سمر عبد الجابر - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/8rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 21:57:08 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png سمر عبد الجابر - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/8rommanmag-com 32 32 تعويذة https://rommanmag.com/archives/21289 Sat, 12 Aug 2023 07:17:56 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d8%b9%d9%88%d9%8a%d8%b0%d8%a9/ (من همام وإليه)   أغنية تتكرر ثلاث مرات  مثل تعويذة تفتح باب الصدمات على مصراعيه: الوقت يمضي ولا يمضي  ويمرّ مئتا عام وأنا في مكاني وكل شيء يتكرر   الموت الآتي من ذكرى حدثت منذ عشرة أعوام  يعود حيّاً طازجاً يعيد إلى قلبي نحيباً كنت أظنني شفيت منه   أبحث عن الميت في الرسائل من […]

The post تعويذة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
(من همام وإليه)

 

أغنية تتكرر

ثلاث مرات 

مثل تعويذة

تفتح باب الصدمات

على مصراعيه:

الوقت يمضي ولا يمضي 

ويمرّ مئتا عام

وأنا في مكاني

وكل شيء يتكرر

 

الموت الآتي من ذكرى حدثت

منذ عشرة أعوام 

يعود حيّاً طازجاً

يعيد إلى قلبي نحيباً

كنت أظنني شفيت منه

 

أبحث عن الميت

في الرسائل

من دون جدوى

أكلم أخي وأمي 

فأجدهما حيّين

 

أقول إذن

لا بد أن الذي مات أنا

لكن كيف أتأكد؟ 

 

أصنع القهوة

أشربها 

فتنقص 

فأتأكد أني موجود حقاً

 

فجأة يعود كل شيء:

كيف نجوت من القناص

وأنا أعبر الشارع 

 

كيف كان القصف 

طوال الليل عادياً

حتى إني لما زرت مدينة أخرى

عجزت عن النوم من دونه

كأنه موسيقاي المفضلة

 

عشرة أعوام

وها أنا في مدينة بعيدة

أتنقل على الدراجة 

بين الحقول الخضراء

ظانّاً أن كل شيء على ما يرام

 

بينما في اللاوعي

جنازة طويلة طويلة

ما زالت تسير.

The post تعويذة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الذكرى الثالثة https://rommanmag.com/archives/20937 Mon, 18 Jul 2022 09:08:27 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%83%d8%b1%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a9/ بقيت على قيد الحياة مصادفة فقط لا غير. فلست أهم من جنينٍ يولد ميتاً، ولا من شابٍ يغرق وهو يقطع المسافة بين بلاده والحرية. لست أهم من عائلةٍ ماتت كاملة في قصف، أو فتاة ذبحت أمام بوابة جامعتها. لست أهم من قطةٍ دهستها سيارة، أو شجرةٍ اقتلعتها الرياح، أو نبتةٍ ماتت لأن مياهاً لم تصلها. […]

The post في الذكرى الثالثة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
بقيت على قيد الحياة مصادفة فقط لا غير. فلست أهم من جنينٍ يولد ميتاً، ولا من شابٍ يغرق وهو يقطع المسافة بين بلاده والحرية. لست أهم من عائلةٍ ماتت كاملة في قصف، أو فتاة ذبحت أمام بوابة جامعتها. لست أهم من قطةٍ دهستها سيارة، أو شجرةٍ اقتلعتها الرياح، أو نبتةٍ ماتت لأن مياهاً لم تصلها.

بقيت على قيد الحياة مصادفة بعد حادث السير، لكني قرّرت أن أصنع من العبث معنىً وأن أتوهم أن للحياة – حياتي- خطة ما. خسرت فقرة في ظهري فتعلمت أن أشكر باقي الفقرات على بقائها. فقدت المشي لبعض الوقت فقررت أن أحتفل كلّما مشيت. تعلمت أن الامتنان سر الحياة. به نعبرها بهدوء أكثر وندرك سلام النفس. فلا معنى لحدثٍ إلا ما نصنع منه. والامتنان هو أن نجد الضوء في كل عتمة، والحكمة في كل ألمٍ، إذ نختار القصة التي نخبرها لأنفسنا عن أي شيء. 

تعلمت التأمل فأصبحت أرى عقلي بوضوح وأكشف ألاعيبه التي لا تنتهي، فلا أصدق كل ما يقول، ولا أتبع أوامره من دون نقاش. تعلمت أن أرى قلبي بوضوح كذلك، فلا أصغي لرغباته العمياء. أدركت الفرق بين الحب المحيي والحب المميت. وقررت اختيار الحبّ الذي يستحق الألم الذي لا بدّ سيأتي فيما بعد. صرت آخذ أنفاساً عميقة لأدع الأشياء -كل الأشياء- تمرّ، إذ أدركت أن كل شيء مؤقت، فرحاً كان أم حزناً. تعلمت مراقبة أفكاري ومشاعري بحياد كأنها ليست لي. كأنها محض أوراق أشجار تعبر أمامي في نهر. وأن أتقبل ندمي منقبة في الحياة عن علاج له، وأن أتألم حين يأتي الألم، مصغية لا طاردة له. وأدركت أن الموت يدقّ الحبّ بالمسامير على جدار القلب إلى الأبد، فلا بدّ من نزيفٍ كلما عادت ذكرى حتّى وإن رافقها الابتسام، ولا بدّ من بكاءٍ مفاجئٍ في الرابعة فجراً إذ يشنّ الشوق هجوماً مفاجئاً على الروح، فلا حبّ بلا فقد، ولا فقد بلا حزن، ولا حياة بلا موت، ولا موت بلا حياة.

أصبحت أحبّ الموسيقى أكثر، وأنصت إليها من دون أن يعلو صوت عقلي عليها، وأحبّ الكتب أكثر إذ أدرك المعجزة في أن أشعر بالانتماء لقصيدة كتبت منذ مئة عام، وأعشق السينما بسحرها تعيدني بالزمن إلى الستينيات لأشهد حياةً لم أكن فيها، أو تأخذني مئة عام إلى المستقبل لأتخيل حياةً لن أكون فيها.

بقيت على قيد الحياة مصادفة، ومصادفة استعدت ذهولي بالحياة، لكني أدرك كل يوم هشاشة قلبي الذي ما زال ينبض مصادفة، والذي قد يتوقف في أي لحظة عن النبض، ببساطةٍ مثلما، بسببٍ أو بلا سببٍ، تموت نملةٌ في الأرض أو نجمةٌ في السماء. 

 

The post في الذكرى الثالثة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كل شيء سيكون على ما يرام https://rommanmag.com/archives/20512 Thu, 03 Jun 2021 19:17:16 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%83%d9%84-%d8%b4%d9%8a%d8%a1-%d8%b3%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d9%85/  يغني بوب مارلي: لا تقلقي من أي شيء، لأن كل شيء سيكون على ما يرام. إلا أن عقلي يذكرني طيلة الوقت أن كل شيء زائل. أجلس على شرفة تطل على واد أخضر، وأفكر بالأشجار. هل تقلقها أفكار عن عاصفة هوجاء في الشتاء أو حريق محتمل في الصيف؟ أم أنها تعيش في اللحظة بلا جهد، من […]

The post كل شيء سيكون على ما يرام appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
 يغني بوب مارلي: لا تقلقي من أي شيء، لأن كل شيء سيكون على ما يرام. إلا أن عقلي يذكرني طيلة الوقت أن كل شيء زائل.

أجلس على شرفة تطل على واد أخضر، وأفكر بالأشجار. هل تقلقها أفكار عن عاصفة هوجاء في الشتاء أو حريق محتمل في الصيف؟ أم أنها تعيش في اللحظة بلا جهد، من دون الحاجة إلى تعاليم بوذا أو الفلسفة الرواقية.

هل تحسب سنين عمرها، فتلتفت بقلق الى ورقة تغيّر لونها أو جذع آخذ بالتشقق؟

أطفئ الموسيقى وأنصت الى أوركسترا العصافير والزيز بينما هواء خفيف يعزف على أوراق الاشجار لحناً لم أسمعه منذ وقت طويل.

الذباب والناموس يخرّبان المشهد، وصوت عقلي يقاطعني بفكرة حزينة من حينٍ إلى آخر، بينما أتأمل امتداد اللون الأخضر في الوادي.

ألمح أكواز الصنوبر وأفكر أنها بلا شك لا تمضي الوقت بإطلاق الأحكام على نفسها، ولا تؤرقها أفكار النهار ليلاً. لا بدّ أنها، وهي معلّقة في الهواء، تستمتع الآن بشعاع الشمس ولا تأبه بالماضي أو المستقبل.

أجلس على شرفة معلقة في الهواء وأفكر بالماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ معاً.

أصوات كلاب بعيدة تقتحم المشهد. العصافير تزقزق من دون ملل، ولا تشكو من تعبٍ. ديكٌ بعيدٌ يصيح من وقتٍ الى آخر. كلٌّ ينفّذ دوره من دون تذمّرٍ. أتأمل الشمس تضفي على العالم ألوانه فأفكر أنها تستحقّ العبادة.

الذبابة تتجول على طرف فنجان القهوة مرتين. تقف ثوانيَ ثم تطير. أفكر أن بعض أفكارنا كالذباب. علينا فقط أن نراقبها مهما أطالت جولتها، حتى نراها تحلّق بعيداً. كثيراً ما نقع في فخها، فنلاحقها من حائط الى حائط، بينما علينا فقط أن نتأملها تمرّ عبر شرفتنا وتمضي.

يغني بوب مارلي في رأسي: “لا تقلقي من أي شيء، لأن كل شيء سيكون على ما يرام”. الكلاب هدأت. أجلس على الشرفة، بينما هواءٌ خفيفٌ يعبر والعصافير تغنّي والسماء تصفو والأشجار تتنفّس. أجلس بعيداً عن جفاف المدينة وضوضاء اللاطبيعة. أنصت الى صوت الكمال في الكون، بينما تتقلّص همومي مؤقتاً إلى ناموسةٍ تسعى بدأبٍ للوصول إلى دمي.

عقلي لا يهدأ لكنه يكفّ عن تعذيبي مؤقتاً. لوهلةٍ، أصدّق بوب مارلي فيما يقول.

 

The post كل شيء سيكون على ما يرام appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
بعد عام https://rommanmag.com/archives/20152 Fri, 17 Jul 2020 13:58:23 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%b9%d8%a7%d9%85/ لا أتذكّر لحظة الارتطام لكنّي أتذكّر صوتي يصرخ من ألمٍ شاسعٍ  في أسفل الظّهر ويدي اليمنى تتحرّك طلباً للنجدة رغم كسورها   رجلٌ غريبٌ  يفتح باب السيارة ويسألني إن كنت على ما يرام   دمٌ يسيل من وجهي وصوتي يصرخ  مستقلّاً  كأنّه ليس لي   في الإسعاف  أفكّر: ما الّذي كنت أفعله طيلة هذه الحياة؟ […]

The post بعد عام appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لا أتذكّر لحظة الارتطام

لكنّي أتذكّر صوتي يصرخ

من ألمٍ شاسعٍ 

في أسفل الظّهر

ويدي اليمنى تتحرّك طلباً للنجدة

رغم كسورها

 

رجلٌ غريبٌ 

يفتح باب السيارة

ويسألني إن كنت على ما يرام

 

دمٌ يسيل من وجهي

وصوتي يصرخ 

مستقلّاً 

كأنّه ليس لي

 

في الإسعاف 

أفكّر:

ما الّذي كنت أفعله

طيلة هذه الحياة؟

 

في المستشفى

المورفين يجعلني أضحك

كأني ذاهبة في نزهةٍ

إلى غرفة العمليّات

 

صوت أمّي

يطمئنني 

ويدها تحلّ مكان يدي

تطعمني كأنّي عدت

ثلاثين عاماً إلى الوراء

 

كلّ المشاكل 

تختفي

ويصبح لديّ حلمٌ واحدٌ:

أن يعود جسدي 

كما كان

 

يدي اليسرى

تلومني على إهمالي لها 

حياةً كاملة

 

ظهري يعاتبني

على عمرٍ أمضاه

على الكرسيّ والكنبة

 

أقسم أنّي، لو نجوت، 

سأركض 

وأرقص

وأعيش كما لم أفعل من قبل

 

يزورني أبي

عشرة أيّامٍ

فأشكر الكون،

فيما بعد،

على حادث السّير

 

تتركني أمّي 

وتذهب لإطعام أبي

على سرير مستشفىً آخر

 

لا أفهم معنى

أن أستعيد جسدي

بينما يفقد أبي جسده

 

أؤمن بالطاقة تارةً

وبالعشوائية تارةً أخرى

 

يمضي عامٌ

وأنا أعتني بجسدي

كأنّه طفلي الوحيد

 

أتعلّم ألّا أقول “حتماً”

بل أقول “ربّما” أكثر

 

وأذكّر نفسي

كلّ يومٍ

أن أختار أحزاني 

بعنايةٍ شديدة.

