيدها إلى البرّاد دون أن تندلق قطرة ماء واحدة.

أتذكّر أحلام يقظة عن اكتشافي أن قليلاً من الوقت قد تبقّى لي في الحياة -السرطان عادة- ومحاولتي التوصّل إلى أفضل طريقة لتمضية ما تبقّى من هذا الوقت.

أتذكّر احمرار الجفنين حين يغمضان أمام الشمس.

أتذكّر برودة الشراشف في الشتاء، وفي الصباحات الباردة كنت أعدّ إلى العشرة قبل أن أقفز من السرير.

أتذكّر أن “الدنتين” كانت العلكة التي ينصح بها أطباء الأسنان.

أتذكّر رغبتي في التأثير على البائعات في المحلات بعدم اكتراثي أمام لصقات الأسعار. ولا أزال.

أتذكّر لغطاً كثيراً حول “الحارس في حقل الشوفان”.

أتذكّر أبواب مراحيض لا تغلق جيداً، ومحاولات الإسراع في التبوّل.

أتذكّر لحظات الصمت في الكنيسة حين يبدأ بطني بالقرقرة.

أتذكّر حين غزتنا ملايين الجنادب في تولسا ثلاثة أو أربعة أيام. أتذكّر أرصفة مغطّاة بأكملها بالجنادب قاسية الدروع.

أتذكّر إن 99 بالمائة من البطيخ ماء.

أتذكّر خوفي من أنّ الحلاق قد يسهو فيقطع أذني.

أتذكّر فرشاة ناعمة، مفعمة ببودرة طيبة الرائحة، تمرّ على رقبتي بعد انتهاء الحلاقة. ثم ألتفت لأنظر في المرايا فتبدو لي أذناي كبيرتين.

أتذكّر “القبلة الفرنسية”، واستنتاجي أن لها علاقة بتدوير اللسان، إذ لا شيء سواه وسوى الأسنان في الفم.

أتذكّر “شعرتان ونمشة” حين يسألك أحدهم عن التوقيت وأنت لا تحمل ساعة معك.

أتذكّر حين أخبرني ولدٌ إن تلك الأوراق الحامضة الشبيهة بالنفل، التي اعتدنا أكلها (ذات أزهار صفراء صغيرة)، حامضة المذاق لأن الكلاب بالت عليها. أتذكّر إنّ ذلك لم يوقفني عن أكلها.

أتذكّر سيجارتي الأولى. كانت سيجارة كِنْت.

أتذكّر المرة الوحيدة التي رأيت فيها أمي تبكي. كنتُ آكل فطيرة مشمش.

أتذكّر كم اشهيتُ، أيام المدرسة الثانوية، أن أكون وسيماً ومحبوباً.

أتذكّر أحلاماً كثيرة عن العثور على الذهب والجواهر.

أتذكّر إني كتبتُ “أكره تيد بيريغان” بحروف سوداء كبيرة على كامل جداري الأبيض.

أتذكّر شطائر الزبدة والسكر.

أتذكّر خطّتي لتمزيق الصفحة 48 من كل كتاب أقرؤه في مكتبة بوسطن العامة، ولكنني سرعان ما ضجرت.

أتذكّر يوم وفاة مارلين مونرو.

أتذكّر جدي الذي لم يكن يثق بالأطباء. لم يكن يعمل لأن لديه ورماً. كان يلعب الورق طوال اليوم. ويكتب القصائد. كانت أظافر قدميه طويلة وقبيحة. كنتُ أتحاشى النظر إلى قدميه، قدر استطاعتي.

أتذكّر صبياً روى لي نكتة قذرة. كانت الدليل الأول إلى الجنس.

أتذكّر اعتقادي أنّ كل ما هو قديم ثمينٌ جداً.

أتذكّر غرف الألعاب في الأقبية.

أتذكّر كيف كنت أمرّر يدي، تحت الطاولة في مطعم، حين التصقت بالعلكة.

أتذكّر أوهامي عن السجن، حيث أقبع كالراهب في زنزانة، وأكتب بخط يدي رواية ضخمة عظيمة.
أتذكّر البرق.

العنوان مقتبس عن عبارة لإدمون جابيس: “الكتاب هو المكان الذي تضحّي فيه بصوتك من أجل الصمت”. كنت قد ترجمت مختارات من كتاب “أتذكر” لجو براينارد أواخر سنة 2011 ولم أنشرها، بعد الاستمتاع بترجمتها في مقهى بوكسات Books@ في جبل عمّان.

The post المضحّي بصوته من أجل الصمت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أكَلَة الكتب https://rommanmag.com/archives/20010 Fri, 20 Mar 2020 13:19:31 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%83%d9%8e%d9%84%d9%8e%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a8/ المسافر والبرج والدودة المَجاز اعترافُ اللغة بفشلها في التواصل المباشر. حذّر شيشرون من اللهو بالمجازات، فكما اختُرعت الثياب في البداية لتقينا البرد ثم دخلت لاحقاً باب الزينة والتباهي، فقد انبثقت المجازات من فقر اللغة ثم تعمّم استخدامها من باب التسلية. تولد المجازات من عجز الكلمات عن تسمية تجاربنا على نحو دقيق وملموس.   المسافر يتقدم […]

The post أكَلَة الكتب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

المسافر والبرج والدودة
النبي موسى في  كتاب اللحظات العظيمة لروهان، 1435

المَجاز اعترافُ اللغة بفشلها في التواصل المباشر. حذّر شيشرون من اللهو بالمجازات، فكما اختُرعت الثياب في البداية لتقينا البرد ثم دخلت لاحقاً باب الزينة والتباهي، فقد انبثقت المجازات من فقر اللغة ثم تعمّم استخدامها من باب التسلية. تولد المجازات من عجز الكلمات عن تسمية تجاربنا على نحو دقيق وملموس.
 

المسافر

يتقدم القارئ عبر صفحات الكتاب، مثلما يسافر الإنسان عبر رحلة الحياة. قد لا يستهوي المسافر ما يراه، ويعبر لاهياً أو غافياً أو غافلاً عن المناظر التي تمرّ. شعراء اللاتينية القدامى قارنوا صنعة الكتابة بالملاحة. كتب بترارك: “أنا غريب على الأرض، عابرٌ كأجدادي كلّهم، منفيّ، مسافر قلِق في هذه الحياة القصيرة”.
 

البرج

في العصر الحالي الذي تسوده السرعة والإيجاز، قد يقول المنعزلون في أبراجهم الإلكترونية، متطايرين وسط زوابع النصوص القصيرة، إن “الحرب والسلام” أو “البحث عن الزمن المفقود” ثرثرة عفا عليها الزمان. لنعد إلى الوراء قليلاً. للبرج دلالات شتى في الكتاب المقدس، كالطهارة والعذرية والجمال. نقرأ في “نشيد الأنشاد” إن عنق العروس “برجٌ من العاج”. كانت مريم العذراء برجاً في أيقونات القرون الوسطى. تطوّرت لاحقاً استعارة ذاع صيتها هي البرج العاجي، وساكنه قارئ أو كاتب لا تعنيه سوى كتبه، لا يفكر إلا بها وبنفسه، يحتقر الناس ويهزأ بهم، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية ومتعالياً على شؤونها وقضاياها. هذا المجاز تلفه الكآبة، ويناقض مجاز القارئ المسافر. على الأرجح، سان بوف أوّل من استخدم في النقد الأدبي تعبير “البرج العاجي” سنة 1837، حين قارن بين الشعر المجرّد لأفرد دو فيني والشعر السياسي لفكتور هوغو. كانت البداية مديحاً. كان البرج العاجي ملاذاً مترَفاً للتأمّل والتفكير، صامتاً ومليئاً بالكتب حيت تحول العزلةُ العالمَ إلى كلمات. لم يلبث هذا الملاذ أن تحوّل إلى مخبأ يتقوقع فيه الضعفاء والأنانيون، أو قاعة انتظار للإلهام الذي لا يأتي، أو صومعة يحتمي بها الجبناء المتهرّبون من مواجهة العالم، جالسين مترفّعين عن الحياة الحقيقية التي تضجّ بها الشوارع المفتوحة. المعتكف في البرج يتوهّم التميّز ويظنّ العالم كتاباً بين يديه يفتحه ويغلقه أنّى شاء. إنه بعيد عن “الصراعات الطبقية”، يكره “الجماهير” ويسفّه الرعاع، متعالٍ ومدّعٍ زيّفته الكتب وخنقته. في الصفحات الافتتاحية من “فاوست” غوته، يرثي الدكتور فاوست حاله. بعدما قرأ الطب والقانون والفلسفة وتبحّر في عوالم الكتب، تضيق بروحه جدرانُ البرج، فيعتقد أن هذه الأوراق كلها ليست إلا “قمامة الأجداد”، محض صورة عن العالم الذي اخترعته أفكاره: “ما عدتُ أستمتع بأي شيء الآن، لأني أعرف أني لا أعرف شيئاً”.
دورر، أحمق الكتب، من محفورات سفينة الحمقى، 1494

هاملت النازيّ

لم يرأف شكسبير بالمثقفين الذين ما عادوا يعلّمون الجهلة، لا يسلّون الضجِرين ولا يغيّرون الكسالى. سخر من آكل الورق وشارب الحبر. هاملت “مشلول بإفراطه في التفكير”، والمكتبة التي عاش فيها شبابه وكانت الكون كلّه تحوّلت تالياً إلى سجن؛ وفي “العاصفة”، يحاول كاليبان إقناعَ البحّارة بقتل العالم بروسبيرو: “تذكّروا، اسلبوه كتبه أولاً، لأنه من دونها معتوهٌ مثلي”.

23 أبريل 1940. أرسل الناقد المسرحي الألماني فولفغانغ كيلر خطاباً إلى جمعية شكسبير الألمانية قائلاً إنه لن يسمح للبريطانيين بسرقة شكسبير منهم لأن شكسبير، في حقيقة الأمر، ألمانيّ. يقارن الناقد بين إنكلترا في العصر الإليزابيثي وبين الرايخ الثالث، “كان الإحساس الإليزابيثي بالحياة بطولياً، عسكرياً، شاباً ومتطلعاً إلى التقدم، متعطشاً إلى الأفعال والمغامرات”، ويعزو فشل ألمانيا في خلق شكسبيرها، برغم أن الألمان كانوا أوائل من ترجموه، إلى أن “إنكلترا شكسبير قد خلَتْ من اليهود ثلاثمائة سنة”.

كانت هاملت هي المسرحية الأثيرة لدى نظام الرايخ الثالث، عرضت في مسارح برلين وحدها حوالى 200 مرة بين عامي 1936 و1941. في أشهر هذه العروض يؤديّ دورَ هاملت غوستاف غروندغنس، أحد كبار الممثلين في تاريخ المسرح الألماني الحديث. كانت المفاجأة غياب الصورة المعهودة لشخصية الأمير المتردّدة، فقد حلّ مكانه هاملت آخر مليء بالعزم والتصميم ويتحلّى بروح المسؤولية، “انتقل من القول إلى الفعل، ولا يخاف أن يلعب دور الأحمق”. اقتضى هذا التحوّل الدراماتيكي حذف الكثير من فقرات المسرحية الأصلية. المفارقة أن الممثل النازيّ، أو المتعاطف مع النازية، قد مثّل البطل مقاوماً للاستبداد الذي كان في هذا السياق دانماركياً. انقلب التأمل الفلسفي لدى هاملت إلى وظيفة عملية لا بدّ أن تفضي، رغماً عنها، إلى الأفعال. هكذا حوّل النازيون البرج العاجي إلى برج مراقبة.

ج. ج. غراندفيل، دودة الكتب، 1842

الدودة

القرّاء بوصفهم مسافرين أو حجّاجاً ينتهون في خاتمة المطاف، كالمخلوقات الفانية جمعاء، فرائس لديدان الموت، كما تقضم ديدان أخرى أوراق الكتب. فمثلما سيلتهم الدودُ المسافرين حين تنتهي رحلة الحياة، فإن القارئ النهِم يلتهم الكتب ويجترّها أحياناً. لا يعني هذا الالتهام بالضرورة استفادةً حقيقية من الكتب وهضم معانيها. هناك التخمة التي تعكس لنا الموت مرة أخرى، تخمة الكلمات. هكذا تطاول السخرية القارئ في شرنقته- دودةً أو فأراً أو جرذاً لا يرى غذاء حقيقياً في الحياة إلا علف الكتب.

هناك دوماً من سيعنّف القرّاء الحمقى الذين يحسبهم الجاهل حكماء يزدرون الأمور العملية الجدّية في السياسة والاقتصاد، كأن كل قارئ مدمن على القراءة المديدة هو الفارس النبيل دون كيخوته وقد “أيبست الكتب دماغه وأفقدته عقله”. هناك من يشفق على القراء المساكين المنقّبين في بطون الكتب، ويهزأ من ذوي النظّارات البلهاء، الحالمين بالأعماق والقمم، الحمير المحمَّلين بالأسفار والأشعار؛ هناك من يتطيّر منهم ويخشاهم: “كفاك كتباً! اخرجْ وعش حياتك!” ولا ننسى من يطعم النيرانَ هذه المخلوقاتِ المصنوعةَ من القش والحبر. يناهضهم فلوبير مطارد الحماقات والمحتالين في الحياة اليومية والمدافع عن البرج العاجي: “اقرأ لتحيا!”. لا يسري قانون الأقوى على حمقى الكتب وديدانها. القارئ “صنو الله” بتعبير ثربانتس. تنشقّ السماء في رؤيا يوحنا البطمسي، فتظهر يدٌ إلهية تمدُّ إلى القديس كتاباً مفتوحاً: “خُذه وكُله. سيكون حلوا كالعسل في فمك، مُرّاً في بطنك”، يقول الملاك.

ألبريشت دورر، حلم، 1525

القيامة وفقاً لدُورر

ليلة الأربعاء في عيد العنصرة سنة 1525، رأى ألبريشت دورر في حلمٍ سيولاً تنهمر من السماء، ولم تلبث أن غمرت المشهد. استيقظ مرتجفاً صباح الخميس، وراح يرسم بالألوان المائية ذلك المشهد الرهيب: يبدو كل شيء فيه هادئاً منتظراً المياه التي سوف تدمّره، والسيول المعلقة في السماء مثل ظلال مقلوبة لأشجار سرو ضخمة كان قد رآها في إيطاليا أثناء شبابه. كان دورر يألف قصص نهاية العالم. قبل هذا المنام بسبعة وعشرين عاماً، كان قد حفر سلسلة من الأعمال التي ترسم حلم شخصٍ آخر. إنها قيامة يوحنا.
دُورر، القيامة، المحفورة رقم 10، يوحنا يلتهم كتاب الحياة

هذه القيامة حلم رواه يوحنا البطمسي في سبع رسائل بعثها إلى سبع كنائس، قبل أن تصل إلينا أيضاً نحن قراءَه المجهولين في المستقبل. تروي هذه الرؤيا موت الأشياء كلها. ليس هذا الموت فناء مطلقاً، وإنما خطوة أخيرة في الصراع بين الخير والشرّ. النص مبني حول رقم غامض هو السبعة”: سبعة ملائكة، سبع رسائل، سبعة أبواق، سبع رؤى، سبع كؤوس، سبع نجوم، سبعة قناديل، تنين أحمر ذو سبعة رؤوس. الأسرار مخبأة في كتاب موصد بسبعة أختام. سيفهم القديس ما يرى حين يأكل الكتاب المفتوح الذي يناوله إياه الملاك. لا ينسى دورر أن يرسم الدواة والريشة والدفتر. الربُّ ابن الإنسان، ولهذا أعطاه الفنّان كتاباً لم يذكره المؤلف أو المؤلّفون في هذه الرؤيا التي يقول بطلها، ولعله المسيح نفسه: “أنا الأول والآخر. الألف والياء. أنا الأبجدية، من أول الحروف إلى الحرف الأخير. بحروف هذه الأبجدية أنا وأنت مكتوبان. في بدايتك نهايتنا، وفي نهايتك بدايتنا. أنت حيّ ما دمتَ تقرؤني”.

غير أنّ كلّ كتاب يحذّر قارئه: “تذكّرْ: لكل قصة نهاية”. عند مدخل كل معظمة كان قدامى الرومان يراكمون فيها عظام موتاهم، حُفرت الكلمات التالية: “الآن، أنتمُ الذين كنّاهم. الآن، نحن الذين ستصيرونهم”. “هذا هو اليقين الوحيد”، فكّر دورر.

*

يجيب كتاب يوحنا البطمسي على السؤال الجوهري: “ماذا سيجري لنا؟” بالكثير من الصور والمجازات حول “هذه الأحداث المشارفة على الوقوع”، ولا يزال يدعو القارئ حتى الآن إلى فك طلاسمها، لأن القيامة كانت دائماً على وشك الوقوع عبر مختلف العصور. سان جيروم فسّر الرؤيا مجازياً. إنها تستعرض سلسلة من الأحداث المتكررة على مدار التاريخ، والبشر يعودون إليها بشكل دوري، قائلين كلّ مرة إن يوم القيامة قريب.

في إحدى محفورات دورر الست عشرة المنجزة عن هذه الرؤيا، نرى يوحنا ملقى في مرجل على النار والجلادون المحيطون به أتراك كفَرة يعتمرون عمامات العثمانيين. لا تحدث القصص في التاريخ دون ضحاياً تنزل المصائب على رؤوسهم، قبل تطويبهم أبطالاً في أحوال استثنائية. قد تصير الضحية شاهداً، تعي الفعل الشنيع وتطبعه بكلماتها أو تحفره في ضمائر رواة الحكاية من بعده. لهذا السبب يُخرِس الجلادون أصواتَ الضحايا ويُغرقونها بالصمت، بارعين في تكميم الأفواه وقطع الألسنة أو كيّها بالنار.

*
مريم العذراء ترضع نور حليبها لأرواح المعذبين في المطهر، فيلوتيزي، 1508

كتب ألدوس هكسلي أن “عالمنا مريض ومرهق إلى حد يتصوّر فيه معظم الناس أن الجنة منتجع للنقاهة”. حين تقوم الساعة، وفق التوقيت المعتمَد في رؤيا يوحنا، ينفضّ الختم الخامس ويناول اللهُ الموتى أرديةً بيضاء ويقال لهم: “ارتاحوا وانتظروا قليلاً”، ريثما يكتمل النِّصاب. ثمة قاعات انتظار وإجراءات بيروقراطية معقدة في السموات. حين ينفضّ الختم السادس، يقع زلزال عنيف. تسودّ الشمس ويحمرّ القمر كالدم وتتهاوى النجوم على الأرض. كل جبابرة العالم يختبئون في الكهوف، ومذعورين يخرّون ساجدين على الأرض. تنغلق السماء مثل كتاب فرغ القارئ من قراءته.

