حرَّك نقولا رأسه كمن يُريد أن ينفي كلَّ ذلك مرّةً أُخرى لكنّه تردَّد في الاعتراض. فهو على ما يبدو كثير الشكّ في معتقداتنا وحقائق تاريخنا. فقرَّر على ما يبدو تغيير الموضوع:
استيقظ نقولا في صباح اليوم التالي ووجدني قد أعددتُّ الفطور ولبستُ ثيابي. أمّا هو فقد بدا عليه وهو يحرّك جسده متثاقلًا أنّه لم يشبع من النوم، لكن رغم ذلك فقد ذهب الإرهاق عن عينيه. دخل إلى غرفة الطعام ونظارته في يده. ولمّا بادرته بتحية الصباح وضع نظّارته كما أنّه لن يرضى بأن يرُد ما لم يرني جيّدًا. تفاجأ بي لمّا رآني بكامل هندامي فبادرتُ بالتوضيح:
-
"لا بأس يا نقولا بالعادة نأكل فطورنا بملابس النوم لكنّني استيقظتُ أبكر من المعتاد اليوم فحاولت تنشيط نفسي بارتداء ملابسي."
سألني ممازحًا:
-
"هذا يعني أنّك لم تنم بملابسك؟"
يا لي من مغفّل، وأنا الذي ظننته قد شعر بالإحراج منّي. ضحكنا وجلسنا وبدأنا بتناول الطعام وبالُنا مشغولٌ بكيفيّة حلّ اللغز الجديد.
-
"قُل لي يا نديم هل استدللتَ على نقطة بداية؟"
-
"ربما، لستُ مُتأكّدًا."
-
"وهل تعتقد أنَّ الكرّاس فيه حلُّ للرسالة؟"
-
"للآن لا يبدو لي أنَّ الأمرين مرتبطان فلا الطائر المجنّح مذكورٌ فيه ولا شيءَ هُناك في شأن المكتبة السريّة باستثناء تلك القصّة القديمة غير المكتملة."
-
"لقد فاجأَتْني القصّة في الواقع، لو عمل جدُّك عليها لأخرج منها قصّةً حسنة. لعلَّ الكلمات لم تسعفه."
-
"هذه القصّة بحاجة للقهوة، ما رأيك؟"
-
"بالطبع، وبلا سكّر أو أيّ إضافات."
قمتُ من مكاني وشرعتُ في تحضير القهوة في الوقت الذي قام نقولا من مكانه لتوضيب الطعام وما استعملناه. وبهذا تعرَّف نقولا على دقائق مطبخ بيتنا. أظنُّ أنَّ هذه الخطوة هي الوسم النهائي لتأخذه صداقتنا حتى تصبح أبدية. فكّرتُ أنّني يومًا ما سأتعرف على مطبخ نقولا حيث سيكون هو من يدلّني على أمكنة أدواته وهو يُحضّر القهوة وزوجته تراقبنا وتنتظر فنجانها، وربما إلى جانبها ستكون معنا تلك التي أحلم يومًا أن ألقاها لتنسيني منال تنتظر فنجانها أيضًا. ومن يدري، قد يقفان بمحاذاة الباب ويسخران منّا أيضًا بسبب هذه الرابطة المطبخيّة التي وسمت صداقتنا.
حملتُ القهوة في صينية مع فنجانين ومشينا إلى الصالة الصغيرة المجاورة حيث جلستُ مع كاتب الدولة في أول لقاءٍ لي مع عالم جدّي الغريب هذا وجلستُ على الكرسيّ نفسه وأنا أقول لنقولا الذي جلس بدوره على نفس الكرسيّ الذي أجلستُ الكاتب عليه:
-
"إنَّ أسلوبَ جدّي لا يبتعدُ كثيرًا عن أسلوب عين بن زين."
-
"من هذا؟"
-
"أحدُ حكماء الأرخبيل... كان من أوائل مَن ألقوا دروسًا في المكتبة. وهو الذي ثبَّت اسميّ الجزيرتين الكبيرتين فيهما بعدما قرَّر حاكم سلامان تحويل مجموعة كتب سليم البحري إلى مكتبة للعامّة بعد وفاته."
