المسافر والبرج والدودة
المَجاز اعترافُ اللغة بفشلها في التواصل المباشر. حذّر شيشرون من اللهو بالمجازات، فكما اختُرعت الثياب في البداية لتقينا البرد ثم دخلت لاحقاً باب الزينة والتباهي، فقد انبثقت المجازات من فقر اللغة ثم تعمّم استخدامها من باب التسلية. تولد المجازات من عجز الكلمات عن تسمية تجاربنا على نحو دقيق وملموس.
المسافر
يتقدم القارئ عبر صفحات الكتاب، مثلما يسافر الإنسان عبر رحلة الحياة. قد لا يستهوي المسافر ما يراه، ويعبر لاهياً أو غافياً أو غافلاً عن المناظر التي تمرّ. شعراء اللاتينية القدامى قارنوا صنعة الكتابة بالملاحة. كتب بترارك: “أنا غريب على الأرض، عابرٌ كأجدادي كلّهم، منفيّ، مسافر قلِق في هذه الحياة القصيرة”.
البرج
في العصر الحالي الذي تسوده السرعة والإيجاز، قد يقول المنعزلون في أبراجهم الإلكترونية، متطايرين وسط زوابع النصوص القصيرة، إن “الحرب والسلام” أو “البحث عن الزمن المفقود” ثرثرة عفا عليها الزمان. لنعد إلى الوراء قليلاً. للبرج دلالات شتى في الكتاب المقدس، كالطهارة والعذرية والجمال. نقرأ في “نشيد الأنشاد” إن عنق العروس “برجٌ من العاج”. كانت مريم العذراء برجاً في أيقونات القرون الوسطى. تطوّرت لاحقاً استعارة ذاع صيتها هي البرج العاجي، وساكنه قارئ أو كاتب لا تعنيه سوى كتبه، لا يفكر إلا بها وبنفسه، يحتقر الناس ويهزأ بهم، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية ومتعالياً على شؤونها وقضاياها. هذا المجاز تلفه الكآبة، ويناقض مجاز القارئ المسافر. على الأرجح، سان بوف أوّل من استخدم في النقد الأدبي تعبير “البرج العاجي” سنة 1837، حين قارن بين الشعر المجرّد لأفرد دو فيني والشعر السياسي لفكتور هوغو. كانت البداية مديحاً. كان البرج العاجي ملاذاً مترَفاً للتأمّل والتفكير، صامتاً ومليئاً بالكتب حيت تحول العزلةُ العالمَ إلى كلمات. لم يلبث هذا الملاذ أن تحوّل إلى مخبأ يتقوقع فيه الضعفاء والأنانيون، أو قاعة انتظار للإلهام الذي لا يأتي، أو صومعة يحتمي بها الجبناء المتهرّبون من مواجهة العالم، جالسين مترفّعين عن الحياة الحقيقية التي تضجّ بها الشوارع المفتوحة. المعتكف في البرج يتوهّم التميّز ويظنّ العالم كتاباً بين يديه يفتحه ويغلقه أنّى شاء. إنه بعيد عن “الصراعات الطبقية”، يكره “الجماهير” ويسفّه الرعاع، متعالٍ ومدّعٍ زيّفته الكتب وخنقته. في الصفحات الافتتاحية من “فاوست” غوته، يرثي الدكتور فاوست حاله. بعدما قرأ الطب والقانون والفلسفة وتبحّر في عوالم الكتب، تضيق بروحه جدرانُ البرج، فيعتقد أن هذه الأوراق كلها ليست إلا “قمامة الأجداد”، محض صورة عن العالم الذي اخترعته أفكاره: “ما عدتُ أستمتع بأي شيء الآن، لأني أعرف أني لا أعرف شيئاً”.