في إحدى محفورات دورر الستّ عشرة، يتجمهر العادلون على الأرض التي أهلكها الله ليطهّرها، فيما تلوح وراء جمع الملائكة حمَلةِ السيوف شجرةُ تفاح مزهرة غافلة عن القيامة كلها. تحت عرش الله المطوق بقوس قزح، وسط الغياب المطلق للإنسان، يرسم دورر الجيوشَ الإلهية التي تضع حداً لجنون البشر. إنهم، هذه المرة، ضحايا مذبحة ملائكية.

الله فنان في قيامة دورر. حين تصمت أبواق الملائكة، تظهر يدان عملاقتان من ثنايا غيمة وترميان جبلاً في البحر. تهوي نجمة. تغرق المراكب. الجراد يجتاح الأرض. نسر يصيح بالألمانية: “البلاء، البلاء، البلاء”. نرى في هذا الاستعراض الرهيب أن الخالق حسود كسائر الفنانين. الفشل كامن في صميم الخلق الإلهي، شأنه شأن أي عمل فنّي. ولهذا السبب ينتهي الله الفنان الحقيقي بتدمير عمله. قارئ العمل يتنفس الحياة عبر الثغرات التي تتخلل كل إنجاز. كتبَ مالارميه عن “ملهمة العجز”، الربّة التي تلهم كلَّ مشروع فني درجةً معينة من الفشل تسمح له بالبقاء حياً.
 

قراءة الصور، تاريخٌ من الحبّ والكراهية
ماغنوس إنكل، نرسيس،  1896

ثمة مسافر فوضوي يحبّ اكتشاف الأماكن عشوائياً، عبر الصور المختلفة التي تتيحها المصادفات: المناظر والمباني، الصور الفوتوغرافية، بطاقات البريد والصروح، التماثيل واللوحات، المتاحف وصالات الفنون. هذا المسافر يعشق قراءة الصور بقدر ما يعشق قراءة الكلمات، مستمتعاً بالعثور على القصص المكشوفة أو المضمرة التي قد تنطوي عليها الأعمال الفنية بأنواعها كافة. هذا المسافر قارئ عادي يحسب أنّ من حقّه قراءة هذه الصور وقصصها، من دون اضطرار إلى التزوّد بعدّة النقد ومصطلحاته، فلا يحاول بتاتاً أن يعتمد أي طريقة منهجية للقراءة. قد لا يكون هذا القارئ، المزاجيّ المشكّك المتردّد، أهلاً لمثل هذه المجازفة، غير أنّ عذره هو الفضول الذي يمنعه من الرجوع إلى أي نظرية من نظريات الفنّ. وإذا استطاع تأليف كتاب ممتع، فسوف يكون بالضرورة مليئاً بالصفحات المفقودة، ولن يدّعي المؤلّف أبداً أي إحاطة بالفن أياً كان شكلها. ستغيب عنه قراءات كثيرة مثل فنون ما قبل التاريخ، والفن المفاهيمي والغرافيتي وملصقات البروباغندا في القرن العشرين وعروض الأزياء والبورنوغرافيا ولافتات الأسواق التي كتب عنها تشسترتن: “أي محظوظ بنعمة الأمّية كان سيراها حديقة ساحرة من الأعاجيب”.

*

ينمو الجسد من عناصر أولى في خلية واحدة تتدحرج داخل ظلمات الأحشاء إلى سقف الرحم. مزايانا وعيوبنا وذاكرتنا مسجّلة في نواتها. حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا ترجماتٌ كيميائية لمتواليات تلك العناصر. الصور بنات الضوء الساقط على الشبكية فيحرض وهم الاكتشاف أو وهم الذكريات. بالطبع، هذه التعاريف مدرسية مختزلة، لا تقيم أي دليل على ما يدور في متاهات عقولنا عندما ننظر إلى أي عمل فني.

تقترح فلسفة سامخيا الهندوسية أن ننظر إلى أنفسنا كمتفرّجين على استعراض أبديّ للصور. فمنذ اللحظة الأولى لولادتنا تقع عيوننا على شخصٍ ما يتكلّم ويتصرّف ويفكّر، وربما نتقاسم معه المسرات والهموم والأفكار. يتسلّل الآخرون إلى قرارة نفوسنا ويقيمون فيها. هذه الحميمية التي نتقاسمها معهم، روحاً أو جسداً، تولّد وهماً بأننا أشخاصٌ آخرون. لا نكفّ عن اختلاق الصور لنستمتع ونتعلّم ونلهو، ولعل هذا الوعي الناقص يدفع بنا إلى العبث والظنّ أن حقيقة العالم تكمن في لوحة من لوحات ماغنوس إِنكل أو ماريانا غارتنر أو تمثال من تماثيل أليخادينيو في كنائس البرازيل. تبقى المفارقة المدهشة: برغم الوحشية والطمع والجنون، استطاع الإنسان دائماً أن يخلق جمالاً كثيراً.
 

شبح بورخيس

وُلِدت الكتب من “أمّهات الكتب” لتفضي إلى كتب أخرى في متواليات وتشعّبات مدوّخة عبر الزمن. كل عمل مطبوع من أعمال ألبرتو مانغويل يحتوي شيئاً من جميع كتبه السابقة. كثيراً ما يقتبس من نفسه فيكرر صفحات كاملة بحذافيرها من أعماله السابقة التي استولد معظمها من بطون قراءاته الهائلة. قد نقول إن انتحالاته مفتوحة على الابتكار والتكرار، ولعله أولاً ينتحل صفه نفسه. لا يختلف في هذه النقطة عن معلمه بورخيس الذي رافقه طيفه منذ تعرّف إليه في مراهقته وبات قارئه. أحسب أن المعلم الأعمى كان مرشداً يهدي تلامذته ويلعنهم في آن معاً.  ظلّت روح التلميذ الألمعي لدى مانغويل شغوفة بالمعرفة. راضياً تقبّل الحضور الدائم لمعلمه الأعمى ولم يصارعه. فعلى سبيل المثال، كانت نسخة من لوحة ألبريشت دورر “الفارس والموت والشيطان” معلقة في غرفة نوم بورخيس في بوينس آيرس. استعادها مانغويل في روايته “أنباء من بلاد أجنبية” حيث يتأملها الضابط الفرنسي المثقف الذي ينقل خبراته في تعذيب الجزائريين خلال الثورة الجزائرية إلى بوينس آيرس، هناك يقوم المثقف الرفيع بتعليم ضباط أرجنتينيين فنون التعذيب وفلسفته خلال سنوات الحكم العسكري المسماة “الحرب القذرة”. نعلم احتقار بورخيس للسياسة، وغيابها التام عن أعماله، وتكراره للنكات نفسها، على غرار ما قاله عن الحرب الإنكليزية-الأرجنتينية على جزر الفوكلاند: “إنها صراع بين أصلعين على مشط”. من جهة أخرى، غابت عنه الفنون البصرية، إذ لم يقترب من الرسم والتصوير، وليس عماه السبب الوحيد. كتب مقالات متفرقة عن السينما قبل أن يفقد بصره تدريجياً، وانتقد أفلام هيتشكوك وأورسون ويلز وتشارلي تشابلين وجوزف فون سترنبرغ.
شاب خجول، ماريانا غارتنر

بخلاف معلمه، لم يبتعد مانغويل عن قضايا السياسة والجنس، ولم يتورع عن خوض نقاشاتها الساخنة، وتابع دائماً الأصوات الجديدة في الأدب. احتفى بالكثير من الأدباء الشبّان. أذكر هنا مثالاً واحداً فحسب هو الكاتب البرتغالي غونسالو م. تافارِس الذي يرفق الكثير من رواياته الصغيرة الممتعة بالرسوم التوضيحية. مانغويل المترجم أيضاً، المتنقّل بين أربع لغات على الأقل، يؤمن بالأهمية الجوهرية للترجمة، ولا يبخل بمساندة الأدباء على مختلف لغاتهم ومشاربهم. لمستُ لديه في مناسبات عديدة انفتاحاً وتواضعاً نادرين صادقين. منذ بضع سنين، أبدى موافقته الفورية لإعدادي كتاب مختارات من الشعر السوري باللغة الإنكليزية ونشرها لدى مطبوعات جامعة ييل الأميركية، بصفته أحد المحرّرين في سلسلة الأدب المترجم هناك، قبل أن أتراجع لاحقاً عن هذا المشروع لأسباب شخصية عديدة. تراجعتُ غير نادم، رغم ما بذلتُ وأهدرتُ من جهد ووقت في إعادة القراءات والمراسلات وترتيب الترجمات الأولية. سأستوحي من مانغويل الموسوعي البشوش هذا التلميح المقتضب إلى واحدٍ من تلك الأسباب، أشير إليه وإن لم يكن الأهمّ، وإن بدا مبهَماً وربما على شيء من الحذلقة:

السوريّ- ما إن تسمّي أحداً أو شيئاً حتى يفقد المعنيُّ براءته. يعلو الاسم فوق المسمَّى فيحجبه أو يسحقه، يلوّثه أو يعدمه، أو يلقي عليه شبكة سامة من الأحكام المسبقة التي حاكها العالم على مرّ السنين والأحقاب.
 

شريط موبيوس

كتب مانغويل أن الحياة التي لا تنتهي لا تستحقّ أن تُعاش. أشخاص كثيرون، واقعيون وخياليون، دخلوا حياة هذا الرحّالة، سكنوها وغادروها. تجري الأيام وتمرّ السنوات. عبور الزمن يثقل الجسد قبل بلوغه الصفحات الأخيرة من الحكاية. كأنّ الجسد، حين تتقدّم به السن، يحسد العقل الذي تزداد أفكاره وضوحاً وصفاء فيرفض التنازلات مثل طاغية مخلوع لا يقبل أن يستأثر بالانتباه أحدٌ سواه، متعامياً عن اقتراب اليوم الذي سيبقى فيه وحده مثل زائر غير مرغوب فيه.

كل المجازات القديمة التي ساعدتنا عبر العصور على معرفة أنفسنا قائمة على فكرة التحول: جريان النهر، سقوط الأوراق، النار والرماد… هويتنا معلّقة بين الشخص الذي كنّاه والشخص الذي سنصيره، لأنها بطبيعتها محرومة من الحاضر. نميل إلى الظن أن الماضي نبعُ وجودنا. كتب ميغيل ده أونامونو أن الزمان يتدفّق من المستقبل صوب الحاضر ومن ثم بالاتجاه المعاكس. نحن موجودون داخل هذين التيارين، في أحدهما تحملنا الأطياف والأوهام إلى الوراء ويحملنا الآخر إلى الأمام نحو هوياتنا المقبلة. لعلّ رمز هذه التحولات جميعاً هو شريط موبيوس الذي ليس له سوى وجه واحد وتحولاته لانهائية. نحن والعالم كله لسنا سوى ثمار التحولات. ربما استلهمنا هذه الأفكار من مراقبة اليرقات والبيوض وأطوار الحشرات، ولكنّ الموت ليس خطوة نهائية، كما أخبرنا يوحنا. وعي الإنسان مسكون بتناسخ الأرواح والمراحل المتتالية للعقاب أو خلاص النفس. سنبقى غامضين ما دمنا نحيا في لجّة التحولات. نرى كيف تمر الأشياء وكيف تشيخ وتتهاوى وتصير غباراً. وبرغم ذلك نستمتع بالتحولات الجديدة، بذوبان الثلج، بالبراعم الجديدة على غصون الخيزران. نتكلم على التحولات التي تقلقنا، وفي الوقت نفسه نثمّن التجارب التي تغيّرنا. نخشى أن نرى في المرآة وجهاً لا يعرفنا، ولكن يروق لنا النضوج والحكمة التي قد نستمدّها من التجربة أحياناً.

القيامة هي خطوة الختام في نهاية تحوّل مستمرّ. “إني أكشف لكم سراً: نحن جميعاً لن ننام ولن نموت بل سنتحوّل، في لحظة، في طرفة عين، عند النفخ في البوق الأخير، إذ سيُنفخ في البوق، فيقوم الأموات غير فاسدين وسنكون نحن قد تحوّلنا”، يقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس الأولى. قبل طردهما إلى الأرض، كان التواصل بين آدم وحواء روحياً من دون أي لغة. ستتلاشى الكتابة والقراءة بعد النفخ في صُوْر القيامة. أما على هذه الأرض، فتبقى الكلمات ميثاقنا الضروري وميراثنا المتواضع.
 

ف. غويا، دون كيخوته في مكتبه وانقضاض الوحوش عليه، 1812

حاشية

لم أتطرق إلى أعمال ألبرتو مانغويل التي وطّدت مكانته كقارئ فريد في المقام الأول، وأعني بها مؤلفاته حول القراءة وتاريخها والمكتبات، إلى جانب كتبه حول دانتي وهوميروس، كما ابتعدتُ عن أعماله السردية التي ترجمتُ ثلاثة منها إلى العربية. فكرتُ أولاً بالوقوف على قصصه الخيالية مثل “الأب والابن” عن القديس أوغطسين وابنه (ضمن كتابه “قصص كلاسيكية” الصادر باللغة الفرنسية سنة 2010). كما فكرتُ، عطفاً على الرقم “سبعة” في رؤيا يوحنا البطمسي، بالرجوع إلى مساهمة مانغويل في الكتاب الفني “النائمون السبعة”، ذي الأجزاء السبعة التي كتبها سبعة مؤلفين عن رهبان تبحيرين السبعة الذين اغتيلوا وقُطعت رؤوسهم يوم 21 أيار/مايو 1996 في دير سيدة الأطلسي غرب الجزائر. لكنني عدلتُ عن الفكرتين وذهبت في اتجاه آخر. العناوين “المسافر والبرج والدودة” و “القيامة وفقاً لدورر” و “قراءة الصوَر: تاريخ من الحبّ والكراهية” هي عناوين بعض من كتبه التي لم تترجم، على ما أعتقد، إلى العربية. أعددتُ كل نص من هذه النصوص الثلاثة عن واحد من تلك الكتب التي قرأتها مجدّداً قبل كتابة هذا المقال، باستثناء كتابه الضخم “قراءة الصور”. “شريط موبيوس” معدّ أيضاً عن “القيامة وفقاً لدورر”.

The post أكَلَة الكتب appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مأوى بندر https://rommanmag.com/archives/19973 Wed, 19 Feb 2020 21:07:21 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%a3%d9%88%d9%89-%d8%a8%d9%86%d8%af%d8%b1/ تحت جسر الرئيس وسط الدخان والضجيج، بندر عبد الحميد يستطلع عناوين الكتب المرمية أو المصفوفة تحت جسر الرئيس في دمشق. وراءه مجنّد داخل كولبة هاتف “براق” يتّصل بأهله، ناظراً إلى الركاب الذين يصعدون إلى باص باب توما. يتصفّح بندر كتاب “المرفأ المظلم”، قصائد مارك ستراند التي ترجمتُها ونشرتها وزارة الثقافة بتوصية من نزيه أبو عفش. […]

The post مأوى بندر appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

تحت جسر الرئيس

وسط الدخان والضجيج، بندر عبد الحميد يستطلع عناوين الكتب المرمية أو المصفوفة تحت جسر الرئيس في دمشق. وراءه مجنّد داخل كولبة هاتف “براق” يتّصل بأهله، ناظراً إلى الركاب الذين يصعدون إلى باص باب توما. يتصفّح بندر كتاب “المرفأ المظلم”، قصائد مارك ستراند التي ترجمتُها ونشرتها وزارة الثقافة بتوصية من نزيه أبو عفش. يبدأ بندر كتابة تحقيق صحفي حول الفنادق والأدباء لملحق “نوافذ” في بيروت، مطلع الألفية الثالثة، بعدما قرأ قصيدة ستراند “فندق على الساحل” التي اختتم بها مقاله:

 

آه، انظرِ السفينة تبحر من دوننا! والريح

تهبّ من الشرق، والسفينة الأخرى ستغادر في عام آخر.

لنعُدْ إلى الفندق الساحلي حيث لا يتوقف المطر عن الهطول،

حيث الحديقة، خضراءَ ومليئة بالظلال، تهمس

أندر الهمسات: “حذارِ الانتهاك”. بوسعنا أن نتجوّل،

ونزورَ الموتى الأنيقين في بيجاماتهم الرّماديّة، وبعد نزهة

بين أشجار البتولا، نستطيع الاستلقاء وسط تجاعيد السرير، ونرى

ضوءَ القمر العتيقَ يزحفُ على الأرضيّة. سيرتجُّ

إطارُ النافذة، وأمواجُ الظلام التي ما ناداها أحد، باردةً، ضاريةً،

ستغطّينا. وسنتهاوى في سراديب النوم الموصَدة

كثيرة المرايا. وهناك، في الضوء الخافت، سنكتشف العظامَ

والغبارَ، البقايا المريرةَ لشخصٍ

ربّما أخذنا مكانه.

 

الهادئ في وحدته

ستعرّفني تلك القصيدة إلى بندر. ألتقيه في دار المدى. أراه يصعد متمهّلاً من القبو إلى المكتبة. فوزي كريم يحرّر مجلة “اللحظة الشعرية” في القبو، نزيه أبو عفش وفؤاد التكرلي متقابلان يتصامتان. خالد سليمان الناصري يصمم الأغلفة، أنطون وريما يهندسان التتمات. فاتن تدير المكتبة. ابتسامة بندر ناجعة أكثر من مصابيح النيون، تضيء القاعة الظليلة وتبدّد القلق الطفيف في الهواء وتفضّ الخلافات الصغيرة بين العاملين في الدار. ابتسامة تشيع هدوء لا أفهمه، يزيدها لطفاً بياض شعره وتمهّله في الكلام والمشي. كل الصفات التي قد نتردّد في استخدامها لوصف بني آدم تناسبه: السماحة، الحِلم، السخاء، سعة الصدر.

أدقّق مختارات من الشعر السوري خلال القرن العشرين أنجزها محمد جمال باروت، مكتوبة بخط اليد في كلمات مرصوصة مروّسة، ولم تصدرها دار المدى أبداً. أصادف في واحدة من أوراق باروت العبارة التالية: “إنّ نزيهاً أبا عفش”، فتستفز نزيه هذه القاعدة النحوية التي لا لزوم لها. لا نكمل الكلام، وأنتقل إلى “النورس الأسود” لمنذر مصري. “لماذا لا تترجم دكتور جيكل ومستر هايد؟” يقول بندر، وأتحمس للاقتراح. أحبّ أعمال ستيفنسن كثيراً. أعلم لاحقاً أن المدقق اللغوي في دار المدى هو الشاعر غياث المدهون، نتجادل حول قواعد التمييز في النحو، ولماذا استخدمت تعابير معينة عندما ترجمت هذا العمل السكوتلاندي الكلاسيكي، وكل منا يستشهد بآيات قرآنية تدعم رأيه. بندر يسقينا الشاي، مضيفاً يصون لطافته دوماً، مبتسماً على عادته حين يتجادل الآخرون ولا يعلق بشيء.