The post بعد عام appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قصيدتان للشاعر الكندي ألدن نولان (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/20085 Wed, 27 May 2020 08:05:16 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b5%d9%8a%d8%af%d8%aa%d8%a7%d9%86-%d9%84%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%b9%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%86%d8%af%d9%8a-%d8%a3%d9%84%d8%af%d9%86-%d9%86%d9%88%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85/ قصيدة عن المعجزات    لماذا لا تفرغ التسجيلات في اللحظة التي يموت فيها المغنّي؟ أعرف أن ثمّة تفسيرات لكنّها لا تقنعني ما زلت أتفاجأ حين أسمع الموتى يغنّون أمّا بالنسبة للأوركسترا أتوقّع أن تقع الآلات صامتةً واحدةً تلو الأخرى بينما يستسلم الموسيقيّون للسرطان وأمراض القلب وهكذا في النّهاية أشغّل أسطوانة بعنوان  *Götterdämmerung فلا يصدر منها  […]

The post قصيدتان للشاعر الكندي ألدن نولان (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قصيدة عن المعجزات 

 

لماذا لا تفرغ التسجيلات

في اللحظة التي يموت فيها المغنّي؟

أعرف أن ثمّة تفسيرات

لكنّها لا تقنعني

ما زلت أتفاجأ

حين أسمع الموتى يغنّون

أمّا بالنسبة للأوركسترا

أتوقّع أن تقع الآلات صامتةً

واحدةً تلو الأخرى

بينما يستسلم الموسيقيّون

للسرطان وأمراض القلب

وهكذا في النّهاية

أشغّل أسطوانة بعنوان 

*Götterdämmerung

فلا يصدر منها 

سوى صوت رجلٍ عجوز مريض

يحفّ قوساً مرتجفاً

على كمانٍ غير متناغم. 

 

*أوبرا للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد واجنر (1813 – 1883)

 

من الجيّد أن أكون هنا 

 

إنّني في ورطة، قالت له

كانت تلك المرة الأولى

في التّاريخ 

التي يتحدّث فيها أحدٌ عنّي

 

كان ذلك عام 1932 

عندما كان عمرها أربعة عشر عاماً فقط

وقد كان أمثاله من الرّجال

يعملون طيلة اليوم

من أجل دولارٍ قذر

 

قالت له: هناك “كويناين”*

ذلك هراء، قال

 

ثمّ بكت

ولوقتٍ طويل 

لم يقل أحدهما شيئاً على الإطلاق

ثمّ أخذت أصواتهما تعلو

حتّى أصبحا يصرخان على بعضهما البعض

وتلا ذلك صمتٌ آخرٌ طويل

ثمّ بدآ يتحدّثان بهدوءٍ شديد

وأخيراً قال لها: 

أظنّ أنّه علينا فقط 

أن نحاول ما في وسعنا

 

بينما كنتُ مستلقياً،

بقلبٍ نابضٍ،

في العتمة داخلها.
 

*كويناين: دواء يستخدم لعلاج المالاريا، كان يقال أنّه يؤدّي للإجهاض.

The post قصيدتان للشاعر الكندي ألدن نولان (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
بحرٌ في حبّ أبي https://rommanmag.com/archives/20053 Tue, 28 Apr 2020 11:39:11 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a8%d8%ad%d8%b1%d9%8c-%d9%81%d9%8a-%d8%ad%d8%a8%d9%91-%d8%a3%d8%a8%d9%8a/ كان أبي يحبّ الكتب منذ صغره. في بيتنا، منذ ولدت، مكتبةٌ فيها موسوعة علمية وموسوعة قصصٍ عالمية وأخرى طبية وكتب أدبية كثيرة. أثناء حديثنا عن الموسوعات في بداية تشرين الأول الفائت، قال لي: “جبت مجموعة جبران الكاملة قبل كم سنة..” وصمت قليلاً ثمّ قال: “بس الواحد ما عنده وقت للقراءة بين الشغل وهموم الحياة.” فقلت […]

The post بحرٌ في حبّ أبي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كان أبي يحبّ الكتب منذ صغره. في بيتنا، منذ ولدت، مكتبةٌ فيها موسوعة علمية وموسوعة قصصٍ عالمية وأخرى طبية وكتب أدبية كثيرة.

أثناء حديثنا عن الموسوعات في بداية تشرين الأول الفائت، قال لي: “جبت مجموعة جبران الكاملة قبل كم سنة..” وصمت قليلاً ثمّ قال: “بس الواحد ما عنده وقت للقراءة بين الشغل وهموم الحياة.” فقلت له أنّه، بعد التقاعد، سيمتلك وقتاً كافياً لذلك. فأخذ نفساً عميقاً وقال: “شو بعرّفني.. انشالله الواحد يضلّ..”.

بعد هذا الحديث بثلاثة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، مات أبي بالسرطان. لم يتسنّ له الوقت ليتقاعد. ظلّ، حتى اليوم الأخير، يهتم بشؤون العمل عبر الهاتف وهو على سرير المستشفى. ولم يقرأ شيئاً من الكتب التي ما زالت في المكتبة تنتظر.

الصورة أعلاه أخذت له على بحر صور، حيث أمضى طفولته وشبابه قبل أن يسافر إلى الخليج ويستقر بعدها بسنوات في قرية في جبل لبنان.

كان، أيام المدرسة والجامعة، يأخذ كتبه وقت الفجر إلى البحر، ويدرس ذهاباً وإياباً حتى طلوع الصّباح. أتذكّر صوته وهو يخبرني ذلك كلّما مررنا إلى جانب البحر في صور، شارحاً كيف كان الشاطئ أوسع حينها، قبل أن يردموا بعضاً منه ليصنعوا طريقاً للسيارات.

في زيارتنا الأخيرة لصور قبل عام أو أكثر، أراني بيت العائلة القديم، والطريق المؤدي سيراً من هناك إلى البحر، وفي صوته نشوةٌ وحنينٌ يتكرّران كلّما تذكّر تلك الأيّام.

مات أبي في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة أشهر، ولم يتسنّ له الوقت ليودّع بحر صور أو ليخبرني تلك القصة مرّةً أخيرة.

كان أبي محبّاً للحياة، قليل الكلام، خفيف الظلّ، سهل التعامل، مليئاً بالحبّ. كان يروي القصص والنكات والحزازير في الجلسات العائليّة، فيضحك ويضحكنا جميعاً.

كان يساعد في أعمال البيت. يحضّر الفطور أيام العطلة. يصنع السندويشات لنا جميعاً وقت العشاء. يقطع الفواكه لجميع الجالسين. يغلّف بحرصٍ طعاماً طبخته أمي لتضعه في حقيبتي قبل السفر.

في زياراتي إلى بيروت، كان يصرّ أن يأتي إلى المطار ليستقبلني بنفسه. ويتوقف على الطريق ليأتي لي بشيءٍ أشربه. ويحرص أن يظلّ في الثلاجة نوع البوظة التي أحبّها. ويذكّرني، حين أسافر، بمواعيد مباريات كرة القدم كي لا تفوتني.

كان أبي يدلّك كتفي أمي حين يتفاقم ألمها. ويسأل عنها اذا غابت قليلاً في الغرفة المجاورة. “وين امّك؟ شو بتعمل؟ مطولة؟”. كان يحبّها حبّاً صافياً سلساً خفيفاً.. وهي مكرّسةٌ نفسها لتصنع ما يحبّ. السعادة بالنسبة إليهما أن يجلسا معاً في غرفة الجلوس في مساءٍ عاديّ يشاهدان الأخبار ثم مسلسلاً ويعلّقان على أحداثه.

لم يتشاجر أبي وأمي مطلقاً. ولو حدث وقال أحدهما ما يزعج الآخر، يتحدثان عن الأمر بهدوء، أو يعبّران عن غضبهما مباشرةً، لتعود الحياة الى طبيعتها بعد وقتٍ قصير.

حين مرض أبي، كانت أمي تلبسه وتطعمه وتهتم بكل تفاصيله في كلّ لحظةٍ من اليوم. وتنام على كرسيّ في المستشفى لكي لا تتركه لحظةً واحدة.

في اليوم الأخير قبل أن يفقد وعيه، ولم يكن قادراً على الكلام، قبّلها عشرات المرات وشدّ على يديها كأنّه يقول لها شكراً على كل شيء.

مات أبي وهو ما يزال راغباً في الحياة. لم يعطه الموت وقتاً ليرتاح من سنوات العمل المتواصلة. مات وفي عينيه أملٌ بأن يشفى بمعجزةٍ ما.

وها أنا الآن هنا، عاجزة عن السفر لأحضن أمّي، أحاول أن أجد ضوءاً أنهي فيه نصّي هذا، لكنّي حزينةٌ بحقّ، وليس عندي رغبةٌ في تجميل ذلك.

The post بحرٌ في حبّ أبي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قيلولة، وقصائد أخرى https://rommanmag.com/archives/19997 Fri, 13 Mar 2020 11:17:08 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d9%8a%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a9%d8%8c-%d9%88%d9%82%d8%b5%d8%a7%d8%a6%d8%af-%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d9%89/ ضجيج   تضجّ في رأسي الأشياء الّتي لم أقلها لك   *   أغمض عينيّ وأصنع حديثاً وهميّاً بيننا   *   أصنع ذكريات جديدة وأصدّقها   *   هل أنت أيضاً تفعل ذلك في القبر يا أبي؟   من بعدك   من بعدك تحزنني الموسيقى كلّها والأخبار كلّها والشوارع والمدن والحارات والبحر يحزنني والشعر […]

The post قيلولة، وقصائد أخرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ضجيج

 

تضجّ في رأسي

الأشياء الّتي لم أقلها لك

 

*

 

أغمض عينيّ

وأصنع حديثاً وهميّاً

بيننا

 

*

 

أصنع ذكريات جديدة

وأصدّقها

 

*

 

هل أنت أيضاً

تفعل ذلك

في القبر

يا أبي؟

 

من بعدك

 

من بعدك

تحزنني الموسيقى كلّها

والأخبار كلّها

والشوارع

والمدن

والحارات

والبحر يحزنني

والشعر يحزنني

والقصص والرسائل والمذكّرات

وصوت أمّي حزيناً

على الهاتف

وأنا أعجز عن سؤالها:

كيفو بابا اليوم؟

 

الفراغ

 

كنبتك

سريرك

كرسيّ طاولة المائدة

مقعدك في السيّارة

 

الأماكن تفرغ منك

لكنّك

في قلبي

تكبر.

 

قيلولة

 

كنت أفتح باب الغرفة بحذرٍ

أمشي على أطراف أصابعي

أصل إلى خدّك وأقبّله

فتفتح عينيك وتسألني:

كم السّاعة الآن؟

 

السّاعة الآن السّادسة مساءً

فلتستيقظ، رجاءً،

من هذا النوم الطويل.

 

عن الموتى

– محاولة ثالثة –

 

هل يدرك الموتى

أنّهم موتى

كما يدرك الأحياء

أنّهم أحياء؟

 

هل يمضون أعوامهم الجديدة

في البحث عن تفسير الموت

بقدر ما نحاول تفسير الحياة؟

 

هل يدرك الموتى

أنّنا أحياء؟

يتجوّلون بيننا

غير مرئيّين؟

ويتكلّمون بصوتٍ

غير مسموع؟

 

هل يرسلون إلينا الإشارات حقّاً

كما نودّ أن نصدّق؟

أم إنّهم يبدؤون حيوات جديدة

غير آبهين بنا؟

 

ما الّذي يفعله الموتى الآن؟

هل يشعرون

أنّنا نفكّر بهم؟

 

هل يصنع الموتى الموسيقى؟

هل هم أيضاً

يكتبون الشّعر؟

 

هل يكتبون يوميّاتهم؟

هل يتحدّثون؟

 

هل هم الآن في السّماء

يمارسون التأمّل واليوغا

ولا يأبهون بما يحدث

على سطح الأرض؟

 

ثمار

 

ببساطة وقوع الثمار

من الأشجار،

يموت البشر:

الكون يقطفنا

واحداً واحداً

حين يشاء

 

ورغم أنّنا ندرك

حتميّة ذلك

نخاف ونغضب ونقاوم

ورغم أنّنا نعرف

أن لا مهرب

لا نكفّ عن التفكير بالهروب

 

غير أنّ التفاحة مثلاً

تعيش في سلامٍ تام

تلمع في الشمس

غير آبهةٍ

بتاتاً

بمصيرها.