هاملت النازيّ
لم يرأف شكسبير بالمثقفين الذين ما عادوا يعلّمون الجهلة، لا يسلّون الضجِرين ولا يغيّرون الكسالى. سخر من آكل الورق وشارب الحبر. هاملت “مشلول بإفراطه في التفكير”، والمكتبة التي عاش فيها شبابه وكانت الكون كلّه تحوّلت تالياً إلى سجن؛ وفي “العاصفة”، يحاول كاليبان إقناعَ البحّارة بقتل العالم بروسبيرو: “تذكّروا، اسلبوه كتبه أولاً، لأنه من دونها معتوهٌ مثلي”.
23 أبريل 1940. أرسل الناقد المسرحي الألماني فولفغانغ كيلر خطاباً إلى جمعية شكسبير الألمانية قائلاً إنه لن يسمح للبريطانيين بسرقة شكسبير منهم لأن شكسبير، في حقيقة الأمر، ألمانيّ. يقارن الناقد بين إنكلترا في العصر الإليزابيثي وبين الرايخ الثالث، “كان الإحساس الإليزابيثي بالحياة بطولياً، عسكرياً، شاباً ومتطلعاً إلى التقدم، متعطشاً إلى الأفعال والمغامرات”، ويعزو فشل ألمانيا في خلق شكسبيرها، برغم أن الألمان كانوا أوائل من ترجموه، إلى أن “إنكلترا شكسبير قد خلَتْ من اليهود ثلاثمائة سنة”.
كانت هاملت هي المسرحية الأثيرة لدى نظام الرايخ الثالث، عرضت في مسارح برلين وحدها حوالى 200 مرة بين عامي 1936 و1941. في أشهر هذه العروض يؤديّ دورَ هاملت غوستاف غروندغنس، أحد كبار الممثلين في تاريخ المسرح الألماني الحديث. كانت المفاجأة غياب الصورة المعهودة لشخصية الأمير المتردّدة، فقد حلّ مكانه هاملت آخر مليء بالعزم والتصميم ويتحلّى بروح المسؤولية، “انتقل من القول إلى الفعل، ولا يخاف أن يلعب دور الأحمق”. اقتضى هذا التحوّل الدراماتيكي حذف الكثير من فقرات المسرحية الأصلية. المفارقة أن الممثل النازيّ، أو المتعاطف مع النازية، قد مثّل البطل مقاوماً للاستبداد الذي كان في هذا السياق دانماركياً. انقلب التأمل الفلسفي لدى هاملت إلى وظيفة عملية لا بدّ أن تفضي، رغماً عنها، إلى الأفعال. هكذا حوّل النازيون البرج العاجي إلى برج مراقبة.
الدودة
القرّاء بوصفهم مسافرين أو حجّاجاً ينتهون في خاتمة المطاف، كالمخلوقات الفانية جمعاء، فرائس لديدان الموت، كما تقضم ديدان أخرى أوراق الكتب. فمثلما سيلتهم الدودُ المسافرين حين تنتهي رحلة الحياة، فإن القارئ النهِم يلتهم الكتب ويجترّها أحياناً. لا يعني هذا الالتهام بالضرورة استفادةً حقيقية من الكتب وهضم معانيها. هناك التخمة التي تعكس لنا الموت مرة أخرى، تخمة الكلمات. هكذا تطاول السخرية القارئ في شرنقته- دودةً أو فأراً أو جرذاً لا يرى غذاء حقيقياً في الحياة إلا علف الكتب.
هناك دوماً من سيعنّف القرّاء الحمقى الذين يحسبهم الجاهل حكماء يزدرون الأمور العملية الجدّية في السياسة والاقتصاد، كأن كل قارئ مدمن على القراءة المديدة هو الفارس النبيل دون كيخوته وقد “أيبست الكتب دماغه وأفقدته عقله”. هناك من يشفق على القراء المساكين المنقّبين في بطون الكتب، ويهزأ من ذوي النظّارات البلهاء، الحالمين بالأعماق والقمم، الحمير المحمَّلين بالأسفار والأشعار؛ هناك من يتطيّر منهم ويخشاهم: “كفاك كتباً! اخرجْ وعش حياتك!” ولا ننسى من يطعم النيرانَ هذه المخلوقاتِ المصنوعةَ من القش والحبر. يناهضهم فلوبير مطارد الحماقات والمحتالين في الحياة اليومية والمدافع عن البرج العاجي: “اقرأ لتحيا!”. لا يسري قانون الأقوى على حمقى الكتب وديدانها. القارئ “صنو الله” بتعبير ثربانتس. تنشقّ السماء في رؤيا يوحنا البطمسي، فتظهر يدٌ إلهية تمدُّ إلى القديس كتاباً مفتوحاً: “خُذه وكُله. سيكون حلوا كالعسل في فمك، مُرّاً في بطنك”، يقول الملاك.