على الرصيف العريض لشارع 29 أيار، بعد المركز الثقافي الروسي، يلوح بندر بقامته الطويلة عند ناصية المقهى الذي جعلته “مسيرة الإصلاح والتحديث” بنكاً. في شارع كرجيه حدّاد، أزاح الغصون المتدلية لأشجار الفلفل الكاذب، تتوقّف ليشمّ التربنتين حين فرك بكفيه غصناً من أوراقها وعنقوداً من ثمارها الحمراء الصغيرة، وصادف على الرصيف هالا محمد وهيثم حقي ولقمان ديركي معاً فثلاثتهم مقيمون هنا في عين الكرش. يذهب بندر مشياً إلى مكتبه في المؤسسة العامة السينما. أزوره هناك. لديه دائماً اقتراحات للمترجمين، ولا يميّز بين كبير وصغير. “أنت تحبّ هيتشكوك. خذ سيناريو “النافذة الخلفية”. صالح علماني ترجم “المدرعة بوتمكين” ونسي ترجمته حتى أخذتها منه، وممدوح عدوان أخذ “المواطن كين””. أفكّر بترجمة مقابلات بيتر غريناواي من أجل سلسلة “الفن السابع” نفسها التي كان يشرف على تحريرها، بعد عدم موافقة الرقابة على نشر مذكرات كييسلوفسكي.

متمهّلين نهبط الشارع الظليل الضيق الذي تقع فيه مؤسسة السينما، ومعي عددٌ من الكتب التي أهداني إياها. ننعطف يساراً ونقصد قصّاباً يعرفه بندر. يطلب منه “قطعة لحمة هبرة كبيرة”، ويرسمها في الهواء بيديه. يضعها القصاب على لوح الخشب المشقّق فيطبطب بندر عليها، ويومىء برأسه موافقاً. يضعها في كيس ثانٍ ونواصل مشينا البطيء. نقطع شارع هوغو شافيز باتجاه حديقة السبكي. الحرّ مبكر هذه السنة. بدأ أيار ساخناً. يحبّ بندر ارتداء القمصان المقلمة وقمصان “الكاريهات”، ومعه غالباً أوراق أو كتب أو كيس يحمل فيه أشياء قد لا تخطر على بال أحد، سارحاً في مدينته دمشق التي يحبّها كثيراً، متمشياً داخل مساحة محدودة لا يغادرها إلا نادراً، من دار المدى في عين الكرش إلى مكتبه السينمائي في الجسر الأبيض، عبوراً بشارع العابد والصالحية. “تعال، سأريك شيئاً”، يقول. ندخل الحديقة من جهة مختبر القطرنجي للتحاليل الطبية. نتوقف أمام مقعد قرب بركة الماء. إنه حائل اللون، وقد شحب احمراره أكثر في الحرّ. تحت شجرة صنوبر بحري، محاطين بالوخم المنبعث من ماء البركة الراكد ودخان السيارات الدبق، يقول مبتسماً، مشيراً بيده فتبرق ساعته، وتهتزّ سيجارة الجيتان الأبيض بين أصابعه دون أن يشعلها: “على هذا المقعد نامت دعد حدّاد. كانت قيلولتها هنا. كانت ترتدي معطفاً بلون… القرفة. لا. مثل لحاء هذه الشجرة”، فيلوح الوشم البدويّ على ظاهر معصمه كالوشم على يد محمد الماغوط- غصن مدقوق بإبرة في سمرة الجلد، ترجمة لوقوف طرفة بن العبد على أطلال خولة. كتاب سوريون عديدون يتحدّرون من بلدات الجزيرة وباديتها وقراها: خليل النعيمي، خليل صويلح، بشير البكر، إبراهيم الجرادي، صبحي حديدي، سليم بركات…إلخ. أمضى بندر شتاءات طفولته في تل براك قرب الحسكة، غير بعيد عن قرية جدّي، وأضفى هذا على المودّة والحميمية بعداً خفياً. كلانا كبرنا مع الشيوخ وصاحَبْنا منذ صغرنا الذين يكبروننا سنّاً. لديه ولدى نزيه أبو عفش العديد من مخطوطات دعد حداد الشعرية والمسرحية. أعلم منهما أن دعد كانت تتنزّه وحدها من الشعلان إلى المزرعة، ومعها سلة خيزران صغيرة تحوي خبزاً وخضاراً نيئة. كانت تقشّر حبة بطاطا أو حبة كوسا وتقطّعها تحت أشجار السبكي أو حديقة المدفع، ثم ترش قليلاً من الملح والفلفل الأسود على تلك الشرائح وتقضمها نيئة. كانت تستغرب من يستغرب وجباتها: “ألا يأكلها الأطفال نيئة أيضاً؟” كانت تنام لياليها أحياناً وسط الآلات في مطابع وزارة الثقافة. هناك من رأوها تستعطي رغيف خبز من فرن في ساحة التنابل، كما شوهدت مشعثة الشعر ترتدي ثوباً ممزقاً ذات مساء ممطر في سوق الصالحية. ذات مساء ممطر في بدايات 2001، سأقرأ قصائد غير منشورة لدعد في أسبوع المدى الثقافي، تحت خيمة واسعة في المكان الذي كان معرض دمشق الدولي. المخطوط مدوّن بالخط الجميل لبندر، وفيه قصائد قليلة عنونها “ثمة ضوء”. أجلس على المنصة برفقة ميسون صقر القاسمي، وأقرأ من قصائد دعد:

ما هذه المسافات والفراغات؟
وأنا وحدي أركض بلا نهاية
لا شيء سوي الذهول واللامعقول
لا شيء يحدّ من هذه المسافات
لا يد صديقة
لا يد محبة
لأتوقف
آه… أيتها الحياة المتسعة
أين جدرانك
وبواباتك؟
أين حراس الأرض الطيبون؟
أين الملائكة المبتسمون؟
وأنا أنمو تارة وأصغر تارة…
حتى السياجات والأشواك
اختفت
وانطفأت الأنوار
أهي صحراء وبلا رمال؟
أهي أحلام ونستيقظ؟
وأنا طفلة ذات شرائط ملونة
أحوك ثوبي
وأصنع دميتي
لمن أهدي كل هذا الجمال؟
والعالم مقفر… ومتسع
.وأنا أركض بلا نهاية

 

ندماء الغرفة الصغيرة

نستكمل مشينا الهادئ أنا وبندر، ملازمين الظلال في شوارع قلب دمشق. خطواته الثقيلة تريح القلب وتزيد من اتساع المدينة التي تخنقنا. لم يبدأ بعد جنون أبواق السيارات والسرافيس. نصل إلى ساحة عرنوس وننعطف يساراً باتجاه شارع الباكستان، ثم ندخل شارعاً فرعياً إلى اليمين. بعد مطعم إسكندرون الصغير المعروف بالمشاوي، نصل إلى غرفة بندر التي لا يعلم أحد كم آوت من صداقات وأسرار حب ونقاشات جادّة ونمائم، وكم احتملت من فظاظات وشجارات، وكم استضافت من مسافرين وضائعين وصعاليك وعشاق مخذولين. يدفع الباب الذي لم يكن مقفلاً. دفعة صغيرة بالكتف تكفي لفتحه. المكان صغير لا تدخله الشمس، وظلاله ملاذ حقيقي في هذا الحرّ. ألوان الجدران زاهية وديكور الجبصين أليف. ابتسامة صاحب البيت تكفي لتُرسي الانسجام مهما تنافرت الموجودات، وتقلب الجحيم نفسها إلى حديقة. يبقى الباب مفتوحاً. يقطّع اللحم وينقعه في نبيذ أبيض ويضيف كبش قرنفل. “اسكب العرق لنفسك. هناك “البطة” والموالح”. تتوسط الغرفة طاولة مستديرة تحت زجاجها صور وبطاقات عناوين وقصاصات كثيرة، في إحداها يركض بندر الشابّ وفتاة قصيرة التنورة في مكانٍ ما من هنغاريا أيام حقبتها الشيوعية. تسريحته نفسها، براءته نفسها، والفارق الوحيد هو بياض الشعر الذي صنعته السنين، البياض وربما شيء كثير من الحزن والتعب. يقول إن طبخاته تقلق البعض: “يظنونها عشوائية. أنا أطبخ بقلبي”. بعد قليل، يقرع الباب ويدخل برهان بخاري، ثم يأتي نوفل نيوف وثائر ديب، ثم عابد إسماعيل وشاكر الأنباري. لا مفرّ من احتدام الأحاديث. بندر يعود إلى المطبخ ويتفقد الطنجرة. يستمع إلينا ويباغتنا أحياناً بملاحظات قصيرة تبين دقّة ما يتذكّره وتفشي عكس ما قد يوحي به طبعه. النقاشات الغاضبة لا تخترق ابتسامته المحصنة ضد الانفعالات وضد الحسد والكراهية. مائدته مفتوحة للجميع كمائدة وولت ويتمان (الذي أعاد عابد إسماعيل نقله إلى العربية، متجنّباً المآخذ على ترجمة سعدي يوسف المجتزأة)، مائدة “مهيّأة للجميع […] المحظيّة والانتهازيّ واللصّ مدعوّون، العبد ذو الشفتين الغليظتين مدعوّ، مريض السفلس مدعوّ؛ لن يكون هناك فرق بينهم والباقين”. 

تحت ساعة الحائط نسخة من ديوان بندر “مغامرات الأصابع والعيون” منزوعة الغلاف، تُسمَع في بساطة قصائده وإنسانيتها أصداءُ العالم، وأصداء الشعراء الذين اقترنوا في ذاكرتي باليساريين: نيرودا ولوركا، ناظم حكمت وماياكوفسكي وأراغون… بالنسبة إلي، الشعر في مكان آخر. هذه فكرة لا تطعن في رسوخ المحبة التي أكنّها لمن ينادون بالبساطة بين “شعراء الحياة اليومية”. أدرك المكانة الأثيرة لصالح الرياض الحسين. أحب مدائحه لغرف أصدقائه، وأظّن أن بندر قد نشر له بعد رحيله مجموعة “وعل في الغابة”. تتشعب الأحاديث الجانبية حول المائدة المستديرة. يقول ثائر ديب ضاحكاً إن بندر الطيّب أبو الطيّب رفيق سبّاق، فقد كان سجيناً سياسياً في سجن الشيخ حسن مطلع السبعينيات. برهان بخاري، بلسان أسلسه الكحول، يروي نكات يشفعها بقهقهات بطيئة، استهلها بطرائف عن مدير مركز ثقافي كان معروفاً بالسكتات في المواضع غير اللائقة، مثل الوقوف عند الباء في اسم “زبير”، أو الدال في كلمة “فقدْناك”، أو الكاف الوسطى في “بيكنيك”. يسترجع مرة أخرى حكايات زقاق شيكاغو، شارع الخمارات الدمشقي، وكيف حوّرها المحررون في جريدة “الدومري”، ثم يرفع كأس عرقه نخبَ السكران الذي خرج من خمارة هناك ليبول تحت المزراب في ليلة ماطرة ولم يعُدْ.

أعود إلى دعد حداد وفكرة طباعة أعمالها المبعثرة بين أصدقائها القليلين. لم أكن أعرف أن مروان حدّاد، مترجم مذكرات بونويل، شقيقها. لا أعرف تفاصيل قصتها العائلية وخفاياها ولا أستقصيها. ماتت وحدها داخل غرفة مستأجرة في شارع بغداد، محاطة بأدوية اكتئابها وأشباح وحشتها. ماتت رجاء طايع وحدها أيضاً، بعد رواية يتيمة هي “مانيفست الهذيانات”، طبعتها دار المدى. كنت قد سمعت أنها تربي قططاً كثيرة في عزلتها الطويلة، مثل أسماء عبد الوهاب البياتي في حي المهاجرين. قيل عنها ما يُقال عن دعد: إن قصة حب قد دمّرت حياتها. رأيتُ رجاء مرة في باص باب توما. باستعجال يلفت النظر، سارعتْ إلى الركوب وجلست على مقعد منفرد. في حضنها حقيبة سوداء ضخمة ثقيلة، أخرجت أوراقاً وبدأت تكتب وتشاجر الكلمات، بالمعنى الحرفي للمشاجرة. رأيت يديها ترتجفان، وكأنها تستعدّ لشتيمة مزلزلة، ثم سكتت وأغمضت عينيها. مات غالب هلسا أيضاً وحده في دمشق. يقول بندر: “سأريك في المرة القادمة الصورة التي التقطتها لغالب هلسا حين ذهبنا في الصباح الباكر لنفطر لدى بوز الجدي، آخر شارع الشيخ محي الدين”. أتخيّل غالب هلسا برأسه الأبيض تحت الخروف المرسوم في لافتة المحل، وأتخيّل نوم دعد حدّاد ذات مساء على الممسحة أمام باب بندر. كانت قد أتت على غير موعد كمعظم المتردّدين على المكان. حين سمعتِ الساهرين ونقاشاتهم الصاخبة وقرقعة الصحون والملاعق والكؤوس، خافت أن تقرع الباب. جلست بصمت وظلّت تنتظر حتى نامت على العتبة، قبل أن يتعثّر أول المغادرين من الندماء والسهارى ويرتطم رأسه بالجدار في الممر المعتم الضيق، وتوقظه الخائفةُ النائمة من سَكْرته.

 

قصائد مختارة لبندر عبد الحميد

 

النوم الكبير

 

لماذا كل هذا العواء

لا فائدة

كلمة مفيدة تكفي

انتهى النهار

وبدأت أوهام الليل

أستمع إلى موجز الأنباء

مئة مليون

في سجن صحراوي كبير

مساحته ثانية ضوئية واحدة

وعند البوابة الضيقة طائر ميت في قفص.

 

حلم في جفن

 

العواصف الصغيرة

مرت على الوجه واليدين

كحلم في جفن مسافر

وهذه يد دافئة

كجناح طائر غريب

تلملم أضلاعك المتناثرة

وتقرأ لك الأوراق البيضاء

وأمواج البحر

باللمسة الساحرة على الخد

وأنت نصف نائم

بالقبلة الصامتة بين الجفن والحاجب

بالكلمة التي تكشف اللغة

والحركة التي تصل الماء بالنار

حيث يتسع العش الصغير

ويصير الشتاء قميصاً دافئاً

شفتاك ثمرة يانعة

في شجرة وحيدة

في جبل صغير

في صحراء لا يعرفها أحد.

 

صمتاً

 

ما أجمل هذه الصخور المتكسرة

فوق المنحدرات الخضراء

أسمع الأغاني القديمة

للطبيعة المتجددة

وعشاقها الرائعين

صمتاً

لا تعترف بأخطائك 

لأنك ستكذب مرة أخرى

أيها الولد البائس الدبق

الناشف المتذبذب الكسول الجاهل الأكول

الراشي المتجاهل المرتشي المفسد المتنمّر المائع الفاسد

المتكبّر السارق الغبي الثري المنافق

صمتاً

ما أجمل هذه الصخور

فوق المنحدرات

عُدْ إلى الوراء

هذا طريقي

وقد لا تستحق صفعة

على قفاك

الذي يشبه وجهك.

 

حصار

 

في الداخل محاصرون

في الخارج محاصرون

والذي يرمي حجراً

يدعم الآخر 

والصامت مهزوم

في ظل الحصار

الطويل

في الأرض القديمة

الطيبة.

 

الرحلة القادمة

 

قليلاً قليلا

سأبتعد عن أصدقائي القدامى

عن الراقصين والنائمين

عن الملائكة والمشاغبين

عن المغامرين والمهزومين

الذين يتغيّرون مع الطقس

والذين لا يتغيّرون

سأرمي كتبي في الهواء

وأمدّ يدي إلى يدك

ونطير بين الناس

والأشجار.

 

حبة قمح

 

أظنّ أنّ الطقس يتغيّر قليلاً

بعد أيام

إنني أشمّ رائحة المطر

ما زلت أعمل في هذا السيرك اللعين

لست مدرّباً عجوزاً

ولا حيواناً أليفاً

عندي فكرة صغيرة

كحبة قمح

تنمو بين الصخور.

The post مأوى بندر appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
السيّدة يسوع https://rommanmag.com/archives/19949 Thu, 30 Jan 2020 12:26:37 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%91%d8%af%d8%a9-%d9%8a%d8%b3%d9%88%d8%b9/ بورنوغرافيا غومبروفيتش سنة 1954. قرأ ألبر كامو رواية “فيرديدوركه” فسحرته. كتب رسالة إلى مؤلفها فيتولد غومبروفيتش المنفي في الأرجنتين، وساعده على نشر الترجمة الفرنسية. تسرد الرواية سيرة رجل اسمه جوجيو يعود إلى صباه، ليحيا من جديد جحيم المراهقة.  لم يغفل غومبروفيتش في أي من كتبه عذابات العاجزين عن النضوج، المحكومين بدوام الرعونة والتهور والندم والحسد، […]

The post السيّدة يسوع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

بورنوغرافيا غومبروفيتش

سنة 1954. قرأ ألبر كامو رواية “فيرديدوركه” فسحرته. كتب رسالة إلى مؤلفها فيتولد غومبروفيتش المنفي في الأرجنتين، وساعده على نشر الترجمة الفرنسية. تسرد الرواية سيرة رجل اسمه جوجيو يعود إلى صباه، ليحيا من جديد جحيم المراهقة. 

لم يغفل غومبروفيتش في أي من كتبه عذابات العاجزين عن النضوج، المحكومين بدوام الرعونة والتهور والندم والحسد، المنساقين وراء الفظاظة وسحر قوتها. يتأمل الشباب وما يحمله من جمال وحيوية، ثم ينقض الافتتان بالقول إن الجمال سلاح المرأة والطفل والمراهق، وما الشباب إلا مثال الجهل والافتقار إلى التجربة. لا مفرّ أمام الشبّان من الرضوخ للراشدين. الكبار الأقوياء أوغاد يستلذّون بأن يروهم متعثرين ضائعين، وقد ينتقمون بوساطتهم من نكبات الماضي. ألا تبقى الحروب كلها حروبَ مراهقين يتقاتلون ويتباهون؟ من سيأبه بالجمال الذي يعمل الفنانون تحت خدمته؟ الجمال ضعيف. السيادة للجريمة. لنتذكر روايته “بورنوغرافيا” حيث رجال يؤلّبون مراهقاً لارتكاب جريمة قتل.