The post قيلولة، وقصائد أخرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عالمٌ خاص https://rommanmag.com/archives/18915 Fri, 22 Sep 2017 06:30:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8c-%d8%ae%d8%a7%d8%b5/ لا أعرف كيف ترى أنت عالمك الخاص داخل نفسك. هل كما أرى عالمي الخاص؟ لا أعرف، هل تستطيع بسهولةٍ تحديد أسماء لمشاعرك، أم أنّك مثلي، تتلعثم أمام  كلّ ذلك الدّفق من الأحاسيس؟  لكن فلنحاول العودة إلى البداية. كيف يبدأ كلّ ذلك؟ ربّما هي نقطةٌ واحدة (كلمة واحدة، موقف واحد، صدفة واحدة…) تبدأ في الخارج (خارج […]

The post عالمٌ خاص appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لا أعرف كيف ترى أنت عالمك الخاص داخل نفسك. هل كما أرى عالمي الخاص؟ لا أعرف، هل تستطيع بسهولةٍ تحديد أسماء لمشاعرك، أم أنّك مثلي، تتلعثم أمام  كلّ ذلك الدّفق من الأحاسيس؟ 

لكن فلنحاول العودة إلى البداية. كيف يبدأ كلّ ذلك؟ ربّما هي نقطةٌ واحدة (كلمة واحدة، موقف واحد، صدفة واحدة…) تبدأ في الخارج (خارج الجسد) ثمّ تتسرب نحو الرّأس نحو داخل الدّاخل حيث تتكاثر، وتتخبّط كموجٍ كان محبوساً، إلى أن تطفو على الجسد: ألمٌ مفاجئٌ في الكتف، صداعٌ حادّ، نغزة خفيفةٌ في القلب. لكنّها لا تتوقّف هناك. تعود مرّة أخرى إلى الداخل، أقوى وأعنف. ثمّ تطفو مرّة جديدةً ألماً أقوى. 

بالأمس ذهبت إلى المستشفى. قال الطبيب أنّ كل شيء على ما يرام. والقلب كذلك؟ سألته. بدا لي أنّه أطلق ضحكةً ساخرة: لا دخل للقلب، قال. 

كيف “لا دخل للقلب”؟ لماذا إذن أشعر أنّه على وشك التوقّف؟ بالأمس، أردت أن تخترق يدي صدري لأتفقّده. لأهتمّ به. لأحافظ عليه. ذهبت إلى المستشفى وهو يئنّ وأنا أئنّ. وخفت أن يخذلني فجأةً. في رأسي، كتبت ألف وصيّة، وخفت أن أرسلها لأحد. وخفت أن لا أرسلها لأحد. 

*

كيف ترى عالمك الخاص؟ هل تضيع فيه كما أضيع في عالمي؟ هل تمضي ثوانيَ ودقائق وساعات وأسابيع محاولاً أن تعرف ما الّذي يزعجك بالتحديد؟ ما هو المصدر لكآبةٍ ما إن تبدأ حتّى تشعر أنّها كانت هناك طيلة الوقت.. كأنّها لم تغادر أصلاً. كآبةً مألوفةً لدرجةٍ مزعجة، بحيث يصبح غيابها، لبضع ساعات، أو أيّام في أحسن الأحوال، مستغرَباً. كآبةٌ دائريّةٌ كبلّورةٍ سحريّة أحدّق فيها طويلاً ولا أتقن قراءتها.

هل تشعر، مثلي، أنّك تمضي حياتك في تفكيك عمليّة حسابية لا حلّ لها أصلاً؟ هل تشعر أنّك تحاول أن تستوعب الحياة، أن تفهمها، أن تدرك زواريبها، فتنسى أن تعيش؟ ولا تعرف كيف تقلع عن ذلك كلّه. هل تلازمك رغبةٌ بالعودة إلى بداية البدء. إلى ما قبل الخلق. ما قبل الوجود. ما قبل اللّه. حيث السّكون المطلق؟

*

هل يفيد؟ أن أسكب كلّ ذلك على ورقٍ ثمّ أرسله إليك. أم أنّك ستستشعر كآبةً في كلماتي تجعلك أكثر قلقاً، فتجعلني أكثر كآبةً، فأسكبها على ورقٍ آخر وأرسله إليك.. هل يفيد أن نعيد ذلك كلّه؟ مرّة تلو الأخرى؟ كأنّي عالقةٌ في حفرةٍ. أنت تشدّني إليك لترفعني، فأشدّك إليّ فأسقطك. فتقوم فترفعني فأشدّك فأسقطك. هكذا ندور حول بعضنا، كقصيدةٍ فراهيديّةٍ تكرّر ذات الشّطر في كلّ أبياتها، كشاعرٍ يبحث فيها عن بيت البداية والنهاية.

* 

هل تتملّكك الآن، مثلي، 
رغبة بالاستلقاء
تحت شمسٍ خفيفةٍ 
يوماً كاملاً  
بينما الرّأس فارغٌ، 
لمرّة واحدة، 
من كلّ شيء؟

The post عالمٌ خاص appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: أنا تلميذ شهرزاد (2/2) https://rommanmag.com/archives/18890 Thu, 07 Sep 2017 12:10:26 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%b3-%d8%ae%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%84%d9%80-%d8%b0%d8%a7-%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%b3-%d8%b1%d9%8a%d9%81%d9%8a%d9%88-%d8%a3%d9%86%d8%a7-%d8%aa%d9%84%d9%85%d9%8a/ المقابلة المطوّلة في المجلّة الأميركية. ننشرها على قسمين

The post الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: أنا تلميذ شهرزاد (2/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هذا القسم الثاني من المقابلة التي أجرتها مجلة «ذا باريس ريفيو» مؤخراً مع الياس خوري… يمكن قراءة القسم الأول هنا
 
هل بدأت بتجميع القصص عن النكبة الفلسطينية أثناء عملك في مركز الأبحاث؟
  
لا، لكن الفكرة خطرت لي حينها. كان مدير المركز مؤرّخ يدعى أنيس الصايغ، وهو مفكّر جليل. في أحد الإجتماعات التحريرية الأولى، جمعنا الصّايغ كلّنا معاً وطلب منّا أن نقدّم له اقتراحات لمشاريع من الممكن أن يعمل عليها المركز في المستقبل. كنت شابّاً وجديداً فلم يكن لديّ ما أقوله. لكن في نهاية الإجتماع التفت إليّ الصّايغ وسألني عن رأيي. قلت أنّي أعتقد أنّ هناك فراغ كبير في التاريخ الفلسطيني: قصّة ما حدث عام 1948. الفلسطينيون لم يكتبوا عنه شيئاً حقّاً. اقترحت أن نجمع فريقاً ونذهب إلى المخيّمات ونسجّل قصصها.
 
كنت مازلت تفكر بأطروحتك عن حرب الدروز والموارنة؟

نعم. هنا أيضاً تواجد تاريخ كامل لم يكتب. صايغ استمع إلى فكرتي بطريقة مهذبة جدّاً وسألني ما الّذي سنفعله بكل تلك القصص. قلت أنّها ستشكّل أرشيفاً مهمّاً. ثمّ قلت يمكننا أن نعطي الأرشيف لروائي مهم، يصنع منه «الحرب والسلام» الفلسطينية. قال الصايغ: أي روائي تقترح؟ قلت: أنا طبعاً. ضحك الجميع، ولم يحدث شيء. لكنّي لم أتخلّ عن الفكرة. كانت تلك هي بداية «باب الشمس». 
   
هل كنت دائماً مهتمّاً بالقصص المحكيّة؟
   
الحكايات الشعبية كانت بمثابة مقدّمة للأدب بالنسبة لي. كنت أسمعها من جدّتي، الشخص الأهم في حياتي. كانت جارتنا في الأشرفية، وكنت أزورها كل يوم تقريباً حين كنت طفلاً. كانت تطلب مني أن أقرأ لها من المزامير أو نشيد الأناشيد. كانت متدينة جدّاً لكن مثقفة جدّاً كذلك. كانت تعرف الشعر الجاهلي عن ظهر قلب. كنّا نسهر معاً ونتحدّث عن حيوات الشعراء القدماء وقصائدهم، المعلّقات. 
  
القصص التي سمعتها في المخيم كانت قصص من نوع مختلف. في «باب الشمس» يقول خليل: جدّتي كانت تروي كأنّها تمزّق الحكايات. بدل أن تجمعها تمزقها.”
  
لأنّ تلك القصص كانت صادمة. النكبة كانت صدمة عميقة عميقة للفلسطينيين. هذه قصص لم تكن قد حكيت. معظمها لم تحكَ بعد. في روايتي «مجمع الأسرار» والتي لم تتم ترجمتها للإنجليزية، هناك فصل حول المجزرة التي حدثت خلال الحرب الأهلية في فترة الـ 1860. طلبت من أحد طلابي أن يذهب إلى واحدة من قرى الشوف، جنوب بيروت، ويسأل الكبار في السن عمّا يتذكرونه. لم يتذكّروا شيئاً، طبعاً، لأنّ أجدادهم هم من قاموا بالمجزرة، وهي واحدة من الأسوأ في كلّ الحرب. عاد طالبي من بيروت ويده في حمالة كتف لأنّ أهالي القرية ضربوه وكسروها. هذه أشياء لا يمكنك التحدث عنها.
  
كيف جعلت الفلسطينيين في المخيمات يحكون لك قصصهم؟
  
بالصّبر. ذهبت إلى المخيم كل يوم تقريباً. ذهبت بنفسي، ولم أحضر أي مسجّل أو دفتر أو حتى قلم. كتبت ما سمعته لاحقاً في المنزل. من حسن الحظ أنّي استمتع بالاستماع إلى القصص. أعتقد أنّ الإستماع هو تعبير عن الحب، وأن رواية قصصك لأحدهم هو فعل كرم. الأدب يكون حيث يجتمع الإثنان. 
 
إلى أي مخيمات ذهبت؟
  
غالباً المخيمات المجاورة لصيدا وبيروت. شاتيلا، برج البراجنة، عين الحلوة.
  
وبالتالي كنت تذهب كل يوم فبدأ الناس، تدريجيّاً، بالوثوق بك؟
   
لا، ذهبت كل يوم، وكل يوم رفضوا أن يتكلّموا. لوقت طويل لم يقل أحد أيّ شيءٍ لي. هم فقط لم يكونوا قادرين، كأنّ ثمّة عائقاً مادّياً. أخيراً، أشفقت علي امرأة مسنّة كانت قد رأتني آتي يوماً بعد يوم. سألتني ماذا أريد، فقلت أنّي أكتب رواية عن 1948 وأحتاج أن أعرف الأشياء التي حدثت في القرى، كيف سقطت. كنت صادقاً حيال سبب وجودي هناك. لم أدّع أنّي كنت هناك لأبني صداقات. فبدأت بدعوة الناس إلى منزلها ليتحدثوا إلي. وقد نجح ذلك لأنّنا كنا في منزلها. كذلك قامت بإرشاد أسئلتي، اسأل هذا الشخص عن تلك القرية، واسأل هذا الشخص عن الأخرى. إن لم يأت الناس أو لم يتكلموا، كانت تقول: ألا تريدون أن تعرفوا تاريخكم الشخصي؟ لكن عدد القصص التي سمعتها واستخدمتها في الرواية كانت قليلة، لأنّ ذلك كان صعباً بالنسبة إليهم. الناس الذين تحدثت إليهم فضّلوا إعطائي النسخة الرسمية: اليهود كانوا جبناء ونحن كنّا أبطالاً. بعد كل ذلك، ماذا يمكنك أن تقول؟ أنّك هربت؟ أنّك تركت طفلاً في حقل؟ تلك القصة -قصة ناجي، في الرواية- هي واحدة من القصص التي سمعتها في المخيمات. قالت لي امرأة إنّها هربت مع عدد كبير من الأطفال، بما في ذلك طفل رضيع. كانوا في الحقول المحيطة بالقرية والرصاص يطير فوق رؤوسهم. أخيراً، لم تكن قادرة على الاستمرار، فوضعت الرضيع تحت شجرة زيتون. لاحقاً، امرأة أخرى وجدته وأعادته للامرأة التي كانت تخبرني القصة بعد ذلك بخمسين عامٍ تقريباً. لم تستطع التوقف عن البكاء.
  