القيامة وفقاً لدُورر
ليلة الأربعاء في عيد العنصرة سنة 1525، رأى ألبريشت دورر في حلمٍ سيولاً تنهمر من السماء، ولم تلبث أن غمرت المشهد. استيقظ مرتجفاً صباح الخميس، وراح يرسم بالألوان المائية ذلك المشهد الرهيب: يبدو كل شيء فيه هادئاً منتظراً المياه التي سوف تدمّره، والسيول المعلقة في السماء مثل ظلال مقلوبة لأشجار سرو ضخمة كان قد رآها في إيطاليا أثناء شبابه. كان دورر يألف قصص نهاية العالم. قبل هذا المنام بسبعة وعشرين عاماً، كان قد حفر سلسلة من الأعمال التي ترسم حلم شخصٍ آخر. إنها قيامة يوحنا.
هذه القيامة حلم رواه يوحنا البطمسي في سبع رسائل بعثها إلى سبع كنائس، قبل أن تصل إلينا أيضاً نحن قراءَه المجهولين في المستقبل. تروي هذه الرؤيا موت الأشياء كلها. ليس هذا الموت فناء مطلقاً، وإنما خطوة أخيرة في الصراع بين الخير والشرّ. النص مبني حول رقم غامض هو السبعة”: سبعة ملائكة، سبع رسائل، سبعة أبواق، سبع رؤى، سبع كؤوس، سبع نجوم، سبعة قناديل، تنين أحمر ذو سبعة رؤوس. الأسرار مخبأة في كتاب موصد بسبعة أختام. سيفهم القديس ما يرى حين يأكل الكتاب المفتوح الذي يناوله إياه الملاك. لا ينسى دورر أن يرسم الدواة والريشة والدفتر. الربُّ ابن الإنسان، ولهذا أعطاه الفنّان كتاباً لم يذكره المؤلف أو المؤلّفون في هذه الرؤيا التي يقول بطلها، ولعله المسيح نفسه: “أنا الأول والآخر. الألف والياء. أنا الأبجدية، من أول الحروف إلى الحرف الأخير. بحروف هذه الأبجدية أنا وأنت مكتوبان. في بدايتك نهايتنا، وفي نهايتك بدايتنا. أنت حيّ ما دمتَ تقرؤني”.
غير أنّ كلّ كتاب يحذّر قارئه: “تذكّرْ: لكل قصة نهاية”. عند مدخل كل معظمة كان قدامى الرومان يراكمون فيها عظام موتاهم، حُفرت الكلمات التالية: “الآن، أنتمُ الذين كنّاهم. الآن، نحن الذين ستصيرونهم”. “هذا هو اليقين الوحيد”، فكّر دورر.
*
يجيب كتاب يوحنا البطمسي على السؤال الجوهري: “ماذا سيجري لنا؟” بالكثير من الصور والمجازات حول “هذه الأحداث المشارفة على الوقوع”، ولا يزال يدعو القارئ حتى الآن إلى فك طلاسمها، لأن القيامة كانت دائماً على وشك الوقوع عبر مختلف العصور. سان جيروم فسّر الرؤيا مجازياً. إنها تستعرض سلسلة من الأحداث المتكررة على مدار التاريخ، والبشر يعودون إليها بشكل دوري، قائلين كلّ مرة إن يوم القيامة قريب.