هاجم غومبروفيتش الرواية الفرنسية الجديدة ولم يوفّر الوجوديين ولا النقاد والفلاسفة الجدد (بارت، فوكو…). سدّد نيرانه على النخبة الباريسية، خصوصاً رواد مقاهي سان جرمان والحي اللاتيني. كانت روايات سارتر وكامو وبوتور تضحكه في البداية، ثم فتك به الضجر وما عاد يقرؤها. تساءل: “الملل. هل يكمن السر هنا؟ هذه أعمال مملّة إلى حد تتعذر فيه قراءتها، وبالتالي لا نستطيع انتقادها”.

 

مراهقون

للمراهقة أساطيرها في الأدب الفرنسي. أدباء مسكونون بالجرائم وتأمل معانيها وشجبها أو ارتكابها، من مشانق فرانسوا فيون ومسدسات رامبو إلى زنزانة الماركيز دو ساد وشناعات باتاي، وليس انتهاء بأمثولات كامو بعد انشقاقه عن الشيوعية و”تنصّله” من تُهم العبث والوجودية والماركسية. ليس هذا ذماً. لم أكن وحدي بين أصدقاء مراهقتي من ظنّ للوهلة الأولى أنّ كامو اسم تحبّب كردي. كان اللفظ الخاطئ لحرف العلّة الأخير قد جعلنا نفكر بأنه تصغير لاسم “كاميران”. خطأ آخر في التأويل ساهم في رواج نيتشه بيننا، وكنا نزعم ساخرين أن هذا هو زرادشت نبيّ قومنا. نيتشه وكامو، إلى جانب دوستويفسكي، سادوا مراهقتنا، في بدايات الوساوس والتمرد والعزلات المجنونة. لا أستطيع حتى الآن نزع هذا التداعي من ذاكرتي، ولا أزال أقرؤهم بتلك العين. كنا نحسبهم أنبياء شبّاناً يحتقرون مبدأ الزعامة، قادرين على تفسير كل شيء وتحطيم القيم الراسخة وبلبلة الأخلاق، وأعمالهم طافحة بالأفكار اللامعة، وظننّا هذا غاية العمق ومنتهى الفلسفة. كنا نحسب تيار الوجودية مستلهماً من الأسئلة الوجودية للمراهقين وأزماتهم- الله، الإلحاد، الحرية، الحب الحرّ… كنا نردد النكتة التي رواها نيتشه عن ستاندال وتمنى لو كان مؤلفها: “العذر الوحيد لله هو أنه غير موجود”، ونتفاخر بكبرياء كامو: “وُلدتُ فقيراً تحت سماء سعيدة”. كان هذا يروق لطيشنا وميلنا إلى الصدام والاستفزاز وتقمص أدوار ليست لنا، ونحن نخفي تبجحنا باصطياد التناقضات والتباهي بها كأنها بطولاتنا وحدنا.

المسيح لم يزُرِ الجزائر
Saint Augustin aux couleurs de l’Algérie, Milan

سنة 1936. أعدّ الطالب الشيوعي ألبر كامو رسالة تخرجه في قسم الفلسفة في جامعة الجزائر. عنوانها “الميتافيزيقا المسيحية والأفلاطونية المحدَثة”. ثبْتُ مراجعها يخلو من أي عمل ألماني. منذ مطلع شبابه، بعد شفائه من السلّ، كان قد تبحر في دراسة المسيحية وتاريخها وفلسفتها، وعاد إلى بداياتها في مصر وسوريا ليبيّن الجذور الهيلينية لديانة يسوع. استوقفته سيرة أوريجين الإسكندري الذي أخصى نفسه لكيلا تلهيه الشهوات عن عبادة الله. إحدى أشهر عظات أوريجين تدور حول تضحية إبراهيم بابنه إسحق (إسماعيل في الرواية القرآنية). هذه العظة مثال في فنون الجدل والخطابة يسبق بوقت طويل سورين كيركغارد، المهووس بحادثة ذلك القربان المليئة بالمفارقات. بالطبع، كيركغارد أحد الآباء الكثيرين للوجودية التي تمادى روّادها الحديثون في قتل الآباء إذا اعترضوا طريق تمردها، وأوّلهم الربّ نفسه.

نحمل كوابيسنا معنا ونحياها ما دمنا ننتقدها. من يسعى إلى العدالة محكوم بالتفكير الدائم في الجرائم. من يرفض ديناً أو جريمة، أو أي فكرة حيّة، سيبقى محكوماً مدى الحياة بأن يحمل معه ما يرفضه. تكاد ظلال تلك الرسالة الجامعية نتخلّل أعمال كامو كلها، فالمسيحية ظلت نصب عينيه دوماً، رغم رفضها له حتى مماته. كان قد أوصى بالإلغاء التام لكل الشعائر الدينية في جنازته. 

كأن بداياته تتماهى وبدايات نيتشه الذي انطلق من ميلاد التراجيديا في بلاد الإغريق. كلاهما مولعان بالثقافة الهيلينية والشمس وزرقة السماء والضوء. الضوء دائماً. كلاهما وجدا في المرض باباً واسعاً مفتوحاً على الحياة. كان جسد كامو في العالم المسيحي وروحه في اليونان القديمة. “لستُ مسيحياً”، قال ذات مرة، وقد رأى في المسيحية “ديانة ظلم تأسست على التضحية بالأبرياء وقبول هذه التضحية”. استنكر كيف حلّ التواضع المسيحي مكان الكبرياء الوثني، وما لبث أن انتقد زهو الإنسان، وكان محقاً. استغرب كيف انقلبت مواجهة الإنسان لنفسه إلى هروب من النفس تثقله الخطايا والندم. قد يكون الشعور بالذنب محفّزاً للكتابة ومحرّضاً على التفكير، ولكن “الندم حماقة كلب يعضّ حجراً”، كما يقول مثل ألماني اقتبسه نيتشه. نعلم الهجوم المفتوح الذي شنّه نيتشه على الدين، وكيف استخلص أن المسيحية قد قامت على أتمّ وجه بتهويد أوروبا، حين روّجت عملة سهلة الاستغلال اسمها “الذنب”. مفهوم الخطيئة لدى كامو أشمل وأوسع من حصره في بذرة آدم، وكل إنسان ينال حصته منها. لم تكن كخطايا جان جينيه الذي طوّبه سارتر ممثّلاً وشهيداً. “شرور” جينيه في شبابه كانت محدودة، جسّدتها وقتذاك السرقة والمثلية والكذب، أي لم تكن خطاياه إلا تلك التي يعرفها بجسده ويحسن ارتكابها.

يختتم كامو، الشيوعي الغرّ الوسيم، رسالته الجامعية عند “سانت أوغسطين والشرّ”. يذكر كيف ارتاح القديس حين قرأ لدى أفلوطين أن الشرّ افتقار إلى خصلةٍ ما أكثر من كونه قوّة فاعلة. كتب كامو أن المسيحية لم تصل إلى الجزائر، حتى لو كانت أرضها مسقط رأس سانت أوغسطين، المعتدّ بمنبته الإفريقي، المولود في سوق أهراس والمدفون في عنّابة، وكان المسيحيون المثقفون في روما، المعروفين باستعلائهم، يعيبون عليه لكنته الأمازيغية والأخطاء الكثيرة في كتاباته اللاتينية.

حكايات يرويها رأس مقطوع
Saint Denis, Cephalophore

لا بقايا الرأس المقطوع ليوحنا المعمدان في أساسات الجامع الأموي، ولا ما تمتمه الرأس المقطوع للحسين على الطريق الطويل بين كربلاء ودمشق، ولا النساء مقطوعات الرؤوس في ألف ليلة وليلة، ولا ميادين ضرب الأعناق في السعودية حيث يعلن أهل القتيل عفوهم عن عميد السيّافين أحمد المولد محطّم الأرقام القياسية في تنفيذ القصاص… لا. لا. التعرف إلى القديس شفيع باريس أسهل على التلاميذ الصغار الذين تصحبهم معلمتهم ليتعرفوا على واجهة نوتردام. وسط حشود القديسين والشهداء والملائكة والوحوش التي تزخرف مدخل الكاتدرائية المحترقة، هناك قديس محاط بملاكين ورأسه المقطوع بين يديه. هذا هو سان دني، شفيع باريس منذ القرن الرابع.

عُوقب شفيع الشفعاء بالحرق والصلب والرمي في حفرة وسط ضوارٍ مجوّعة لم تفترسه. وبعدما نجا المرة تلو الأخرى، حكم عليه الوثنيون في لوتِس (باريس الرومانية القديمة) بالموت. فور تنفيذ الإعدام، نهض القديس وحمل عن الأرض رأسه الذي قُطع بالفأس ومشى طويلاً نحو الشمال، مجتازاً ساحة الشاتليه إلى بوابة سان دني، ثم مرتقياً تلال مونمارتر (يعني اسم هذا الحي حرفياً: جبل الشهداء)، ثم هابطاً السهول ليصل إلى موضع الكاتدرائية التي تحمل اسمه حالياً وتأوي مقبرة ملوك فرنسا. إنها تضمّ طبعاً رفات الرأسين المقطوعين للويس السادس عشر والملكة الأجنبية ماري أنطوانيت، المعروفة بتثاؤبها أثناء المراسم الملكية، وتبذيرها الشديد حتى بات اسمها “السيدة عجز الموازنة”. 

“سان دني” أحد أطول الشوارع في باريس. كان في البداية درب الآلام الذي شقّه القديس العاري المجلود ورأسه المقطوع يعظ الناس، المبهورين بالمعجزة. تحول شارع الآلام إلى شارع المواخير، وكانت مومساته يعلّقن إلى أصداغهنّ “تمائم سان دني” الشافية من أوجاع الرأس.

عاد كامو مرات عديدة إلى قصة الزانية في إنجيل يوحنا، “ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر” حين كتب المسيح بإصبعه كلمة “خطايا” على غبار حجر. استنكر كامو فظاعات المسيحية واعترافاتها، ولم ينسَ التماثيل الكاتالونية لمسوخ وتنانين مشقوقة الأوصال، ولا الملائكة ذوات الأجنحة المرصّعة بالعيون في أروقة الكنائس ومذابحها. “إذا كانت السموات تعجّ بمثل هذه المخلوقات، فماذا تبقّى للجحيم؟” تساءل روبرت لويس ستيفنسن.

 

المقصلة

“غاية العقوبة هي إصلاح المعاقِب”- نيتشه.

سنة 1957، كتب كامو مرافعة بليغة للتنديد بعقوبة الإعدام وتفنيد جدواها في إشاعة الفضيلة والخير العام. لنتذكر تأملات دوستويفسكي في الأفكار التي تراود رأسا مقطوعاً على النطع، في تلك اللحظات القليلة المتبقية له في هذه الحياة بعد وداع جسده.

منذ نهاية القرن الثامن عشر، وطوال قرن على الأقل، كان الإعدام بالمقصلة استعراضاً واسع الشعبية في ساحات باريس، والجمهور يقابل بالتهليل سقوطَ الأجساد والرؤوس في السلال. إطار فارغ مثل بابٍ مخلوع، ثُبّتت في أعلاه الشفرة القاطعة الثقيلة، وسُمّي بأسماء شتى مثل “الآلة” و “الأرملة” و “الحلاقة”. سدى حاول الطبيب جوزف غيّوتان الفصل بين كنيته واسمها. كان يأمل بهذه الوسيلة الجديدة موتاً أرحم من الشنق أو الرمي بالرصاص، قد يكون نصيب أبرياء محتملين تُعدمهم العدالة.

خلال الثورة الفرنسية وحدها، قطعت “الآلة” عشرة آلاف رأس من الخونة وأعداء الشعب، وأطاحت معها بتيجان الملوك وباروكات الشعر وأردية الكهنة. ثم أتى قضاة ثوريون جدد وقطعوا رؤوس الجواسيس الجدد وخونة القضية الجدد (الضحايا هذه المرة هم الثوريون السابقون، الأوائل أمثال دانتون وروبسبيير وسان جوست)، وانتهت الثورة بسلالة أباطرة دشنها نابليون بونابرت. 

واصلت المقصلة عملها حتى سنة 1977، حيث قطعت “آلة” كهربائية خاطفة السرعة رأسَ المهاجر التونسي حميد الجندوبي، قاتل صديقته الفرنسية في مرسيليا. كان آخرَ المحكومين بالإعدام في فرنسا التي ألغت هذه العقوبة سنة 1981.

Le Christ et la Femme adultère Pieter Brueghel l'Ancien

آدم الصحراء

قصة “الحجر الذي ينمو”، من مجموعة كامو “المنفى والملكوت”، تستعيد معجزة حجر يتجدّد وينمو كلما كسروه داخل كهف في إحدى قرى البرازيل. يلمح الراوي إلى المفارقة المعروفة حين دعا المسيح لبناء كنيسته على صخرة بطرس الذي خانه. 

كان المفترض أن تُلحق “السقطة” بهذه المجموعة القصصية نفسها. جان باتيست كلامنس، بطل هذه الرواية، شبيه المسيح، مأخوذ بلوحة “القضاة العادلون” ليان فان إيك. لا يؤمن بعفة مريم العذراء، ويرى في يسوع روحاً فانية تضعضعها حساسيتها المفرطة، ويريد إنقاذه من سلطة الكهنوت التي استولت عليه.

بعد كلمة جائزة نوبل 1957، المهداة إلى أستاذه جان غرنييه المشرف على رسالته الجامعية، قال كامو: “لا أملك إلا الاحترام والإجلال إزاء شخص المسيح وقصته. [لكني] لا أؤمن بالقيامة”، وكان قد طالب بابا الفاتيكان أن يدين بصريح العبارة الطغاة والمجرمين ويسمّيهم بأسمائهم.

“الإنسان الأول” مخطوط رواية لم يكملها كامو. لعلّها أقرب إلى السيرة الذاتية، وقد نشرت بعد وفاته. إحدى الخواتيم المحتملة لهذا المخطوط تنتهي بفكرة أنّ كراهية الذات هيّنة، ومعجزة المعجزات أنْ يحبّ الإنسان نفسه. الأمّ جوهر هذا الكتاب ومفارقته الكبرى، وهي تحمل اسم أمّ كامو نفسها “كاترين” وربما جوانب من سيرتها. لم يسمع الابن جاك أمّه تنطق اسم الله ولو مرة واحدة، “عشنا لقطاء، أطفالاً لا ربّ لهم ولا أب”. لا ننسى أن كاترين أيضاً قديسة الإسكندرية، الشهيدة “زوجة المسيح” التي قُطع رأسها، بعدما نكّل بها الرومان على دولاب تعذيب سمّي “عجلة كاترين”، وظل قيد الاستخدام في أوروبا حتى القرن التاسع عشر.

كاترين، في “الإنسان الأوّل”، أرملة صموت، أمّية فقيرة، ماحية نفسها على المائدة، ميراثها الوحيد الشجاعة. في الفقر المدقع، حتى الدين يغدو ترفاً، وتكاد تكون الشجاعة الفضيلة الوحيدة. رغم هدوئها وتواضعها، لم يستطع أحد التعدّي على صمتها. حياة خالية من الأحداث، أثقلها الهوان والتعب. روح الأم تتلقّى الكثير من الهبات عبر متابعة شارع عادي في الجزائر، طوال سنين من الصبر، وهي تواصل الصمت والجلوس وحدها قرب نافذة. صمت لا يدين أحداً ويمنح غفراناً غير مشروط. “لا يدوم إلا صمت أمه. أمامها ينزع أسلحته”. كان هذا المنفى تحديداً مملكتها الوحيدة، وتلك المملكة على الأرض، لا في السماء. أبتعد عن مقولة كامو المغرية التي تضاربت تأويلاتها: “لو خُيّرتُ بين العدالة وأمّي لاخترتُ أمّي”، لأسترجع عبارة يُوصَف بها الابنُ جاك كما يلي: “أمّهُ المسيح”، وليس العذراء، الأمّ الصامتة أيضاً. كانت صورة “أمّنا يسوع”، المرضعة الرحيمة، شائعة في القرون الوسطى. مريم البتول تسقي ابنها حليبها، والابن يروي العالم بدمه.

ربما كان كامو متطرفاً في اعتداله وحمّى سعيه إلى التوازن وتمسكه بالرحمة والعدالة. غير أنّ أبطاله أحياناً هادئون متواضعون، حتى لو قتلوا عرباً وتجاهلوهم، وغالباً ما تكون أذهانهم متوقّدة، مؤرّقون بالأسئلة الأخلاقية وضمائرهم معذّبة. معذّبون كأبطال الأساطير اليونانيين الذين اختار الكتابة عنهم، كبروميثيوس أو سيزيف أو هيلين، أو بالأحرى كالمسيح نفسه. ربما لأن الأسطورة أدقّ تعبيراً عن الحياة. اللغز الأكبر يبقى حصيناً. لا تسعفنا قدّامه مفاهيم الفلسفة ولا حقائق العلم. لا يكفينا الوعي، “هذه الرغبة المجنونة في الوضوح”. من سيجد أي تفسير لآلام الأطفال، والمصائب أكبر من مقدرة الإنسان على الإحاطة بها؟
 

Jan van Eyck, Retable de l'Agneau mystique

The post السيّدة يسوع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الفوانيس الأربعة https://rommanmag.com/archives/19892 Fri, 13 Dec 2019 12:58:34 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%88%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%a8%d8%b9%d8%a9/ مهاجرون يبيعون مكتباتهم شتاء 1991. مكتبة الحرية في شارع البلدية. تصل جرائد الصباح المحلية عند المساء، قادمة من دمشق، وتتأخر اللبنانية يوماً واحداً، هذا إن توافرت. العناوين العريضة حول نزوح مليوني للأكراد عقب حرب الخليج الثانية. غيوم صدام حسين القاتمة، الآتية من حقول النفط المشتعلة في الكويت، تصل إلى عامودا. مطر أسود يسيل في الشوارع. […]

The post الفوانيس الأربعة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

مهاجرون يبيعون مكتباتهم

شتاء 1991. مكتبة الحرية في شارع البلدية. تصل جرائد الصباح المحلية عند المساء، قادمة من دمشق، وتتأخر اللبنانية يوماً واحداً، هذا إن توافرت. العناوين العريضة حول نزوح مليوني للأكراد عقب حرب الخليج الثانية. غيوم صدام حسين القاتمة، الآتية من حقول النفط المشتعلة في الكويت، تصل إلى عامودا. مطر أسود يسيل في الشوارع.