هل دار حولك أي شك كونك لست فلسطينيّاً؟
  
أبداً، لأنّهم كانوا يعرفون أنّي واحدٌ منهم. في عيونهم كنت فلسطينيّاً. أمّا بالنسبة للسياسة كانت الأشياء أكثر تعقيداً. حين كنت أنتقد القيادة أثناء الوقت الذي عملت فيه في مركز الأبحاث، اتهموني بأنّي لست فلسطينيّاً. كما تعرف: لماذا يعمل معنا هذا اللبناني؟ من الواضح أنّه ليس مع الثورة. في نفس الوقت، الجيش اللبناني اعتبرني فلسطينيّاً، والمسيحيّون افترضوا أنّي مسلم، والمسلمون افترضوا أنّي مسيحي. 
   
هل تشعر بأنّك فلسطيني؟
  
أشعر أنّي كل تلك الأشياء.
  
لا بدّ أنّ ذلك صعباً، أن تشعر أنّك كل تلك الأشياء.
   
لماذا؟ أعتقد أنّه من الممكن لأيّ كان التماهي التراجيدي مع الفلسطينيين، التماهي معهم على أساس المأساة التي عاشوها. لا أعتقد أنّ الجغرافيا، بما في ذلك الحي الذي تعيش فيه، تحدد هويتك. حين كنت أقاتل مع الحركة الوطنية إلى جانب الفلسطينيين، ظن الكثير من المسيحيين أنّني لا بد أن أكون مسلماً. حسناً، أنا مسلم. كلّنا مسلمون، بمعنى أنّ العنصر الإسلامي ضروري لأيّ ثقافة عربية. لا يمكنك أن تفهم الثقافة العربية من دون أن تعرف عن الإسلام. وأنا أشعر أنّني حقّاً أنتمي إلى تلك الثقافة. لكنّني بالطبع مسيحيّ كذلك، وفقاً للأحكام السوسيولوجية. 

سأحكي لك قصة. في بداية عام 2013، احتل 250 فلسطينيّاً شابّاً أرضاً قرب القدس، كان مقرّراً بناء مستوطنة عليها. كان نوعاً من الاحتلال العكسي. القرية الإحتجاجية كانت تقع على ما يسمى “إي-1 كوريدور”، بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم الكبيرة. أطلق الفلسطينيون اسم “باب الشمس” على القرية. لم أكن أعرف أحداً من هؤلاء الشباب، الذين أخذوا اسم قريتهم من روايتي، لكني كتبت لهم أطلب منهم منحي الجنسية. القرية بقيت لمدة يومين أو ثلاثة -حتّى أنّهم انتخبوا مجلساً بلديّاً- إلى أن أتى الجيش الإسرائيلي ودمّرها. بالتالي لدي الآن قرية مهدمة في فلسطين أيضاً. 
   
ثمّة ميزة في أسلوبك الكتابي وهي استخدام التكرار: تكرار كلمات وجمل وحتّى قصص كاملة. «باب الشمس» تعود إلى سقوط قرى معيّنة عام 1948. هل اهتمامك هذا بالتكرار هو جزئيّاً نتيجة اهتمامك بالأدب الشفوي؟
   
أفكّر بالتكرار كعنصر إيقاعي. كان من المفترض أن تصدر «باب الشمس» عام 1997، لكن النشر تأجّل حتّى العام التالي. ظنّ البعض أنّها صدرت في هذا الوقت بالذات بهدف إحياء الذكرى الخمسين للنكبة، لكن في الحقيقة،  بينما كنت أعيد قراءة المسودة بصوتٍ عالٍ، وجدت أنّ الكتاب فيه أخطاء موسيقية، وخلل في الإيقاع، وقد أمضيت عاماً في محاولة تصحيح ذلك.
  
لكن التكرار يبدو كعنصر بنيوي في رواياتك. إنّه يؤثّر في الطريقة التي تفكّر بها في البدايات، والأواسط، والنهايات.
  
صحيح. في الحقيقة هذا أساسي بالنسبة للطريقة التي أفكّر فيها بالأدب. التكرار، كما يمكن أن أقول، هو طريقة للإصرار على أنّ كل قصة تحتوي على عدة قصص داخلها. القصة الواحدة ممكن أن تقال بعدة طرق طبعاً. تحاول رواياتي أن تشير إلى هذه الثروة، رغم أنّني يمكنني أن أروي عدداً محدوداً من الصّيغ فقط. بعبارة أخرى، أنا تلميذ شهرزاد، لا أحكي القصة، بل أحكي كيف تمّ سرد القصة. وهناك فرق مهم بينهما. تراث الأدب العربي بأكمله يعلّمنا كم هو مهم. كلّ النصوص الكلاسيكية تخبرنا أنّ هناك سلطة ما أو مصدر ما لكلّ قصّة سيتم سردها. هناك دائماً سلسلة من الناقلين أو المترجمين، رغم أنّ كل نسخة تختلف عن الأخرى. وفي العربية، كلمة ”رواية“ تعني أيضاً “نسخة”. على هذا الأساس، لا يوجد شيء اسمه إعادة صافية. أن تكتب نسخاً متعددة من القصة نفسها يعني أن تشير إلى أن كل قصة قابلة لأن تكون مقدمة لقصص أخرى.
   
أثناء كتابة «باب الشمس»، والتي تحوي الكثير من القصص المتشابكة و المتقاطعة، هل وضعت خطة للقصة مسبقاً؟ هل استخدمت نوع من “القصة المصورة”؟ 
  
لا. بدأت بشكل عشوائي تقريباً، بكتابة المقاطع السهلة بدايةً. جزء من سقف هنا، جزء من حائط هناك، إلى أن حصلت على الإطار العام. الإطار تم بناؤه حول خمس شخصيات أساسية -أم حسن، يونس، نهيلة، خليل، وشمس- بعد ذلك، عملت على بناء الجغرافيا، قرى الجليل، واحدة واحدة. تطلّب ذلك الكثير من القراءة: بيني موريس والمؤرخون “الإسرائيليون” الجدد، وكتاب «كل ما تبقى» لوليد الخالدي، وكتاب عارف عارف عن النكبة، وهو كتاب شديد الأهمية وليس معروفاً كما يجب. ثمّ بدأت بكتابة القصص التابعة لكل قرية.
 
يتناول العديد من كتبك قصصاً لم تروَ من قبل أو تاريخ تمّ محوه عن قصد. هل تعتقد أنّ الأدب قادر على التعويض عن التاريخ؟ هل يمكن للخيال أن يملأ فراغ الأرشيفات؟
  
لا يمكن للأدب أن يعوّض عن التاريخ، لكن يمكنه أن يشير إلى نقص ما. هو نوع من الاتهام، إذا أردت. «باب الشمس» ليست رواية لتاريخ النكبة، لكن بسبب كل التفاصيل والقصص التي فيها، تؤكّد الرواية أهمية كتابة ذلك التاريخ، من الجانب الفلسطيني. الرواية تشير إلى ما هو ناقص. «باب الشمس» ليست رواية تاريخية طبعاً، أحداثها تدور في التسعينات، وليس في عام 1948. لكن حتّى الروايات التاريخية ليست تاريخاً، بل تفسيرات معاصرة. ثمّة جيل أقدم من المثقفين، مثل قسطنطين رزق، اعتبر أن النكبة سببها تخلّف العرب. كان يظن أن العرب يجب أن يتطوّروا، وأن يعطوا ظهورهم للماضي الذي، مهما كان مجيداً، قد خذلهم. روايتي تقول شيئاً آخر. «باب الشمس» تدور حول حياة الناس اليومية والقصص التي رووها وما زالوا حول هذا الحدث. بعبارة أخرى، النكبة ما زالت تحدث. لا يمكننا كتابة تاريخها لأنّها لم تنته بعد. 
 
منذ عشرين عاماً تقريباً نشرت مقالاً في جراند ستريت حول الأدب والذاكرة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية. كتبت: “في هذه المدينة (بيروت)، التي خرّبتها الحرب بشكل ممنهج، الأدب هو المساحة الوحيدة الباقية للذاكرة”. ما هي العلاقة التي تربط الأدب بالذاكرة في لبنان؟
 
بعد الحرب الأهلية، قررت الطبقة الحاكمة في لبنان -أعني الطبقة الحاكمة في كل الطوائف- أن تمحو ذاكرتنا عن الصراع. منحوا عفواً عاماً، حتّى عن جرائم الحرب، ورفضوا التحقيق في قضايا المفقودين. سبعة عشر ألف شخص اختفوا خلال الحرب، وما زلنا لا نعرف ماذا حلّ بهم. بعد فقدان الذاكرة الإجباري هذا، أصبحت السياسة والحياة الاجتماعية أكثر طائفية من أي وقت مضى. حتّى إعلامنا لديه طوائف: لدينا جرائد سنية وجرائد شيعية، محطات تلفزيونية سنية وشيعية الخ. وبعد تدمير الجامعة اللبنانية خلال الحرب، يكاد لا يكون هناك أي مكان لمنحة أو بحث علمي. الجامعة الأميركية وجامعة سان جوزيف لم تملآ الفراغ. لذلك أصبح على الأدب أن يؤرّخ الحرب بطريقة ما. بصراحة لست متأكّداً إن كان هذا شيئاً جيّداً. في مجتمعات أخرى، ليس هذا هو الدور الذي يدعى الأدب لأخذه. 
  
لماذا لم يتعرّض الأدب للتقسيم الطائفي كما كل شيئ في لبنان؟
  
سؤال جيد. أعتقد أن لذلك علاقة بأصول الأدب الحديث في القرن التاسع عشر. كان لكتّاب مثل أحمد فارس الشدياق وشبلي شميل ميول علمانية وعلمية وقد تركوا أثراً على ما أتى بعد ذلك. أعتقد أن الأدب أنقذه التهميش كذلك. روائيو لبنان وشعراؤه يختلفون سياسياً، لكن لا ينتمي أي منّا إلى الجهاز الطائفي للدولة. هامشيتنا هي التي تسمح لنا بانتقاد ذلك الجهاز.
  
بعد انتهاء الحرب كنت معارضاً بصراحة لخطط إعادة بناء وسط بيروت. ما الذي كان يقلقك؟
  
في الحقيقة كان هناك مشاكل عديدة. أولاً، الخطة التي وضعت من قبل السوليدار -وهي شركة عقارات خاصة بالطبع- أجبرت مالكي الأراضي، ومعظمهم من الطبقة الوسطى أو أدنى الطبقة الوسطى، على بيع أراضيهم من دون مقابل. كان استيلاءً على الأراضي بواجهة قانونية. ثانياً، حافظت الخطة على المناطق ذات العمران الفرنسي الكولونيالي. بالنسبة للبقية، مناطق العصر العثماني مثل ساحة الشهداء، قد هدمت بالكامل. أرني أي مدينة في العالم تم فيها هدم مبانٍ عمرها ثلاثمائة أو أربعمائة عام. لست مصاباً بالنوستالجيا، لكن هذه مبانٍ يجب أن تحتفظ بها، فهي تنتمي إلى التراث الوطني. أخيراً، وسط بيروت الجديد لم يُبنَ للبنانيين بل للخليجيين -وهم الوحيدون الذين يستطيعون تحمل الإيجارات. بصراحة كانت الفكرة أن يجعلوا بيروت بيت دعارة للخليج. أقول أن الخطة قد فشلت. ليس بسبب أشياء فعلناها، بل لأن  توقعات السوليدير المالية افترضت وجود نوع من السلام الإقليمي، واتفاق بين “إسرائيل” وفلسطين. بالطبع لم يحدث أي من ذلك. لذا وسط البلد ميت عموماً. إنه كخلفية مسرح. 
 