في إحدى محفورات دورر الست عشرة المنجزة عن هذه الرؤيا، نرى يوحنا ملقى في مرجل على النار والجلادون المحيطون به أتراك كفَرة يعتمرون عمامات العثمانيين. لا تحدث القصص في التاريخ دون ضحاياً تنزل المصائب على رؤوسهم، قبل تطويبهم أبطالاً في أحوال استثنائية. قد تصير الضحية شاهداً، تعي الفعل الشنيع وتطبعه بكلماتها أو تحفره في ضمائر رواة الحكاية من بعده. لهذا السبب يُخرِس الجلادون أصواتَ الضحايا ويُغرقونها بالصمت، بارعين في تكميم الأفواه وقطع الألسنة أو كيّها بالنار.
*
كتب ألدوس هكسلي أن “عالمنا مريض ومرهق إلى حد يتصوّر فيه معظم الناس أن الجنة منتجع للنقاهة”. حين تقوم الساعة، وفق التوقيت المعتمَد في رؤيا يوحنا، ينفضّ الختم الخامس ويناول اللهُ الموتى أرديةً بيضاء ويقال لهم: “ارتاحوا وانتظروا قليلاً”، ريثما يكتمل النِّصاب. ثمة قاعات انتظار وإجراءات بيروقراطية معقدة في السموات. حين ينفضّ الختم السادس، يقع زلزال عنيف. تسودّ الشمس ويحمرّ القمر كالدم وتتهاوى النجوم على الأرض. كل جبابرة العالم يختبئون في الكهوف، ومذعورين يخرّون ساجدين على الأرض. تنغلق السماء مثل كتاب فرغ القارئ من قراءته.
في إحدى محفورات دورر الستّ عشرة، يتجمهر العادلون على الأرض التي أهلكها الله ليطهّرها، فيما تلوح وراء جمع الملائكة حمَلةِ السيوف شجرةُ تفاح مزهرة غافلة عن القيامة كلها. تحت عرش الله المطوق بقوس قزح، وسط الغياب المطلق للإنسان، يرسم دورر الجيوشَ الإلهية التي تضع حداً لجنون البشر. إنهم، هذه المرة، ضحايا مذبحة ملائكية.
الله فنان في قيامة دورر. حين تصمت أبواق الملائكة، تظهر يدان عملاقتان من ثنايا غيمة وترميان جبلاً في البحر. تهوي نجمة. تغرق المراكب. الجراد يجتاح الأرض. نسر يصيح بالألمانية: “البلاء، البلاء، البلاء”. نرى في هذا الاستعراض الرهيب أن الخالق حسود كسائر الفنانين. الفشل كامن في صميم الخلق الإلهي، شأنه شأن أي عمل فنّي. ولهذا السبب ينتهي الله الفنان الحقيقي بتدمير عمله. قارئ العمل يتنفس الحياة عبر الثغرات التي تتخلل كل إنجاز. كتبَ مالارميه عن “ملهمة العجز”، الربّة التي تلهم كلَّ مشروع فني درجةً معينة من الفشل تسمح له بالبقاء حياً.
قراءة الصور، تاريخٌ من الحبّ والكراهية
ثمة مسافر فوضوي يحبّ اكتشاف الأماكن عشوائياً، عبر الصور المختلفة التي تتيحها المصادفات: المناظر والمباني، الصور الفوتوغرافية، بطاقات البريد والصروح، التماثيل واللوحات، المتاحف وصالات الفنون. هذا المسافر يعشق قراءة الصور بقدر ما يعشق قراءة الكلمات، مستمتعاً بالعثور على القصص المكشوفة أو المضمرة التي قد تنطوي عليها الأعمال الفنية بأنواعها كافة. هذا المسافر قارئ عادي يحسب أنّ من حقّه قراءة هذه الصور وقصصها، من دون اضطرار إلى التزوّد بعدّة النقد ومصطلحاته، فلا يحاول بتاتاً أن يعتمد أي طريقة منهجية للقراءة. قد لا يكون هذا القارئ، المزاجيّ المشكّك المتردّد، أهلاً لمثل هذه المجازفة، غير أنّ عذره هو الفضول الذي يمنعه من الرجوع إلى أي نظرية من نظريات الفنّ. وإذا استطاع تأليف كتاب ممتع، فسوف يكون بالضرورة مليئاً بالصفحات المفقودة، ولن يدّعي المؤلّف أبداً أي إحاطة بالفن أياً كان شكلها. ستغيب عنه قراءات كثيرة مثل فنون ما قبل التاريخ، والفن المفاهيمي والغرافيتي وملصقات البروباغندا في القرن العشرين وعروض الأزياء والبورنوغرافيا ولافتات الأسواق التي كتب عنها تشسترتن: “أي محظوظ بنعمة الأمّية كان سيراها حديقة ساحرة من الأعاجيب”.
