بقيت على قيد الحياة مصادفة فقط لا غير. فلست أهم من جنينٍ يولد ميتاً، ولا من شابٍ يغرق وهو يقطع المسافة بين بلاده والحرية. لست أهم من عائلةٍ ماتت كاملة في قصف، أو فتاة ذبحت أمام بوابة جامعتها. لست أهم من قطةٍ دهستها سيارة، أو شجرةٍ اقتلعتها الرياح، أو نبتةٍ ماتت لأن مياهاً لم تصلها.
بقيت على قيد الحياة مصادفة بعد حادث السير، لكني قرّرت أن أصنع من العبث معنىً وأن أتوهم أن للحياة – حياتي- خطة ما. خسرت فقرة في ظهري فتعلمت أن أشكر باقي الفقرات على بقائها. فقدت المشي لبعض الوقت فقررت أن أحتفل كلّما مشيت. تعلمت أن الامتنان سر الحياة. به نعبرها بهدوء أكثر وندرك سلام النفس. فلا معنى لحدثٍ إلا ما نصنع منه. والامتنان هو أن نجد الضوء في كل عتمة، والحكمة في كل ألمٍ، إذ نختار القصة التي نخبرها لأنفسنا عن أي شيء.
تعلمت التأمل فأصبحت أرى عقلي بوضوح وأكشف ألاعيبه التي لا تنتهي، فلا أصدق كل ما يقول، ولا أتبع أوامره من دون نقاش. تعلمت أن أرى قلبي بوضوح كذلك، فلا أصغي لرغباته العمياء. أدركت الفرق بين الحب المحيي والحب المميت. وقررت اختيار الحبّ الذي يستحق الألم الذي لا بدّ سيأتي فيما بعد. صرت آخذ أنفاساً عميقة لأدع الأشياء -كل الأشياء- تمرّ، إذ أدركت أن كل شيء مؤقت، فرحاً كان أم حزناً. تعلمت مراقبة أفكاري ومشاعري بحياد كأنها ليست لي. كأنها محض أوراق أشجار تعبر أمامي في نهر. وأن أتقبل ندمي منقبة في الحياة عن علاج له، وأن أتألم حين يأتي الألم، مصغية لا طاردة له. وأدركت أن الموت يدقّ الحبّ بالمسامير على جدار القلب إلى الأبد، فلا بدّ من نزيفٍ كلما عادت ذكرى حتّى وإن رافقها الابتسام، ولا بدّ من بكاءٍ مفاجئٍ في الرابعة فجراً إذ يشنّ الشوق هجوماً مفاجئاً على الروح، فلا حبّ بلا فقد، ولا فقد بلا حزن، ولا حياة بلا موت، ولا موت بلا حياة.
أصبحت أحبّ الموسيقى أكثر، وأنصت إليها من دون أن يعلو صوت عقلي عليها، وأحبّ الكتب أكثر إذ أدرك المعجزة في أن أشعر بالانتماء لقصيدة كتبت منذ مئة عام، وأعشق السينما بسحرها تعيدني بالزمن إلى الستينيات لأشهد حياةً لم أكن فيها، أو تأخذني مئة عام إلى المستقبل لأتخيل حياةً لن أكون فيها.
بقيت على قيد الحياة مصادفة، ومصادفة استعدت ذهولي بالحياة، لكني أدرك كل يوم هشاشة قلبي الذي ما زال ينبض مصادفة، والذي قد يتوقف في أي لحظة عن النبض، ببساطةٍ مثلما، بسببٍ أو بلا سببٍ، تموت نملةٌ في الأرض أو نجمةٌ في السماء.