-
"وهل قرأ له جدُّك كثيرًا؟"
-
"كلُّ مَن يقرأ في الأرخبيل قد قرأ له، ومن حاول الكتابة منهم كان أسلوبه شبيهًا بأسلوبه. سترى ذلك في كل الأدب المعاصر المكتوب في الأرخبيل... كهذه الرواية مثلًا."
-
"وماذا عن سليم البحري ومكتبته في سلامان؟ ظننتُ أنّك لا تصدّق ذلك."
-
"بل هما حقيقيان، وكذلك السندباد جدُّ سليم البحريّ الأعلى. لكنّني أشكُّ في أنّها مكتبة هرّبها من المغول في بغداد أو ما شابه."
-
" ولماذا تعتقد أنّها قد تكون مبالغة من السلامانيين؟"
-
"لأنَّهم لا يتوانون عن الكذب عمومًا والقول إنَّ الرجل العجوز الذي يقلبُ جلده وسحنته كجلد الجاموس هو حي بن يقظان. فبالتأكيد ما كان لابن يقظان أن يقتل أبسال صديقه الأول والوحيد. ألم تقل إنّك قرأتَ ما كتبه ابن طُفيل؟"
حرَّك نقولا رأسه كمن يُريد أن ينفي كلَّ ذلك مرّةً أُخرى لكنّه تردَّد في الاعتراض. فهو على ما يبدو كثير الشكّ في معتقداتنا وحقائق تاريخنا. فقرَّر على ما يبدو تغيير الموضوع:
-
"حسنًا، وما شأنُ الفِهرسْت والنديم في كل هذا؟"
بدأتُ أشرحُ له عن الأسطورةِ البغدادية القديمة التي درسناها في مكتبة سلامان عندما كنّا صغارًا. شعرتُ أنَّني سأفقد الرجل وأنا أحدّثه بها لكثرة صدماته وشهقاته كأنّه يفقد نفسه ويتوقّف نبضه. أقول أسطورة رغم أنَّ الناس هُنا يقولون إنّها حقيقية لسببٍ وجيه سأُبيّنه في نهاية شرحي لها.
وصَلَنا أنّه في عهد الفِتَن بعد بداية انحطاط العصر العباسي انتبه علماء بيت الحكمة في بغداد أنّه لا أمان على العلم المحفوظ في الكتب تحت إشرافهم بسبب السياسة المتقلّبة حسب أهواء الأمراء والسلاطين والخلفاء. فقرّروا حفظ نُسَخٍ من كلّ الكتب مِن نيرهم. وأوعزوا إلى أحد البنّائين بحفر قبو تحت بيت الحكمة ريثما يجدون مَن تُعطى له مهمّة الحفظ والتصنيف، ثمَّ بعد ذلك كان يجب أن يتصل هذا القبو عبر خندقٍ إلى حانوت الورّاق الذي سيصبح أمين المكتبة السريّة فيدخل ويخرج منها دون أن يمر بأروقة بيت الحكمة فيُفتضح أمرهم. ويبدو أنَّ الاختيار رسا في النهاية على محمّد بن إسحق النديم الذي عشق الكتب وجمع أخبارها حتى تلك التي لم يُصنّفها علماء بيت الحكمة علمًا أو أدبًا ذا نفع. لكنَّ المهمّة توقّفت بوفاته ولم يُعرف مِن هذا المخطَّط إلّا الفِهرست الذي ظنّه الإخباريون عملًا معجميًّا لا أكثر، ولم يتكهنوا أنّه سجلُّ مكتبةٍ سريّة في بغداد.
انتبهتُ إلى نقولا وهو يُحاول أن يخنق جميع تعليقاته دون التفوّه بها. ربما بدا له أنّه أسرف في إنكار حقائق تاريخنا ولم يشأ أن يبدو وكأنّه يتطاول عليّ أو على ما نعتقد.
كان جدّي قد قال لي بأنَّ عرب الدولة العثمانية وحتى المغاربة أنكروا أيَّ فرضية اعتبرت أنَّ فِهرست النديم هو سجلٌّ لمكتبةٍ ما لأنّه لا يُمكن أن تكون هُناك مكتبة بهذا الحجم وليس لها ذكـرٌ في كتب الأخبار. ذلك أنَّ إخباريي العرب لم يعرفوا عنها شيئًا. ملتُ إلى تصديق هذه الأخبار ونفي ادعاءات السلامانيين بأنَّ ما جاء به الربّان سليم البحريّ هو شيءٌ بهذه الأهمية.