الثاني من اليسار. ١٩٦٦

تقول أنك غير مصاب بالنوستالجيا، لكن من الواضح أنّك تشعر أنّه قد تمّ خيانة المدينة وتاريخها. ما الذي تحبه في المكان؟ 
  
لنكن صريحين. بيروت ليست مدينة جميلة، لعلّها أبشع المدن الكبيرة في المنطقة. معظم الفن المعماري معيب. حتّى أن طرابلس مدينة أكثر جمالاً. ودعنا لا نتحدث عن دمشق أو حلب، وقد كانت أماكن ساحرة قبل أن يدمرها بشار. أو فكر بالقدس وحيفا. كل هذه المدن أجمل من بيروت. لكنّ بيروت مدينة المهاجرين. وهذا مهم. في بدايات القرن التاسع عشر، كانت قرية من ستة آلاف شخص. لم تكن مكاناً حيوياً على أي صعيد، لا تجاريّاً ولا فكريّاً طبعاً. ثمّ بدأ إبراهيم باشا، في فترة الـ 1830، ببناء الميناء، وجلبت حروب عامي 1840 و1860 الكثير من المسيحيين من جبل لبنان. في بداية القرن الأخير، بيروت كانت ملجأً أساسيّاً للأرمن الهاربين من الأتراك. وقد جاء الكثير من الفلسطينيين إلى بيروت عام 1948 بالطبع واستمروا بالقدوم في السنوات اللاحقة. في الستينات والسبعينات، جاء الشيعة من الجنوب. بيروت مدينة بناها الغرباء -اقتصادياً، فكرياً، ثقافيّاً- وهذا يجعلها مكاناً منفتحاً. هذه هي ميزتها الحقيقية في المنطقة. العيش فيها يشبه العيش في عدة مدن مختلفة في الوقت ذاته. يمكنك المشي من مانهاتن إلى باريس مروراً بقم وكولومبو. من الممكن لأي أحد أن يكون بيروتيّاً. لا يستطيع أحدٌ أن يمنعك من ذلك.
  
وفيها كذلك حياة ليلية رائعة.
  
إنها مكان حيويّ، حتّى في أسوأ الأوقات. أتذكر، في الثمانينات، خلال الإنتفاضة الأولى، جاء أصدقاؤنا الفلسطينيون لرؤيتنا. كان وقتاً صعباً، فيه الكثير من الشهداء. لكن رغم ذلك كنّا نخرج ونشرب ونروي النكت. أصدقاؤنا الفلسطينيون تفاجأوا، لكن هكذا نحن، ليس الموضوع أنّنا نتجنّب الموت، بل أنّنا لا نستطيع إلّا أن نحوّل التراجيديا إلى مهزلة. وهي عادة خطيرة. ليس من المفترض تحويل كل شيء إلى كوميديا. لكن عليك أيضاً أن تعيش. 
  
آخر موجة من المهاجرين كانت من السوريين الهاربين من الحرب الأهلية المجاورة. كيف تأقلمت المدينة مع هذا التدفق؟
  
حتّى قبل الحرب السورية، كان هناك عدد كبير من السوريين يعيش في لبنان، معظمهم يعملون في البناء أو الزراعة. لكن وصول أكثر من مليون لاجئ أثار أسوأ أنواع ردات الفعل الطائفية من قبل النخبة. قادة سنة وشيعة أجّجوا كراهية الآخر. القادة المسيحيون يلعبون على وتر خوف مجتمعهم من المسلمين. ما يقلقني هو أنّ اللاجئين، الذين يشكّلون حاليّاً سدس سكّان لبنان، قد يُستخدمون كحنطة في مطحنة البلد الطائفية، ونُدفع إلى الهاوية.
  
ما الذي حدث للربيع العربي؟ هل كان ثورة في المقام الأول؟
  
بالطبع كان ثورة. ما هي الثورة؟ هي انعدام قدرة النظام على السيطرة على الجماهير، فيتم إسقاطه. ما هو مفاجئ، على الأقل في مصر وتونس، كان سهولة ما حدث. لكن حتى في سوريا، أعتقد أن النظام انتهى. انتهى حين بدأ الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين، لأنّ النظام لم يتصرّف كدولة بل كعصابة مسلّحة. أظهر وجهه الحقيقي، والآن لا يمكن للأشياء أن تعود كما كانت من قبل. المشكلة أنّه بعد سقوط هذه الأنظمة، لم نمتلك ما نضعه مكانها.
 
كيف تفسّر ذلك الفشل؟
  
باسترجاع الأحداث، أعتقد أن هناك سببين أساسيين. الأول هو غياب الليبراليين العرب والثاني هو غياب اليسار. الليبراليون، أعني أنّ الناس الملتزمين بفصل السلطات، ونظام من الضوابط والموازين، والحقوق الفردية لم يظهروا. ربّما لأنّهم لم يوجدوا أصلاً. غياب اليسار قضية أخرى. اليسار العربي موجود، لكن تمّ قمعه منذ عقود. ومنذ سقوط الإتحاد السوفييتي، لم يعد هناك مثال يحتذي به. يمكنك رؤية ذلك بالنظر إلى الشباب في الميادين. كان ثمة عدد كبير منهم، من كل طبقات المجتمع. لكن كان ينقصهم التنظيم والرؤية السياسية الشاملة. كان هناك حقل معجمي -ديمقراطية، عدالة اجتماعية الخ- لكن ما الذي كانت تعنيه هذه الأشياء؟ لا أحد يجيب. وذلك بسبب عدم وجود أحزاب أو مؤسسات تنظيمية.
 
ألم يكن جزءاً من وجهة نظرهم أنّ تلك المؤسسات تنتمي إلى الماضي؟ أنّها لم تكن فعّالة؟
  
لا أريد إعطاء دروس لأيّ من الناس الّذين كانوا في الميادين. من المفترض أن ندرس، بكل تواضع، ما حقّقوه. لكن إن كانت الأحزاب أشياء من الماضي، فإننا نحتاج إلى فكرة عمّا يمكن أن يحلّ مكانها. من الأشياء التي حققها المتظاهرون هي استحالة العودة إلى الدكتاتورية القديمة. السيسي، رئيس مصر، دكتاتور مهرّج. هو محاكاة ساخرة لعبد الناصر. حتى في سوريا، الدكتاتورية انتهت. لم يعد لها شرعية. حاليّاً، الحرب تجعل رؤية ذلك صعباً غير أنّها الحقيقة. 
 

مع ابنته. ١٩٧٨

 
أخبرني عن روايتك الأخيرة «أولاد الغيتو». 
  
الكتاب يدور في “إسرائيل”، خاصة في الّلد، مع أن هناك مقاطع تحدث هنا في نيويورك، وهي سابقة بالنسبة لي. بطل الرواية مهاجر إلى هذه المدينة. الكتاب بطريقةٍ ما هو مكمّل لـ «باب الشمس». ليس تتمّة له بالضبط، لكن بعض شخصيات تلك الرواية موجودة في الرواية الجديدة. 
  
لا أتصوّر أنّك زرت “إسرائيل”، فما نوع البحث الذي قمت به؟
  
لم أذهب إلى “إسرائيل”، كما لم أذهب إلى فلسطين. لكن من الأمور الممتعة في البحث المرتبط بهذا الكتاب كان دراسة العبرية، وهو أمر أقوم به منذ سبع سنوات تقريباً. شخصيات الرواية الرئيسية هم عرب يعيشون في “إسرائيل” ويتكلمون العبريّة عادةً، فشعرت أنّه عليّ تعلّم اللغة. فعلت ذات الشيء أثناء كتابة «يالو». بطلها نشأ في بيت يتحدث السريانية، لذا قرّرت أن أتعلّم السريانية. لا أستطيع أن أدّعي التكلّم بالعبرية، لكنّني لا أشعر أنّها لغة غريبة عنّي تماماً الآن.
  
ما الذي تعلّمته من دراستها؟
  
تعلّمت أن العربية والعبرية والسريانية تتشابه إلى درجة مخيفة. أوّلاً هناك الكثير من الكلمات المشتركة -وأشباه الكلمات- وبناء الجمل هو ذاته. اللغات الثلاثة تبني كلماتها من جذور ثلاثية، لذلك فهي تتشابه بالشكل كذلك. وتعلمت من يهودا شنهاف، مترجمي للعبرية، بأنّه منذ تأسيس الدولة، حاولت “إسرائيل” أن تمحو من لغتها كلّ آثار اللغة العربية. تطهير لغوي. أجد ذلك أمراً مثيراً للإهتمام. 
  
هل درست الأدب العبري؟
  
نعم، لكن هذه قصّة أطول بكثير. أوّل عمل أدبي عبري حديث قرأته كان رواية قصيرة بعنوان “خربة خزعة” ليزهار سميلانسكي. أتى روائي فلسطيني شاب يدعى توفيق فياض إلى مكتبي في مركز الأبحاث عام 1978 وأخبرني عنها. في ذلك الوقت لم تكن “خربة خزعة” قد ترجمت للإنجليزية أو حتى الفرنسية. طلبت من فياض أن يترجمها، ونشرنا النسخة العربية في “شؤون فلسطينية”. أدّت إلى فضيحة صغيرة. الناس احتاروا لأنّ يزهار لم يكن محبّاً للعرب. كان صهيونيّاً ملتزماً وعضواً في الكنيست. لكن روايته كانت رائعة. تحكي قصّة فوج من الجيش الإسرائيلي أمر بتطهير قرية فلسطينية تدعى “خربة خزعة” خلال حرب 1948. يزهار يصف الفلسطينيين المجبرين على مغادرة قريتهم بلغة سفر الخروج. يتحدث الراوي عن البحث بينهم عن إرميا الفلسطيني، النبي الغاضب. نقطة يزهار هي أنّ اليهود في عام 1948 صنعوا يهوداً آخرين. الفلسطينيون هم اليهود الجدد. بعد ذلك، قرّرت قراءة المزيد من الأدب الإسرائيلي، لأنّه كان من الواضح أنّ الأدب يحتوي على أشياء أعمق من السياسة اليومية. قرأت كل ما كان قد ترجم: عاموس عوز، إبراهيم جبريل يشوع، وديفد غروسمان. تعلمت الكثير لكنّني لم أجد ما يشبه رواية يزهار القصيرة.
  
ترجمت أعمالك إلى العبرية، ممّا أدّى إلى انتقادك.
  
عندما نشرت «باب الشمس» من قبل صديقي يائل ليرير في دار الأندلس عام 2002، تعرّضت لهجوم وحشي، غالباً من قبل المصريين، بمن فيهم صديقي صنع الله إبراهيم. كانت حجّتهم أنّ ترجمة الكتب إلى العبرية هو نوع من التطبيع. هذا -كيف يمكنني وصفه- محض هراء. المصريون لديهم عقدة من التطبيع، طبعاً، بسبب كامب ديفيد. كل شيء في مصر “مطبّع”، لكنهم أول من يرفعون أصابع الإتهام. إدوارد سعيد كتب نص حول ذلك في الأهرام، وقال فيه كل ما يمكن أن يقال. كتب أنّ “الوصول إلى لغة أجنبية هو انتصار، دائماً، للكاتب“، وذلك صحيح بشكلٍ دقيق. أقرأ كتّاب إسرائيليين، لم يجب ألّا يقرؤون لي؟ هذا الرأي لا يجبرني على اتخاذ موقف سياسي مختلف عمّا اتخذته طيلة حياتي. التطبيع شأن علاقات اقتصادية بين دول، وليس تبادل أدبي بين أفراد. الترجمة ليست تطبيعاً.
  
كيف تستمر في كتابة الروايات بينما كل يوم يأتي بأخبار مآسي فظيعة ومصائب بشرية من محيطك؟
 
لقد عشت حياتي تحت حالة من الحرب الدائمة. ولدت عام 1948 ولديّ ذكريات حيّة عن الحرب الأهلية “الصغيرة” في عام 1958. نكسة 1967 ولّدت فيّ وعياً سياسيّاً. بدأت بكتابة الروايات في السنوات الأولى من الحرب الأهلية الأساسية. أحاول أن لا أكتب عن الحرب بل أن أكتب من داخلها. على المرء أن يكتب من داخل هذه المآسي والمصائب. أعتقد أنّه تمرين جيّد -للكتابة والحياة- لكنّه ليس سهلاً. على صعيد آخر، أعتقد أنّ الكتابة هي خليط من العذاب والبهجة. حاولت استكشاف ذلك في «يالو»، حيث يتم تعذيب بطل الرواية ويجبره المحققون على كتابة اعتراف. لذا فالكتابة هي تقنية تعذيب وتحرّر في الوقت نفسه، طريقة لفهم النفس. عبر الكتابة، نحوّل الحقيقة إلى مادّة للخيال. 
 