الكتب المعروضة، المغطاة بالنايلون أمام المكتبة، لغتها العربية، أو مترجمة عن الكردية لمؤلفين من الجزيرة غالباً، معرّبها الشيخ توفيق الحسيني. تبقى لافتة “وصلنا حديثاً” معلقة حتى تبهت ألوانها: بافي نازي («حدّثينا يا ستوكهولم»، «مطر ودموع»، «الشجرة التي سقطت أوراقها»)، ديا جوان («عبَرات متمردة»، «موجة من بحر أحزاني»)، طه خليل («قبل فوات الأحزان»، وهذا المقتطف منه على كرتونة: “نوّافو، صدرك للنياشين والأوسمة وأنت المهزوم…”)، «العقد الجوهري» للملا الجزيري بتقديم الشيخ عفيف الحسيني، «مم وزين: قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء» بتعريب محمد سعيد رمضان البوطي…
 

تفصيل من لوحة لبول غيراغوسيان

أدخل وحدي مكتبة ميسلون التي أهداها صديقي مقداد معظم المكتبة المسرحية لشقيقه المهاجر طراد، خصوصاً سلسلة المسرح العالمي الكويتية، باستثناء مسرحيات قليلة مثل «افعلْ شيئاً يا متْ» لعزيز نيسن (لوقت طويل كنت أقرأ “يا” حرفَ عطف ليصير النصف الثاني “أو مُتْ”)، ومسرحية «الشهية» التي أخرجها طراد تلميذ فواز الساجر، ولسنواتٍ نرى من شبابيك الباصات إعلانها المكتوب على أحد الجدران المحيطة بدوّار مدينة الشباب. أشتري ببضع ليرات ديوان «سبعون جمرة» لفؤاد كحل، وما شدّني هو اسم غادة السمان التي كتبتْ كلمة الغلاف. أتجه إلى مكتبة الحرية. عند الناصية أجد محل خياطة طينياً مفتوحاً، مقابل دكان جورينا للمفرقعات. الشيخ الذي يخيط العباءات الثقيلة والسترات المقصبة المزركشة قد نقل ورشته إلى البوكمال. طاولات المحل الطويلة مغطاة بمشمع ثخين، يشبه ما يغطّي به الناس أسطحة بيوتهم لسدّ الشقوق ويثبّتونه بأكياس التراب، ويسدّدون الأحجار على القطط المتشاجرة، المتهّمة بتمزيق النايلون بمخالبها. المساء ماطر. المحل مضاء بمصباح برتقالي يتدلى شريطه من إحدى عوارض السقف، مضيئاً الكتب المستعملة المصفوفة تحت المشمّع وقطرات الماء ترتطم به فيتناثر الرذاذ، محمّلاً بالملح الذي رشّوا به التراب ليقتل جذور الحشائش الضالّة. الوكف مستمر. لا نفع للمدحلة الحجرية، الرابضة على زاوية السطح كبكرة ضخمة من الخيطان البيضاء. قطرات الماء كالإشاعات تتسرّب من شقوق خفيّة وتتنقّط فوق الرؤوس وتستفزّ.

على طاولات مشغل الخياطة، تُباع مكتبات شعراء عامودا المهاجرين إلى السويد وألمانيا. وراءها، على كرسي واطئ، يلوح رأس رجل طويل اللحية داكنها، مقلّ في الكلام. هذا هو عبد المقصد الحسيني، وكيل الغائبين. يلقبه أصحابه “محشو” تحبباً. ليس “المقصد” اسماً من أسماء الله الحسنى. “عبد المقصد” اسم ابتكره موظف النفوس، بتصحيفٍ في دفتر العائلة، بدلاً من “عبد المقسط”. يختار لي «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، طبعة فنية فستقية الغلاف مع رسوم مائية لبول غيراغوسيان، وعلى الصفحة الأولى إهداء من مدرّسي اللغةَ العربية الشاعر محمد نور الحسيني إلى حبيبته التي تزوّجها. يستلّ محشوْ ترجماتِ الأعمال الشعرية لإيف بونفوا، طبعة وزارة الثقافة السورية. “هل قرأت أدونيس؟ هل تعرفه؟” يسألني. “نعم. شاعر يوناني كتب «حديث مع كردي»”. تشرق ابتسامته وسط لحيته: “هذا أدونيس آخر، يوناني كنيته بودوريس. متعاطف مع اللاجئين الأكراد في أوروبا. الأكراد بسطاء، تطير عقولهم حين يتعاطف الأجانب مع قضيتهم. كان قصدي الشاعر السوري”. يتناول ديواناً أحمر الغلاف، طبعة دار العودة، يقلب صفحاته، وبغتة يشير بسبابته إلى “زهرة الكيمياء” لعلي أحمد سعيد إسبر: “لبستْ خفّها، سبقتنا التلال”.
 

Book with Wings, 1992-94, Anselm Kiefer

طبق طائر في صيف بعيد

صيف العام نفسه، في محل الخياطة نفسه، يظهر عبد اللطيف الحسيني. شاب نحيل يدرُس الأدب العربي، سيدرّسني اللغة العربية في المدرسة الإعدادية. يقود دراجته الهوائية، مسرعاً حين تقفر الشوارع في عزّ الظهر، مرتدياً البيجامة منتعلاً خفاً صينياً من دون جوارب. يطرق نافذتنا طرقات خفيفة. يناولني من بين درفتيها كاسيتاً يقرأ فيه سعدي يوسف “كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الأخيرة”، وقبل انصرافه على عجل، يشدّد على قوله: “لا تكترثْ بما يُشاع عن رداءة الإلقاء. القصيدة شفافة”. جالساً في النافذة، منتظراً الطبقَ الطائر الذي شاع نبأ ظهوره في سماء البلدة، أدير مسجلة فيليبس الصغيرة وأستمع إلى الشاعر الشيوعي الأخير: “طيرٌ غريبٌ فوق نافذتي/ أناديه فيدنو/ ويدور في حِجْري فألمسُهُ/ فيغدو في يدي حَجراً/ وتسقطُ جمرةٌ مني/ فينتفضُ الجناحُ”.

سرداب دوستويفسكي، قبو كافكا

سيعرّفني عبد اللطيف إلى أبيه، “عمو الشيخ” عفيف. لا أطيق لفظ “عمو” في المناداة فأتلعثم في مخاطبته. أزور منزله، المجاور للجامع الكبير. إنه منقطع عن الجوامع منذ وقت بعيد. لا يضع العمامة. لا يصادفه أحد في صلاة جمعة أو مجلس عزاء أو مولد، وتراه أحياناً في الصباح الباكر ذاهباً ليجلب خبزاً ساخناً من فرن كاملو، ربما من أجل حفيده سيبان الآتي من ثلوج سكندنافيا، فلا تصدّق عيناه الضياء القويّ فيتعرّى ويدور في باحة البيت تحت شمس أجداده.

معتمٌ مجلس الشيخ المفتوح على الشارع، بابه أخضر، نافذته خضراء، الدكك واطئة مغطاة بفرش مقلّمة رقيقة. يُشعل عبد اللطيف الضوء، ويتناول مجلداً من «الفتوحات المكية» ليُريني كيف وضع والده بقلمه الباركر خطاً أزرق تحت «كتاب شريف»: “هكذا وصف ابن عربي كتاب النفري «المواقف والمخاطبات»”، ثم يصعد الدرجات الثلاث قافزاً ويدفع الباب الحديد المخلخل، المفتوح على الدوام، ويجتاز ممراً قصيراً معتماً. أتبعه إلى المطبخ فأشمّ حبقاً وأرى الشيخ هادئاً مقرفصاً. تراه يتعشّى خبزاً ولبناً وشاياً أم هذا عشاء القطة التي تتمسّح بجلبابه وتموء؟ الفناء ضيق. الحجرات صغيرة كلّها كأنها صومعةٌ تعدّدت. ألمح في نافذة غرفة الجلوس الوجه الموشوم للخالة زوجته، وكيس أدويتها يفوح بالرائحة اللاذعة لمراهم الروماتيزم. إنها تتفرج على التلفزيون. مسلسل بالأبيض والأسود ينعكس على زجاج نظارتها. أميّز بين أصوات الممثلين نبرة محمد توفيق البجيرمي لاعباً دور “الجاحظ” في مسلسل «البخلاء». تراها تفهم هذه الحوارات المتلفزة بالفصحى؟ يتناول الشيخ صحيفة البعث، ينتقي عبارات عشوائية من الصفحة الأولى ليطرح عليّ بضعة أسئلة في إعراب المفردات والجمل. أجيبه فيسألني عمّ أفعل في بداية الصيف. طموح المراهقين ركوب البحر الطويل. “أحاول أن أتعلم أوزان الشعر”، أقول مطرقاً خجلاً، وبإصبعي أرسم في الهواء سطور التقطيع، متواليات الحركة والسكون. يفهمني أن الموسيقى تسبق الصور. متى ما استطعت، عليّ الالتفات إلى أذنيّ وقلبي أولاً. عليّ نسيان أصابعي وعيني. تلك بداية دخول الشيخ إلى ذاكرتي التي لا يبارحها طيفه، الودود، اللبق، الحيّي.

لغرفته الصغيرة مكان واسع في روحي، يتجاوز باتساعه الواقعَ والحقيقة. المكان محبس والوقت بحر. هل تطابقت صورتا القارئ والسجين في نفسي لفرط ما سمعت عن قصص السجناء اليساريين، وما طالعوه وتعلموه وترجموه في زنازين الأسد وعبد الناصر؟ لم تفتنني يوماً العوالم المترفة للكتّاب، لا تستهويني مقاهيهم ومكتباتهم الضخمة الخانقة تبثّ في قلبي نفوراً من التباهي ويأساً من شحّ الوقت وخوفاً من انتهائه المباغت. رغم زيارات مديدة كثيرة إلى قاعات لابروست وبودليان والمكتبة البريطانية ومكتبات فرانسوا ميتران وبومبيدو والأرسنال وسواها، ظللتُ مسحوراً بملاذ الناسك الشيخ، ولطالما تخيلت الحياة تجري هادئة هناك في غرفة عارية وضيقة كالقبر، فسيحة كالكون. أدعوها شساعة المحدود الذي يبقى نضراً. كان بصحبتي حين زرتُ البيوت المتواضعة التي آوت مالارميه وغونار إيكلوف وبازوليني… الأرواح تتلاقى تحت الأرض، عبر الزمن، يتعدّد النسغ، تتشابك الجذور. ولكن بم يستغاث حين يضيّق كلّ شيء الخناق على الصدر؟ ظلّ الملا الجزيري سجيناً لا يعرف سجّانه، حتى أرسل إليه الربيع مفتاحاً: رائحة التفاح.

المعارضة

نهار اليوم التالي، أذهب إلى حجرة الشيخ. على منضدته الخفيضة «نهج البلاغة». أسمع في الصباح ألفية ابن مالك: “هاك حروف الجرّ وهي من إلى/ حتّى خلا حاشا عدا في عن على”، تُقال واليد تتأرجح في الهواء كزورق يتهادى على بحر الرجز، حمار الشعراء. رجال كبار بالسنّ على الدكك، وأنا بينهم ولد في أول مراهقته. محنة الولد حروف الجرّ، فضيحته وحيرته. أتلقى توبيخاً لطيفاً من أحد الجلساء: “هذا ركيك. لا تضع “حتى” في نهاية الجملة وتتبعها بنقطة. لا تُضف الهاء والألف إلى ظرف الزمان”. يمتحنونني بقراءة خطبة لعلي بن أبي طالب تخلو حروفها من الألف. أحد العجائز صامت، لأن شاي الصباح أحرق مريئه كأنه سيخ التنور الحامي في هبوط صاعق من الحلق إلى المعدة. عجوز آخر يستعيد صحفياً متهوّراً، شاباً جاهلاً، جادلهم حول وجود الله. لا تتغير ابتسامة الشيخ وسط القهقهات، الهدوء نفسه حين يظهر حليمو، “تلّ اللحم” صاحب الفكاهات الثقيلة.

ثمة خزانة خشبية صغيرة تحوي كتباً معدودة في علوم اللغة والأدب والدين. لا أعلم كيف توصّل إلى تقليص عددها. لا أنقاد لفضولي ولا أستطلع محتوياتها. ستبقى هذه القلّة تصوّري الحميم عن المكتبة الشخصية. بين «شرح المعلقات السبع» للزوزني و «قصائد ابن الفارض»، أستلّ كتيباً اهترأ غلافه الخمري، منشورات مطبعة الخابور في القامشلي. إنه قصيدة “البردة” للبوصيري، عارضها أحمد شوقي في «نهج البردة»  التي “صبّ رياض السنباطي في تلحينها قوّته كلها”، وغنتها أم كلثوم. المطلع “ريـمٌ عـلى القـاعِ بيـن البـانِ والعلَمِ/ أَحَـلّ سـفْكَ دمـي فـي الأَشهر الحُرُمِ” معارضة للمطلع الأقدم: “أمِنْ تذكُّر جيران بذي سلمٍ/ مزجتُ دمعاً جرى من مقلة بدمِ”. كل شعر جديد يُكتب يعارض الشعر الذي سبقه، يبني عليه، يستولد منه، ينفيه.

يهديني الشيخ قرآناً، ويقول: “هذا هو رفيق طه حسين في أسفاره”. لا أعرف الصلاة ولا الوضوء، ولم أتعلمهما قطّ. ليس في بيتنا كتب مقدسة من أي نوع. غالباً ما يضيق صدري بشعائر المتصوفين وحفلات المولويين وحكايات المريدين والكرامات. أريد أن أحلم وأفكّر. القرآن المهدى صغير مثل محفظة سوداء سحابها ذهبي. الكلمات مشكّلة وإطاراتها مزركشة بالألوان. سأقرأ سورة “البقرة” كاملة دون تفسير، وأكتب على هوامش صفحاتها أفكاراً متطايرة بقلم حبر. مستلقياً أقرأ كتاب الله، هذا القانون الشعري للعقوبات، متوجّساً من انفصال الشبكية، وأرسم تخطيطات للمشاهد التي تتجسّد أمامي: بروق في وديان مقفرة، حقول عدس بعد الحصاد أرضها رخوة التراب مثالية ليلعب الحفاة كرة القدم لأن جذور البقوليات غنية بالآزوت… ثم أضع تلك الخربشات إلى جوار ما نقلته عن رسوم جبران للشعراء العرب القدامى. لا أستطيع أن أتخيّل حوارات المرأة التي وردت حكايتها في «العقد الفريد» لابن عبد ربّه الأندلسي. “كلامها من القرآن” دائماً، في أحاديثها مع الآخرين، تجيب بآيةٍ أو تسكت. (يُقال بالكردية المحكية “كلام فلان من القرآن” كناية عن سداد القول وصواب الرأي).

خفيف وطء اللسان

إذا كان الشتاء ربيع المؤمن فالليل جنة القارئ. في وقت متأخر، حين تجوب القطط الباحات، قافزة من جدار إلى جدار، أو متربّصة بالجرادات تحت مصابيح الشوارع، يعود عبد اللطيف إلى البيت ويرى أباه من شقّ الباب مستيقظاً على سريره الضيق يقرأ «رياض الصالحين»، فيتجمّد الزمن. كيف يستطاع العيش في قسوة هذا المكان دون القراءة والصلاة؟ نوم الشيخ خفيف، روحه خفيفة، ابتسامته خفيفة، أكله خفيف، لحيته خفيفة. عند قيام الليل يستكمل قراءة ما بين يديه، رغم المياه البيضاء التي تغشى حدقتيه. قد لحم مكبّرتين بلاصق طبي، يتحرّى بهما الكتب القديمة كالمنقب عن بصمات الجنّ والملائكة. المكبّرتان مضمّدتان كذراع نظارته. يسترجع الابن مثالاً معروفاً عن قلب المعاني عند تغيير التشكيل: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، ويردف: “أبي يعشق ابن عربي. فمن كان وطنه العدم في القِدم كانت غربته الوجود”.

“الفأر عبد الرحمن إذا غاب القطّ عن البيت”

في وسع أي مثال أن يتحوّل إلى سباق في التقفية والسجع. قياساً إلى تأويل “تقصيرُك الثوبَ أبقى وأنقى وأتقى”، اشتققنا السؤال: الكلب أذكى وأوفى وأجدى، فلمَ مال الرسول إلى القطّ الذي قد يترفّع ويتدلّل ولا يعاشر أحداً حتى القطط نفسها؟ يجيب عبد اللطيف: “القطط الأرستقراط… أرواحها حرّة، نرجسية كالشعراء، تافهة الغموض”. كلا، تأملها يريح النفس ويردّ شيئاً من وهم الثقة إلى المهزوزين. كان الفراعنة محقين في عبادتها. تتشمّس في الزوايا جالسة كأبو الهول، تخفي أمزجتها المتقلبة وراء قناع الحكمة وتزمّ عيونها لتحدّق بك، تلعق براثنها على العتبات وتغسل وجوهها باللعاب استعداداً لقدوم ضيف مجهول.

مَن روى لنا تلك القصة الوجيزة عن نحاة البصرة أو الكوفة؟ من قرأها لنا، في أي كتاب؟ نسيتُ التفاصيل ولم أنسَ المصير. نحويٌ “لوذعي” رأى قطاً يحمل الطعام بفمه لقطة عمياء، فتعجّب من رحمة هذا الحيوان، مضرب المثل في الأنانية والغرور. الواقعة الصغيرة دفعت النحوي إلى اعتزال الدنيا والعيش على سطح جامع ليس له سور. ذات ليلة، قام يتهجّد فهوى وانتهى، من مستقره الأخير إلى مثواه الأخير. لن تنعم الأقدار علينا بمثل هذه التجليات الصغرى لتخطف أرواحنا التي حجّرتها السخرية والتعاسات.

صحيحٌ أن القط لا يضحّي بنفسه من أجل أحد، ولا يدافع إلا عن نفسه، وقد يتجاهل صاحبه في عرض الشارع ولا يردّ على النداء، وقد تخشاه الحوامل، لكن طاعته غالباً مشوبة بالاستخفاف، والملل يحرّضه على الهروب في أي وقت فيختفي فجأة. نخالف الشيخ الذي قال لنجيب محفوظ في سيرته إن “علامة الكفر الملل”. الملل يطيل لحظات الشيخ عفيف، ويملؤها بالرحمة والصمت. قططه نحيلة كأنها شريدة عبرت حلق الأفعى ونجت، ترى من الألوان ما لا نرى. أرى “الهريرات” في فراشه، تقتلع براثنها من لحافه، وتلعب بكمّ سترته الخضراء المعلقة إلى مسمار مدقوق في جدار البلوك. ترتسم تلك الخضرة أمامي حين أسترجع بيت ابن عربي: “يا قمر الأسرار يا مُلبِسي/غِلالةً من أخضر السندسِ”. أسمع مواء قططه حين أهاتفه من دمشق، وأسترجع الغثيان الذي ينتابني حين أطيل ملاعبتها.

