صادفت العلامة على فراديس باتريك موديانو في قرية بيزالو القروسطية، القريبة من جيرونا. في تلك الأنحاء، تتمازج الألسنة، الإسبانية والفرنسية والكاتالونية والأوكسيتانية، وقد تحضر أربعتهنّ معاً في مكتبة واحدة للكتب المستعملة، على الجانب الفرنسي أو الجانب الإسباني من الحدود، المرسومة بجبال البيرينيه.
ربيع 2019، زرت العديد من القرى شمال كاتالونيا. زيارات أخرى سبقت تلك الرحلة، وأخرى أعقبتها. تجوّلت وحدي. كنت أختار وجهتي، ثم أركب باصاً من باصات “تييزا”، تصادف، أكثر من مرة، أن أكون راكبه الوحيد. بيزالو واحدة من تلك القرى. كانت مضاءةً بشمس آذار، حين قصدتُها للوقوف على أطلال الكنيس، المطلّ على نهر فلوفيا، وقربه “حمّام الطهارة” تحت الجسر الروماني العالي، الطويل. لقب “الإسفاراد” مشتقّ من الكلمة العبرية التي تعني “إيبيريا”. صار اسم المكان لقب لمطرودين من المكان.
مشتتاً في الدُّوار اللغوي بين العربية والعبرية، وقعتُ على متحف العوالم الصُّغرى Micromundi، المتواضع تواضعَ بيزالو. هادئٌ وحميم، كمعظم المتاحف في الريف. ثلاث قاعات صغيرة: الأولى لمنازل الدمى، والثانية لمنحوتات مصغّرة منصوبة وراء المكبرات، والثالثة لمنحوتات مثبتة على شرائح زجاجية تحت المجاهر.
في بيت عائلتنا، الكردية الشيوعية شمال سوريا، كنت ولداً يتصفّح كتاباً مصوّراً بالأبيض والأسود، محاولاً قراءة ما كتبه الماركسيّ فالتر بنيامين عن الدمى الروسية في “يوميات موسكو”. كانت المكبرات جزء من ولع الطفولة بالحشرات وإشعال الحرائق الصغيرة، ثم أمست المجاهر جزء من عملي الذي انقطعت عنه منذ غادرت دمشق خريف 2011، بعد سنوات من العمل طبيباً في مختبرات التشريح المرضي وعلوم السرطان. وقتذاك، أحببتُ نزوع و. ج. زيبالد إلى التقارير العلمية، ولعله رأى فيها شكلاً مبتوراً من الأدب بسبب هوسه الحزين بالدقّة.
مرة بعد مرة، سمعتُ شهقاتِ سيدة فرنسية تتعجّب في ظلال القاعات الثلاث: “أُوْ لا لا!” كنا الزائرَين الوحيدين في ذلك النهار المشرق. لا أعلم كيف نحت الفنانون قافلةً من الجمال داخل ثقب إبرة، وسفينتين تتحاربان على بحرٍ من جناح بعوضة، وفيلاً يتوازن على رأس إبرة، وفلكَ نوح في قشرة جوز… كانت كهدايا الجنود لحبيباتهم في سوق الحميدية الدمشقي، يوصون عليها الباعة الجوالين، بين بطاقات اليانصيب، حول الجامع الأموي: “اكتبْ اسم مَن تحبّ على حبة رزّ”.
لاحقاً، في باريس، بحثتُ عن كتاب موديانو “28 فردوساً” الذي قدّمته زوجته دومينيك زيرفوس، وأرفقَتْه بثمانية وعشرين رسماً منمنماً. انطلق الزوج من رسوم زوجته وأحلامها ليكتب قصيدته. تسترجع زيرفوس، في مقدمتها الوجيزة، ولع المشرقيين بعوالم الأشياء المتناهية في الصغر. بعض الرسامين اليابانيين من القرن الثامن عشر نجحوا في رسم حديقة على حبّة رزّ، آخرون نحتوا مشاهد الطوفان على نوى الكرز. كان حلم اليقظة باباً من أبواب الرسامة للخروج من حزنها في باريس، حيث قلّما يتجلى الفردوس المفقود، أحياناً في حبة رمل على ضفة السين، أو ورقة تسقط من شجرة عملاقة. ما حدا بها إلى التفكير بالضآلة لم يكن الرغبة في الاختفاء، وإنما الرجاء “ولادة جديدة في عالم آخر، جنة عدن”.