من اليمين: الياس خوري، محمود درويش، سمير قصير، مارسيل خليفة. مقبرة صبرا وشاتيلا . ١٩٩٩

 

مقدّمة المقابلة

 

يعدّ إلياس خوري الروائي الرئيسي الذي يكتب باللغة العربية اليوم. ولد في بيروت في عام 1948 المصيريّ. نشر روايته الثانية «الجبل الصغير» عام 1977 خلال بداية الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، والتي حارب فيها إلى الجانب الفلسطيني ضد الذين يشاركونه دينه الأصليّ، المسيحيين التابعين للكتائب. أعمال خوري الأولى كانت حداثية، تتناول الصراع اللبناني حتى حين كانت الأحداث في طور الإنكشاف. في بعض رواياته مثل «الوجوه البيضاء» (1981) و«رحلة غاندي الصغير» (1989) حمل خوري مرآة خياله المكسورة في وجه بلدٍ على وشك الإنهيار. 

رواية خوري الأكثر شهرة هي «باب الشمس» (1998) والتي وصفتها نيويورك تايمز بأنها “عمل فنّي عبقري”. هي ثمرة السنوات التي قضاها خوري في المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث استمع إلى قصص اللاجئين حول سقوط قرى الجليل خلال النكبة، عام 1948.
 
الرواية هي ملحمة تجمع هذه القصص. كتبت كلوديا روث بيربوينت في ”ذا نيويوركر“: “تستحق القراءة مرّتين لأنّه من الصّعب رؤيتها كاملة من المرّة الأولى، ولأنّها غنية بطريقة ذكية”. الرواية، في محورها، هي قصة زوجين فلسطينيين ينفصلان بعد الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1948: المحارب يونس وزوجته نهيلة اللذين يلتقيان في السرّ ويمارسان الحبّ في مغارة -اسمها “باب الشّمس”- في قرية من قرى الجليل قرب الحدود الّلبنانية. هي، قال لي خوري، واحدة من قصص الحب القليلة في الأدب التي تتحدث عن متزوّجين.

خوري هو أيضاً من أهمّ النقاد والمحرّرين في العالم العربي. 

بدأ بكتابة المقالات في «شؤون فلسطينية» الشهرية في بداية السبعينات. (هناك مجلّدات تحتوي على أعماله النقدية باللغة العربية)، كما كان محرّر الملحق الثقافي التابع لجريدة «النّهار» في بيروت (الملحق)، خلال التسعينات، والتي تحوّل إلى منتدى للنقاش حول إعادة بناء لبنان بعد الحرب. بالنسبة لخوري، فإن هدم وإعادة بناء وسط بيروت هي فرصة ضائعة لتصالح البلد مع ماضيه القريب. بدل الإعتراف الواقعي بالمسؤولية، قامت النخبة اللبنانية بفرض نوع من فقدان الذاكرة الوطني. الملحق، برئاسة تحرير خوري والذي استمرت حتى عام 2009، أصبح أيضاً منبراً للسوريين الخارجين عن النظام خلال حكم بشار الأسد. اليوم، خوري يكتب عاموداً أسبوعياً عن الثقافة والسياسة في الصحيفة العربية اليومية «القدس العربي» وهو رئيس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية» في بيروت. 

شخصيّاً، خوري مفعم بالحيوية، خفيف الظل، ودقيق. يتوقّف فجأة مراراً في وسط الشّارع ليستمع إلى ما تقوله أو ليؤكّد رأيه بشكلٍ قاطع. الحديث معه مليئ بالقصص -يحكيها بصوت منخفض، تظهر عليه عقود من تدخين المارلبورو- والتي تنتهي عادةً بضربة منه على الطاولة والضحك. حكاياته، وأغلبها عن رفاقه من الكتّاب العرب، تظهر حبّه للفاضح بإعتدال أو للمجدف بجدّية. خوري يستمتع بالجدال كذلك. حين يطرح عليه سؤال، يندفع لكي يصحّح أو يخالف الفرضيّة المطروحة. لديه آراء سياسية ثابتة يعلنها بصراحة، بغض النظر عن المستمعين. لديه كذلك عادات لغويّة عديدة مثل إطلاقه على الإسرائيليين لقب “أولاد عمّنا” وتلاوة “بسم الله الرحمن الرحيم” برسميّة مصطنعة قبل شرب الإسبرسو أو الرّد على اتّصال يفضّل عدم الرّد عليه.

أجريت هذه المقابلة على مدى يومين في مكتب في جامعة نيويورك، حيث كان خوري بروفيسوراً في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية لعدّة سنوات (الآن يعيش في بيروت على مدار العام). المكتب كان غير مستخدم بشكلٍ واضح، الرفوف خالية، بينما الزينة الوحيدة هي خريطة لمترو مدينة نيويورك ملصقة على الحائط إلى جانب الباب. قطعة من واشنطن سكواير بارك تظهر من النافذة. المقابلة كانت باللغة العربية، وقد ترجمتها إلى الإنجليزية لاحقا.

The post الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: أنا تلميذ شهرزاد (2/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: حين يحتلّون بلدك، تقاوم (1/2) https://rommanmag.com/archives/18887 Wed, 06 Sep 2017 07:09:32 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%b3-%d8%ae%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%84%d9%80-%d8%b0%d8%a7-%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%b3-%d8%b1%d9%8a%d9%81%d9%8a%d9%88-%d8%ad%d9%8a%d9%86-%d9%8a%d8%ad%d8%aa%d9%84/ المقابلة المطوّلة في المجلّة الأميركية... ننشر غداً الجزء الثاني منها

The post الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: حين يحتلّون بلدك، تقاوم (1/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أجرت مجلة «ذا باريس ريفيو» الأميركية ربيع هذا العام حواراً مطوّلاً مع الروائي اللبناني الياس خوري، قمنا بترجمتها لننشر اليوم القسم الأول منها على أن ننشر القسم الثاني غداً ملحقاً بمقدّمة المقابلة التي أجراها روبن كريسويل.
المحرر

يقرأ الأدب العربي عادةً في هذا البلد (الولايات المتحدة) بحسب علاقته بالأحداث الحاليّة. يقرأ كإثنوغرافيا أو صحافة. أنت معروف هنا بكتابتك عن فلسطين والحرب الأهليّة اللبنانية. هل تجد أنّ هذه السّمعة تحدّك؟

صحيح أنّه، في معظم الأحيان، يقرأ النّقاد الأميركيون الأدب العربي كما لو كانوا يقرأون الصحيفة. حتى نجيب محفوظ يُعامل كما لو أنّه كتب تقارير من القاهرة. ما جعلني سعيداً باستقبال الأميركيين لـ«باب الشمس»، أنّ النقاد، بعضهم على أيّة حال، عاملوا الرواية كعمل أدبيّ. لا شكّ أنّهم كتبوا كثيراً عن جوانبها السياسية، لكنّهم كتبوا أيضاً عن تقنيّة السّرد، قصّة الحبّ، وأشياء أخرى. وقد كان هذا ممتعاً بالنسبة لي.

سمعة الشخص ليست دائماً تحت سيطرته. في بيروت، بعد أن نشرت «باب الشمس»، ظنّ الناس أنّي فلسطيني. حتّى أهالي الحيّ ظنّوا ذلك -وهذا هو المكان الذي كبرت فيه، وعاش فيه أبي وجدّي طيلة حياتهما. لكن ذلك الخطأ كان تكريماً بالنسبة لي.

لديك تاريخ طويل مع الحركة الوطنية الفلسطينية. متى ولماذا قرّرت أن تنضمّ؟

كان للموضوع علاقة بالمحيط الذي أعيش فيه. كبرت في الأشرفيّة، في بيروت الشرقيّة، في بيئة مسيحيّة بحتة. مسيحيّة بمعنى أنّها تأخذ حبّ الآخر والإهتمام بالفقير بغاية الجدّية. حين كنت طالباً في الجامعة اللبنانية في السّتينات، شاركت مع مجموعات مسيحيّة، مع أنّنا بالطّبع كنّا نطلق على نفسنا لقبي “الماويين” و”الجيفاريين” وندعم فيتكونج. لكن عام 1966، قامت قوى الأمن اللبنانية بقتل الفدائي الفلسطيني “جلال كعوش” -هناك مقطع في «الوجوه البيضاء» يشير إلى هذا- فقام الطلّاب بمظاهرة. كانت تلك هي المظاهرة الأولى في حياتي. الجيش أطلق علينا النار وقتل العديد من النّاس. لكن، كنت أقول حينها أنّ مشاعر تعاطفي مع الفلسطينيين كانت أساساً أخلاقيّة، وتجريديّة بعض الشّيء.

بعد نكسة 1967، شعرت أنّه علينا أن نقوم بالمزيد. الحرب خلقت موجة من اللاجئين الهاربين من الضفة الغربيّة. معظمهم اتجهوا إلى الأردن، وقامت مجموعة بنصب مخيّم خارج عمّان، في مكان يدعى “البقعة”. قام مجموعة منّا، طلاب مسيحيّون من لبنان، بزيارة المخيّم. وقد كانت الأحوال هناك سيّئة بشكلٍ مبكٍ. فبقينا للمساعدة، تحضير وجبات، بناء بيوت، تنظيف. حين عدنا إلى بيروت، أبديت رأيي في أنّ الأمر الأخلاقي الوحيد الذي يمكن فعله حينها هو الإنضمام إلى ”فتح“. بعضنا قام بذلك.

غلاف العدد الذي افتُتح بالمقابلة

كيف كان الإنضمام إلى ”فتح“ يتم حينها؟

أخذت تاكسي إلى عمّان وبقيت في فندق، حيث كان بإمكانك النوم على السّطح بدينار واحد. في الصباح التالي، ركبت في تاكسي وقلت للسائق: خذني إلى الفدائيين! السائق ظنّ الأمر مضحكاً، لأنّ معظم التاكسيات في عمّان كانت تعمل لصالح قوى الأمن الأردنية. كان من الممكن أن يأخذني أيّ منهم فوراً إلى المحقّقين. لكنّي كنت محظوظاً، كان السّائق فلسطينيّاً. أخذني إلى السّلط، حيث كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. طرقت الباب ففتح الباب أبو جهاد، الشريك المؤسّس لفتح مع عرفات. أبو جهاد نظر إليّ وقال لي أن أذهب إلى البيت. لكنّي كنت عنيداً فبقيت.

أين تدرّبت؟

تدرّبنا في سوريا، في مخيّمات حماه وميسلون، خارج طريق بيروت-دمشق السّريع. هناك كانت مخيّمات الفدائيّين. لاحقاً، عملنا في جنوب لبنان، وكذلك حول بيروت.

عدت إلى الأردن للمرّة الثالثة، بعد أيلول الأسود، حين قام النظام بطرد منظمة التحرير.

وصلنا حين كان الجيش الأردني يطارد الفدائيين نحو جبال جرش وعجلون في تشرين الثاني. لم نذهب إلى الجبال. عدنا إلى لبنان، وقد تمّ ذبح الفدائيين. في ذلك الوقت، شعرت أنّنا تسرّعنا. كنّا مؤمنين أنّنا طليعة الثورة العربيّة الكبرى. لم يكن أحدٌ منّا غبيّاً ليعتقد أنّنا يمكننا تحرير فلسطين بينما العالم العربي بأكمله محكومٌ من قبل طغاة، لكنّ اليساريّين المتطرّفين خلقوا خلافاً مع الأردن قبل أن تكون الحركة ذات النطاق الأوسع قد نضجت. هؤلاء كانوا اليساريّين الّذين خلقوا تعبير “كلّ الدعم للمقاومة!”. بدأوا بإعداد سوفييتات في إربد، وشمال الأردن وأماكن أخرى. ما فعلناه في الأردن كان غير ناضج بتاتاً، كان جنوناً.