*
ينمو الجسد من عناصر أولى في خلية واحدة تتدحرج داخل ظلمات الأحشاء إلى سقف الرحم. مزايانا وعيوبنا وذاكرتنا مسجّلة في نواتها. حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا ترجماتٌ كيميائية لمتواليات تلك العناصر. الصور بنات الضوء الساقط على الشبكية فيحرض وهم الاكتشاف أو وهم الذكريات. بالطبع، هذه التعاريف مدرسية مختزلة، لا تقيم أي دليل على ما يدور في متاهات عقولنا عندما ننظر إلى أي عمل فني.
تقترح فلسفة سامخيا الهندوسية أن ننظر إلى أنفسنا كمتفرّجين على استعراض أبديّ للصور. فمنذ اللحظة الأولى لولادتنا تقع عيوننا على شخصٍ ما يتكلّم ويتصرّف ويفكّر، وربما نتقاسم معه المسرات والهموم والأفكار. يتسلّل الآخرون إلى قرارة نفوسنا ويقيمون فيها. هذه الحميمية التي نتقاسمها معهم، روحاً أو جسداً، تولّد وهماً بأننا أشخاصٌ آخرون. لا نكفّ عن اختلاق الصور لنستمتع ونتعلّم ونلهو، ولعل هذا الوعي الناقص يدفع بنا إلى العبث والظنّ أن حقيقة العالم تكمن في لوحة من لوحات ماغنوس إِنكل أو ماريانا غارتنر أو تمثال من تماثيل أليخادينيو في كنائس البرازيل. تبقى المفارقة المدهشة: برغم الوحشية والطمع والجنون، استطاع الإنسان دائماً أن يخلق جمالاً كثيراً.
شبح بورخيس
وُلِدت الكتب من “أمّهات الكتب” لتفضي إلى كتب أخرى في متواليات وتشعّبات مدوّخة عبر الزمن. كل عمل مطبوع من أعمال ألبرتو مانغويل يحتوي شيئاً من جميع كتبه السابقة. كثيراً ما يقتبس من نفسه فيكرر صفحات كاملة بحذافيرها من أعماله السابقة التي استولد معظمها من بطون قراءاته الهائلة. قد نقول إن انتحالاته مفتوحة على الابتكار والتكرار، ولعله أولاً ينتحل صفه نفسه. لا يختلف في هذه النقطة عن معلمه بورخيس الذي رافقه طيفه منذ تعرّف إليه في مراهقته وبات قارئه. أحسب أن المعلم الأعمى كان مرشداً يهدي تلامذته ويلعنهم في آن معاً. ظلّت روح التلميذ الألمعي لدى مانغويل شغوفة بالمعرفة. راضياً تقبّل الحضور الدائم لمعلمه الأعمى ولم يصارعه. فعلى سبيل المثال، كانت نسخة من لوحة ألبريشت دورر “الفارس والموت والشيطان” معلقة في غرفة نوم بورخيس في بوينس آيرس. استعادها مانغويل في روايته “أنباء من بلاد أجنبية” حيث يتأملها الضابط الفرنسي المثقف الذي ينقل خبراته في تعذيب الجزائريين خلال الثورة الجزائرية إلى بوينس آيرس، هناك يقوم المثقف الرفيع بتعليم ضباط أرجنتينيين فنون التعذيب وفلسفته خلال سنوات الحكم العسكري المسماة “الحرب القذرة”. نعلم احتقار بورخيس للسياسة، وغيابها التام عن أعماله، وتكراره للنكات نفسها، على غرار ما قاله عن الحرب الإنكليزية-الأرجنتينية على جزر الفوكلاند: “إنها صراع بين أصلعين على مشط”. من جهة أخرى، غابت عنه الفنون البصرية، إذ لم يقترب من الرسم والتصوير، وليس عماه السبب الوحيد. كتب مقالات متفرقة عن السينما قبل أن يفقد بصره تدريجياً، وانتقد أفلام هيتشكوك وأورسون ويلز وتشارلي تشابلين وجوزف فون سترنبرغ.