28 فردوساً
كنتُ في بلدةٍ صغيرة
على حدود بعيدة جهة الشرق
على تخوم تلك البلدان التي تكنّى بأسماء الثلج والقمر
نزيلَ غرفة في نزُل “الدبّ الذهبيّ”
كنتُ في نزهة المساء
أجوبُ الجادّة المقفرة حتى المحطّة
حيث تنتظرُ عربةٌ مربوطة إلى حصان أبيض
ولكن ما مِن سائق
لا أحدَ في الساحة
كانت المحطة مطفأة الأنوار
في الصمت تساءلتُ
إذا ما كان القطار السريع سيتوقّف عند الساعة التاسعة
مثل كلّ مساء.
وحلمتُ بالفراديس
كنتُ أغمض عينيّ وأراها تمرّ
العربةَ التي تجرّها البجعات
التقيتُ
الفيلَ والحلزون
سربروس والسنطور
أبو منجل والتمساح
والعصفور الطنّان
تحت السماء فيروزيةِ اللون
ولا شوكَ للورد الطالع
في تلك البلدةِ الصغيرة على حدود بعيدة
وصلتُ إلى أقاصي نفسي
عشتُ حياتي
ما عاد الماضي يؤرّقني
والمستقبل بدرجةٍ أقلّ
فيما مضى
كنتُ تلميذاً كسولاً جداً
طفلاً عنيداً وشقيّاً
يحلمُ بالفردوس
شارع النخلات العريض
مشاجب للملائكة
تساءلتُ عمَّ سترعى الدوابّ
الفراولة البرّية أم الخلنج الرماديّ
وعدَدْتُ على طول الشارع
اثني عشر غصناً من زنابق الوادي
اثنتي عشرة أقحوانة ذهبية
موعدك على شاطئ البحيرة
عند شروقِ الشمس
لتلاقي الذين فقدتَهم
على الطاولات المجاورة لطاولتي في المقهى
كان زبائن يلعبون الورق والشطرنج
وأنا لا ألعب شيئاً
لو كنتُ أدري كم ستطولُ
الليالي والنهارات في المستقبل البعيد
لكنتُ قد تعلّمتُ هذه الألعاب الجماعية
تزجيةً للوقت
حلمتُ بالفراديس
وشوشني صوتٌ في أذني
انظرْ هناك
القصر والشلال
إذا اجتزتَ المرج
سمعتَ
الموسيقى الصامتة
وفهمتَ أنّ عرائسَ الماء
أجملُ
حين يسكُتْنَ
في أقصى البلدة وراء الثكنات
في شارعٍ يتضوّع بجَنْبة الرباط
كان دكّان العاديّات للسيد جورج كاراغوسلو
لا يفتح إلا الثلاثاء والخميس
بين الثالثة والخامسة عصراً
لطالما تردّدتُ عليه
ظاناً أنّ زبائن السيد كاراغوسلو، ما عداي، قليلون
متوغّلاً في الدكّان اكتشفتُ
ثماني وعشرين لوحة منمنمة
سمواتُها ومروجها حنونةُ الألوان
حيث حيواناتٌ طليقة تعدو
تفرّجتُ عليها الواحدة بعد الأخرى
محملقاً أكادُ أدخلُ كلَّ لوحة
دون أن أدري إذا ما كنتُ سأعود مرة أخرى
إلى ما ينبغي تسميته
الحياة الواقعية
لكنها، بالنسبة إليّ، لم تكُنْ واقعية أبداً
هذه ثمانٍ وعشرون صورة للفردوس
قال لي بائع العاديّات
باعها مسافرٌ
مرَّ ببلدتنا ذات يوم
قبل عبور الحدود
رسَمَتْها منذ زمن طويل
امرأةٌ توقيعُها “عقلة الإصبع”
لم أقلْ شيئاً
إذ روى لي قصّتي أنا
عقلة الإصبع
كنتُ أعرفها جيداً
فأوشكتُ أبكي
متهدّجَ الصوت
قلتُ له