جان جينيه عاش بين الفدائيين في الأردن خلال هذه الفترة. في «أسير عاشق»، يكتب أنّ ثمّة ما هو مسرحيّ بشكل أساسيّ في المخيّمات الفلسطينيّة. حتّى أنّه سمّاهم المخيّمات “الخادعة”. هل شعرت أنّ ثمّة ما هو مسرحي في تجربتك الخاصّة مع الفدائيّين؟

قابلت جينيه في بيروت في أوائل السبعينات، وأتذكّر كم أعجبت بقدرته على رؤية نفسه من الخارج، أن يدرس نفسه بقسوة وسخرية، وكأنّه شخصٌ آخر. الآن أعتقد أنّ القدرة على أن تقسم نفسك إلى اثنين، وهي قدرة يمتلكها جميع الممثّلين، هي أيضاً شرط للكتابة وحتّى للحياة. الأدوار الّتي تلعبها تصبح في نهاية الأمر قصّة حياتك. لكن ذلك لا يسلب شيئاً من الأهمّية السّياسيّة والوجوديّة لهذه الّلحظات. تجربتي مع الفدائيّين كانت نوعاً ما تدريباً للحياة، وللموت. كانت تتطلّب الإلتزام الأخلاقي الأقصى والقدرة على رؤية الأشياء بطريقة نقديّة، حتّى ساخرة في بعض الأحيان. أعتقد أنّ التجربة هذه -ويمكنك أن تسمّيها مسرحيّة لو أردت- مشتركة لكلّ من التزم بمحاولة صناعة ثورة.

هل كنت تشارك في السياسات الداخلية للحركة الفلسطينية؟

لا لم أشارك أبداً. وحين أنظر الآن نحو الوراء، أعتقد أنّ دوافعي الحقيقيّة للإنضمام إلى المقاومة كانت إنسانيّة لا سياسيّة. لم أقف أبداً مع جانب محدّد من السياسة الفلسطينية، رغم أن العديد من أصدقائي فعلوا ذلك، داعمو الجبهة الشعبيّة ضد فتح أو الفصيل الماوي ضد الفصيل السوفياتي، وهكذا. لم أدخل في هذه النزاعات لأنّ المشكلة كانت واضحة بالنسبة لي، للفلسطينيين الحق في بلدهم وللاجئين حق في العودة إلى أرضهم. الصراع لا يزال في الأساس مسألة أخلاقية بالنسبة لي. حين يكون هناك ضحيّة أمامك، عليك أن تتماثل مع الضحية، وليس فقط أن تتضامن معها.

هل لتجربتك الشخصيّة كأقليّة دور في شعورك هذا؟

أوّلاً، لا أشعر أنّني من مجموعة أقلّية. بالنسبة للأسطورة المسيحيّة، المسيحيون يقولون لأنفسهم (وهي أسطورة من القرن التاسع عشر، وقد كبرت معها) بأنهم كانوا عرباً قبل أن يكون المسلمون عرباً. بكلمات أخرى، هم ليسوا أقلّية في لبنان، هم المالكون الأًصليّون للبلد. ثانياً، في البيت الّذي نشأت فيه، لم يكن هناك أيّ عداء تجاه المسلمين.

كان لدينا قرآن في البيت، وكنّا نحتفل بعيد الفطر، رغم أنّنا كنّا نعيش في حيّ مسيحي بالكامل. لذلك لم يكن لديّ أيّ إحساس بالإنتماء لأقليّة، حينها أو الآن. أنا جزء من نسيج المجتمع، وهذا لا يعني أنّي أتجنّب موضوع العلمانيّة في رواياتي. لكن بالنسبة لي، إرث الإنسان الديني هو بالضّرورة إرث أدبي. أعتقد بأنّي لو كنت قد ولدت مسلماً، كنت لأكتب كتبي بالطريقة نفسها.

بعد وصول «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى بيروت، بعد طردها من الأردن، جئت إلى فرنسا.

بعد أيلول الأسود، ظننت بأنّ الوقت قد حان لأصبح مثقّفاً.

ماذا درست في باريس؟

درست “التاريخ الإجتماعي” مع ألين توراين في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. تناولت في أطروحتي الحرب اللبنانية في جبل لبنان، الصّراع بين المارونيين والدروز بين عامي 1840 و1860.

ما الذي دفعك لاختيار هذا الموضوع؟

اكتشفت، وقد فاجأني ذلك، أنّه لم يكن ثمّة سرد مكتوب عن الحرب. لم يكن هناك أرشيف للمراجعة، كان هناك فقط همسات من الممكن أن تسمعها في البيت، الدروز قتلوا جدك، المسيحيون قتلوا عمّك، أشياء من هذا القبيل. بالنسبة لي، هذا النقص في كتابة الماضي بشكلٍ محدّد كان يعني أنّنا كلبنانيّين ليس لدينا أي حاضر كذلك. لست مهتمّاً بالذاكرة بحد ذاتها، بل بالحاضر. لكن لكي يكون لديك حاضراً يجب أن تعرف أيّ الأشياء يجب أن تنسى وأيّها يجب أن تذكر. نقص التاريخ المكتوب لدينا جعلني أشعر أنّي لم أعد حتى أعرف البلد الذي نشأت فيه. لم أكن أعرف مكاني فيه. لا أعتقد أنّي قمت بأيّ اكتشافات عظيمة كمؤرّخ، لكن حين بدأت بكتابة الروايات، بعد ذلك بسنوات، وجدت بأنّي أردت كتابة الحاضر، حاضر حربنا الأهليّة.

صفحة من مخطوط رواية «يالو»، ٢٠٠٢

ماذا تعني “كتابة الحاضر”؟

ذلك يعني أنّ عليك تسمية الأشياء كما هي في الحقيقة. أتذكّر إيميل حبيبي، الروائي الفلسطيني العظيم، وقد سألني مرّة: “كيف تتجرّأ على إعطاء شخصيّات رواياتك أسماء مسيحيّة أو مسلمة؟”. حبيبي كان مسيحيّاً مثلي بالطّبع. قلت له: “لكن هكذا هو مجتمعنا. تعرف أنّه يمكننا معظم الوقت أن نحدّد ديانة الشخص من اسمه“، فقال: “يجب أن تطلق عليهم أسماء محايدة، هذا ما أفعله”. قلت: “اسمك ليس محايداً! إنّه إيميل! ماذا ستفعل لتغيّر ذلك؟”

أوائل السبعينات كانت فترة مثيرة للإهتمام بالنسبة لطالب في باريس.

أتذكّر الذّهاب إلى بعض محاضرات ميشيل فوكو في الكلّية الفرنسيّة. وقد كانت تحظى بشعبيّة كبيرة. الكلّية اضطرت لفتح العديد من القاعات فقط لكي تناسب حجم الجماهير. كنّا نصل قبل الموعد بثلاث أو أربع ساعات مع سندويشاتنا لنحصل على مقعد جيّد. فوكو كان مثل السّاحر، واسع المعرفة بشكل كبير. لم يتجرّأ أحد على توجيه أيّ سؤال له بعد انتهاء المحاضرة. في ذلك الوقت، كنت كذلك أكتب النقد المسرحي في «مواقف» في بيروت. الشّاعر أدونيس، الّذي كان رئيس تحرير المجلّة، طلب منّي تعميم فكرة التعاون مع مجموعة «تل كيل». فالتقيت بفيليب سولير وجوليا كريستيفا وباقي الشلّة. لكنّي ظننت أنّهم ماويون برجوازيون زائفون. لم ينتج عن ذلك شيء يذكر.

في الجامعة درست التاريخ وعلم الإجتماع، إذن ما الّذي أوحى إليك بكتابة رواية؟

بصراحة، بدأت أفكّر بنفسي ككاتب حين قرأت «الغريب» لألبير كامو كطالب مدرسي واكتشفت أنّي حفظت الكتاب عن ظهر قلب. قرأته بالعربية أوّلاً، ثمّ بالفرنسيّة لاحقاً. كنت أحفظ كمّيات كبيرة من الشعر الحديث بالعربيّة: أدونيس، السيّاب، خليل حاوي. لم أدرسهم، بل حفظتهم. وبعد أن حفظت «الغريب» شعرت بأنّي كنت أنا المؤلّف. الكتاب أصبح جزءاً منّي، كان في داخلي. حدث ذلك في كلّ مرّة قرأت فيها كتاباً أعجبني. لم أكن أشعر أنّي أودّ كتابة ما يشابه ما قرأته، بل كان إحساسي أنّ الكتاب دخل إليّ وأصبحت أنا مؤلفه. أصبحت مهووساً بالأدب. حتّى حين كنت أتدرّب في سوريا، أحضرت معي روايات للقراءة.

أي روايات؟

حقائب مليئة بالروايات! لكن أكثرها لغسان كنفاني. قرأت «رجال في الشمس» حال نشرها عام 1963. كانت مهمة جدّاً بالنسبة لي. أطلقت على روايتي عنوان «باب الشّمس» إكراماً لها.

التقيت بكنفاني لاحقاً؟

نعم، التقيت به في بيروت بعد عودتي من باريس. كنت أعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني وجريدته، «شؤون فلسطينية»، بينما كان يكتب لجريدة «الهدف»، التي كانت مرتبطة بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كنفاني كان شخصاً لافتاً. كان مرض السّكري سيّء جدّاً لديه وكان يدرك أنّه سيموت، لكنّه، رغم ذلك، لم يهتم بنفسه أبداً. كان يدخّن بشكل متواصل ويشرب القهوة والويسكي وكان دائماً يكتب شيئاً: صحافة، روايات، مقالات، كتب أطفال، مسرحيّات. كان يكتب بتلك السّرعة، أعتقد، لأنّه كان يدرك أنّه لم يمتلك الكثير من الوقت. كان سوف يموت حتّى لو لم يقم الموساد باغتياله في تفجير سيّارة عام 1972. جسده تفجّر. أصدقاؤه جمعوا أطرافه من الرّصيف.

كتبت مقالاً عن كنفاني تقول فيه أنّ رواياته “بدلاً من أن تسرد تلخص، وبدلاً من أن تسترسل تقتصد”. كما أنّك تمدح “التقشف في التعبير”. أليس هذا إلى حدّ كبير بعكس كتاباتك؟

بعكسها تماماً. كنت أظن أنّه كان يكتب بتلك الطريقة لأنّه لم يمتلك الوقت ليكتب بطريقةٍ أخرى. كان يريد الوصول إلى النهاية في أقرب وقت ممكن. أعني، أنظر إلى «عائد إلى حيفا»، هي أقرب للنص المسرحي منها للرواية. الخطوط العريضة التي أكتبها  لرواياتي أطول من ذلك. لكني الآن أفكّر بكنفاني بطريقة مختلفة. لقد أمضى حياته في المؤسسات السياسية، وأعتقد أنّه في رواياته أراد الوصول إلى الأشياء الأساسية في أسرع وقت ممكن. لا يشعر بحاجة لبناء شخصياته. حتّى أنّنا معظم الوقت لا نعرف من أين هي. تشعر مباشرةً، من الجملة الأولى، أنّك في منتصف الأحداث. بالنسبة لي، الأمر معكوس. بالنسبة لي، التفصيل الهامشي أو القصة الجانبية هي الّتي يجب اعتبارها محوريّة.

نشرت رواية «الجبل الصغير» عام 1977، بعد مرور عامين على بداية الحرب اللبنانية الأهلية. هل هي مذكرات مموّهة؟

ليست كذلك. صحيح أنّه خلال أوّل عامين من الحرب، قاتلت إلى جانب الفدائيين، لكنّ القصص في «الجبل الصغير» هي قصص خيالية. بعض الأماكن -الكنيسة، في الإفتتاحية مثلاً- حقيقية، لكن الأحداث مخترعة. وصراحة، بعد أن انتهيت من كتابتها، خفت لأنّي لم أعرف ما فعلت. لم أعرف ماذا أسمّيه. ما زال يرافقني ذلك الشعور كلّما جلست لأكتب، بأنّني لا أعرف كيف أفعل ذلك، وأنّه عليّ أن أتعلّم الكتابة من الصّفر. ما أدركته في تلك الفترة هو أنّه علينا القيام بعكس ما قاموا به الكتّاب العرب في القرن التاسع عشر. بدلاً من الروايات التاريخية، علينا أن نكتب الأشياء بينما تحدث، أن نحكي قصّة الحاضر.