بخلاف معلمه، لم يبتعد مانغويل عن قضايا السياسة والجنس، ولم يتورع عن خوض نقاشاتها الساخنة، وتابع دائماً الأصوات الجديدة في الأدب. احتفى بالكثير من الأدباء الشبّان. أذكر هنا مثالاً واحداً فحسب هو الكاتب البرتغالي غونسالو م. تافارِس الذي يرفق الكثير من رواياته الصغيرة الممتعة بالرسوم التوضيحية. مانغويل المترجم أيضاً، المتنقّل بين أربع لغات على الأقل، يؤمن بالأهمية الجوهرية للترجمة، ولا يبخل بمساندة الأدباء على مختلف لغاتهم ومشاربهم. لمستُ لديه في مناسبات عديدة انفتاحاً وتواضعاً نادرين صادقين. منذ بضع سنين، أبدى موافقته الفورية لإعدادي كتاب مختارات من الشعر السوري باللغة الإنكليزية ونشرها لدى مطبوعات جامعة ييل الأميركية، بصفته أحد المحرّرين في سلسلة الأدب المترجم هناك، قبل أن أتراجع لاحقاً عن هذا المشروع لأسباب شخصية عديدة. تراجعتُ غير نادم، رغم ما بذلتُ وأهدرتُ من جهد ووقت في إعادة القراءات والمراسلات وترتيب الترجمات الأولية. سأستوحي من مانغويل الموسوعي البشوش هذا التلميح المقتضب إلى واحدٍ من تلك الأسباب، أشير إليه وإن لم يكن الأهمّ، وإن بدا مبهَماً وربما على شيء من الحذلقة:
السوريّ- ما إن تسمّي أحداً أو شيئاً حتى يفقد المعنيُّ براءته. يعلو الاسم فوق المسمَّى فيحجبه أو يسحقه، يلوّثه أو يعدمه، أو يلقي عليه شبكة سامة من الأحكام المسبقة التي حاكها العالم على مرّ السنين والأحقاب.
شريط موبيوس
كتب مانغويل أن الحياة التي لا تنتهي لا تستحقّ أن تُعاش. أشخاص كثيرون، واقعيون وخياليون، دخلوا حياة هذا الرحّالة، سكنوها وغادروها. تجري الأيام وتمرّ السنوات. عبور الزمن يثقل الجسد قبل بلوغه الصفحات الأخيرة من الحكاية. كأنّ الجسد، حين تتقدّم به السن، يحسد العقل الذي تزداد أفكاره وضوحاً وصفاء فيرفض التنازلات مثل طاغية مخلوع لا يقبل أن يستأثر بالانتباه أحدٌ سواه، متعامياً عن اقتراب اليوم الذي سيبقى فيه وحده مثل زائر غير مرغوب فيه.