قطته هارون رشيقة القفزات، تثب إلى الخزانة الصغيرة ذات الأدراج الثلاثة، وتستلقي تحت ساعة الحائط، حيث سريرُها المصحف أو تفسير الجلالين أو أحد مجلدات «الفتوحات المكية». تغفو وهريرها كالموج. القارئ الحقيقي مكتبة تتنفّس، إذا صحّ المثال الإغريقي. أفكر بالمعنى الحرفي لكلمة “قط” في اليونانية القديمة: “موجة في بحر”. كلمة أخرى تعود وتوقظ كلمات أخرى. ماذا كنتُ أفعل طوال هذه السنين سوى اللهاث وراء الصور والكلمات؟

تابوته كلمة

بعد صلاة العشاء، يدخّن الشيخ عفيف سجائره الثلاث، “كِنت” قصير، لدخانها طعم التين. يأكل من بسكويت غراوي. يحمل إبريق الوضوء ويبقيه إلى جواره ليملأ بالماء خندقاً دائرياً يحيط بسجادته صلاته المبسوطة في الباحة الصغيرة كراحة اليد. هكذا يأمن بطش العقارب طوال الليل حين يعيد قراءة ما يحبّ، مستنيراً بمصباح الرصيف، ومجدّداً ماء الدائرة. يقرأ وينصت ولا يؤلف شيئاً ولا يكاد يكتب، في خلوة مفتوحة على أصوات الشارع.
 

الدرويش الفقير فرياب يعبر النهر على سجادة صلاته، القرن 16، إيران

ظهور العقارب علامة الصيف الأكيدة. هذه المخلوقات السريعة تقضّ بلدغاتها العشوائية الخاطفة ليالينا وصباحاتنا. لا فرق بين كواحلنا والطناجر، فإبرتها تدقّ كمثقب الألماس كل ما يصادفها. مسرعة في الاختفاء، تتسلل إلى المنامات والخزائن عبر أصغر الشقوق والثغرات. هناك سكاكر نعناع للوقاية تُليت فوقها آيات من سورة “يس” أو آية الكرسي، فالملدوغ يخاف أن يموت إذا نام. يصغّر الشيخ عفيف خطّه الجميل لتدوين آيات ناجعة ضد لدغات العقارب، معظمها من سورة الكهف. يخطّها بيده على قصاصات ستخاط وتختفي داخل الرقى.

مقابل عيادة هرانت قرنفليان، في واجهة عيادة الطبيب البيطري لقمان، هناك عقرب محنّط في قارورة مخللات، عمّر مائة سنة على الأقل حتى نبت الوبر وثخن على ظهره. خمّر الزمان السمّ في ذنبه. لدغة منه تقتل ثوراً. كنا رأينا شبيهه في آب، حين هوت ضربة رفش طائشة على ما تبقى من جدار طيني متهدم في كراج قريب من الجامع الكبير. بانت عقرب أمّ، في غير ساعتها تحت شمس أول الصباح، ضاربة إلى البنفسجي متفتّقة الظهر كحبة تين ناضجة في شجرة المكان المهجور، زاحفة ببطء شديد تحت عنقود من العقارب الوليدة الشفيفة. ذاهلين، شهدنا برهان ما سمعناه مراراً: الأولاد يأكلون أمّهم بعدما انشقّ ظهرها عن رحمها إثر الولادة. رفع الخوف الرفش في قبضة كبيرنا وهوى على الأم المحتضرة، فتفرّق صغارها ونجا معظمهم وكبروا في منازل الحيّ. كشفت الصباحات بعضهم، عقرباً نائماً في علبة ثقاب “الفرس” أو داخل حذاء طفل، أو طي المناشف التي لا بد من نفضها عادة قبل وضعها على الأكتاف. بعد أيام، حين فتح الشيخ عفيف مصحفه الكبير، وجد عقرباً آخر صغيراً عسليّ اللون، ممدّداً على عنوان سورة “الكهف” مثل زهرة يابسة تابوتها كلمة. بلغنا الخبر وتذاكى أحدهم بهذا التجديف: “معجزة! وتاسعهم عقربهم! هل كان داخلاً إلى الكهف أم خارجاً منه؟”

رسالة أدونيس في غرفة الصيف الزرقاء

وقت واسع خفيف. لغروب الصيف جمال صباحه الباكر. يجلس عبد الرحمن على عتبة البيت، أعلى الدرج ذي الدرجات الثلاث، ويقرأ للعابرين في الشارع قصيدة آدم حاتم “ذئاب تقود نيزكاً” من صحيفة تشرين.

يعلّق عبد الرحمن صوراً وقصاصات إلى جدران غرفته الشمالية، ذات الباب الخشبي الأزرق الخفيف والجدران الزرقاء، وبضعة رفوف عليها “ركاميات الصديق توما” لإلياس لحّود. هناك صورة للشاعر الحدّاد صباح زكي كمكم جالساً على عربة يجرّها حمار، البطاقة الجامعية للشاعر محمد رفّي وحوار معه في مجلة “قلق” التي تصدر مرة كلّ ست سنين، ينضّدها عبد الرحمن على الآلة الكاتبة الألمانية ذات الحقيبة البنية، ويرأس تحريرها الشاعر إبراهيم حسو الذي ينشر قصائده في مجلة “الكرمل”. المحاوران يسألان الشاعر رفي: “أبا الرفّ، كم فتاة تستطيع أن تختطف في الجامعة تحت معطفك الشتوي الطويل؟” على الجدار المقابل، رسالة من أدونيس إلى عبد الرحمن أعتقد أن ختامها “أوروبا تضيق. العالم يضيق. وحدها الصداقة المكان الواسع”. الرسالة آتية من شتاء باريس، والشاعر الكبير يطلب من الشاعر الشابّ عشر قصائد، ويوصيه بالإقلال من الصفات “كي لا يبقى من الشعر إلا اللهب”. يتساءل صحفيّ سمع بهذه المراسلة، فكتب هذا الخطاب: “يضيق ويتّسع. اذهبْ واقرأ «أدونيس منتحلاً»! ألا ترى ماذا فعل بالنفري؟! ابتلع كل شيء في التراث، ولم يوفّر أحداً. يا عبد الرحمن، كيف ترضى أن تكون شاعراً تحت الطلب؟ ولماذا عشر قصائد بالتحديد من أجل مجلة “مواقف”؟ أنت في موقف لا تُحصَد عليه!”، وسرعان ما تشعل “صاد الحسد” هذه ضحكاتِنا النائمة. عبد الرحمن يطفئ مدفأة “شمس” الفلاحية الصغيرة المتأججة ويفتح الباب الأزرق، فيخمد توهجُ وجوهنا التي ضرّجها الضحك. “انظر بأية سرعة يصعد الزئبق ساقَ ميزان الحرارة! سينفجر! إذا سعّرنا النارَ أكثر، فسوف نوقظ العقارب من سباتها”.

غرفة الشتاء البيضاء

باب سكّري واطئ. شعار الدخول مكتوب على العتبة بخط يد جميل، بيت أبو تمام: “وطول مقام المرء في الحيّ مخلِقٌ لديباجتيه فاغتربْ تتجدّد”. المساحة بيضاء في الداخل. يبرز تمثال مثبّتٌ داخل الجدار الأيسر، تجتمع في وجهه ملامح مكسيم غوركي وستالين، نحته سعيد ريزاني. كان محمد عفيف، “حمدو”، يقطن هذه الغرفة الصغيرة نفسها. قال مرّة إن الإلهام يأتي عبر الإهمال والوسخ، فأتاه والده بسلة القمامة وأفرغها على لحافه ليتمرّغ على هواه في الشعر. على السرير نفسه، حقيبة مفتوحة ملأها “حمدو” شعراً منثوراً وأرسلها من منفاه بالسويد إلى أخويه. في ثنايا الكتب صور عديدة التقطت له مع النبيذ والغليون والقطط، أو مع أدونيس (وهذا بالطبع قبل وصول سليم بركات “البرّي طاهي الخُصى”). حوَتِ الحقيبة دواوين لا أعرف شعراءها: «أظلاف بيضاء» و«الصمت يأتي للاعتراف» لزاهر الغافري، «عزلة الملكات» لقاسم حداد، «غرف طائشة» لوليد خازندار، «قصائد المنزل» لجوزف عيساوي الذي كتب عن “ثياب حفر العرق عليها أجسامنا”. يقارن عبد اللطيف هذه الصورة بواقع غرفته وبنطلونه الجينز الملقى على السرير، فيزداد إيماناً بما يرتدي ويتبنّى من أفكار. للدواوين المطبوعة لدى “دار الجديد” مكانة أثيرة في قلبه، يلملمها ويعيرنا إياها على مرّ السنين.

الصاروخ

أعار عبد اللطيف كتباً وروايات متفرقة، من بينها «فساد الأمكنة» و«الرأس والجدار» و«قصائد مشرفة على السهل» و«البئر الأولى» و«الأدب والغرابة» و«الاسم العربي الجريح» و«المهارش»، وخصّص بعضها لجاره خلف أوسي شارو، فرآه صباح اليوم التالي قد بسطها للبيع بأسعار رمزية في سوق العرّاصة، مقابل الزاوية التي تصطف فيها دراجات نارية للأجرة.
 

Uraeus by Anselm Kiefer, Rockefeller Center, New York City, 2018

لم ييأس عبد اللطيف من تنوير جاره، فأعاره دواوينَ وكتباً أخرى. الحجة مفحمة: “القراءة أهمّ من الاقتناء. فلنفترض أنك اشتريت كتاباً جديداً. قل لي من سيبيعك وقت قراءته؟” هذه المرة، فكّر خلف بإضرام النار في دواوين شعراء عامودا، المطبوعة على نفقتهم غالباً، وأغلفة بعضها تحمل كلماتٍ كالها إبراهيم الجرادي في مديحهم. لبلدتهم صيت في الفقه والفصاحة وحرائق المكتبات ودور السينما والجنون والصواريخ الفاشلة والشتائم وتحطيم التماثيل. كان المرجّح أن تنطلق الشرارة الأولى من اقتباس أدونيس الذي يتصدّر ديوان «أفراح حزينة» للشاعر لقمان محمود: “النار لا تحرق موضعاً مسّه الدمع لذلك أبكي”، مثل الشرارة التي انطلقت من بيت شعر في المهابهاراتا فأحرقت الكون، ولم يبق من الوجود كله سوى الرماد يستلقي فوقه الإله فيشنو حالماً بعالمنا هذا وعند استيقاظه سيتلاشى كل شيء.

كانت هناك احتمالات أخرى لبداية الحريق، مثل إحدى القصائد العمودية للسياسي الكردي عبد الرحمن آلوجي في ديوانه «مدمن النار»، وعلى غلافه المحزّز وجه امرأة شعرها الطويل من لهب. الشعر العمودي بجزالته مادة أغنى للوقود ونيرانه أشدّ توهجاً. كان الأمل أنّ الحريق كنار الفرزدق، سيستدرج فراشة الشعراء والذئبَ الأشهب الأسير، جار مدرسة المعرّي، وقد طعن في السنّ وبات نباتياً، وزوّاره الفضوليون، الأطفال غالباً، يطعمونه لبّ العجّور والقثّاء. بالفعل، كوّم خلف الكتبَ المُعارة عند ناصية الجامع الكبير. مقتدياً بالروس الذين أشعلوا أرياش عصافيرهم وأطلقوها في سماء موسكو لإنقاذ مدينتهم عبر إحراق منازلهم أثناء حصار نابليون، باعد خلف أغلفةَ الكتب كأنها أجنحة حماماته القلّابة كالدواليب حين تطير، وبقداحته الإسبانية أضرم ناراً في قلوب الأوراق، منتظراً أن تُقلِع المنارة المطوّقة بأجنحة الكتب المشتعلة كالصاروخ تسدّده الأرض إلى كبد السماء، محمّلاً بأسماء الشعراء إلى النجوم.

استراحة القرصان

ذات صباح مشرق في نيسان، التقيتُ سين في مقهى كوّي، مشتاقاً لسماع ضحكته التي يرتجّ معها جسده كله. كان قد اعتكف بعدما أهداه شقيقه المغترب في السعودية كمبيوتراً محمولاً، ليتحوّل بين ليلة وضحاها إلى واحد من الجنود المجهولين الذين نذروا الأيام والليالي في سبيل رفع الكتب المقرصنة وتحميلها. كانت سرعة الإنترنت آنذاك، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، قد استوجبت تفرّغاً كاملاً للمهمة وانقطاعاً عن دراسته في كلية الحقوق. استحوذ عليه وسواس وحيد حتى أمسى نسّاخاً يقتدي بالرهبان الورّاقين في الأديرة، عظامه توجعه، عيناه جافّتان محمرّتان مرهَقتان، زفيره ثقيل، وجهه شاحب كأن نور الشاشة قد امتصّ دمه وملأ عينيه نظراتٍ ساهمة بلهاء. كما انتكست عادته القديمة في الطقطقة المباغتة لعظام رقبته أثناء الحديث، وكنا في مراهقتنا نقرنها بإطالة التلصص على الأفلام الإباحية. كان سين صبوراً، يتصل بالإنترنت عبر الهاتف الأرضي، ويقضي سهرته بتنزيل الكتب الإلكترونية، لا سيما من مكتبة المصطفى ومنتدى الإسكندرية، منعشاً كمبيوتره الهدية بالضغط المتكرر على الزر اليمين للفأرة ثم refresh. كانت حصيلة صبره وتفانيه عدداً كبيراً من الكتب السياسية والتاريخية والدينية، من مؤلفات نور الدين ظاظا وعبد الرحمن قاسملو ومذكرات حميد حاج درويش وأغاثا كريستي إلى مجلدات المسعودي والبلاذري والأصفهاني وبديع الزمان النورسي. احتار سين في تصنيف الكتب قبل تقديمها بطريقة مقنعة إلى جمهور الطلبة الكًرد في جامعة حلب، حتى استقرّ على الجغرافيا فصنفها في أربعة أقسام وفق أجزاء كردستان. في البداية، أطلق على مكتبته الافتراضية اسم “زانابون” (المعرفة)، ثم غيّره إلى “جار جره” (الفوانيس الأربعة)، واختار لكل فانوس لوناً من ألوان العلم الكردي: الأصفر كشمسٍ من الشوك لتركيا، الأحمر كزهرة شلّير في جبال قنديل للعراق، الأبيض كأردية الزرادشتيين لإيران، الأخضر كرفارف الأولياء لسوريا. كان سين قد توقّف عن القراءة، بعدما احتشد رأسه بالأسماء والعناوين حتى فاضت من عينيه. غير أنّه استمرّ في توسيع مكتبته حتى أطبق اليأس، وما عاد يقول لنا: “روح قلبي الأعمال الكاملة، وكلها على هذه الفلاشة”. أمام عجزه عن إيقاف هذه العادة المحبطة، بمزيج من الاشمئزاز والرضا عن النفس، بات يفكّر جدياً بحذف ململماته كلّها ليبدأ كالتائب حياته الجديدة في ظلال كتب قليلة لا تنضب، كتب حقيقية وقليلة. هيهات، شتّان ما بين التوبة النصوح وقسَم العنزة.

 

ملاحظتان:

– “جار جره” التي قد يترجم اسمها إلى “الفوانيس الأربعة” هي الساحة التي شنق فيها شاه إيران القاضيَ محمد رئيس جمهورية مهاباد، أول دولة كردية في التاريخ الحديث.

– المقاطع المنشورة هنا مجتزأة من نص طويل يستحضر الشيخ عفيف الحسيني وأولاده عبد اللطيف وعبد الرحمن ومحمد، إلى جانب عبد المقصد الحسيني وآخرين، كما استرجعتهم ذاكرتي في البلدة الكردية عامودا شمال شرق سوريا، مطلع تسعينيات القرن الماضي.

The post الفوانيس الأربعة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الموت أستاذ قادم من تركيا https://rommanmag.com/archives/19816 Sat, 12 Oct 2019 11:34:08 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa-%d8%a3%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d8%b0-%d9%82%d8%a7%d8%af%d9%85-%d9%85%d9%86-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7/ إمضاء المعلّم الأوّل سنة 1928، أصدر مصطفى كمال أتاتورك مرسوماً جمهورياً يقضي باعتماد الحروف اللاتينية-الرومانية في كتابة اللغة التركية، بدلاً من الأبجدية العربية التي اعتمدها سلاطين الإمبراطورية العثمانية لأربعة قرون. هكذا أرسى القطيعة “العلمانية” الكبرى مع الماضي، وهي قطيعة ناقصة بطبيعة الحال، لأن الكمالية لم تنفصل في جوهرها عن الإسلام. أمضى أتاتورك على المرسوم، بعدما […]

The post الموت أستاذ قادم من تركيا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

إمضاء المعلّم الأوّل

سنة 1928، أصدر مصطفى كمال أتاتورك مرسوماً جمهورياً يقضي باعتماد الحروف اللاتينية-الرومانية في كتابة اللغة التركية، بدلاً من الأبجدية العربية التي اعتمدها سلاطين الإمبراطورية العثمانية لأربعة قرون. هكذا أرسى القطيعة “العلمانية” الكبرى مع الماضي، وهي قطيعة ناقصة بطبيعة الحال، لأن الكمالية لم تنفصل في جوهرها عن الإسلام. أمضى أتاتورك على المرسوم، بعدما جرّب التوقيع الجديد عدة مرات، إذ كان ينسخه عن نموذج جاهز أمامه، من تصميم الخطّاط الأرمني هاكوب جرجيان. بالطبع، كانت الإبادة الأرمنية قد أنجِزت وقتذاك، وظنّ مهندسوها أن صفحتها قد طُويت وسيحمل الأكراد كاملَ وزرها. لا يزال هذا الإمضاء أحد أشيع الوشوم على جلود عشاق “الذئاب” القوميين الأتراك، على زنودهم وأعناقهم وأرساغهم وحتى جباههم، فهذا وشم الرجل الذي احتكر، ولا يزال، لقب “أبو الأتراك”، بدهاء نظرته الزرقاء الثاقبة.

صوّت البرلمان التركي بالإجماع على قانون الأبجدية، وقاد مؤسس الجمهورية والحداثة التركيتين جولة طويلة عبر الأناضول مروّجاً لمزايا الثقافة الجديدة وسهولة اكتسابها. نُصبت سبّورة في كل بنك ومكتب بريد ومخفر شرطة، وحتى تحت الجسور وعلى المراكب. صارت تركيا “قاعة مدرسية واسعة”. تحوّل قصر دولمة بخجة في إسطنبول إلى مدرسة ابتدائية، حيث الخدم والوزراء والضباط منهمكون بتعلم لغتهم الجديدة، وكان أتاتورك يدرّسهم بنفسه.
 