كيف كنت تجد الوقت للكتابة أثناء الحرب؟

كنت أكتب على دفعات. مثلاً، أنهيت المسودّة الأولى من «الوجوه البيضاء» خلال ثلاثة أسابيع. كتبت بطريقة سريعة لدرجة أنّ يدي آلمتني. لم أكتب بتلك الطريقة بعد ذلك. كان ثمّة أوقات أقاتل فيها في بيروت أو خارج المدينة، وأوقات كنت أعمل فيها في مركز الأبحاث. فلم يكن الأمر متعلّقاً بالجلوس للكتابة لمدّة ثلاث ساعات كلّ صباح كما أفعل الآن. كنت أكتب متى استطعت، معظم الوقت في المساء. كما قلت، كنت مهووساً أو مسكوناً. هل تعرف قصّة الأخطل، الشّاعر الأمويّ؟ كان مسيحيّاً في زمن الخليفة معاوية. يقال أنّ الأخطل حين وقف لإلقاء قصائده أمام الخليفة، حاول أعداؤه إحراجه بسؤاله إن كان يصلّي حين يسمع المؤذّن ينادي على المؤمنين. فقال الأخطل: أنا أصلّي حين تزورني الصّلاة. الكتابة كذلك بالنسبة لي.

كيف تمّ استقبال «الجبل الصغير»؟

أدونيس ومحمود درويش، الشاعر الفلسطيني الكبير الّذي كان صديقي وزميلي في مركز الأبحاث، كلاهما أحبّاها. كان ذلك مهمّاً بالنسبة لي. وأعتقد أنّ ذلك ساعد في حصول الرواية على بعض المراجعات الجيّدة. وقد تفاجأت أكثر بالاهتمام الّذي حصلت عليه الرواية في الخارج. بعد بضع سنوات من صدورها، اتصل بي ناشر فرنسي صغير يدعى “أرليا للنشر” وسألني إن كان بإمكانه ترجمتها. في ذلك الوقت، كانت ترجمات الأدب العربي قليلة جدّاً -تقريباً لا شيء غير نجيب محفوظ. بعد ذلك قال لي إدوارد سعيد، وهو كان ما زال يأتي إلى بيروت منذ بداية السبعينات، أنّه سيجد ناشراً أميركيّاً لـ«الجبل الصغير»، وقد كتب له تقديماً جميلاً جدّاً.

تقديمٌ شبّهك به بمحفوظ على نحو معروف. وقد أشار إلى أنّ أسلوب كتابتك “المتقطّع” هو نوع من القفزة الما بعد حداثية بالنسبة لكتابات محفوظ الواضحة، والتقليدية في السرد القصصي.

لا أريد أبداً أن أعارض إدوارد. أحبّه. أقول فقط أنّي لم أكن على علم بما يحدث في الأدب التجريبي أو الما بعد حداثي. في كل الأحوال، تجاربي كانت مختلفة. خذ شعراء مجلة شعر على سبيل المثال -أدونيس وبقيّة طليعيي بيروت- في الخمسينات والستينات، كانوا يترجمون شعراء صعاب مثل سان جون بيرس ثمّ يكتبون قصائدهم بنفس الطريقة. كانوا يجرّبون، لكن كان لديهم نموذج. أحياناً كان حداثيّاً، وأحياناً كلاسيكيّاً. أمّا أنا فلم يكن لدي نموذج. كتبت كرجلٍ أعمى.

إدوارد سعيد قام بدعوتك للتدريس في كولومبيا في تلك الفترة؟

قمت بتدريس مقرّر تعليمي للّغة العربية عامي 1980 و1981. كانت تلك زيارتي الأولى لنيويورك. كنت متوتّراً جدّاً لأنّي كنت بالكاد أتكلّم الإنجليزية في ذاك الوقت. في الحقيقة، ذهبت إلى رئيس القسم وسألته كيف يمكنني التعليم وإنجليزيتي سيئة. قال لا تقلق، لا أحد يتكلم الإنجليزية هنا! المهم أن يكون لديك أفكار. هل لديك أفكار؟. قلت القليل منها. حسناً! عرفت أنّ نيويورك تعمل بذات الطريقة. ليس عليك أن تتقن الإنجليزية لتتعايش.

هل قام سعيد بالتجوّل معك ليريك المدينة؟

نعم، لقد كان دليلي. ذهبنا إلى وسط المدينة كثيراً. ذهبنا إلى بارات الجاز في “الفيليج” وشاهدنا الكثير من المسرح. أتذكّر رؤية آل باتشينو، رغم أنّي لا أتذكّر اسم المسرحيّة. سعيد أيضاً عرّفني على “ذا فيليج فويس”، وقد كانت جريدة عبقريّة في حينها. أتذكّر بشكلٍ أساسيّ عدم وجود مقاه في الجزء الأعلى من المدينة. كنت تشرب الإسبرسو في نفس المكان الّذي تتناول فيه الهامبرجر، وقد اعتبرت ذلك جنوناً. الجامعة أعطتني شقة صغيرة في “ريفير سايد درايف” إلى جانب حديقة خطرة بعض الشيء. لكني كنت آتياً من بيروت، فلم يزعجني ذلك حقّاً.

اللجنة التي رحّبت بي بشكلٍ حقيقي في المدينة كانت من اليهود. ليس فقط في الجامعات بل أيضاً في النشر. بعض المراجعين ودور النشر المستقلة رحّبت بي هنا ودعمت عملي. هذه التجربة في نيويورك اليهودية تظهر في روايتي الأخيرة «أولاد الجيتو».

هل علّمت مع سعيد؟

مرّة واحدة فقط. أعطى محاضرة عن “فرانتز فانون” وسألني أن أحاضر في السّاعة الثانية عن “موسم الهجرة إلى الشّمال” للطيب صالح. سعيد تكلّم لمدّة ساعة من دون أن ينظر إلى أوراقه. كان مثل البهلوانيّ -فانون، ايمي سيزار، لوكاس، والجدليّة. لا أعرف ماذا بعد. كان بمثل براعة فوكو. بعد أن انتهى، أخذ الصّف استراحة وخرجنا نحن الإثنين لكي أدخّن. سألني إن كنت جاهزاً، فقلت لا، سأذهب إلى المنزل. كيف كان من الممكن أن أحاضر بعد ذلك؟ كان عليه أن يجرّني إلى الداخل. لكن كل شيء كان على ما يرام. الطلّاب لاحظوا أنّي شاب وخائف، فكانوا لطفاء معي.

في نفس الوقت، كنت تكتب «الوجوه البيضاء»، رواية تُفهم معظم الوقت على أنّها رمز للوطنيّة في لبنان خلال الحرب. هل تراها كذلك؟

لست متأكّداً أنّها رمز، بالرغم من أنّني أستطيع تفهّم من يراها بتلك الطريقة. الرمز الوطني يدور حول بناء وطن جديد، يحكى من خلال قصص أفرادٍ ممثّلين. هكذا أفهم هذا المصطلح. لكن «الوجوه البيضاء« هي رواية عن التشظّي الإجتماعي. هي عن التفكك لا عن البناء. وطريقة السّرد فيها ليست رمزيّة، بل واقعيّة. «الوجوه البيضاء» هي قصّة رجل عاديّ -خليل أحمد جابر، ساعي بريد- يُقتل بلا سبب ويرمى فوق كومة زبالة. يمكنك أن تعطي قصّته تفسيراً رمزيّاً، لكن هي أيضاً قصّة تقاوم أي محاولة لاستخلاص أيّ معنىً منها. بطل الرواية يُقتل لسبب لا نعرفه.

الرواية تبدو وكأنّها تحاكي، في مصطلحات رسمية، التشظّي الّتي تمثّله. يبدو هذا خياراً خطيراً. 

فلنضع الأمور في سياقها. نحن نتحدّث عن فترة الحرب الأهليّة -والتي كانت في الحقيقة عدة حروب صغيرة- الّتي أتت بعد الغزو السّوري عام 1976 وقبل الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. الجيش السّوري كان قد دمّر الحركة الوطنيّة، واليسار اللبناني، وقد دفع ذلك مجتمعاً كان لديه ميول تفكّكية إلى التحلّل الكامل. البلد كانت قد أصبحت مسلخاً. أعتقد أن قول ذلك يتطلّب نوعاً من اللامبالاة. لا أجد أي طريقة لتجنّب ذلك. الحرب لم يعد لها معنى، كانت تكرّر نفسها. كان هذا واقعاً. لكن يصعب قوله للناس، بعضهم بطبيعة الحال، ما زالوا يحاربون. أنا شخصيّاً كنت ما أزال أحارب.

منظمة التحرير الفلسطينية، بشكل خاص، لم تعجبهم روايتك.

لم تعجبهم لكن ذلك لم يكن مفاجئاً. عرفات كان قد حثّني على الإستقالة من مركز الأبحاث قبل ذلك بعامين.

لماذا؟

إن كنت لا تعرف القصّة، فمن المهم أن أخبرك بالحقائق. في ذلك الوقت، كنت مدير تحرير «شؤون فلسطينية» في مركز الأبحاث، ومحمود درويش كان رئيس التحرير. في أحد الأيّام، جاء رجال الأمن وقالوا أنّهم أُرسلوا ليستجوبونا، بأمر من عرفات. السبب الّذي ذكروه كان سخيفاً. كنّا قد نشرنا مقالاً لهادي العلوي، عراقي شيوعي لم يأخذ طريق فتح، والقيادة لم توافق. لكن كانت تلك حجّة. السبب الحقيقي كان أن عرفات لم تعجبه الطريقة التي أدرنا فيها المجلّة. لم تكن عضواً في الحركة، نشرنا أشياء تنتقد القيادة. كان موقفهم أنّك لا تستطيع انتقاد الثورة. موقفنا كان أنّك يجب أن تنتقد الثورة، وإلّا لا تكون ثورة! بكل الأحوال، رفضنا، محمود وأنا أن يُحقّق معنا، فاستقلنا من المركز. عندما نشرت «الوجوه البيضاء» عام 1981، كانت ردّة فعل منظمة التحرير الفلسطينية قاسية جدّاً.

ماذا فعلوا؟

نشروا شائعات تقول بأنّني ضد الفلسطينيين وأشياء من هذا القبيل. كما أنّهم تأكّدوا من عدم وجود الرواية في المكتبات. عندما لاحظت هذا، اتصلت بالناشر، رجل يدعى سليمان صبح. سألته ما الّذي حدث فقال أنّ جميع نسخ الكتاب قد بيعت. قلت له اطبع غيرها اذن. قال سوف نرى. فاستنتجت أنّ الرواية قد منعت. لم أستطع التأكّد من ذلك لأنّه لم يتم الإعلان عن ذلك بشكل رسمي، وذلك أسوأ من المنع الرّسمي! بعد ذلك، وقبل أن يموت، تحدثت مع سليمان في تونس، وكان قد لحق بمنظمة التحرير عام 1982، بعد النفي من لبنان. كان فعليّاً على فراش الموت لكنّه عرف أنني في المنطقة فاتصل بي. قال، سأقول لك الحقيقة قبل أن أموت. أنّه ذات يوم، أتى رجال أمن عرفات -القوّة 17- وأمروه أن يسحب الكتب من المكتبات ويدمّر كلّ النسخ، وهو ما فعله سليمان. لم ألمه. روايتي كانت الوحيدة التي منعت من قبل المقاومة، رغم أنّهم لم يعترفوا بذلك أبداً.

هل فكرت يوماً أنّك ستترك بيروت وتذهب إلى تونس مع منظمة التحرير؟

شجّعني بعض الأصدقاء الفلسطينيين على الذهاب معهم. في رأيهم الوضع في لبنان كان سيّئاً جدّاً حتّى أنّه كان خطراً عليّ. لكن لم أستطع الذهاب.

لماذا؟

بيروت هي المكان الّذي أنا منه. الإسرائيليون كانوا يحتلّون بلدي. ماذا كان من المفترض أن أفعل غير ذلك؟ حين يحتلّون بلدك، تقاوم.

من أسئلة القسم الثاني غداً:
هل بدأت بتجميع القصص عن النكبة الفلسطينية أثناء عملك في مركز الأبحاث؟
هل دار حولك أي شك كونك لست فلسطينيّاً؟
لماذا لم يتعرّض الأدب للتقسيم الطائفي كما كل شيئ في لبنان؟
ما الذي حدث للربيع العربي؟ هل كان ثورة في المقام الأول؟
أخبرني عن روايتك الأخيرة “أولاد الغيتو”.
كيف تستمر في كتابة الروايات بينما كل يوم يأتي بأخبار مآسي فظيعة ومصائب بشرية من محيطك؟

The post الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: حين يحتلّون بلدك، تقاوم (1/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>