سأشتري منكم لوحاتكم
ولمّا خرجتُ من المتجر
نازلاً شارع جَنْبة الرّباط
متأبّطاً فراديسي
فكّرتُ أنّ الذكرياتِ ليست للبيع
علّقتُها إلى جدران غرفتي في “الدبّ الذهبي”
كنّا على مشارف الخريف
عندما تتقاصر النهارات
لكنّ النظر إلى الفراديس الثمانية والعشرين
كان كافياً ليدخلَ إلى الغرفة
عبر شقوق المصاريع
ضوءُ أصيافٍ مضَتْ
في زمانٍ آخر
حياة أخرى
كنتُ في باريس
في زقاق دُواينِهْ المسدود
في المرسم عند المساء
نقيم الحفلات والعشاءات
وندعو مُلهِماتنِا والفتيانَ الجمهوريّين
كنا نرقص حتى الفجر
تهدهدنا
أرجوحةُ “سارة الشقراء”
كانت النافذة الكبيرة مطلّة على مضمار الخيل وإسطبلات الملك
وعلى ساعة البرج التي كانت تشير دوماً إلى الساعة نفسها
ساعة الشباب والظهيرات الأبدية
آناء النهار
كانت عقلة الإصبع ترسم فراديسها
وأنا
بجوارها
كتبتُ قصيدة.
*
ملاحظات حول “28 فردوساً”
ثمة تعديلان صغيران. أولهما، في السطر الثاني من القصيدة اكتفيتُ بـ “على حدود بعيدة جهة الشرق”، بدلاً من “على حدود بعيدة جهة الشرق بل أبعد بكثير”؛ والثاني تعريبُ اسم النزل l’Ours d’Or . اعتمدت توزيع الفقرات المعتمد في الطبعة الفنية للكتاب الصغير.
كان حيّ دُواينِهْ (أي العمادة، حرفياً) يقع في قلب باريس القديمة، بجانب اللوفر، مشرفاً على حديقة التويلري. كان رومانسيّو “فرنسا الشابّة” يلتقون في “فندق دُواينِهْ”، وهو شقة واسعة من تسع غرف، نزلاؤها وروّادها العديد من كتاب الرومانسية الفرنسية وفنّانيها (تحديداً الشقّ الجمهوري منها، لأن الشقّ الأرستقراطي كان في وادٍ آخر). دارت حياة رخيّة في تلك الشقّة، عامرة بالولائم والحفلات. استعرض جيرار دو نرفال جوانب من تلك الحياة في عمله “قصور بوهيميا الصغرى” 1853 (أعتمد هنا ترجمة صلاح الدين المنجّد للعنوان، أثناء مراجعته كتاب دو نرفال في مجلة “الرسالة”). تنطوي قصيدة موديانو، الحالمة المشوّشة للأزمنة، على إحالات عديدة إلى “الرومانسيين الصغار” في باريس، منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى منتصفه:
-أغنية “سارة الشقراء” (1846) التي ألّف ألحانها للبيانو جاك أوفنباك في شبابه؛
إضافة إلى مصطلحات درجت وقتذاك بالفرنسية، مثل:
– cydalise: المرجّح أنه لقب فتاة كانت تتردّد على هذا الحي البوهيمي الذي اختفى من الوجود بعد إصلاحات أوسمان المعمارية، ثم بات يطلَق على ملهمات الرسّامين والكتّاب حتى طواه الزمن؛
-“الجمهوريون الفتيان”: هم الشبّان البوهيميون الذين أتى على ذكرهم شارل بودلير وتيوفيل غوتييه، ولم تدُمْ حركتهم أكثر من سنة واحدة.