قبل أن يتفجّر “نبع السلام”

يتعادى الجيران عداوات طاحنة وملهِمة غالباً ما ينفقون فيها معظم حياتهم. 

العام الماضي، حملت حمائم أردوغان أغصان الزيتون تمهيداً لاحتلال عفرين، وقبل تطويقها بمحاربين رفع بعضهم صُور المأسوف على بسالته صدام حسين أسد السنّة. “الموت أستاذ قادم من تركيا عيناه زرقاوان”، هذا تحوير طفيف لما كتبه بول تسيلان. الموت أستاذ زائر عيناه زرقاوان آتٍ ليلقّن العُصاة دروساً لن ينسوها، يحطّ هنا أو هناك، طورانياً في تركيا أو فرنسياً في الجزائر، إسرائيلياً في فلسطين أو أنغلوسكسونياً في أميركا، وقد يعلّم الضحايا كيف يصيرون لصوصاً وقتلة، واعظاً من ينسى الموعظة.

الدرس الفرنسي

منتصف القرن التاسع عشر، الجنرال إِمابل بيليسيه خنق بالدخان مئات “البدو” الجزائريين المحاصرين داخل الكهوف في جبال الظهرة، وكان جزاؤه أن كوفئ بالترقية. حين عاد إلى باريس كتب إن الأجدى للإمبراطورية الاكتفاء باحتلال بعض الموانئ الجزائرية. عارضه فكتور هيغو الذي كان متمسّكاً باستعمار الجزائر كلّها، وقد أقول إن الأخير قد حنّ إلى مديح المقصلة حين كتب إن ما ينقص فرنسا هو قليل من البربرية، فالأتراك العثمانيون، السبّاقين إلى احتلال الجزائر وإخضاعها، كانوا يحسنون قطع رؤوس البرابرة أكثر من الفرنسيين. 

الدرس العثماني/الألماني

بعد تفنّن الأساتذة الفرنسيين في الخنق والتجويع، جاءت إبادة الأرمن التي كانت نبعاً آخر من ينابيع الإلهام لدى مهندسي الموت في معسكرات الاعتقال النازية. غير أن الدأب الألماني لا يعرف الكلل وصرامة قوانينه لا تغيب، لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة. لنتذكّر الملائكة الألمان الذين رآهم سويدنبورغ في الجنة وهم يحملون دائماً مجلدات ضخمة ولا يجازفون بالإجابة على أي سؤال قبل التثبّت من ورودها في المراجع. في هذا المقتطف من كتاب “على مبعدة سنين ضوئية” لمرسيل كوهين، نقرأ كيف اشترى اليهود اليائسون حتوفهم وكيف سدّدوا من جيوبهم ثمن موتهم: 

“سافر الضحايا بمالهم الخاصّ حتى دخولهم معسكرات الإبادة. كانت تعرفة نقلهم في عربات المواشي هي التعرفة نفسها في قطارات المسافرين، أي 4 بفنيغ لكل كيلومتر. الأطفال الأصغر من 10 سنوات يدفعون نصف القيمة، والأصغر من 4 سنوات يسافرون مجاناً. كانت التعرفة ترتفع كلّ ستة أشهر، وكانت هناك أسعار خاصّة 2 بفنيغ للمجموعات التي تضمّ أكثر من 400 شخص”.

*

حين دُشّنت غرف الغاز اختبر المهندسون نجاعتها على المرضى النفسيين والمشوّهين والمعاقين والمجانين. لم تكن هندسة الإبادة اختراعاً ألمانياً حديثاً. أثناء الحرب العالمية الأولى سبق العثمانيون حلفاءهم الألمان، فخنقوا الأرمن بالدخان في مغاور الأناضول التي أغلق المحاربون مداخلها بالصخور، بعد أن جرّدوا المحبوسين في المخانق من كلّ ثمين: الحلي والخواتم والأقراط وحتى ذهب الأسنان.

قبل غزو بولونيا، احتدم الجدل بين الضباط النازيين قبل اتخاذ القرار بغزو بولونيا، منطلق الحرب العالمية الثانية. استمع هتلر إلى الاعتراضات العديدة التي تعالت، وكان معظمها متعلقاً بالضجة العالمية التي ستنجم عن اجتياح جيران أقوياء لبلد جيرانهم. “إنها فضيحة”، قال أحد المستشارين؛ طمأنهم هتلر قائلاً إن مثل هذه الضوضاء جوفاء ولن تستمر طويلاً، ودعم حجته بهذا السؤال: “ومن يتذكّر الأرمن؟”

*

فليتخيّل القارئ شوارع في ألمانيا تحمل حالياً أسماء هيملر أو آيخمان، حين يقرأ أن المجرمين الضالعين في إبادة الأرمن أبطال مكرّمون في طول تركيا وعرضها:

رشيد باشا، أو جزّار ديار بكر، شارع رئيسي في أنقرة. لمحمد كمال شوارع تحمل اسمه في إسطنبول وإزمير وتماثيل في أضنة وإزمير. محمد طلعت وأنور، وهما بالترتيب وزير الداخلية ووزير الحرب العثمانيان أثناء الإبادة الأرمنية، اسمان لمدارس وشوارع كثيرة في تركيا المعاصرة. سنة 1943، حُمل تابوت طلعت باشا على متن قطار مهدى من مصانع الرايخ الثالث وأشرف على تشييع الجنازة العسكرية عصمت إينونو ثاني الرؤساء الأتراك. سنة 1996، استرجعت الجمهورية رفات أنور باشا من طاجكستان، وأعاد الرئيس سليمان ديمرل دفنه بيديه مشفوعاً باحتفال رسمي مهيب في إسطنبول.
 

Kurdish Refugees, Ahmet Asar

الحملات

كان لي زميلٌ طبيب في دمشق يهوى قراءة الأعداد القديمة من الصحف والمجلات. كان يمضي صباح الجمعة مستلقياً على الأرض والمقص في يده يقتطع أنباء متفرقة من زوايا المحليات والمنوعات، وكان إذا راق مزاجه رتّب القصاصات في مغلفات موسومة بالموضوع والتواريخ. لدي واحد من هذه المغلفات نجا من التنقلات المستمرّة بين المدن، وتجمع محتوياته أنباء من الفترة التي تزامنت فيها المشاريع التجارية لأردوغان، بوجوهها الإسلامية المتمدّنة التي لم تكن قد وصمت حينذاك بـ “الأخونة”، وتقاطعت مع مسيرة التحديث والتطوير التي قادها الدكتور بشار الأسد. ففي إحدى تغطيات صحيفة “الثورة” المواكبة لزيارات الأسد الصغير وحملاته التوعوية في المحافظات السورية، نقرأ: “مواطنون بسطاء في محافظة الحسكة ينحرون كبشاً أمام موكب سيادة الرئيس ويحملون سيارته في الهواء”. وفي قصاصة أخرى تنقل صحيفة “تشرين” عن فيصل كلثوم، قبل أربع سنين من اندلاع أولى المظاهرات في درعا التي كان كلثوم محافظها في ربيع 2011: “إن السلطات المحلية ستبدأ حملة شاملة للقضاء على الكلاب الشاردة في كافة مناطق المحافظة [درعا]، يحصل خلالها كلّ مَن يقتل كلباً ضالاً على مبلغ 300 ليرة سورية”، لأن الكلاب الضالّة “تؤثّر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية”.

على القصاصة الأقدم، المقتطعة من صحيفة “الحياة”، المصفرّة كقشّ قديم كان لونه الصدئ كناية عن أردوغان لأن الرجل بشواربه: “مساجدنا ثكناتنا/قبابنا خُوذُنا/ مآذننا حرابنا/ المؤمنون جنودنا/ هذا هو الجيش المقدس حارس ديننا”. هذه الأبيات الشعرية المقفاة، الجامعة رموز الفحولة والحرب، معروفة في تركيا، وقد دخل أردوغان بسببها إلى السجن أربعة شهور حين كان رئيس بلدية إسطنبول سنة 1997. ولأنه لا ينسى الإساءة ويضمر الذكرى الموجعة في قلبه ويتحيّن الفرص لردّ الصاع صاعين، فقد عاد وأنشد هذه الأبيات إياها في أكثر من مؤتمر انتخابي لحزب العدالة والتنمية، وبعد استلامه رئاسة البلاد. يُعرف عنه حب الشعر وتلاوة المدائح النبوية في المناسبات، وبكى مرة حين أنشد قصيدة عن حنينه للمسجد الأقصى.

*

لعشاق الشعر مآثرهم بين الساسة الأتراك. الشاعر بولنت أجاويد قاد احتلال شمال قبرص سنة 1974، وأجبر الجيش التركي المجندين الأكراد على القتال في صدارة الجبهة مع القبارصة اليونانيين. ليس جديداً في تاريخ تركيا الحديث الزجّ بأبناء قوميات أو طوائف أخرى في الاقتتال ضد بعضها البعض، فيما ضباط جيش أتاتورك يتفرّجون على المذبحة ويديرونها، وغايتهم القصوى تتريك كل ما يمكن تتريكه. دولتهم الحديثة قامت على المذابح ولم تتوقّف عن تدبيرها وارتكابها. مجازر اليونانيين وإحراق كنائسهم ومحلاتهم ومدارسهم 1955-1964، قتل القبارصة اليونانيين وطردهم 1974، قمع العرب والعلويين في المناطق السورية المحتلة وأماكن أخرى 1978-1993، قتل الأكراد وقمعهم انتفاضاتهم المتتالية منذ 1923 وحتى الآن. العلويون في تركيا قرابة 12 مليونا، ربعهم من الأكراد الذين يقارب عددهم 15 مليوناً. أتوقف عند هذه النقطة لأن عبد الله أوجلان يُصوّر كردياً علوياً صفّى خصومه السياسيين وباع نفسه إلى الخميني والأسد، ثم إلى أميركا وإسرائيل، ورايات حزبه الـ PKK صفراء كنجمة داوود أو كرايات حزب الله. كان مألوفاً أن يُسمَع القوميون يتندّرون على بيع الأكراد الحمقى أرواحهم إلى الشيطان لأنه ربّهم.

مقياس أوجلان للزلازل

درج تعبير “الوضع في جنوب شرق تركيا” كناية عن “القضية الكردية”. سنة 2007 زاد أردوغان بنداً في شعار أتاتورك، حين قال على شاشات التلفزيون، أمام توابيت جنود أتراك قتلوا جنوب شرق تركيا: “علم واحد. أمة واحدة. لغة واحدة. دولة واحدة”. لا يليق بزعيم مثله الخروج خالي الوفاض من مجازر التاريخ، ولا ينسى بالتأكيد دخول النساء الكرديات حلبات السياسة والقتال، والمثال الصارخ لليلى زانا مطلع التسعينيات حين تكلمت بالكردية الكرمانجية في البرلمان التركي، فجوبهت بالهتافات: “انفصالية! إرهابية! اعتقلوها!” حاول أسد السنّة أبو بلال، أكثر من مرة، تمرير قانون الزنا والحكم على مقترفه بعقوبة السجن ثلاث سنوات. 

القوانين التركية في جزء منها مستلهمة من الفاشيتين الإيطالية والإسبانية. بعد انقلاب 1980 الذي نكّل باليسار التركي وشرّد أعضاءه في السجون ومنافي أوروبا، جرّم القانون استخدام اللغة الكردية، المغيّبة أساساً منذ نشأة تركيا الحديثة. كانت سياسة الدولة في الواقع هي المحو التام. لم تتوقف الاغتيالات السياسية بحق الصحافيين والكتّاب والناشطين. منذ بدء عمليات حزب العمال الكردستاني سنة 1984 وحتى اعتقال عبد الله أوجلان في نيروبي وتسليمه مخدّراً مكبّلَ اليدين معصوب العينين عبر الموساد والسي آي إيه إلى سلطات أنقرة سنة 1999، أحرق الجيش التركي أكثر من 3000 قرية كردية، وقتل أكثر من خمسين ألف شخص، وشرّد ملايين الأكراد إلى ضواحي المدن الكبرى. كان اعتقال أوجلان، أو “آبو” [العمّ]، انتصاراً لعبدة “أبو الأتراك”، وتوقفت الحلول عند ذلك النصر، ولم يتوقف الدمار. أثناء محاكمة آبو، فوجئ أنصاره بمديحه لأتاتورك، واعتذاره لوقوع قتلى أتراك في حرب العصابات التي لا يزال مقاتلو حزبه يخوضونها في جبال كردستان. لم يقل شيئاً عن القتلى الأكراد وحلم كردستان. مثلما كان الكردي الآخر يلماز غوناي يخرج فيلمه “الطريق” من سجون أخرى في تركيا، أوجلان المقيم وحده في سجن إيمرله منذ عشرين عاماً، يدير حزبه من هناك بطريقة تستعصي على الفهم، وأحياناً في غضب ضجران يهزّ مثل شمشون قضبان زنزانته فيزلزل إسطنبول، ويتجاهل المحللون هذا التعليل لتفسير الزلازل التي تضرب تركيا.

لاعب الكرة المتقاعد

“عندما تحاول الأقدام أن تتولّى الحكم بدلاً من الرأس فتلك ساعة القيامة”. هذا واحدٌ من الأقوال المأثورة للخطيب المفوّه رجب طيب أردوغان، يعيدنا إلى بداياته المهنية كلاعب كرة قدم محترف، ابن الطبقة العاملة وخريج المدارس الدينية في إسطنبول، قبل أن يتسلّق النجم الصاعد سلالم السياسة في حزب الرفاه ويصبح رئيس بلدية إسطنبول وعمره أربعون عاماً. خلال تلك السنين كان قد راكم ثروة كرجل أعمال، مقتدياً في التجارة بالرسول الكريم، وليس هذا جديداً بالطبع على الساسة أمثاله. مزية الرئيس المؤمن التقوى، يبدأ اجتماعاته وخطاباته بسورة الفاتحة، ويتلو مقاتلوه المأجورون سورة الفتح قبل غزو المدن والقرى الكردية في شمال سوريا، لكنه لا يرحم “أمهات إسطنبول” الكرديات المعتصمات المطالبات بمعرفة مصائر أبنائهن المفقودين. إنه يحبّ الجمهور العريض، وحاول ذات مرة ترضية الأكراد رغم عقوقهم وجحودهم، فجمع في الملعب البلدي في ديار بكر بين مسعود البرزاني والمغنّيين الكرديين إبراهيم طاطليس وشفان برور متأملاً الوصول إلى اتفاق أو تسوية خريف 2013. أردوغان الرياضي السابق، صاحب الكاريزما وذا القامة الفارعة وإن شابها تقوّس في الساقين، قريب من هموم الناس ويفضّل لغة الشارع على أدب الصالونات، مثال الرجولة في الصمت وسرعة الغضب قولاً وفعلاً، سواء مع الخصوم أو الأصدقاء، وهو بهذه المزايا ينضمّ إلى سرب الجوارح المحلقة في سماء العالم، من بوتين وفكتور أوربان إلى ترامب وبولسونارو. إنه مثلهم، على غرار نجوم الصحافة الصفراء، كابوس دسم لرسامي الكاريكاتير والصحفيين، أبواب الطرافة فيه مشرعة على الغثيان. لنتذكر مباركة عرس بلال أردوغان بحضور برلسكوني، أو استغراب ترامب احتجاج العالم لأن صدام حسين رشّ الأكراد “بقليل من الغاز”، أو التخلّي عنهم لأنهم لم يشاركوا في إنزال النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية، أو النزاع بين الأكراد والأتراك عمره قرون في الشرق الأوسط الذي لا يجلب سوى الرمل والموت، وبرغم سماجة النكات التي تطاول سيد المكتب البيضاوي، سأجازف باجتراح هذه الطرفة على لسانه: “نفط الخليج للأمريكان، لأنه ديناصوراتنا التي هاجرت من أميركا منذ ملايين السنين وماتت في صحراء العرب”.

The post الموت أستاذ قادم من تركيا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مَن رأى الملاك https://rommanmag.com/archives/19784 Thu, 26 Sep 2019 06:58:32 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%8e%d9%86-%d8%b1%d8%a3%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%84%d8%a7%d9%83/ مترجم اللزوميات تأخّر أرسني تاركوفسكي. تأخر عن التمتع بالحرية التي أتيحت قبل ثورة أكتوبر 1917 أو بعدها. كان عمره عشرة أعوام سنة اندلاع الثورة الحمراء. في الواقع، أنضجه القمع والعنف. مُنعت طباعة مجموعته الشعرية الأولى. كانت تهمة الرقابة انتماءه إلى دائرة الشعراء الملعونين، شعراء العصر الفضّي، مثل آخماتوفا وماندلشتام وباسترناك وزابولوتسكي… كان صديق بعضهم. لم […]

The post مَن رأى الملاك appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

مترجم اللزوميات

تأخّر أرسني تاركوفسكي. تأخر عن التمتع بالحرية التي أتيحت قبل ثورة أكتوبر 1917 أو بعدها. كان عمره عشرة أعوام سنة اندلاع الثورة الحمراء. في الواقع، أنضجه القمع والعنف. مُنعت طباعة مجموعته الشعرية الأولى. كانت تهمة الرقابة انتماءه إلى دائرة الشعراء الملعونين، شعراء العصر الفضّي، مثل آخماتوفا وماندلشتام وباسترناك وزابولوتسكي… كان صديق بعضهم. لم يعتقلْ ولم يُنفَ، لكنه لم ينسَ تقييم الرقباء السوفييت له: “إنه مترجم موهوب، ولكنه ليس شاعراً مهمّاً”. أعال نفسه وأسرته من العمل في الصحافة والترجمة عن عدة لغات كالعربية والأرمنية والجورجية، ونشر ديوانه الأوّل بعمر الخامسة والخمسين.