كل المجازات القديمة التي ساعدتنا عبر العصور على معرفة أنفسنا قائمة على فكرة التحول: جريان النهر، سقوط الأوراق، النار والرماد… هويتنا معلّقة بين الشخص الذي كنّاه والشخص الذي سنصيره، لأنها بطبيعتها محرومة من الحاضر. نميل إلى الظن أن الماضي نبعُ وجودنا. كتب ميغيل ده أونامونو أن الزمان يتدفّق من المستقبل صوب الحاضر ومن ثم بالاتجاه المعاكس. نحن موجودون داخل هذين التيارين، في أحدهما تحملنا الأطياف والأوهام إلى الوراء ويحملنا الآخر إلى الأمام نحو هوياتنا المقبلة. لعلّ رمز هذه التحولات جميعاً هو شريط موبيوس الذي ليس له سوى وجه واحد وتحولاته لانهائية. نحن والعالم كله لسنا سوى ثمار التحولات. ربما استلهمنا هذه الأفكار من مراقبة اليرقات والبيوض وأطوار الحشرات، ولكنّ الموت ليس خطوة نهائية، كما أخبرنا يوحنا. وعي الإنسان مسكون بتناسخ الأرواح والمراحل المتتالية للعقاب أو خلاص النفس. سنبقى غامضين ما دمنا نحيا في لجّة التحولات. نرى كيف تمر الأشياء وكيف تشيخ وتتهاوى وتصير غباراً. وبرغم ذلك نستمتع بالتحولات الجديدة، بذوبان الثلج، بالبراعم الجديدة على غصون الخيزران. نتكلم على التحولات التي تقلقنا، وفي الوقت نفسه نثمّن التجارب التي تغيّرنا. نخشى أن نرى في المرآة وجهاً لا يعرفنا، ولكن يروق لنا النضوج والحكمة التي قد نستمدّها من التجربة أحياناً.
القيامة هي خطوة الختام في نهاية تحوّل مستمرّ. “إني أكشف لكم سراً: نحن جميعاً لن ننام ولن نموت بل سنتحوّل، في لحظة، في طرفة عين، عند النفخ في البوق الأخير، إذ سيُنفخ في البوق، فيقوم الأموات غير فاسدين وسنكون نحن قد تحوّلنا”، يقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس الأولى. قبل طردهما إلى الأرض، كان التواصل بين آدم وحواء روحياً من دون أي لغة. ستتلاشى الكتابة والقراءة بعد النفخ في صُوْر القيامة. أما على هذه الأرض، فتبقى الكلمات ميثاقنا الضروري وميراثنا المتواضع.
حاشية
لم أتطرق إلى أعمال ألبرتو مانغويل التي وطّدت مكانته كقارئ فريد في المقام الأول، وأعني بها مؤلفاته حول القراءة وتاريخها والمكتبات، إلى جانب كتبه حول دانتي وهوميروس، كما ابتعدتُ عن أعماله السردية التي ترجمتُ ثلاثة منها إلى العربية. فكرتُ أولاً بالوقوف على قصصه الخيالية مثل “الأب والابن” عن القديس أوغطسين وابنه (ضمن كتابه “قصص كلاسيكية” الصادر باللغة الفرنسية سنة 2010). كما فكرتُ، عطفاً على الرقم “سبعة” في رؤيا يوحنا البطمسي، بالرجوع إلى مساهمة مانغويل في الكتاب الفني “النائمون السبعة”، ذي الأجزاء السبعة التي كتبها سبعة مؤلفين عن رهبان تبحيرين السبعة الذين اغتيلوا وقُطعت رؤوسهم يوم 21 أيار/مايو 1996 في دير سيدة الأطلسي غرب الجزائر. لكنني عدلتُ عن الفكرتين وذهبت في اتجاه آخر. العناوين “المسافر والبرج والدودة” و “القيامة وفقاً لدورر” و “قراءة الصوَر: تاريخ من الحبّ والكراهية” هي عناوين بعض من كتبه التي لم تترجم، على ما أعتقد، إلى العربية. أعددتُ كل نص من هذه النصوص الثلاثة عن واحد من تلك الكتب التي قرأتها مجدّداً قبل كتابة هذا المقال، باستثناء كتابه الضخم “قراءة الصور”. “شريط موبيوس” معدّ أيضاً عن “القيامة وفقاً لدورر”.