انفجر نقولا أخيرًا، وسأل سؤالًا ربما بدا له الأقلَّ إيلامًا من غيره:
-
"وهل قصّة جدّك هي جزءٌ متمّم لهذه الأسطو... لهذا التـ... لهذا التاريخ؟"
-
"ألا ترى يا نقولا؟ الحانوت المهجور الذي دخل منه سليم البحري عبر الدهليز إلى القبو الذي وجد فيه الطوسي هو حانوت النديم."
-
"وإلى أين كانت ستأخذنا قصّة جدّك لو أكملها؟"
-
"يبدو أنَّ الطوسي عمل بحكمة أسلافه الحكماء بتخبئة مكتبة النديم وفصلها عن باقي الكتب. فرغم أنَّ هولاكو سمح له بأن يحمل مئات آلاف الكتب منها إلى مرصد مراغة فهو لم يأمن مكر الأيام والساسة فطلب من البحريّ أن يوصل الكتب السريّة إلى سلامان."
-
"وطبعًا هذه القصّة المؤسّسة للمكتبة ولحكم السلاميين."
-
"نعم هذه هي الأسطورة الوطنية المؤسسة للهوية السلامانية، ولأنَّ السلامانيين يعتبرون أنَّ الفضل للطوسيّ بوصول هذه المكتبة إليهم صاروا يقرأون فكره وعلمه وشروحه لابن سينا، وهذا هو سبب نكرانهم لحي بن يقظان الطُّفيلي؛ لأنّهم يعتقدون أنَّ حي بن يقظان السيناوي هو الرجل الحقيقي. ذلك الشيخ الذي التقاه مجموعة من طالبي الحكمة وعلَّمهم ما ملك منها. وادَّعوا أنَّ ابن طُفيل استوحى قصّة جميلة من بنات أفكاره لا أكثر. هل فهمتَ الآن لماذا لا يصدّق الأبساليون أصل هذه المكتبة رغم تقديرنا لها؟"
-
"ولكن... ولكن... هذه هي الحقيـ... لا بأس، الناس ألوان، يجب أن أتوقَّف عن هذا أليس كذلك؟ إذن هُناك خلاف في حقيقة مَن هو حي بن يقظان الحقيقي... حسنًا، لا بأس... حسنًا."
بدا نقولا مُغتاظًا فعلًا. لا بُد أنَّ العالم الإسلامي لديه تاريخٌ مختلفٌ في وعيه حتى يتفاجأ بحقائقنا إلى هذا الحد. رغم أنّه على اطلاعٍ وافٍ على النصوص نفسها. فهو يتكلَّم عن ابن طُفيل وكأنّه رافقه أو رافق شبحًا له وسمع منه حكايةً ما. لكن لم تكن التناقضات في المرويات هي الوحيدة التي لحظها هذا الرجل. فقد كان ذكيـًّا ما يكفي ليلتفت إلى تناقضاتي في كلامي أنا:
-
"لحظة... لقد قلتَ أسطورة! لماذا استعملتَ كلمة أسطورة؟"
-
"هذه الكتب لا أثر لها في سلامان، بل في كلّ الأرخبيل. فلا أعرف أحدًا يزعم أنّه رأى تلك الكتب، ولهذا يدَّعون أنّها مخفية أو تلفت مع الزمن. ربما انتقل سليم البحري إلى هُنا ومعه فعلًا مجموعة من الكتب، قد تكون مجموعة خاصة أو ما شابه وهذا لا يثبتُ أنّها..."
قاطعني في حديثي طرقٌ قويٌّ على الباب فقمتُ لأرى مَن صاحبُ هذا الإحساس بأنّني أملك ما أستطيع فعله لأي طارئ. فتحتُ الباب وإذ بي أرى آخر مَن توقّعتُ رؤيته هذا الصباح في أبسال:
"سعد؟!"
صدرت الرواية حديثاً عن منشورات الحرف.