بمثل هذا التأخر يتعزّى شعراء كثيرون. في أميركا، هناك منارة والاس ستيفنز، موظف البنك الذي عاش حياة رتيبة تخلو من دراما الأحداث والمصائب، ولم ينشر كتاباً شعرياً إلا بعد الرابعة والأربعين. كم من شاعر شابّ في العالم العربي واسى نفسه بمثال سركون بولص الذي عاش الشعر أولاً، متعفّفاً لا يملك شيئاً ولا يقيس حصاد حياته بركام المطبوعات، عازفاً عن الإعلام ومتأخّراً عن نشر ديوانه الأول حتى عامه الأربعين؟ منهم من يعيش منذ الآن في المستقبل، كأن المجد آتٍ لا ريب فيه، محتمياً بوهم آخر هو اكتشاف الأجيال المقبلة لأهمية صنيعه، ويغتبط بأن يدرج نفسه مسبقاً في عداد الشعراء المظلومين المغمورين الذين لا يستطيع أحد أن يحصي عددهم

*

انحسر الاهتمام بترجمة الأدب الروسي عالمياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ما عادت أقسام اللغات السلافية في جامعات الغرب تتلقى تمويلاً لترجمة كتّاب المعسكر الاشتراكي، المنشقّين منهم والمقيمين في بلادهم على السواء، المصير الذي قد يلقاه كتّابٌ كثيرون ترفعهم إلى المنصات “العالمية” الحروبُ والنزاعات. في حالة تاركوفسكي الأب، لم يتكرّر قدَرُ أحمد رامي وإدوارد فيتزجيرالد اللذين ترجما عمر الخيام، بل حصل العكس، فقد انطوت ترجماته وبُعث شعره وتُرجِم. 
أندريه روبليف، 1966

يقول صديق روسي إن عظمة الشعر الروسي في موسيقاه، مثل الأغاني الرائعة التي تستحيل كلاماً باهتاً أو ميتاً حين تُنقل إلى لغة أخرى. والحال هذه، كيف ترجم تاركوفسكي الأب قصائدَ المعرّي؟ أيّ البحور انتقى من ثراء العروض الروسي؟ تندر حالياً ترجمة الشعر الموزون إلى شعر موزون. منذ حوالى ثلاث سنين، في باريس، كنت مشاركاً في ملتقى “المهمة الشعرية للمترجم” (وهذا العنوان مستلهم من فالتر بنيامين الذي كنا، خلال الحقبة الحمراء للقراءات، نقرأ ما كتبه عن “جدلية الصورة” والمعاني العديدة التي تحملها الصورة الواحدة). بعد حديث استرجعتُ فيه المعرّي، سأل المترجم أندريه ماركوفيتش عن إمكانية ترجمته إلى الفرنسية شعراً موزوناً.. بالطبع، لا طاقة لي على هذا العمل. مهمة مستحيلة. ليس في وسعي إعداد ترجمات حرفية من سقط الزند أو اللزوميات ليعيد نظمها المترجم الروسي الذي نقل الأعمال الكاملة لدستويفسكي إلى الفرنسية، وترجم “يفيغني أونيغين” مقفّى على البحر الإيامبي. حين سُئل ماركوفيتش: “وهل تكتب أيضاً؟” أجاب متعجّباً من الاستخفاف الذي يُقابَل به المترجمون: “أليست الترجمة كتابة!؟”

 

ابتسامة رضوان

يصحّ هنا ما كتبه هولدرلين قبل جنونه الأخير: “الفلسفة مستشفى الشعراء المنكوبين”. شاعر السينما وشاعر الفلاسفة توصيفان سيّان في العبث. قرأ تاركوفسكي ترجمة أبيه لأشعار المعري، الصادرة سنة 1969، فماذا ترك رهين المحبسين في قلب الراهب الروسي الذي يرهب بطش الوقت، وخفقانه يتسارع لأنه لا يستطيع إلغاءه ولا إيقافه؟ لا أدري. لنقرأ هنا أمثلة ممكنة أخرى عن خسارات الترجمة.

كثيراً ما ينفي المعرّي ما يثبته، محاوراً نفسه عبر استعادة شعراء أقدم منه، أو محوّلاً الأسئلة الكبرى إلى مسائل لغوية تزخر بالمفارقات والتناقضات والاستطرادات، “تلك المسائل ألفيتُها في اللذّة كأنها الراح”، ولا سيما الفروق الصغرى التي تقلب المعاني. ففي “رسالة الملائكة” التي ألّفها في شيخوخته، ردّاً على واحدٍ وعشرين سؤالاً أرسلها إليه أبو القاسم علي بن همام عالم النحو والصرف، نقرأ حوارات خيالية مع الملائكة الذين لا يبالون بالنحو ولا يستطيعون أن يشعروا بالشّعر. يتخيّل المعرّي نفسه على فراش الموت، يماطل ملك الموت ويشغله بالبحث عن أصل كلمة “ملك” وجمعها، حتى يضيع الملاك داخل متاهة لغوية ويقول غاضباً: “من ابن أبي ربيعة؟ وما أبو عبيدة؟ ما هذه الأباطيل؟”
رضوان ملاك الفردوس

يستمهل الشاعر ملاك الموت ساعةً حتى يخبره بوزن عزرائيل، ويقيم الدليل على أن الهمزة فيه زائدة. فيجيب الملاك: “هيهات!”، ويتلو آية “إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون”.

ثم يدخل المعرّي عالم ما بعد الموت. يأتي منكر ونكير فيسألهما كيف جاء اسماهما عربيين منصرِفين وأسماء الملائكة كلها أعجمية؟ فيجيبان: “هاتِ حجّتك وخلّ الزخرف عنك!” فيغيظهما بالقول: “كان ينبغي أن تعرفا ما وزن جبرئيل وميكائيل على اختلاف اللغات إذا كانا أخويكما في عبادة الله عزّ وجلّ”. 

كما يسأل خازن النار: “رحمك الله، أخبرني ما واحد الزَبانِية؟” و “هل النون في جهنّم زائدة؟”

على باب الجنة ملاك اسمه رضوان. يحدّثه بعض جهابذة الأدباء الذين زحزحهم الله عن النار ولم يدخلهم الجنة. يخاطبه أحدهم “يا رضوُ”، وإذ يستغرب الملاك مناداته بهذا الاسم يجيبه السائل: “إنّا كنّا في الدار الأولى نتكلّم بكلام العرب، وإنهم يرخّمون الذي في آخره ألفٌ ونون فيحذفونهما للترخيم”. الفئة العالقة بين الدارين تلتمس من رضوان أن يكون واسطتهم إلى دخول الجنّة، إذ لا يُستغنى عنهم هناك. نسمعهم يستقبحون أن ينال العبدُ المؤمن كلّ هذه النّعم وهو يلحن ويخطئ في النحو إذا سبّح اللهَ. “لا يحسُنُ بساكن الجنان أن يصيب من ثمارها في الخلود وهو لا يعرف حقائق تسميتها”، و “لعلّ في الفردوس قوماً لا يدرون أحروفُ الكمّثرى كلها أصلية أم بعضها زوائد؟” وكيف يأكل الرجل الصالح من سفرجل الجنة وهو لا يعلم كيف تصغيره وجمعه؟ وتتوالى الأسئلة الصغيرة إلى أن يبتسم رضوان، فيقتبس من سورة يس: “إن أصحاب الجنة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متّكئون”، ويقول: “فانصرفوا رحمكم الله فقد أكثرتُم الكلام فيما لا منفعةَ فيه”. لكنهم يأبون الانصراف ويتشاورون، ثم يطالبونه بلقاء الفُرْهُودي، أي الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يلبّي دعوتهم ويستمع إليهم عاجزاً عن مجادلتهم. وإذ يرتدّ الأدباء عن باب الجنّة خائبين، يعودون مرة أخرى إلى حالة الما-بين كسكّان الجسور.

كل استعادة للماضي ابتكارٌ لدى المعرّي، الموارب في فكاهة التلميح وقتامته: لا شيء ينقذ الشعراء، ولا حظّ لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الجنة ولا في الجحيم. 

عشاء الأعميين

كتب تاركوفسكي الأب عن أعمى يركب مع قدره قطاراً من دون تدفئة (القدر في الروسية مؤنث):

“وشوشه القدر فسمعته العربة كلها:/ولماذا ستعبأ بالعمى والحرب؟/ خيرٌ لك العمى والفقر./ لو لم تكن أعمى لما نجوتَ قطّ./ لن يقتلك الألمان فأنت في عيونهم لا شيء./ اسمحْ لي أن أرفع ذاك الكيس إلى كتفك-/ ذاك الخاوي البالي المليء بالثقوب./ دعني أفتح عينيك على وسعهما./ كان الأعمى مسافراً إلى البيت مع قدره،/ شاكراً عماه الآن، سعيداً به”. 

وفي قصيدة أخرى كتب أن “مصائرنا تطاردنا كمجنون في يده شفرة”. المنافي تغصّ بالمنفيين الذين لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولأننا نعلم مكانة موسيقا باخ في قلب تاركوفسكي الابن وقلب فنّه، فلربما استوقفته مسرحية “لقاء ممكن”، وفيها يجمع بول بارتس، على مائدة عشاء متخيل، بين هاندل وباخ اللذين كفّ بصرهما في شيخوختهما. هاندل (المشهور الناجح الأعزب الغني وإلى آخر هذه الصفات) يزور لايبزيغ لينال ميدالية ذهبية أخرى، جائزة ما تضاف إلى خزائنه، وعلى الطرف الآخر باخ الموسيقي المؤمن المغمور في فرقة متواضعة والمكافح ليعيل عائلة كبيرة ولا يغادر بلدته. يسأل باخ (يلعب دوره سموكتونوفسكي) كيف تبدو لندن. ينهض هاندل عن مائدة العشاء العامرة بمأكولات بحرية غريبة أتى بها من جزر الإنكليز، ثم يتقدم إلى طرف الخشبة ويخاطب الجمهور: “إنها مثل هذا المكان بالضبط، مليئة بالألمان”.

مرآة فارغة

ملاك شارع توربيغو، باريس

كتب إنغمار برغمان: “إن لم يكن الفيلم وثيقة فهو حلم”. تلك بديهة لا تحتاج شرحاً بالنسبة إلى تاركوفسكي الذي رأى بأصفى ما يُستطاع حلمه وكابوسه الطويلين، وأنجز ما عجز عن بلوغه برغمان أو لارس فون تراير الذي أهداه أكثر من فيلم.

كتب تاركوفسكي في يومياته عن الصبر والتواضع، عن السعي إلى المطلق كظمأ المتصوفين إلى الجمال، ولعلّه من السينمائيين القلائل الذين تجرؤا على استخدام مفردات مثل “الحقيقة” أو “التضحية” بمعانيها الوجودية-الدينية. أحسب إيمانه بعيداً عن العقائدية أو اللاهوت أو مهاترات التصوّف المطروحة في الأسواق أو المسخ النرجسي للفنّ. لعله إيمان من ينأى عن المحسنين والمجرمين الذين استولوا على المعابد، إيمان من يكفر بأصنام الرأسمالية والشيوعية والقومية. كانت لغته بعيدة عن البيانات “التجديدية” بكل صنوفها: الشعرية والشيوعية والسريالية… إلخ. لم تكن روحانيته اطمئناناً أو هروباً أو منفذاً جمالياً. كانت المواجهةَ المفتوحة بين الإنسان ونفسه والعالم، إنصاتاً إلى صوت الحياة، محاولات لتلبية هذا النداء مهما اعترضت طريقه النماذج الفنية الموجودة وقوانين المجتمعات. كان بين رفقة حياته الداخلية موسيقي مؤمن هو باخ ورسام مؤمن هو أندريه روبليف. انتمى إلى الذين يتذكرهم، إلى الحب الذي منحوه إياه، إلى قوة الذين نحسبهم ضعفاء، وكان الامتنان واحداً من دوافع حياته. كان يقول إن “فنّي هو صلاتي”. ربما ألمّ بما يمكن أن تنطوي عليه كلمة “الصلاة” من معاني شديدة التنوع في اللغة العربية. لا أعرف اللغة الروسية، لكني أعلم أن الروس يكتبون ضمير الأنا بحرف صغير والأنت بحرف كبير. أليس في هذا الخطاب شيء يشبه الامّحاء في الحبّ، المفتَقَد الأعظم؟ 

*

أمضى تاركوفسكي الشهور الأخيرة من حياته في السويد منهمكاً بفيلمه “القربان”، وفيه يقول أب العائلة إنّ “الهمج روحانيون أكثر منا. ما إنْ نحرز سبقاً علمياً حتى نسخّره في خدمة الشرّ”. يتكئ إلى شجرة بتولا ويردّد: “كلمات، كلمات، كلمات”. هاملت مرة أخرى. يعتزم الامتناع عن الكلام مدى الحياة. وقبل أن يضرم النار في بيت ذاكرته، أضحيته الشخصية على مذبح المحرقة الكونية، يتضرع: “لو يرفع الله هذا الخوف الحيواني”. 

*

عاد الابن إلى فرنسا منفياً ومريضاً. لم تصمد طويلاً مقارنة الصحافة الثقافية الفرنسية بين مرآته وبين مرايا الشعراء في أفلام جان كوكتو. لم تدم طويلاً تفاسير المحللين النفسيين اللاكانيين الذين أسهبوا في الحديث عن طور المرآة ودوره في نشأة الطفل. كيف كانت انطباعاته حين يسمع اللهفة في نبرات المذيعين وهم يتبعون اسمه بنعوت الكبير أو العبقري أو حاصد الجوائز؟ كيف كان يتلقى انتقادات الساخرين من لوعة الحنين، أو أحكام المستخفّين بالعاطفة وهم يهجون ميوعتها في الفنّ، أو تهكّم سادة المنتديات والمقاهي على التديّن: “معرفة الله تعني بالضبط عدم معرفته. استحوذ الغرب على الإنسان وترك الله للشرق”؟  

كان مسكوناً بالعثور على شكل فني شخصي للحياة الداخلية، وإذا لمح في بناء مشاهده تشابهاً، ولو طفيفاً، قد يشي بأيّ من المعلمين السينمائيين الذين يقدّرهم حذفَ هذا الأثر من الفور. كشف في آخر حواراته: “الفنّ واجب أمام الله. ليست أفلامي تعبيراً شخصياً بل صلاة. كأنني في عيد حين أصنع فيلماً، كأنني أضع أمام أيقونة شمعة أشعلتها أو باقة أزهار”. فتك برئتيه أخبث الأورام، السرطان صغير الخلايا، وجعل من بداهة التنفّس شيئاً أشبه بالمعجزة. دُفن في مقبرة المهاجرين الروس في سانت جنفييف ده بوا جنوب باريس، ويستطيع الذاهبون بقطارات الضواحي المتّجهة إلى إسّون ليزوروا مثواه أن يقرؤوا عند رأسه هذه العبارة:

“إلى مَن رأى الملاك”

أندريه تاركوفسكي وابنه

 

لماذا أوصى بنقش هذه الكلمات على شاهدة قبره؟

*

لا يجد شعراء معاصرون حرجاً في مناشدة الملائكة التي لا تكفّ أجنحتها عن الرفرفة في قصائدهم، غاضبة كالملائكة المسلّحين في التوراة، حاصدي الأرواح بالمناجل، أو رهيبة كملائكة ريلكه التي لا تسمع صيحات الشعراء لأن “الجمال بداية الرعب”… بعض الفنانين أمْيل إلى العُصاة والساقطين، كالملاك الساقط في فيلم بيتر هاندكه وفيم فيندرز “السماء فوق برلين” (أو مسخ السطو الهوليودي في نسخة أخرى هي “مدينة الملائكة”)، أو فاسبندر في استعادته لقصائد آرتور رامبو المخبأة وراء مرآة في “لعبة الروليت الصينية” ( في “صلاة المساء” يقضي رامبو حياته جالساً كملاك على كرسي حلّاق)، أو ملائكة كافكا ذات الأجنحة الخشبية التي لا تصلح للطيران… إلخ.

لعل تاركوفسكي في هاجس الزمن، مرة أخرى، أقرب إلى المعرّي: “ولو طار جبريل بقية عمره/ من الدهرِ ما اسطاعَ الخروج من الدهر”.

*

إذا سلّمنا بموت الله لكان اليُتم بداية الحرية وبداية الرعب، ولبات الوجود حداداً مفتوحاً. والملائكة؟ هؤلاء المحرومون بطبيعتهم من الفضول والتساؤل، مَن سيعبدون من بعده؟ بشراً مثلهم؟

*

هل الملاك كناية عن السينما؟ هذا المخلوق الكائن في منطقة وسطى بين المرئي واللامرئي، الرسول بين الله والإنسان، خادم الكلمة، الخنثى أو عديم الجنس. كناية عن التمزّق بين ما يستحيل رجوعه وما يستحيل بلوغه، وفيه تتلاقى المتناقضات، فتمتزج البراءة بالرعب، والجمال بالكوابيس.

*

اطّلع تاركوفسكي على أعمال الزاهد السويدي إيمانويل سويدنبرغ، وعرف على الأرجح منامات هذا الرائي التي درسها إيمانويل كانط في شبابه. تخيّل النبيّ السويدي، أو عاش رحلات إلى الجنة والجحيم خلال القرن الثامن عشر في لندن. ظلّ سويدنبورغ يلتقي الملائكة ويكلمهم ويحاورهم سبعة وعشرين عاماً. كلّ ملاك سماء بحدّ ذاته، وتوالد السماوات هنا مدوّخ كولادة الملائكة من دموع بعضها البعض في قصص الأنبياء الإسلامية، إذ كلّ دمعة تُذُرَف تلد ملاكاً.

الجحيم هي الوجه الآخر للجنّة لدى سويدنبرغ، وليس الملائكة نوعاً منفصلاً عن البشر، شأنهم شأن الشياطين. الإنسان يختار ما يريد بعد مماته في يوم حسابه الشخصي الذي يدور لحظة وفاته. يختار الميت ما يرتاح إليه أو ما اعتاده ولا أحد يرغم روحه على شيء. “اللحظة مرآة الأبدية”، وفي كل لحظة تمرّ يصوغ الإنسان خلاصه الأبدي أو لعنته الأبدية. لا شيء يتغيّر، يستمرّ الهولنديون بالتجارة في الجنّة، ويحافظ الإنكليز على رزانتهم واحترامهم للسلطات، ويتاجر اليهود بالمجوهرات والحليّ. لا وجود للمكان ولا للزمان إلا داخل رؤوس الملائكة، ويكفي أن يفكّر الإنسان بشخص آخر لكي يجده إلى جانبه فوراً، والعاشقان على الأرض يصيران جسداً واحداً في الجنة. عوالم سويدنبرغ الموصوفة بأدقّ التفاصيل بالغة التعقيد. الموتى لا يعلمون أنهم قد ماتوا، ويحتفظون لوقت طويل بصورة وهمية عن حياتهم التي مضت وأصدقائهم ومحيطهم الذي ألِفوه. لا تعلم الروح أنها قد فارقت الجسد إلا حين تنظر في المرآة فلا ترى أحداً. ربما لهذا السبب كان فلاحون سيبيريّون أيام الحداد يغطّون المرايا بثياب موتاهم.

– اعتمدت قراءة “رسالة الملائكة” النسخة التي حقّقها عبد العزيز الراجكوتيّ الهنديّ

 

The Soul hovering over the Body, William Blake 1813

The post مَن رأى الملاك appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>